الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب النهي عن تعذيب العبد والدابة والمرأة والولد بغير سبب شرعي، أو زائد على قدر، أورد المصنف -رحمه الله- حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه مر بفتيان من قريش قد نصبوا طيرًا، وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله ﷺ لعن من اتخذ شيئًا فيه الروح غرضًا[1] متفق عليه.
ابن عمر مر بفتيان من قريش، وقد نصبوا طيرًا، وهم يرمونه، هذا بعد وفاة النبي ﷺ كما لا يخفى؛ لأن ابن عمر حينما توفي النبي ﷺ كان صغيرًا، وهنا لما مر بهم فروا هيبة له؛ فدل على أنه قد كان ذلك بعد ما توفي النبي ﷺ وصار ابن عمر بمنزلة يهابه مثل هؤلاء.
نصبوا طيرًا، وهم يرمونه، هذا الطائر حي كما يدل عليه ظاهر الحديث، ومثل هذا الفعل تعذيب للحيوان بلا شك، وكون هذا يقع في ذلك الزمان الشريف يؤخذ منه أن مثل هذه التصرفات والممارسات أنها قد تقع في زمان كهذا، يعني ذلك الزمان، فذلك؛ لأن هؤلاء الفتيان لربما يكون فيهم من طيش الشباب، قلة العلم، قلة الصبر عن حجز نفوسهم عن مشتهياتها، ومطلوباتها مما يحتاجون معه إلى زجر وإنكار، وحمل على ما يجمل ويحسن.
يقول: وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، يعني كل واحدة من النبل من السهام التي لا تصيب هذا الطير تكون ملكًا لصاحب الطير، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا هيبة وخوفًا، وهذا يدل على أنهم كانوا يعرفون أن هذا الفعل غير صحيح، وأنه خطأ، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا؛ لأن النبي ﷺ لعن من اتخذ شيئًا فيه الروح غرضًا، فهل يكون ذلك من قبيل لعن المعين، لعن الله من فعل هذا، والذي فعله معينون، فهل قصد ابن عمر لعن المعين؟
يحتمل، لعن الله من فعل هذا، ويحتمل أنه قصد الوصف، وإلا لقال: لعن الله هؤلاء، ثم قال: إن رسول الله ﷺ لعن من اتخذ شيئًا فيه الروح غرضًا. متفق عليه.
غرض يعني هدف يرمى، وهذا يدخل فيه أن يكون غرضًا، أن يكون هدفًا يرمى، الرمي ليتعلموا الرمي عليه، أو ليتسلوا على ذلك، ومن الناس من يجد لذة واسترواحًا في مثل هذا، إذا أصاب شيئًا فيه الروح، الحياة.
وكذلك أيضًا يدخل فيه من اتخذه غرضًا، يدخل فيه أشياء أخرى من أنواع الممارسات التي تحصل إلى يومنا هذا، مثل أن يطلق الطائر على حمامة مربوطة مثلاً، أو على طائر مربوط، أو على شيء من الحيوان مربوط كالأرنب، أو نحو ذلك بمكان، ثم يطلق عليه هذا الصقر، أو الكلب للصيد، أو نحو ذلك، يتسلى على هذا، ولربما ما ربطه، ولكنه تركه بحيث لا يستطيع الخلاص، فيطلقه، ثم يطلق الطائر مباشرة بعده، يتسلى على ذلك، للتسلية، يكون في مكان لا يوجد فيه صيود، فيأتي معه بهذه الأشياء ليتسلى على ذوات الأرواح، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال.
فهذا الطائر كان بيده، وإنما كان يقصد التسلية، فأطلقه من أجل أن يلتذ برؤيته، وهو يتشحط، ويصيده ذلك الصقر، أو الكلاب المعلمة، أو نحو ذلك، فهذا كله لا يجوز، وهو يدخل في هذا؛ لأنه تعذيب للحيوان، ويدخل في تعذيب الحيوان غير ما يتصل باتخاذه غرضًا، أشياء أخرى -سيأتي الكلام على النار، والتعذيب بالنار- فلو أنه عذبه بالتحريق مثلاً، فهذا كذلك لا يجوز.
ثم ذكر حديث أنس قال: نهى رسول الله ﷺ أن تصبر البهائم[2]. متفق عليه.
معنى تصبر يعني أنها تحبس للقتل، مثل هذا الطائر الذي يوضع في مكان، يربط، ثم بعد ذلك يبدأ يصوب عليه السهام، فالصبر هو الحبس للقتل، قتل فلان صبرًا، يعني أنه قدم للقتل، حبس للقتل، يعني لم يقتل في معركة لم يقتل في مواجهة، إنما قتل صبرًا، يعني قدم للقتل، كان محبوسًا للقتل.
وعن أبي علي سويد بن مقرن قال: لقد رأيتني سابع سبعة من بني مقرن ما لنا خادم إلا واحدة لطمها أصغرنا، فأمرنا رسول الله ﷺ أن نعتقها[3]. رواه مسلم، وفي رواية سابع إخوة لي[4].
