الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
من قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} الآية:59 إلى قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الآية:63
تاريخ النشر: ٠٤ / ذو الحجة / ١٤٣١
التحميل: 7074
مرات الإستماع: 24905

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

قال المؤلف -رحمه الله تعالى:

قال الله: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يـُشْرِكُونَ ۝ أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [سورة النمل:59، 60].

يقول تعالى آمرًا رسوله ﷺ أن يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ أي: على نعمه على عباده، من النعم التي لا تعد ولا تحصى، وعلى ما اتصف به من الصفات العُلى والأسماء الحسنى، وأن يُسَلِّم على عباد الله الذين اصطفاهم واختارهم، وهم رسله وأنبياؤه الكرام -عليهم من الله الصلاة والسلام، هكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيره: إن المراد بعباده الذين اصطفى: هم الأنبياء، قال: وهو كقوله تعالى: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ۝ وَالـْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الصافات:180-182].

وقال الثوري، والسدي: هم أصحاب محمد ﷺ، ورضي عنهم أجمعين، وروي نحوه عن ابن عباس.

ولا منافاة، فإنهم إذا كانوا من عباد الله الذين اصطفى فالأنبياء بطريق الأولى والأحرى.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى هذا الأمر بحمد الله -تبارك وتعالى- يحتمل أن يكون متوجهاً إلى لوط -عليه الصلاة والسلام، أمره ربه أن يحمده على هلاك قومه الذين كذبوه، وقارفوا هذه الفواحش، ولم يقبلوا نصحه وتذكيره، ويحتمل أن يكون ذلك الخطاب موجهاً للنبي ﷺ أن يَحمد اللهَ على هلاك المكذبين عموماً.

والذين قالوا: إنه متوجه إلى لوط -عليه الصلاة والسلام؛ لأن ذلك جاء عقب خبره -عليه الصلاة والسلام- وما جرى له مع قومه، قال: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ۝ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [سورة النمل:58، 59].

ولكن ظاهر السياق -والله تعالى أعلم- أن ذلك متوجه إلى النبي ﷺ تعليمًا له من الله -تبارك وتعالى، وهو خطاب أيضاً للأمة- أن يحمد الله -تبارك وتعالى- على نعمه وآلائه ومن جملتها إهلاك المكذبين، وذلك أن ما ذكره الله -تبارك وتعالى- عن خبر لوط -عليه الصلاة والسلام- ذكره بصيغة الإخبار عما وقع له مع قومه بطريق الإخبار عن الغائب وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ [سورة النمل:54] فما كان جواب قومه إلا أن قالوا: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [سورة النمل:56]، وفَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الغَابِرِينَ ۝ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ۝ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ هذا الخطاب إلى لوط -عليه الصلاة والسلام- قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ -والله يحكي خبره: الظاهر أنه خطاب للنبي ﷺ. 

والذين قالوا: إنه متوجه إلى النبي ﷺ قالوا: هذا الأصل في القرآن أن مثل هذا الخطاب يتوجه إليه -عليه الصلاة والسلام؛ لأن القرآن نزل عليه ويكون ذلك شاملاً للأمة؛ لأن الحمد لا يختص به -عليه الصلاة والسلام، كما قال الله -تبارك وتعالى- فيما هو أبين وأوضح من هذا وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا [سورة الإسراء:23] مع أن أبويه -عليه الصلاة والسلام- قد مات منذ زمن بعيد عن نزول تلك الآيات.

ثم إن قوله -تبارك وتعالى: وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى العباد الذين اصطفاهم، يحتمل أن يكون المراد بذلك الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- والرسل، وقد ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هذا القول، وعزاه لابن زيد وغيره، وذكر الأدلة على هذا وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [سورة الصافات:181]، فالله -تبارك وتعالى- قال: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [سورة الحج:75]، وقال لموسى -عليه الصلاة والسلام: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي [سورة الأعراف:144]، فهؤلاء الرسل -عليهم الصلاة والسلام- هم الذين اصطفاهم الله واجتباهم.

والقول الآخر: أن المراد بذلك الصحابة ، ومن أهل العلم من ذكر ما هو أعم من ذلك وهم أهل الإيمان، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- جمع بين هذه الأقوال كعادته، إذ لا منافاة بينها، فإن الله -تبارك وتعالى- قال: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [سورة القصص:68] فهو كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله: اختيار بعد الخلق، فاختار الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- على سائر الناس، واختار من الأنبياء الرسل -عليهم الصلاة والسلام، واختار من الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- أولي العزم، واختار منهم محمداً ﷺ فهو أفضلهم، وهكذا أيضاً فإن الله اختار أهل الإيمان على سائر الناس، وجعلهم أمة الإجابة، واختار منهم السابقين بالخيرات، وهذا أمر لا يخفى أن هذا الاختيار واقع في هذه الأمة وفي غيرها من الأمم.

فقوله: وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى يدخل فيه دخولاً أولياً الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام، وإذا نظرت إلى غيرهم ممن اصطفاهم الله في الجملة من أهل الإيمان فإن ذلك يصدق عليهم، والسلام غير ممتنع على غير الأنبياء؛ لأنه تسليم من الله -تبارك وتعالى- بإلقاء هذا الاسم –السلام- وهو أمنةٌ ودعاءٌ بالسلامة في وقت واحد، بمعنى أنه إخبار، وكذلك هو دعاء للمسلم بالسلامة، وبعضهم يخصص ذلك بأمة محمد ﷺ أن الله اصطفاها على سائر الأمم، كما قال الله -تبارك وتعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورة فاطر:32] بطوائفهم الثلاث، ولكن لا دليل على التخصيص فيه بهذه الأمة، وإن كانوا من جملة من اصطفاهم الله -تبارك وتعالى، وكأن هذا القائل نظر إلى ما ذكر الله من خبر تلك الأمم المكذبة كقوم لوط -عليه الصلاة والسلام- ثم جاء هذا الأمر للنبي ﷺ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى هذه الأمة التي اجتباها الله، وأورثها الكتاب والنبوة، والله أعلم.

وقوله: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ استفهام إنكار على المشركين في عبادتهم مع الله آلهة أخرى.

قال ابن القيم -رحمه الله- تعالى: "قوله: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى هل السلام من الله تعالى فيكون المأمور به الحمد والوقف التام عليه أو هو داخل في القول والأمر بهما جميعا؟"[1].

