الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:
فهذا باب النهي عن نقل الحديث، وكلام الناس إلى ولاة الأمور، إذا لم تدع إليه حاجة، كخوف مفسدة ونحوه.
ذكر هذا الباب بعد الباب الذي يتصل بالنميمة، وهو باب تحريم النميمة، وهي نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد، فهذا نقل خاص، يعني: أنه نوع من النميمة، إلا أنه أسوأ أنواع النميمة؛ لما يحصل بسببه من الضرر العظيم، فإذا كانت النميمة تسبب الوحشة بين الناس، فإن هذا يوجب أمورًا فوق ذلك.
فقوله: "نقل الحديث وكلام الناس إلى ولاة الأمور إذا لم تدع إليه حاجة كخوف مفسدة ونحوه" تدع إليه حاجة كأن تكون هناك مفسدة في أخلاق الناس، أو في دينهم وعقائدهم، أو أن يكون هناك مفسدة تتصل بمعاشهم، وما إلى ذلك، فهذا لا إشكال فيه، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] فيكون ذلك لأهل الريب والفساد والشرور، فمثل هؤلاء كف أذاهم عن المسلمين مطلب شرعي، فإذا استبانت أمارات ذلك، وظهرت دلائله، وقويت القرائن على وجود شر يكاد أن يقع، أو هو واقع، فإن مثل هذا لا إشكال فيه، بشرط ألا يحصل على هؤلاء، كما ذكر أهل العلم ظلم فوق جنايتهم، يعني إذا كان يظلمهم فوق جنايتهم فإنهم لا يرفعون إليه، وإذا حصل مع هذا الكلام الذي عقد له المصنف هذا الباب تتبع وتحسس وتجسس، فهذا يكون أشد؛ لأن الله يقول: وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [الحجرات:12] فمثل هذه الأمور إذا كانت واقعة، فإنها إن لم تكن على ما ذكر، يعني: على أهل الشر والريب والفساد، فإنها توجب مفاسد كبيرة؛ ومن أقربها: فقد الثقة بين الناس؛ ولهذا صح في حديث معاوية مرفوعًا إلى النبي ﷺ أنه قال: إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم[1]، وهذا على جميع الأصعدة والأحوال، يعني الرجل في بيته مثلاً حينما يتعامل مع أولاده بطريقة فيها ريبة، يأتي ويحاول يفتح جوال زوجته من غير موجب، ويفتح جوالات الأولاد، ويفتح أجهزة الكمبيوتر، ويحاول أن يتتبع، وبعض الناس يصل إلى أكثر من هذا، فيضع أجهزة تسجيل، ويتسمع الزوجة هذه ماذا تقول؟ ومن تكلم؟ وإنما أتحدث عن ما أعلم وعن ما سمعته بنفسي، أناس يفعلون هذا، وقد يعاقبهم الله ، فيقفون على أمور يكرهونها، فيكن من ذلك من عاجل عقوبتهم؛ لأنهم فعلوا ما حرم الله عليهم بقوله: وَلَا تَجَسَّسُوا [الحجرات:12] فيقع فيرى أشياء لا تسره، فيقع بسبب ذلك أمور ومشكلات، فهذه التربية في هذا البيت هي تربية توجب الريبة والفساد بينهم، فتبدأ أعمال هؤلاء بطرق ملتوية، وتكون أخلاقهم ملتوية، وفيها التواء؛ لأن الثقة مفقودة، وإذا فقدت الثقة هنا حصل الاعوجاج والالتواء والتلون، ومحاولة الظهور بصورة أخرى غير ما يبطنه الإنسان، وقل مثل ذلك حينما يكون الرجل مدير في مدرسة، أو نحو ذلك، فيضع أستاذًا أو طالبًا في كل فصل يتتبع الأساتذة، وينقل له ما يجري منهم، وما يحصل، من غير موجب، يعني: ليس هذا مثلاً أستاذ عرف بالشر والفساد والريبة، ووجدت قرائن على أن هذا يمكن أن يقع منه أمور ومنكرات وأشياء إما في الأفكار والعقائد، أو في الأخلاق، في مزاولاته وممارساته مع هؤلاء الطلاب، أما من غير موجب، فإن هذا لا يجوز، فيقع هنا في هذا المكان، وفي هذه المدرسة، وفي هذه المؤسسة، وفي هذه الشركة، ونحو ذلك، ويكون هذا لا شك ممقوتًا بالنسبة إليهم، فيبدأ هنا التلون والالتواء، ولا تكون أمور الناس مستقيمة، فيفقدون ما يسمى اليوم بالشفافية، وهذه الشفافية لا يمكن أن توجد إلا بالثقة، وقل مثل ذلك فيما هو فوق ذلك، إذا كان الأمير يفعل ذلك مع رعيته.
