الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا "باب كراهة الاستنجاء باليمين، ومس الفرج باليمين من غير عذر"، كراهة الاستنجاء باليمين وذلك يشمل ما كان بالماء، وما كان بغيره من الحصى، وما يقوم مقامه مما يحصل به الاستجمار، فكل ذلك ينزه عن اليمين، بل تكلم الفقهاء -رحمهم الله- على أدق التفصيلات في هذا الموضوع من أجل تحقيق ما ذكره النبي ﷺ هنا حتى إنهم قالوا: بأنه إذا أراد أن يستجمر فإنه كيف يصنع بعد أن يقضي حاجته -أعزكم الله- فيتبول فقال بعض الفقهاء: يضع حجرًا بين إبهامي قدميه، ثم يكون بعد ذلك بشماله يأخذ ذكره فيمره على هذا الحجر، أو ثلاثة أحجار، إما حجر واحد من ثلاثة مواضع، وإما أن يكون بثلاثة أحجار مع صعوبة هذه الطريقة، المقصود أنهم بالغوا في تطبيق وتحقيق مثل هذ المعنى.
وبعضهم قالوا: إنه إذا ثبت الحجر بيده اليمنى فلا يكون مستعملاً لها، فيمر ذكره بيده الشمال على الحجر المثبت باليد اليمنى، ومن ثم فلا يكون قد استنجى بيمينه أو استجمر، والاستنجاء يطلق بمعنى واسع على ما كان بالماء والحجارة، فتكلموا على هذا كل ذلك تنزيهًا لليمين، وقد ثبت عن النبي ﷺ من حديث عائشة -رضي الله عنها- وغيرها أن يمين النبي ﷺ كانت لطهوره، وطعامه، وشرابه[1]، وما إلى ذلك، وأما الشمال فتكون للأمور المستقذرة لقضاء الحاجة، ونحو هذا.
وتكلم أهل العلم على الوضوء، وصفة الوضوء وما يكون من المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة بيده اليمين، ثم يستنثر بشماله؛ لئلا يستعمل الشمال في الاستنثار.
وكذلك تكلموا أيضًا على الاستياك هل يكون باليمين أو بالشمال؟ وأطالوا الكلام في هذا، وكثر الخلاف بينهم في هذه المسألة مع أنها مسألة يسيرة، حتى إن بعضهم فصل في هذا الباب، وقالوا: إن كان الاستياك لتطبيق السنة فإنه يكون لليمين، وإن كان للتنظيف فإنه يكون لليسار، بمعنى النبي ﷺ أمر بالسواك عند الوضوء، وأمر به عند الصلاة[2]، فهذا الإنسان قد نظف أسنانه عند الوضوء، واستعمل السواك، وكانت أسنانه في غاية النظافة، فلما جاء ليصلي بعد الوضوء مباشرة فهو يريد أن يطبق السنة أيضًا يستاك عند الصلاة، فماذا يصنع؟
بعض الفقهاء يقول: هنا يستاك باليمين؛ لأنه ليس للتنظيف، وفي الأول يستاك باليسار، وهي مسألة يسيرة.
والذين قالوا: باليمين مطلقًا، قالوا: لأنه سنة وعبادة يحبها الله ، والذين قالوا: باليسار مطلقًا، قالوا: إنما يراد بالسواك التنظيف.
المقصود أنهم إلى هذا الحد دققوا، فهل تجدون مثل هذا في القوانين الوضعية، والنظم التي كتبها كاتبون، ولجان من الخبراء لدى أكثر الأمم تطورًا بزعمهم في هذا العصر؟!
هذا لا يوجد ولا يعرف عندهم لا من قريب ولا من بعيد، ثم بعد ذلك هم يريدون أن يملوا ضلالاتهم وأهواءهم على غيرهم من الأمم، ويريدون أن يلمزوهم بها فيما يتعلق بالمرأة، أو حقوق الإنسان زعموا، وما إلى ذلك، وهم كالذي يرى القذاة في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه، ولا نعرف أمة أضيع لحقوق الإنسان ولا أكثر ظلمًا من هذه الأمم الغربية، وقد رأينا فعلهم في العراق، فهو شاهد كبير للإجرام الذي لم تعرفه البشرية في هذا العصر، عصر التحضر، وعصر التطور، وعصر الحرية كما يزعمون، فترى منهم أضداد ذلك، فالله المستعان.
وقال: "ومس الفرج باليمين من غير عذر"، والفرج يشمل القبل والدبر، المرأة والرجل، يشمل مس فرج غيره كالمرأة حينما تنظف صبيها مثلاً، أو كان ذلك لنفسه فإنه ينزه اليمين عن هذا، فتكون اليمين للأمور الكريمة، للأمور الشريفة من غير عذر، لكن لو كان أقطع، يعني ليس له يمين، أو كان هذا الإنسان يده اليمنى مجروحة، أو مكسورة، أو نحو هذا ففي هذه الحال يكون معذورًا.