يعني: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ المأمور به أن يحمد الله انتهى، وقف، ثم الله يقول: وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى يكون ذلك من كلام الله، وهذا من الموصول لفظاً المفصول معنى، ويحتمل أن يكون ذلك من جملة القول المأمور به قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى.

وقال -رحمه الله: " فالجواب عنه أن الكلام يحتمل الأمرين، ويشهد لكل منهما ضرب من الترجيح، فيُرجَّح كونه داخلا في جملة القول بأمور: منها اتصاله به، وعطفه عليه من غير فاصل"[2].

يعنيوَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى هذا من جملة المأمور به كقولك: قل كذا وكذا، وهذا يوجد ما يشهد له:

أولاً: أنه معطوف على الحمد، فيكون من جملة ما أمر به.

وقال -رحمه الله: "وهذا يقتضي أن يكون فعل القول واقعا على كل واحد منهما هذا هو الأصل، ما لم يمنع منه مانع"[3].

يعني أن العامل فيهما واحد، فالأصل في الكلام الاتصال لفظاً ومعنى ما لم يقم دليل أو قرينة على التفريق بينهما.

وقال -رحمه الله: " ولهذا إذا قلت: الحمد لله، وسبحان الله فإن التسبيح هنا داخل في المقول.

 ومنها: أنه إذا كان معطوفاً على المقول كان عطف خبر على خبر، وهو الأصل، ولو كان منقطعاً عنه كان عطفاً على جملة الطلب، وليس بالحسن عطف الخبر على الطلب"[4].

إذا قلت: قل كذا وكذا، فهو عطف جملة على جملة هي نظيرة لها، لكن إذا قال: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ يكون هذا المأمور به طلباً وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى إذا كان هذا من كلام الله يكون هذا خبراً، عطف الخبر على الطلب، هذا وإن كان صحيحاً في اللغة إلا أنه قليل، وبعضهم أنكره، وقال: لا يصح في اللغة، لكن هو صحيح وإن كان قليلاً في الاستعمال، المقصود: انظر طرق الترجيح والقرائن التي يذكرها.

وقال -رحمه الله: "ومنها: أن قوله: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ظاهر في أن المُسلِّم هو القائل الحمد لله؛ ولهذا أتى بالضمير بلفظ الغيبة ولم يقل: سلام على عبادي"[5].

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ لو كان من الله قال: {وسلام على عبادي الذين اصطفيت}.

وقال -رحمه الله: "ويشهد لكون السلام من الله تعالى أمور: أحدها: مطابقته لنظائره في القرآن من سلامه تعالى بنفسه على عباده الذين اصطفى"[6].

هذه مرجحات القول الآخر أنه مفصول، وأن الثاني من كلام الله، يقول يشهد له القرآن.

وقال -رحمه الله: " كقوله: "سلام على نوح في العالمين"، "سلام على إبراهيم"، "سلام على موسى وهارون" "سلام على إل ياسين".

ومنها: أن عباده الذين اصطفى هم المرسلون، والله سبحانه يقرن بين تسبيحه لنفسه وسلامه عليهم وبين حمده لنفسه وسلامه عليهم، أما الأول: فقال تعالى: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [سورة الصافات:180، 181] وقد ذكر تنزيهه لنفسه عما لا يليق بجلاله ثم سلامه على رسله.

 وفي اقتران السلام عليهم بتسبيحه لنفسه سر عظيم من أسرار القرآن يتضمن الرد على كل مبطل ومبتدع فإنه نزه نفسه تنزيهاً مطلقاً كما نزه نفسه عما يقول ضُلّال خلقه فيه، ثم سلم على المرسلين، وهذا يقتضي سلامتهم من كل ما يقول المكذبون لهم المخالفون لهم، وإذا سَلِموا من كل ما رماهم به أعداؤهم لزم سلامة كل ما جاءوا به من الكذب والفساد، وأعظم ما جاءوا به التوحيد، ومعرفة الله ووصفه بما يليق بجلاله مما وصف به نفسه على ألسنتهم.

وإذا سلِم ذلك من الكذب والمحال والفساد فهو الحق المحض، وما خالفه هو الباطل والكذب المحال، وهذا المعنى بعينه في قوله: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى فإنه يتضمن حمده بما له من نعوت الكمال وأوصاف الجلال والأفعال الحميدة والأسماء الحسنى، وسلامة رسله من كل عيب ونقص، وكذب وذلك يتضمن سلامة ما جاءوا به من كل باطل، فتأمل هذا السر في اقتران السلام على رسله بحمده وتسبيحه فهذا يشهد لكون السلام هنا من الله تعالى كما هو في آخر الصافات.

وأما عطف الخبر على الطلب فما أكثره، فمنه قوله تعالى: قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ [سورة الأنبياء:112]، وقوله: وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [سورة المؤمنون:118]، وقوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [سورة الأعراف:89]، ونظائره كثيرة جدا.

وفصل الخطاب في ذلك أن يقال: الآية تتضمن الأمرين جميعاً وتنتظمهما انتظاما واحدا"[7].

ذكَرَ القرائن التي تشهد للقول الأول أنه من جملة المأمور به قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، ثم ذكر القول الآخر قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، ثم الوقف يكون هنا تاماً ثم يكون ذلك من كلام الله يقول مُسلّماً: وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ذكر أدلة هذا وأدلة هذا، والقرائن التي تشهد لكل منهما، ثم جمع بين القولين، والآية إذا احتملت معنيين أو أكثر كل واحد يشهد له القرآن ولا يوجد ما يمنع من حملها على هذه المعاني فإنها تحمل عليها؛ لأن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.

قال ابن القيم -رحمه الله: "فإن الرسول هو المبلغ عن الله كلامه، وليس فيه إلا البلاغ، والكلام كلام الرب -تبارك وتعالى- فهو الذي حمد نفسه وسلم على صفوة عباده، وأمر رسوله بتبليغ ذلك فإذا قال الرسول: الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى كان قد حمد الله وسلم على عباده بما حمد به نفسه وسلم به هو على عباده فهو سلام من الله ابتداء ومن المبلغ بلاغا ومن العباد اقتداء وطاعة، فنحن نقول كما أمرنا ربنا -تبارك وتعالى- الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى"[8].