فهنا قال: وفي الباب الأحاديث السابقة في الباب قبله، يعني: أحاديث النميمة تنطبق على هذا.
ثم ذكر حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئًا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر رواه أبو داود[2] والترمذي[3].
هذا أصل كبير في التعامل من هذه الحيثية، فالنبي ﷺ وهو أكبر الناس قلبًا -عليه الصلاة والسلام-، وأوسعهم صدرًا، وأحسنهم خلقًا، وأكثرهم حلمًا واحتمالاً، ومع ذلك يقول: لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئًا لا تأتي وتقول: فلان قال كذا، وفلان صدر منه كذا، وفلان فعل كذا؛ لأن هذا يوقع في النفس شيئًا.
قال: فإني الفاء هذه تدل على التعليل؛ لماذا ينهاهم عن هذا؟ قال: فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر فهذا يقوله كل أحد له ولاية، يعني: نحن لا نذهب دائمًا معاشر المستمعين إلى أن هذا الأمر خارج عن نطاقنا، هذا يكون للخليفة، أو يكون للملك، أو يكون للأمير، أو يكون لقائد الجيش، أو نحو ذلك، لا، وإنما كل بما تحت يده، أنت ما الذي تحت يدك؟ عندك مؤسسة، أو عندك شركة، أو أنت مدير قسم، أو أنت رئيس قسم، أو أنت مدير مستشفى أو مدير دائرة، أو مدير مدرسة، أو وكيل مدرسة، فهؤلاء الذين يعملون معك، بعضهم باجتهاد أو لغلبة طبع، يحب نقل الكلام، وبعضهم يقصد التزلف بذلك، ويأتي فيقول: فلان قال كذا، وفلان صدر منه كذا، وفلان فعل كذا، فيبقى قلب الإنسان مشتغلاً بما سمع، فلا يخرج إلى هؤلاء الناس بقلب سليم، فيجد نحوهم أشياء، فالنبي ﷺ نهى عن هذا فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر فمن أراد أن يخرج إلى الناس، وهو سليم الصدر، فهذا من أهم مقومات ذلك، ألا يجعل أذنه وعاءً يصب فيه مثل هذه الأمور المزعجة، فيتغير قلب الإنسان، والولد حينما يربى على هذا، وهذه مهمة، وتقع في البيوت، خاصة الأسر التي تعيش متقاربة، ويسكنون في بيت واحد، أو في فلل متجاورة، أو في شقق، أو نحو ذلك، عمتي قالت لي كذا، وخالي قال لي كذا، وولد عمي فلان قال لي كذا، ولد فلانة قال كذا، فإذا جعل الأب أو الأم من أذنه قمعًا يصب فيه هذا الولد أو البنت أشياء، وكذلك الزوجة تقول: أمك قالت كذا، وأختك قالت كذا، وفلانة قالت كذا، فيصغي فيتغير قلبه، ويحصل له ضيق وانزعاج وألم، وهذا أمر مشاهد، فمن الخطأ أن يربى هؤلاء على ذلك، فإنك إن أصغيت إليهم، سواء كان هؤلاء الصغار، أو المرأة، أو كان هؤلاء الذين يعملون معك: إن أصغيت إليهم صاروا يتسارعون، عرفوا أن الباب مفتوح، فيتسارعون الآن إليك، حتى في كل قضية تافهة، حتى في الأمور التي لا بأس بها، هم يحملونها على محامل سيئة، لا هو يقصد كذا، لا بس هو يريد كذا، فتقع الوحشة في النفوس، فيستثقل الإنسان أقرب الناس إليه، يستثقل أهله، ويستثقل أخواته، ويستثقل إخوانه، ويستثقل أبناء إخوته، وأبناء أخواته، وهذا لا يليق، اللائق أن يعلمهم، وامرأته أول ما يعقد عليها قبل الدخول، هناك تعليمات وبرمجة، وهي أفضل وقت لبرمجة المرأة، ما بين العقد والدخول، يقول لها الأشياء التي يريدها، والأشياء التي أريدها، رقم واحد، كلمة قال هذه لا أريدها، هذه نشطبها من قاموس الألفاظ، لا يريد قالت، ولا قال، لا ينقل شيء، لا تنقلين شيء من البيت لطرف آخر، لا للأم ولا لغيرها، ولا تنقلين لنا فلانة قالت، وفلانة ما قالت، نسأل الله أن يوفق الجميع، وأن يعين الجميع، ونكل للجميع كل محبة واحترام، وما في داعي لزرع الوحشة في النفوس، يعلمها من البداية، ولا يسمح لها.