وبعض أهل العلم يذكر في العلة في مثل هذا، يقولون: من أجل ألا يتذكر ذلك عند أكله وشربه فتعاف نفسه، وهذا فيه بعد، والأقرب -والله أعلم- هو تشريف اليمين، ومثل هذا حتى في أمور يسيرة دون ذلك، يحسن بالإنسان أن يجمل اليمين، وأن يجعلها دائمًا للأمور الأجمل، بمعنى إذا كان الإنسان يأكل بيمينه فلو أنه ترك وضع النوى بيمينه لكان خيرًا له، يضع النوى بيده الشمال، لاسيما إذا كان يصب للناس، وإذا كان يعطيهم، وإذا كان يقدم لهم ونحو ذلك، ويسلم عليهم فلا يحسن أن يضع النوى بيده اليمنى، ينزه اليمنى عن هذا يضع النوى في اليد الشمال، واليد اليمنى يصافح بها الناس، ويأكل بها، ويقدم بها لهم الطعام، ونحو هذا.
وهكذا في صور وأمثلة كثيرة لربما يتساهل فيها الناس لكنها ذات معنى.
قال: وعن أبي قتادة ، عن النبي ﷺ قال: إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه، ولا يستنجي بيمينه، ولا يتنفس في الإناء[3]، متفق عليه، قال وفي الباب أحاديث كثيرة صحيحة إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه، فهذا كما سبق ولا يستنجي بيمينه، فلو أن المرأة تريد أن تستنجي أو المرأة تريد أن تستجمر فأخذت حجرًا فإنها لا تأخذ الحجر بيمينها أيضًا.
قال: ولا يتنفس في الإناء، بمعنى أنه يشرب في أنفاس يشرب، ثم يبعد الإناء عنه، ثم يتنفس، ثم يشرب، ثم يبعد الإناء ويتنفس، ثم يشرب في ثلاث فيكون النفس بعيدًا عن الإناء، وذلك بعض أهل العلم يقول: من أجل ألا يقذره على غيره، فهذا معنى وارد وصحيح، ويرد فيه أيضًا معاني أخرى، مثل: أن الأمراض قد تنتشر بسبب هذا النفس، بالإضافة إلى التقذير.
وبعض أهل العلم ذكر معنى آخر وهو أن الماء يتغير بالنفس، تتغير رائحته، يتغير طعمه بالنفس، وهذا وارد في الأمراض وقد قرأت قديمًا أنه وجد في بعض النواحي أمراض تنتشر بين أهل تلك الناحية فلما نظروا وجدوا العلة أن الواحد منهم يشرب، ثم بعد ذلك لا يترك الإناء حتى يرتوي فيتنفس فيه المرة بعد المرة، فكانت تنتقل الأمراض بينهم بهذا، والأمراض معلوم أن منها ما ينتقل عن طريق النفس، بإذن الله ، يعني الآن الإنفلونزا مثلاً: أو نحو ذلك حينما يتلوث الهواء كيف ينتقل أليس عن طريق النفس؟ هذا نوع، هذا لون.
وهناك أشياء أخرى كثيرة تنتقل عن طريق النفس، ولذلك يراعى في بعض الجوانب حتى في غير الشرب، يعني العطاس الآن، العطاس يقولون إن صح ذلك وقد صوروه بصورة تشاهدها الأعين بالتكبير: الإنسان إذا عطس يخرج منه من الجراثيم والأشياء هذه شيء هائل بالملايين، ثم يصطدم بالجدار، ثم يرجع وينتشر ويفشو في المكان، وصوروا هذا وعرضوه، وهو موجود لو بحثتم في النت ستجدون من الصور ما يصور لكم هذه الأشياء، قد يكون فيها مبالغة، قد لا يكون، ولكن لا شك أنها تخرج من الإنسان ألوان من الجراثيم، فما العمل؟
يضع يده ستمتلئ يديه بالجراثيم فيذهب ويصافح الناس بهذه اليد وقد يمس بها أشياء وأشياء من مقابض الأبواب وأشياء أخرى، إنما يضع منديلاً، وإن كان ولا بدّ فيضع اليد اليسرى، فإن كان ولا بدّ أن يضع اليدين فليغسلهما بعد ذلك، يغسل يديه بماء وصابون، تكون يديه نظيفة، لا تكن اليد محلاً لملامسة الأقذار، والجراثيم، والأمراض والعلل والأوصاب، فكل ما سلم على أحد انطبعت يده بالجراثيم، وأسباب العلل، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه النسائي، كتاب الطهارة، باب بأي الرجلين يبدأ بالغسل، برقم (112)، وبرقم (5240)، كتاب الزينة، التيامن في الترجل، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4918).
- أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب السواك، برقم (252).
- أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب لا يمسك ذكره بيمينه إذا بال، برقم (154)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب النهي عن الاستنجاء باليمين، برقم (267).