هذا الوجه في الجمع بهذه الطريقة: من جهة المعنى أنه مأمور به، وحينما أمر الله به فهو بهذا الاعتبار مُسلِّم على عباده الذين اصطفى؛ لأنه أمر نبيه ﷺ بذلك، لكن من الناحية اللفظية هذا كلام الله يسلم حينما يقول: وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، وكلام النبي ﷺ المأمور به: هذا لا يمكن أن تقوله في آنٍ واحد في هذا الموضع، هذا الكلام لمتكلميْن، إما أن يكون الوقف هنا قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ إذا قلت بأن الوقف تام وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى فيكون من المفصول معنى، هناك يأمره قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ثم الوقف، ثم الله يقول: وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ففي هذا الموضع التسليم ليس من جملة المأمور به، وإما أن يكون غير ذلك.

فهنا من الناحية اللفظية لا يمكن الجمع -والله أعلم، هذا كله صحيح في هذا الموضع من الناحية اللفظية أن هذا من كلام الله المأمور به أعني قوله تعالى: وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى؛ لأنه هو الذي يسلم، وأنه في نفس الوقت مما أمر به نبيه ﷺ، لكن من ناحية المعنى حينما أمر نبيه ﷺ بهذا فهو تسليم منه على نبيه -عليه الصلاة والسلام، والله تعالى أعلم، هذا من جهة المعنى، فهذه طريقة في الجمع بين الأقوال، وطرق الجمع متعددة، ومن تتبع المواضع التي في هذا يستطيع أن يحصّل من ذلك صوراً كثيرة، والله أعلم.

وقال -رحمه الله: "وكلمة السلام هنا تحتمل أن تكون داخلة في حيز القول، فتكون معطوفة على الجملة الخبرية، وهي الحمد لله، ويكون الأمر بالقول متناولا للجملتين معا"[9].

قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: ثم شرع تعالى يبين أنه المنفرد بالخلق والرزق والتدبير دون غيره، فقال: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أي: تلك السموات بارتفاعها وصفائها، وما جعل فيها من الكواكب النيرة والنجوم الزاهرة والأفلاك الدائرة، والأرض باستفالها وكثافتها، وما جعل فيها من الجبال والأوعار والسهول، والفيافي والقفار، والأشجار والزروع، والثمار والبحور والحيوان على اختلاف الأصناف والأشكال والألوان وغير ذلك.

وقوله: وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً أي: جعله رزقا للعباد، فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ أي: بساتين ذَاتَ بَهْجَةٍ أي: منظر حسن وشكل بهي.

قوله -تبارك وتعالى: فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ الحدائق قال: البساتين، والحديقة تطلق في كلام العرب على البستان الذي له حائط، فإن لم يكن عليه حائط فهو بستان، فما له حائط يقال له: حديقة، والذي ليس له حائط يقال له: بستان، يقول: "منظر حسن وشكل بهي" يعني يبتهج من ينظر إليه.

مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أي: لم تكونوا تقدرون على إنبات شجرها، وإنما يقدر على ذلك الخالق الرازق، المستقل بذلك المتفرد به، دون ما سواه من الأصنام والأنداد، كما يعترف به هؤلاء المشركون، كما قال تعالى في الآية الأخرى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [سورة الزخرف:87]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [سورة العنكبوت:63] أي: هم معترفون بأنه الفاعل لجميع ذلك وحده لا شريك له، ثم هم يعبدون معه غيره مما يعترفون أنه لا يخلق ولا يرزق، وإنما يستحق أن يُفرَدَ بالعبادة مَن هو المتفرد بالخلق والرزق؛ ولهذا قال: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ أي: أإله مع الله يُعبد، وقد تبين لكم، ولكل ذي لب مما يعترفون به أيضًا أنه الخالق الرازق؟!

ثم قال: بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَأي: يجعلون لله عدلا ونظيرًا.

قوله -تبارك وتعالى- هنا: مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا يعني: ما صح لكم، ومعنى النفي هنا الحظر، يعني هذا لا يتأتى لكم ولا يمكن، والله -تبارك وتعالى- يقول: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ [سورة التوبة:120] يعني: ما صح لهم، وهذا بمعنى الحظر، أي لا يجوز لهم ذلك، لكن هذا يدل على الامتناع فإن ذلك لا يتأتى للمخلوقين، فالامتناع ليس المقصود به الامتناع الشرعي مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا، وإنما الامتناع العادي، يعني أن ذلك لا يمكن أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا تستطيع أن تقول: هو ممتنع واقعاً ولا يمكن أن يحصل ذلك من المخلوق؛ لأن ذلك إنما يختص به الخالق وهو الخلق، الامتناع: منه ما هو امتناع شرعي، ومنه ما يكون من قبيل الامتناع العادي في مجال العادات، ومنه ما يكون من قبيل الامتناع العقلي يعني المحال عقلاً الذي لا يتصوره العقل أصلاً.

وقوله -تبارك وتعالى: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ابن كثير -رحمه الله- هنا يقول: أي: أإله مع الله يعبد؟ ومن أهل العلم من يقول: أإله مع الله أوجدها وخلقها؟! فهما قولان مشهوران، وهكذا في قوله: بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أي: يجعلون لله عدلاً ونظيراً، أيضاً يحتمل معنى آخر بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أي: عن الحق، يعدلون عنه ويختارون طريق الباطل فهم يعدلون عن الحق إلى الباطل، هذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله.

والآية تحتمل هذا وهذا، فإذا كانوا يجعلون لله -تبارك وتعالى- نظيراً على المعنى الأول فهم في الواقع قد عدلوا عن الحق إلى الباطل، فهذان المعنيان صحيحان ولا منافاة بينهما، والله تعالى أعلم، فهذا والذي قبله، وكذلك في قوله -تبارك وتعالى: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ أإله مع الله يعبد؟ أإله مع الله خلقها وأوجدها: كل ذلك صحيح، فهذا وإن كان من قبيل اختلاف التضاد إلا أنه يرجع إلى اختلاف التنوع باعتبار الجمع بين هذه الأقوال.