وكذلك الأولاد والبنات، جاء قال: عمي قال لي كذا، نعم عمك مثل أبيك يؤدبك، وهو يريد لك الخير، هو حريص عليك، فتتقبل منه، وتشكره، وجاءت البنت: خالتي قالت لي كذا، عمتي قالت لي كذا، نعم هذه مثل أمك، والأم تعلمهم، نحن نشكرهم على هذا، لحرصهم عليكم، فلان ضربني، لا بأس، أين العفو؟ وأين الصفح؟ وأين الأخلاق؟ وأين التربية؟ وأين وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134] يا ولدي؟! ومتى تأتي هذه الأخلاق إلا هنا، فسامح، الحمد لله، فإذا عرف منك هذا خلاص يعرف أن هذا الباب مقفل، فما يتسارعون إليك بنقل مثل هذه الأمور، هذه مهمة، وبعض الناس أبدًا للأسف يرخي سمعه في حق وباطل، الله أعلم ماذا ينقلون؛ لأنهم إذا وجدوا الباب مفتوحًا، ويتفاعل، فسينقلون له أشياء، ويبالغون، ويزيدون، وقد يفبركون أشياء لا حقيقة لها، وبعض الأولاد محترف في الكذب، فيأتي بكذب مصفف، والناس يقولون: غير معقول هذا الصغير يأتي بهذه التفاصيل، وهي مركبة، وهذا يحصل ويتكرر، ولو طلب منه أن يعيدها مرة أخرى، فسيعيدها بنفس التفاصيل، وهي مفبركة، وبعضهم اعترف أنه يكذب، وأنه يركب هذا الكلام تركيبًا من عند نفسه، وأنه لا أساس له، بل قد يصل الأمر ببعض الأولاد للأسف الشديد، وهذا يحصل، يصل بهم إلى التتبع ومحاولة التصنت والاستماع للآخرين من أجل أن ينقلوا له الكلام، يعلم أنه هؤلاء جلسوا من قرابته، أو نحو ذلك، ويجلس في مكان، وهم لا يرونه، ولا يشعرون به، خلف نافذة، أو خلف كذا، ويجلس يتسمع لعله يجد شيئًا ينقله؛ لماذا؟ لأنه ربي على هذا الخلق، فهذا خطأ كبير، ويحصل في البيوت، ويهدم بيوت، والعوام ماذا يقولون -إلا من رحم الله طبعًا- يقولون: ما يفرق الحمايل إلا النساء والأطفال، هذا مثل عند العوام عندنا، ونحن نقول: إن بعض النساء خيرات صالحات تقيات، هن أكبر وأشرف من هذا، لكن يوجد من تكون نفسها صغيرة ضعيفة، فتؤثر على زوجها، وتنقل له، والأطفال كذلك، فإذا وجدوا منه إصغاء صاروا يبادرون ويتسارعون، ويفرح أحدهم أنه وجد خبر جديد اليوم، يضيفه إلى الرصيد السابق، فيتعاظم ذلك، ثم تصل الأمور إلى حال تحصل بها نفرة وكراهية وقطيعة، وتتمزق بها الأواصر، والسبب؟ أطفال ونساء، فهذا خطير، وينبغي للعاقل -كما قلت- أن يكون حصيفًا، وأن يربي المرأة والأطفال والجميع على مثل هذه الأخلاق التي ذكرتها آنفًا، وأن يكون له منهج واضح في التعامل مع مثل هذه القضايا، وأن يكون حازمًا فيها، فناقل الخبر لن يفرح أبدًا حينما يصل إليه بخبره، فإنه سيوجهه إلى التصرف الصحيح، وليس التصرف الصحيح: خذ حقك، أو لماذا ما ضربته؟ كما يقول بعض الناس، هذا أيضًا خطأ، نعلمهم ونوجههم كيف يكون التصرف إزاء هذه القضايا بالتسامح والعفو والإحسان، وما إلى ذلك، هذه هي التربية الصحيحة، ولكن الكثير -وللأسف- رزقوا بأولاد، ولكنهم لا يحسنون التربية، فيضيع هؤلاء الأولاد، وقد يضيعونه بسبب سوء صنيعه وتربيته، والله المستعان.
نسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه أبو داود في كتاب الأدب باب النهي عن التجسس برقم (4889) وقال الألباني: "صحيح لغيره".
- أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في رفع الحديث من المجلس برقم (4860) وضعفه الألباني.
- أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب المناقب، باب في فضل أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- برقم (3896) وقال الألباني: "ضعيف الإسناد لكن الشطر الثاني منه في القسمة صحيح".