الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
من قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} الآية:87 إلى آخر السورة
تاريخ النشر: ٠٩ / محرّم / ١٤٣٢
التحميل: 4892
مرات الإستماع: 9922

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعد:

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ۝ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ۝ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ۝ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة النمل:87-90].

يخبر تعالى عن هول يوم نفخة الفَزَع في الصُّور، وهو كما جاء في الحديث: "قرن ينفخ فيه"، وفي حديث الصُّور أن إسرافيل هو الذي ينفخ فيه بأمر الله تعالى، فينفخ فيه أولا نفخة الفزع ويطولها، وذلك في آخر عمر الدنيا، حين تقوم الساعة على شرار الناس من الأحياء، فيفزع مَنْ في السموات ومَنْ في الأرضإِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، وهم الشهداء، فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون.

روى الإمام مسلم بن الحجاج عن عبد الله بن عمرو ، وجاءه رجل فقال: ما هذا الحديث الذي تُحدِّث أن الساعة تقوم إلى كذا وكذا؟ فقال: سبحان الله -أو: لا إله إلا الله، أو كلمة نحوهما- لقد هممت ألا أحدث أحدًا شيئا أبدًا، إنما قلت: إنكم سترون بعد قليل أمرًا عظيمًا يخرب البيت، ويكون ويكون، ثم قال: قال رسول الله ﷺ: يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين -لا أدري أربعين يومًا، أو أربعين شهرًا، أو أربعين عامًا- فيبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود، فيطلبه فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين، ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله ريحًا باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته، حتى لو أن أحدهم دخل في كبد جبل لدخَلَتْه عليه حتى تقبضه»، قال: سمعتها من رسول الله ﷺ، قال: "فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع، لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرًا، فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دارٌّ رزقُهم، حسنٌ عيشُهم. ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى لِيتًا ورفع لِيتا قال: "وأول مَنْ يسمعه رجل يَلُوط حوض إبله"، قال: "فَيَصْعَقُ ويَصعقُ الناس، ثم يرسل الله -أو قال: ينزل الله- مطرًا كأنه الطَّل -أو قال: الظل- نُعمان الشاك- فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفَخُ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: يا أيها الناس، هلموا إلى ربكم، وقفوهم إنهم مسئولون، ثم يقال: أخرجوا بعث النار. فيقال: من كم؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، قال: فذلك يوم يجعل الولدان شيبا، وذلك يوم يكشف عن ساق[1].

وقوله: ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى لِيتا ورفع لِيتا" الليت: هو صفحة العنق، أي: أمال عنقه ليستمعه من السماء جيدًا.

فهذه نفخة الفزع، ثم بعد ذلك نفخة الصعق، وهو الموت، ثم بعد ذلك نفخة القيام لرب العالمين، وهو النشور من القبور لجميع الخلائق؛ ولهذا قال: وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ قُرئ بالمد، وبغيره على الفعل، وكلٌ بمعنى واحد، ودَاخِرِينَأي: صاغرين مطيعين، لا يتخلف أحد عن أمره، كما قال تعالى: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ [سورة الإسراء:52]، وقال: ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [سورة الروم:25].

وفي حديث الصور: أنه في النفخة الثالثة يأمر الله الأرواح، فتوضع في ثقب في الصور، ثم ينفخ إسرافيل فيه بعدما تنبت الأجساد في قبورها وأماكنها، فإذا نفخ في الصور طارت الأرواح، تتوهج أرواح المؤمنين نورًا، وأرواح الكافرين ظُلمة، فيقول الله : وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى جسدها، فتجيء الأرواح إلى أجسادها، فتدب فيها كما يَدب السم في اللديغ، ثم يقومون فينفضون التراب من قبورهم، قال الله تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [سورة المعارج:43].

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ، قوله -تبارك وتعالى- هنا إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ قال الحافظ: وهم الشهداء فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وبعضهم يقول: الأنبياء، وبعضهم يقول: الملائكة، وبعضهم يقول: جبريل وميكال وإسرافيل، وبعضهم يقول: الحور العين، وبعضهم يقول: عموم المؤمنين، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ

وهذه الأقوال في الواقع لا ترجع إلى تفسير واحد، بمعنى أن هذه الأقوال منها ما مبناه على أن هذه النفخة هي نفخة الصعق يفزع الناس ويصعقون وأن نفخة الفزع هذه هي نفخة الصعق، وأنهما نفختان لا ثالث لهما نفخة الصعق، والنفخة الأخرى هي نفخة البعث، وهذه الأقوال التي تذكر في التفسير هي لا ترجع إلى شيء واحد، أو إلى قول واحد، يعنى لا ترجع إلى أن النفخ في الصور يكون مرتين مثلاً، أو أنه يكون ثلاث مرات، فحينما يقال: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ [سورة الزمر:68]، فالذي يقول مثلا: الحور العين يرجع إلى الصعق بمعنى أن الحور العين لا يمتنَ، ولا يرجع إلى الفزع، يعنى أن هؤلاء العلماء الذين فسروا هذا الاستثناء منهم من يرى أنهما نفختان، فحينما يقول ففزع من في السموات والأرض يعنى وصُعق إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ من الذي لا يحصل له هذا الصعق يقول: الحور العين.