قال ابن القيم -رحمه الله: " يحتج عليهم بأن من فعل لهم هذا وحده فهو الإله لهم وحده، فإن كان معه رب فعل هذا فينبغي أن تعبدوه، وإن لم يكن معه رب فعل هذا فكيف تجعلون معه إلها آخر؟

 ولهذا كان الصحيح من القولين في تقدير الآية: أإله مع الله فعل هذا؟ حتى يتم الدليل فلا بد من الجواب بلا، فإذا لم يكن معه إله فعل كفعله فكيف تعبدون آلهة أخرى سواه؟ فعلم أن إلهية ما سواه باطلة، كما أن ربوبية ما سواه باطلة بإقراركم وشهادتكم.

ومن قال: المعنى هل مع الله إله آخر؟ من غير أن يكون المعنى فعَلَ هذا فقوله ضعيف لوجهين:

أحدهما: أنهم كانوا يقولون: مع الله آلهة أخرى، ولا ينكرون ذلك

الثاني: أنه لا يتم الدليل ولا يحصل إفحامهم، وإقامة الحجة عليهم إلا بهذا التقدير، أي: فإذا كنتم تقولون: إنه ليس معه إله آخر فعل مثل فعله فكيف تجعلون معه إلها آخر لا يخلق شيئا وهو عاجز؟ وهذا كقوله: أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [سورة الرعد:16]. 

وقوله: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ [سورة لقمان:11]، وقوله: أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ [سورة النحل:17]، وقوله: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [سورة النحل:20]، وقوله: وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [سورة الفرقان:3]، وهو كثير في القرآن وبه تتم الحجة كما تبين"[10].

الحافظ ابن القيم كما ترون يخالف ابن كثير فيما ذهب إليه، فابن كثير يقول: أإله مع الله يعبد؟! لكنه لم يرجح هذا القول، والكلام الذي حذف في المختصر كان ينبغي ألا يحذف، فابن كثير ذكر القول الآخر أإله مع الله فعل هذا؟! قال: وهو يرجع إلى القول الأول بطريق الجمع بين القولين، والذي ذكره ابن القيم -رحمه الله- يخالف القول الذي اختاره ابن كثير -رحمه الله- أإله مع الله يعبد؟! فابن القيم يقول: أإله مع الله خلق هذا؟! فعل هذا؟! واحتج على هذا بأمرين:

الأمر الأول: أنهم يعبدون معه غيره، فهم لا ينكرون عبادة غير الله ، يعبدون معه الأصنام.

والأمر الثاني: أن الحجة لا تقوم عليهم بمثل هذا، إنما تقوم بأن يقولوا: لا، أإله مع الله فعل هذا؟! أإله مع الله خلق؟! فهم ينكرون أنه ما خلق ذلك أحدٌ سوى الله -تبارك وتعالى، هم يقرون بهذا، إذا كان كذلك ألزمهم بتوحيد الإلهية، وهذا معنى قول أهل العلم: إن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية ويقتضيه، ويُحتج عليهم بتوحيد الربوبية الذي يقرون به على توحيد الإلهية، فهذا معنى كلام ابن القيم واحتج على هذين الأمرين، يقول: وكيف يقول لهم: أإله مع الله يعبد وهم يعبدون غيره؟

لكن يمكن أن يقال: الذي قال: يعبد لا يخفى عليه ما ذكره ابن القيم، وإنما يقصدون أإله مع الله يعبد أي يستحق العبادة، وهو الذي خلق هذه المخلوقات وأوجدها -تبارك وتعالى- مما يعجز عنه الخلق؟ فيكون القول الأول والثاني بهذا الاعتبار بينهما ملازمة على هذا الوجه، أإله مع الله أوجدها فيستحق العبادة؟ أو أإله مع الله يستحق العبادة، والله هو الذي خلقها وأوجدها؟ والآية تحتمل المعنيين، والواقع أنه ليس مع الله إله يستحق أن يعبد، وليس مع الله إله خلقها وأوجدها، والله تعالى أعلم.

قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله: أَمْ مَنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِي َوَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [سورة النمل:61].

يقول: أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًاأي: قارة ساكنة ثابتة، لا تميد ولا تتحرك بأهلها ولا ترجف بهم، فإنها لو كانت كذلك لما طاب عليها العيش والحياة.

قوله: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ فعل هذا؟ -كما يقول ابن القيم- هو الذي اختاره ابن جرير، وابن كثير -رحمه الله- كما سمعتم أشار إلى الجمع بين القولين.

بل جعلها من فضله ورحمته مهادًا بساطًا ثابتة لا تتزلزل ولا تتحرك، كما قال في الآية الأخرى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [سورة غافر: 64].

هنا في قوله -تبارك وتعالى: أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا "أي: قارة ساكنة ثابتة لا تميد ولا تتحرك بأهلها، ولا ترجف بهم"، يعني: جعل لها رواسي، صارت قارة ثابتة يتقلب الخلق عليها ويسعون في مصالحهم، ويمشون في مناكبها ولا يحصل لهم فيها اضطراب، وإنما هي ساكنة هذا القدر، ولا إشكال فيه، لكن هل هذا ينفي ما يذكره المعاصرون أو كثير من المعاصرين من أن الأرض تتحرك يعني تدور، الذين منعوا من ذلك تمسكوا بأن الله يقول: أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا فهي مستقرة فكيف يقال: إنها تتحرك وتدور؟

وبصرف النظر عمن قال: إنها تتحرك وتدور لا يقال: إنه مكذب ومناقض للقرآن؛ لأن حركة الجرم الكبير جداً في الأرض بهذا اللون من الحركة لا تظهر للناس ولا يشعرون بها، فهي بالنسبة إليهم قارة ثابتة لا يرون هذه الحركة ولا تؤثر فيهم، وهذا وجه الامتنان جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا بمعنى أنها لا تضطرب ولا تتحرك بهم حركة تؤثر على الخلق، فالزلزلة مثلاً اضطراب وحركة قوية في الأرض تؤثر غاية التأثير، كانت الأرض مضطربة تميد بالناس فهنا وجه الامتنان بجعلها قارة يعني لا تضطرب.

ومن قال: إنها تتحرك وتدور، لا يقال: إنه مكذب القرآن ومناقض للقرآن؛ لأن الله قال: أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا، وحركة الجرم الكبير هذه الحركة الرتيبة لا يشعر بها الخلق، فالعامة مثلاً لا يشعرون أن الأرض تدور، لا يخطر في بالهم ذلك أصلاً؛ لأنهم لا يشعرون بهذه الحركة، فمن قال: إنها تتحرك، لا يقال: إنه مكذب بالقرآن فهو كافر؛ لأن الآية ليست صريحة في ذلك، بمعنى أن القرار المقصود أنها لا تميد بالناس لا تضطرب، لكن هي في العين تتحرك.