هذا سويد بن مقرن صحابي مهاجر، وله إخوة، مجموع هؤلاء معه سبعة، وكلهم صحابة، وكلهم مهاجرون، ولا يعرف في الصحابة سبعة إخوة من المهاجرين غير هؤلاء، سويد بن مقرن، لقد رأيتني سابع سبعة، يعني من إخوانه، ما لنا خادم إلا واحدة لطمها أصغرنا، واللطم الضرب بكف اليد، بباطن اليد، فأمرنا رسول الله ﷺ أن نعتقها، هذا الأمر منه ﷺ للوجوب، كما يدل عليه ظاهره، لكن هل ذلك للوجوب على سبيل الإطلاق أم لا؟
الحديث الذي بعده، وهو حديث أبي مسعود البدري قال : كنت أضرب غلامًا لي بالسوط، غلامًا يعني مملوكًا، فسمعت صوتًا من خلفي اعلم أبا مسعود هذا للتنبيه، فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني إذا هو رسول الله ﷺ فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود قال: فألقيت السوط من يدي يعني هيبة من رسول الله ﷺ[5] كما تدل عليه الرواية الأخرى فسقط من يدي السوط من هيبته، فقال: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام[6] أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام.
هذا الغلام لا يستطيع أن يرد عن نفسه الضرب، أو الظلم، أو العقوبة، والله أقدر على هذا الذي ملكه أمره منه على هذا الغلام، وهذا يقال أيضًا في الذي يرفع يده على المرأة، فالله أقدر منك، وكذلك الذي يرفع يده على من لا يستطيع أن يرد يده عنه، كالذي يضرب طفلاً صغيرًا، ونحو ذلك، بضرب ليس في محله، فيقال: الله أقدر منك على هذا، أقدر منك من قدرتك على هذا المضروب. فقلت: لا أضرب مملوكًا بعده أبدًا[7] وفي رواية: فقلت يا رسول الله: هو حر لوجه الله تعالى، فقال: أما لو لم تفعل للفحتك النار، أو لمستك النار[8] للفحتك هذا يقتضي أنه يعذب بالنار، أن تمسه النار، أن تصيبه النار، أن تحرقه النار، للفحتك النار.
فهذا يدل على أن هذا الفعل محرم، وأنه من الكبائر، وهنا لو لم تفعل للفحتك النار مع حديث ابن عمر الذي بعده أيضًا أن النبي ﷺ قال: من ضرب غلامًا له حدًا لم يأته، أو لطمه يعني حدًا لم يأته ضربه حد الزنا مثلاً، وهو ما زنا أو لطمه فإن كفارته أن يعتقه[9] رواه مسلم.
هذه الأحاديث الثلاثة الآن كلها تدل في ظاهرها على أن من لطم الغلام أنه يجب عليه أن يعتقه، لطم مملوكًا، لطم جارية، وجب عليه أن يعتقه، مع أن الجمهور يقولون ذلك ليس للوجوب، وإنما هو للندب[10].
على كل حال قوله: للفحتك النار، لمستك النار يدل على أن ذلك من قبيل الواجب، وهكذا الأمر من ضرب غلامًا له حدًا لم يأته، أو لطمه؛ فإن كفارته أن يعتقه الشيء الذي يحتاج إلى كفارة هو الواجب، ولا يكون ذلك من قبيل هذه الكفارة، لا تكون من قبيل المندوب بحال من الأحوال.
وعلى كل حال إذا كان هذا في المملوك، وهو يملكه، يبيعه، ويشتريه، ويتصرف فيه كما يتصرف في المتاع، فماذا يقال إذًا بالأحرار؟ ماذا يقال في حق الأحرار؟
هذا الذي يضرب السائق، أو العامل، أو الخادمة، أو المرأة التي تضرب الخادمة، ولربما عذبتها بالنار، ولربما ضربتها ضربًا مبرحًا يكسر العظام، ولربما قتلتها، فإذا كان هذا يقال في مملوك، وليس له من الحرمة والمنزلة والشرف ما للأحرار، فكيف بمن يضرب الحر، ويؤذيه، ويعذبه، وهو تحت يده خادم، أو سائق، أو عامل، أو نحو ذلك، فأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يعيننا، وإياكم على ذكره، وشكره، وحسن عبادته، والله أعلم.
- أخرجه مسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب النهي عن صبر البهائم، برقم (1958).
- أخرجه البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب ما يكره من المثلة والمصبورة والمجثمة، برقم (5513)، ومسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب النهي عن صبر البهائم، برقم (1956).
- أخرجه مسلم، كتاب الأيمان، باب صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده، برقم (1658).
- أخرجه مسلم، كتاب الأيمان، باب صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده، برقم (1658).
- أخرجه مسلم، كتاب الأيمان، باب صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده، برقم (1659).
- أخرجه مسلم، كتاب الأيمان، باب صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده، برقم (1659).
- أخرجه مسلم، كتاب الأيمان، باب صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده، برقم (1659).
- أخرجه مسلم، كتاب الأيمان، باب صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده، برقم (1659).
- أخرجه مسلم، كتاب الأيمان، باب صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده، برقم (1659).
- انظر: التنوير شرح الجامع الصغير، للصنعاني (10/390).