الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فبعدما عقد المصنف -رحمه الله- باب تحريم الرياء، أورد النصوص في ذلك عقبه بهذا الباب، وهو باب ما يتوهم أنه رياء، وليس هو رياء، وذكر فيه حديثًا واحدًا، وهو حديث أبي ذر قال: قيل لرسول الله ﷺ: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه، قال: تلك عاجل بشرى المؤمن[1] رواه مسلم.
نحن عرفنا أن الرياء، أن العامل فيه يعمل ملاحظًا نظر الناس، فهو يطلب ما عندهم من المحمدة والتعظيم، وما إلى ذلك، وأن التسميع هو أن يوصل ذلك إلى معلومهم ومسامعهم من أجل أن يحمدوه، أن يطروه، أن يحصل حظوة في نفوسهم، وما إلى ذلك، هذا الرجل يعمل العمل من الخير، من طاعة الله -تبارك وتعالى- وطاعة رسوله ﷺ ويحمده الناس عليه، قال: تلك عاجل بشرى المؤمن.
طبعًا هنا لك أن تقدر أمرًا آخر يفهمه السامعون، يحمده الناس عليه، فيجد لذلك استرواحًا؛ لأن هذه طبيعة الإنسان التي لا يستطيع أن يتخلى عنها، لكنه لم يطلب ذلك، ولم يصدر منه شيء من قول أو فعل، أو غير ذلك مما يمكن أن يصدر من أجل أن يحمدوه، أو أن يفهمهم أنه عمل هذا، إنما أطلعهم الله عليه، فأثنى الناس عليه، صار له ذكر حسن عند الناس، فمثل هذا لا إشكال فيه، قال: تلك عاجل بشرى المؤمن.
وبعضهم أدخل مثل هذا المعنى في عموم قوله -تبارك وتعالى-: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وأن من هذه البشرى هي ما يكون لهم من الذكر الجميل، واجعل لي لسان صدق في الآخرين، والله -تبارك وتعالى- قال في حق موسى : وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي فسر في جملة ما فسر به، وهو أحد الأقوال المشهورة: أنه ما رآه أحد إلا أحبه[2] ألقى الله محبته في قلوب الناس، فهذه أمور يجعلها الله لمن شاء من عباده.
وهكذا في الحديث المشهور: إذا أحب الله عبدا نادى جبريل: إن الله يحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض[3] فالشاهد: أنه يوضع له القبول عند أهل السماوات، ويوضع له القبول عند أهل الأرض، فهذا من غير طلب منه، من غير عمل منه من أجل أن يذكر، أو أن يحمد، أو أن يثنى على عمله، فمثل هذا لا إشكال فيه، لكن الخطورة هي أن يستروح الإنسان مع هذا استراوحًا يحمله على تطلبه، والبحث عنه، فإن لم يوجد انقطع عن العمل، فهنا تتغير النية، وتتحول، ولذلك نهينا عن المدح في الوجه، والإطراء، بل عن التزكية فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ يدخل فيها لا يزكي بعضكم بعضًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى فهذا فيما يتعلق بهذا الباب.
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أثني على الصالح فهي بشرى ولا تضره، برقم (2642).
- انظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (11/196).
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب المقة من الله تعالى، برقم (6040).