وهذا كما قيل في قوله -تبارك وتعالى- في وصف الأرض بأن الله جعلها بساطا منبسطة، ونحن نعلم أن الأرض كروية، الله قال: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا [سورة نوح:19]، فمن قال: إنها دائرية لا يكون مكذباً للقرآن؛ لأن هذا التكور في الجرم الكبير لا يبدو للناظرين، بل تبدو كأنها مسطحة، والواقع أنها كروية، والذي يكون تكذيباً للقرآن من يقول: إن الشمس ثابتة لا تتحرك، وإن الأرض هي التي تدور حول نفسها، تدور حول الأرض والشمس لا تتحرك، ومن دورة الشمس يحصل الليل والنهار، وليس من دوران الأرض كما يقوله أهل الفلك، والدليل على هذا أن الله -تبارك وتعالى- قال: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا [سورة يس:38].

فالذي يقول: لا تتحرك هذا مناقض للقرآن، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى- في التعاقب والتتابع بين الشمس والقمر: لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ [سورة يس:40]، لا يجوز بحال من الأحوال أن يقال في معناها: إنها تجري وإن القمر أيضاً يجري، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يقال ذلك، يحتاج الناس أن يعلموا بهذا، وأن الحقائق المذكورة في القرآن هي التي يجب الوقوف عندها وعدم الالتفات إلى ما خالفها لكن من القرآن ما يكون صريحاً، وأحياناً لا يحتمل معنى آخر مثل هذه وَالشَّمْسُ تَجْرِي فلا يجوز لأحد أن يقول: إنها ثابتة لا تتحرك، لكن في مسألة الانبساط والأرض كروية فهذا لا يناقض القرآن، وكروية الأرض ذكرها العلماء قديماً، وذكرها شيخ الإسلام على أنها قضية مسلمة، قضية معروفة لكن التكور في الجرم الكبير لا يظهر للناظر، والله تعالى أعلم.

وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا أي: جعل فيها الأنهار العذبة الطيبة تشقها في خلالها، وصرفها فيها ما بين أنهار كبار وصغار وبين ذلك، وسيرها شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالا بحسب مصالح عباده في أقاليمهم وأقطارهم حيث ذرأهم في أرجاء الأرض، سَيَّرَ لهم أرزاقهم بحسب ما يحتاجون إليه.

تذكرون الكلام الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- في مناسبة سابقة لما تكلم على هذه الآية ذكر جعْل الأنهار في الأرض فقال: الله يسوق المطر إلى الأرض فتنبت، ومن الأرض ما يكون سباخاً إذا جاءه المطر فإن ذلك لا ينفعه، ولا يحصل به الإنبات، وإنما يأتيه الماء من أماكن أخرى فيحصل بذلك نفع الناس، ومثل على هذا بأرض مصر، الأرض التي لا تنتفع بالمطر تأتيها الأنهار.

وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَأي: جبالا شامخة ترسي الأرض وتثبتها؛ لئلا تميد بكم.

قوله تعالى: أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا، ووَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَتثبت لا تضطرب، يعني الذين يقولون: إن الأرض تتحرك يحتمل أن ذلك لا يناقض القرآن مناقضة صريحة، لأن المعنى لا تضطرب بالناس وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ تثبتها من الاضطراب والزلزلة.

وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًاأي: جعل بين المياه العذبة والمالحة حاجزًا، أي: مانعًا يمنعها من الاختلاط؛ لئلا يفسد هذا بهذا، وهذا بهذا، فإن الحكمة الإلهية تقتضي بقاء كل منهما على صفته المقصودة منه، فإن البحر الحلو هو هذه الأنهار السارحة الجارية بين الناس، والمقصود منها: أن تكون عذبة زلالا تسقى الحيوان والنبات والثمار منها، والبحار المالحة هي المحيطة بالأرجاء والأقطار من كل جانب، والمقصود منها: أن يكون ماؤها ملحًا أجاجًا؛ لئلا يفسد الهواء بريحها، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا [سورة الفرقان:53].

ابن كثير -رحمه الله- يقول عن الحاجز: مانع يمنعها من الاختلاط؛ لئلا يفسد هذا بهذا، فبعضهم يقول: الحاجز من اليابسة، فالأنهار تجري في شقوق الأرض لا تختلط بالبحار إلا في مصباتها، فتبقى في هذه الشقوق عذبة حلوة.

وبعض أهل العلم يقول: المقصود بالحاجز أنها لا تختلط، لا يطغى هذا على هذا، فحينما تصب الأنهار في البحار فإن ذلك لا يُحول البحار إلى مياه عذبة على طول الزمان وكثرة ما يصب فيها من الأنهار في العالم، وكذلك البحار لا تطغى على الأنهار فتمازج مياهها فتتحول مياه الأنهار؛ لأنها صغيرة بالنسبة للبحار، لا يطغى عليها البحر فيمزجها فتتحول مياه الأنهار إلى مياه ملح، وجعل بينهما حاجزاً هذا لا إشكال فيه، والمعنى ظاهر.

وما يقال زيادة على ذلك من التفصيلات قد لا يناقض ما قاله السلف أعني ما يذكره أصحاب الإعجاز العلمي فهذا من الأمثلة التي يمكن أن يقبل فيها ما يقولون: فحينما يقولون مثلاً: جعل بينهما حاجزاً: جعل مكان الملتقى هذا المكان الذي يُلتقي فيه، يصب فيه النهر للبحر، هذه المنطقة تبقى منطقة لها خصائص معينة، وتعيش فيها كائنات معينة، وذاك بحر، هذا هو الحاجز، أو ما يقولونه من أن المياه الحلوة العذبة حينما تصب في البحار تبقى وتحافظ على خصائصها، وأن العيون التي في البحار لها مساراتها، وأنها لا تمتزج بماء البحر -على أنها تتحول إلى ملح- وإنما تبقى حلوة، فإن صح ذلك فهذا من جملة التفصيل الذي يذكر في الآية.

وهكذا ما يذكرونه، وجعل بين البحرين حاجزا: يقولون: بين البحر والبحر وليس البحر والنهر، يقولون: البحر والبحر الملتقى بينهما يكون له خصائصه، هذه المنطقة تعيش فيها كائنات غير الكائنات التي تعيش هنا وهنا، ونسبة الملوحة فيها تختلف عن هذا البحر، وهذا البحر، فهذا حاجز بين البحرين، ونحن نعرف أن البحار تختلف في خصائصها والكائنات التي تعيش فيها، يعني: في نسب الملوحة، والنباتات التي تكون فيها، والكائنات التي تعيش فيها.

يعني انظر إلى الخليج العربي هو من أكثر مياه البحر في العالم ملوحة وهذا معروف شديد الملوحة، وتجد أن لونه كدر إلى حد ما يعني ليس بذلك الصفاء لربما لكثافة ملوحته، لكن إذا ذهبت إلى البحار الكبيرة كالمحيطات تجد أن الملوحة أقل بكثير، وتجد أن الماء في غاية الصفاء، حتى البحر الأحمر فيه ملوحة وترى صفاء الأرض، وما لا تراه في هذا البحر تراه في البحار الأخرى والمحيطات، وحينما تسبح في هذا المحيط تسبح ولا تحتاج أن تغمض عينيك، فإذا أصاب العين شىء من الماء في البحار الصغيرة فإن ذلك يشق على الإنسان، وهناك في المحيطات لا يحدث شىء من ذلك، كأنك تسبح في نهر لا يؤذي العين إطلاقاً، ولا تشعر بشدة الملوحة في مياه المحيطات فهذا له خصائص وهذا له خصائص، هو بحر لكن مع طول هذه المدة من الالتقاء لن تمتزج هذه البحار بحيث تكون وحدة ذات خصائص متحدة، ولذلك حتى الكائنات التي تعيش هنا غير الكائنات التي تعيش هناك، فبعض الأسماك توجد في البحر المتوسط، ولا توجد في الخليج العربي أو البحر الأحمر والعكس، والله تعالى أعلم.

ولهذا قال: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ أي: فعَلَ هذا؟ أو يعبد؟ على القول الأول والآخر، وكلاهما متلازم صحيح، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي: في عبادتهم غيره.

قوله تعالى: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ أي: فعل هذا؟ أو يعبد؟ وعلى القول الأول والآخر كلاهما متلازم صحيح، جمَعَ بين القولين.

أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ [سورة النمل:62].

ينبه تعالى أنه هو المدعُوّ عند الشدائد، المرجُوّ عند النوازل، كما قال: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ [سورة الإسراء:67]، وقال تعالى: ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [سورة النحل:53]، وهكذا قال هاهنا: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُأي: مَنْ هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه؟

أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ المضطر هو المجهود المكروب الذي لا حول له ولا قوة، قد انقطعت به الأسباب؛ ولهذا يذكر أهل العلم في سبب إجابة الله دعوة المضطر يقولون: لما انقطعت به العلائق والأسباب فإنه يخلص في هذه الحال الدعاء إلى الله -تبارك وتعالى؛ ولهذا قال الله : فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [سورة العنكبوت:65] فإذا انقطعت علائقه وحّد وجهته إلى ربه وخالقه ، فعندئذ يجيبه الله حينما لا يبقى في القلب أي التفات إلى المخلوقين، أو ما يعبد من دون الله -تبارك وتعالى، وقوله: وَيَكْشِفُ السُّوءَ كل ما يسوء العبد، وبعضهم يقول: هو الضر، يكشف السوء: يكشف الضر من مرض ونحوه، والمعنى أعم من ذلك، يكشف السوء: كل ما يسوء الناس، ويدخل فيه الضر والمرض.

روى الإمام أحمد عن رجل من بلهجيم قال: "قلت: يا رسول الله، إلام تدعو؟ قال: "أدعو إلى الله وحده، الذي إن مَسّك ضر فدعوته كشف عنك، والذي إن أضْلَلْت بأرض قَفْر فدعوتَه رَدّ عليك، والذي إن أصابتك سَنة فدعوتَه أنبتَ لك"، قال: قلت: أوصني، قال: "لا تَسُبَّنَّ أحدًا، ولا تَزْهَدنّ في المعروف، ولو أن تلقى أخاك وأنت منبسط إليه وجهك، ولو أن تُفرغَ من دَلوك في إناء المستقي، واتزر إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار، فإن إسبال الإزار من المخيلة، وإن الله -تبارك تعالى- لا يحب المخيلة"[11].

وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة فاطمة بنت الحسن أم أحمد العجلية قالت: هزم الكفار يوما المسلمين في غزاة، فوقف جَوَاد جَيّد بصاحبه، وكان من ذوي اليسار ومن الصلحاء، فقال للجواد: ما لك؟ ويلك، إنما كنت أعدّك لمثل هذا اليوم، فقال له الجواد: وما لي لا أقصّر وأنت تَكلُ علوفتي إلى السُّواس فيظلمونني ولا يطعمونني إلا القليل؟ فقال: لك عليَّ عهد الله أني لا أعلفك بعد هذا اليوم إلا في حِجْري. فجرى الجواد عند ذلك، ونجَّى صاحبه، وكان لا يعلفه بعد ذلك إلا في حِجْره، واشتهر أمره بين الناس، وجعلوا يقصدونه ليسمعوا منه ذلك، وبلغ ملك الروم أمرُه، فقال: ما تُضَام بلدة يكون هذا الرجل فيها.

ما تضام بلدة يكون هذا الرجل فيها، يقول يعني لا تغلب ولا تقهر بلدة يكون هذا الرجل فيها، يقول: لا سبيل لنا عليهم ما دام مثل هذا فيهم، فأراد أن يأخذه ويأسره ليسلط عليهم.

واحتال ليحصّله في بلده، فبعث إليه رجلا من المرتدين عنده، فلما انتهى إليه أظهر له أنه قد حَسُنت نيته في الإسلام وقومه.

هذا مأسور وارتد فأرسله ملك الروم، واحتال على هذا الرجل وجعله يأتي ليؤسر، يعني يتلطف به، وأخرجه معه إلى البلد حتى يمكن أسره.

حتى استوثق، ثم خرجا يوما يمشيان على جنب الساحل، وقد واعد شخصا آخر من جهة ملك الروم ليتساعدا على أسره، فلما اكتنفاه ليأخذاه رَفَع طرفه إلى السماء وقال: اللهم، إنه إنما خَدَعني بك فاكفنيهما بما شئت، قال: فخرج سبعان إليهما فأخذاهما، ورجع الرجل سالما.

هذه واقعة إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:20] قد يحصل هذا، والنبي ﷺ أخبر عن تكلم الذئب حينما قال للرجل الذي استنقذ منه الشاة: أتمنعني رزقاً ساقه الله إليَّ[12]؟ وقال: بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها، فقالت: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا للحرث[13] فالله -تبارك وتعالى- قادر، لكن مثل هذه الواقعة التي ذكرها ابن عساكر عن هذه المرأة فاطمة بنت الحسن أم أحمد العجلية يعني نحن ننظر إلى هذا كأنه من أخبار بني إسرائيل، يعني لا نصدق مثل هذا ولا نبادر إلى تكذيبه؛ لأنه غير ممتنع.

وقوله تعالى: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أي: يُخْلفُ قَرنا لقرن قبلهم، وخَلَفًا لسلف، كما قال تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [سورة الأنعام:133]، وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [سورة الأنعام:165]، وقال تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً [سورة البقرة:30]، أي: قومًا يخلف بعضهم بعضا، كما قدمنا تقريره.

يعني: يخلف بعضهم بعضاً سواء قيل: إن الأمم يخلف بعضها بعضاً، أو إن الأجيال يخلف بعضها بعضاً، فالأولاد يخلفون الآباء، وهذا المعنى هو الأقرب -والله تعالى أعلم- أن قوماً يخلف بعضهم بعضاً، ولا يقال: إنهم خلفاء عن الله ، هذا وإن قال به بعض أهل العلم إلا أنه غير صحيح، والله أجل وأعظم من أن يخلفه أحد من خلقه، والكلام في هذه المسألة تجدونه في قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [سورة البقرة:30]، ولا يقال: هو خليفة عن الله، و لا يقال: الإنسان خليفة الله بأرضه، كما يقال، الأقرب أن ذلك غير مراد، وأنه لا يسوغ أن يقال: الإنسان خليفة الله في أرضه، وإنما خليفة: أن يخلف بعضه بعضاً.

وبعض أهل العلم في آية البقرة خاصة يقول: صاروا خلفاء من الجن، فإن الجن كانوا قبل الإنس في الأرض فأفسدوا فيها؛ ولهذا قالت الملائكة لما أخبرهم الله عن هذا الاستخلاف: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء قاسوا ذلك على الجن، وليس بلازم، فقد يكون الله أطلع الملائكة على حال آدم وما ركب فيه من الشهوات مما يقتضي وقوع هذا الفساد من سفك الدماء وما إلى ذلك، لكن ليس المقصود أنهم خلفاء عن الله، فالإنسان ليس بخليفة عن الله .

وهكذا هذه الآية: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أي: أمة بعد أمة، وجيلا بعد جيل، وقومًا بعد قوم، ولو شاء لأوجدهم كلهم في وقت واحد، ولم يجعل بعضَهم من ذرية بعض، بل لو شاء لخلقهم كلهم أجمعين، كما خلق آدم من تراب، ولو شاء أن يجعلهم بعضهم من ذرية بعض ولكن لا يميت أحدا حتى تكون وفاة الجميع في وقت واحد، فكانت تضيق عليهم الأرض وتضيق عليهم معايشهم وأكسابهم، ويتضرر بعضهم ببعض. ولكن اقتضت حكمته وقدرته أن يخلقَهم من نفس واحدة، ثم يكثرَهم غاية الكثرة، ويذرأَهم في الأرض، ويجعلهم قرونا بعد قرون، وأمما بعد أمم، حتى ينقضي الأجل وتفرغ البَرية، كما قدر ذلك -تبارك وتعالى، وكما أحصاهم وعَدّهم عَدًّا، ثم يقيم القيامة، ويُوفي كلّ عامل عمله إذا بلغ الكتاب أجله؛ ولهذا قال تعالى:أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ أي: يقدر على ذلك؟ أو أإله مع الله بعد هذا يُعْبدظ، وقد علم أن الله هو المتفرد بفعل ذلك قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ أي: ما أقل تذكرهم فيما يرشدهم إلى الحق، ويهديهم إلى الصراط المستقيم.

هنا في المعنى الذي ذكره في قوله: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ كلام ابن كثير -رحمه الله- يشرح هذه الآية وهي من دلائل قدرة الله : وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أجيال وهكذا، يعني بهذه الطريقة لو شاء الله جعل الناس جميعاً، أوجدهم مرة واحدة كما خلق آدم ويموتون في وقت واحد فتضيق بهم الأرض، فلو كل الناس من أولهم إلى آخرهم وُجدوا وخُلقوا كما خُلق آدم، ويموتون في وقت واحد فإن الأرض تضيق بهم، ولكن من حكمته -تبارك وتعالى- أن جعلهم خلفاء الأرض، فهذا الجيل يُفنى الآباء ويُولِد الأبناء، يَفنى أناس فلا تشعر بفراغ بعد موت الآباء؛ لأنه وجد الأبناء، ثم يتحول هؤلاء الأبناء إلى آباء ثم يكونون كالزرع الذي آن حصاده فيتحولون إلى أجداد، ثم بعد ذلك يبدءون بالفناء، ومن الناس من يتوفى قبل ذلك، ويوجد ويولد في نفس الوقت، يولد أناس ويموت أناس، هكذا الأجيال تتعاقب، فلا يُشعر بموتهم من جهة الكثرة أو القلة ولا يُشعر أيضاً بالمواليد من جهة الكثرة.

فإذا قيل: إنه ولد مثلاً مليون إنسان في هذا اليوم لا ترى زحاماً في الطرقات، وإذا قيل: مات مليون إنسان في العالم في هذا اليوم لا ترى فراغاً، لكن ذلك يأتي بالتدريج بهذه الطريقة، يعني لو قدر لنا أن نضع ذلك بألوان ونحو هذا تجد رأس هذا الجيل باللون الأصفر، ووسطه باللون الأحمر، أوله الطرف الأسفل بلون آخر أخضر يعني هؤلاء جيل جديد ثم بعد ذلك يزهو ويكتمل، ثم بعد ذلك يصفر، ثم ينقضي ثم يتلاشى.

وهكذا ينبت الجيل الجديد ويتحول إلى آباء، ويأتي جيل بعدهم وجيل بعدهم، ويتعاقب الناس بهذه الطريقة، فالجيل الذين قبلنا ماتوا، ولو أنهم ماتوا جميعاً في يوم واحد لعُد ذلك فناء عاماَ للناس، ولكن الناس يفنون، كل جيل يفنى لكن اليوم واحد، وغداً آخر وبعده آخر وهكذا الجيل الجديد ما يوجد دفعة واحدة، وإنما اليوم واحد وغداً آخر وبعده شيئاً فشيئاً ثم يحصل هذا التعاقب وتصرف الأموال فيهم والثروات تنتقل من جيل إلى آخر، ويرثون الأرض، فهذه الأرض التي نحن فيها وجد فيها أجيال قبلنا لكنهم انقضوا، وماتوا وثرواتهم انتقلت إلى الذين بعدهم، هذه آية من آيات الله -تبارك وتعالى- في هذا الخلق.

أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [سورة النمل:63].

يقول تعالى: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي: بما خلق من الدلائل السماوية والأرضية، كما قال: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [سورة النحل:16]، وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ الآية [سورة الأنعام:97].

أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي: بما خلق من الدلائل السماوية والأرضية، والظلمات هنا تحتمل معنيين: تحتمل أن يكون المقصود بها ظلمات الليل، فيكون المعنى أمن يرشدكم في الليالي المظلمة إذا سافرتم في البر والبحر؟ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يعني ما الذي يرشدكم في الظلام حال السفر؟ فجعل لهم من الآلات ما يرشدهم كما قال الله : وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [سورة النحل:16]، فعلامات وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ يعرفون ذلك بالنهار بعلامات كالجبال ونحو ذلك، ويهتدون ليلاً بالنجوم.

ويحتمل أن يكون المقصود بالظلمات ليس الظلام، وإنما المفاوز التي لا أعلام فيها ولجج البحار، فشبهها بالظلمات باعتبار أنهم لا يجدون فيها ما يرشدهم، يعني يمشي في أرض ليس فيها أي علامات يعرفها، ويهتدي بها إلى وجهته، وإذا دخل في لجج البحر فإنه لا يجد علامات تهديه إلى مراده، فذلك ظلمات بهذا الاعتبار، يعني أن الأمر يكون مبهما بالنسبة إليه، لا يظهر له وجه اهتداء، فجعل الله  لهم من العلامات بالنجوم ونحوها ما يهتدون به إذا دخلوا البحر، فالذي جعل لهم علامات يهتدون بها ويصلون بها إلى مطلوبهم الله -تبارك وتعالى.

وإذا نظرت إلى أخبار العرب في مثل هذا وجدت العجب، وبعضهم يستطيع أن يصف كل شيء بالنجوم -وهذا موجود إلى اليوم، يعرفون أين يقع المكان الفلاني، وأين تسكن القبيلة الفلانية، فالله -تبارك وتعالى- جعل لنا النجوم لنهتدي بها في ظلمات البر والبحر، فهنا قال: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، كقوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [سورة الأنعام:97]، وإلا فإذا دخل البحر لا توجد فيه أي علامات عدا النجوم، فيهتدي بها.

وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي: بين يدي السحاب الذي فيه مطر، يُغيث به عباده المجدبين الأذلّين القنِطين، أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ.

الرياح تكون مبشرة بالمطر، مبشرة له، وهي الريح التي تكون قبله مبعثرة فينزل المطر بعدها، وهذا مشاهد، بُشراً: كما أنها أيضاً تكون ناشرة للسحاب فهي نُشر، تنشر السحاب وتلقحه وتسوقه.

الرياح تكون مبشرة بالمطر، مبشرة له، وهي الريح التي تكون قبله مبعثرة فينزل المطر بعدها، وهذا مشاهد، بُشراً: كما أنها أيضاً تكون ناشرة للسحاب فهي نُشر، تنشر السحاب وتلقحه وتسوقه.

أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [سورة النمل:64].

أي: هو الذي بقدرته وسلطانه يبدأ الخلق ثم يعيده، كما قال تعالى في الآية الأخرى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [سورة البروج:12، 13]، وقال:وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [سورة الروم: 27].

وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أي: بما ينزل من مطر السماء، وينبت من بركات الأرض، كما قال: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ۝ وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ [سورة الطارق:11، 12]، وقال: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا [سورة الحديد:4]، فهو -تبارك وتعالى، يُنزل من السماء ماء مباركًا فيسكنه في الأرض، ثم يخرج به منها أنواع الزروع والثمار والأزاهير، وغير ذلك من ألوان شتى، كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى [سورة طه:54]؛ ولهذا قال: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ أي: فعَلَ هذا؟ وعلى القول الآخر: بعد هذا يُعبد؟ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ على صحة ما تدعونه من عبادة آلهة أخرى، إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَفي ذلك، وقد علم أنه لا حجة لهم ولا برهان، كما قال الله: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [سورة المؤمنون:117].

 
  1. بدائع الفوائد، لابن القيم الجوزيه (2/ 397)، تحقيق : هشام عبد العزيز عطا - عادل عبد الحميد العدوي - أشرف أحمد، مكتبة نزار مصطفى الباز - مكة المكرمة، ط1، سنة النشر: 1416هـ -1996م.
  2. بدائع الفوائد، لابن القيم(2/ 397).
  3. المصدر السابق (2/ 397).
  4. المصدر السابق (2/ 397).
  5. المصدر السابق (2/ 397).
  6. المصدر السابق (2/ 397).
  7. بدائع الفوائد، لابن القيم(2/ 397-398).
  8. بدائع الفوائد، لابن القيم الجوزيه (2/ 398).
  9. طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم (514)، تحقيق: عمر بن محمود أبو عمر.
  10. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم (1/ 412).
  11. رواه أحمد في المسند، برقم (20636)، وقال محققوه: إسناده صحيح.
  12. رواه أحمد في المسند، برقم (11792)، وقال محققوه: رجاله ثقات رجال الصحيح، القاسم بن الفضل الحداني، وأبو نضرة: وهو المنذر بن مالك العبدي، يزيد: هو ابن هارون، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (122).
  13. رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ [سورة الكهف:9]، برقم (3284).

مواد ذات صلة