ويمكن أن يكون من هذا أيضا قول من قال بأنه جبرائيل وإسرافيل وميكائيل، أو أنهم الملائكة، لكن من قال بأنها نفخة الفزع، وأن النفخ في الصور يكون ثلاث مرات، فهذه نفخة الفزع، فقول من قال: إنهم عموم أهل الإيمان واضح أنه يعنى أنها نفخة الفزع؛ لأنه يحتج بقوله -تبارك وتعالى: وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وهكذا قول من قال: إنهم الأنبياء؛ لأن الأنبياء لا يوجدون في وقت النفخ إذا قلنا: إن هذه نفخة الصعق فيخرجون من حكمها فلا يموتون أو لا يصعقون، فهذا لا يتأتى على هذا القول.

المقصود أن نعلم أن هذه الأقوال في الاستثناء لا ترجع إلى قول واحد في النفخ في الصور، والمشهور أن النفخ في الصور يكون مرتين، نفخة يصعق الناس فيها، وهذه تكون للأحياء الذين تقوم عليهم الساعة، والنفخة الثانية هي نفخة البعث والنشور، وهذه لكل الخلائق الذين ماتوا سواء حتف أنفهم أو ماتوا بسبب الصعق، وهذه الآية: فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ، هنا ذكر الفزع فقط ولم يذكر الصعق.

ومن هنا ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن نفخ الصور يكون ثلاث مرات، الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة البعث، وهذا قول لجماعة من أهل العلم، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- مشى على هذا القول، ثم الحديث الذي ذكره حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله تعالى عنه- هنا قال: ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا، وقال: أول من يسمعه رجلاً يلوط حوض إبله، فيصعق، إلا أصغى ليتا ورفع ليتا، يكون هذا الرجل أول من يسمع فيحصل له الصعق فذكر الصعق هنا، فالذين قالوا هما نفختان قالوا: إذا سمعوه فزعوا ومن شدة الفزع يصعقون، وقد عذب الله بعض الأمم بالصيحة -صوت هائل، إذا سمعوه طارت قلوبهم من شدة الفزع فماتوا فهلكوا، فذكر هنا أنهم يصعقون قال: ينزل الله مطراً كأنه الطل أو قال: الظل، والمرجح عند أهل العلم هو الأول كأنه الطل، كما جاء في الحديث: ينزل مطر من السماء كأنه مني الرجال، فينبتون كما تنبت الأجساد[2]، كأنه الطل.

ويقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ قرئ بالمد وبغيره على الفعل، وكل بمعنى واحد، قراءة الجمهور {وكل آتُوه داخرين} بالمد، وقراءة حمزة وحفص والكسائي وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ، وفي قراءة غير متواترة لبعض السلف قرأ بها قتادة {وكل أتاه داخرين}، وقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: وفي حديث الصور أنه في النفخة الثالثة يأمر الله الأرواح فتوضع في ثقب في الصور إلى آخره هذا عند الطبراني، قال في الطوال لكنه من غير إسناد عند الطبراني -والله تعالى أعلم.

فابن كثير -رحمه الله- والشوكاني وجماعة قالوا: إن النفخ في الصور يكون ثلاث مرات على ما وصف، ومن أهل العلم كالقرطبي وجماعة يقولون: هما نفختان، وإن نفخة الفزع لا تخرج عنهما فهي عائدة إليهما، بمعنى أنهم يفزعون فيحصل لهم الصعق.

وقوله: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ أي: تراها كأنها ثابتة باقية على ما كانت عليه، وهي تمر مر السحاب، أي: تزول عن أماكنها، كما قال تعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ۝ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [سورة الطور:9، 10]، وقال وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ۝ فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ۝ لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا [سورة طه:105-107]، وقال تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً [سورة الكهف:47].

 قوله -تبارك وتعالى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ قال: أي تراها كأنها ثابتة باقية على ما كانت عليه وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ يعني: تزول من أماكنها، هذه الرؤية وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً هي رؤية عين وليست برؤية علمية، وهذه الرؤية هل هي في الدنيا أو أنها في الآخرة كما ذكر الله أن الجبال يحصل لها ما وصف من أنها تُدك، وتبس، وتكون كالهباء المنثور، وأنها تسير، فيكون لها ذلك في أهوال القيامة في أول ما يجري لها، ثم بعد ذلك تسير، وبعضهم يقول: في المحشر إذا حشر الناس.

والمقصود أن ذلك في اليوم الآخر هذا الذي دل عليه القرآن في هذا الموضع، وفي غيره من المواضع، فالله -تبارك وتعالى- ذكر النفخ في الصور فقال: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ، ثم ذكر حال الجبال وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، ثم ذكر الجزاء: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ۝ وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ.

فهذا كله في اليوم الآخر، وقد جاءت هذه الآية في ثنايا الخبر عن ذلك اليوم، وهذا الذي عليه السلف -رضي الله تعالى عنهم- قاطبة، وعليه أهل العلم من المفسرين عبر القرون المتطاولة، والآيات التي أوردها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا تدل على هذا المعنى يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا ۝ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [سورة الطور:9، 10]، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ۝ فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ۝ لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا [سورة طه:105-107]، وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً [سورة الكهف:47]، كل هذا وغيره يدل على أن ذلك في اليوم الآخر.

وبعض المعاصرين يقول: إن ذلك يكون في الدنيا وهو وصف لحالها الآن، ومرادهم بذلك أن الجبال تمر مر السحاب، تمر تمضي تتحرك لكن لا بمفردها على سبيل الاستقلال، وإنما تتحرك بحركة الأرض، قالوا: فهذا دليل على دوران الأرض، الأرض تدور والجبال تدور معها، والناظر والمشاهد لها لا يدرك ذلك، مع أن الله قال: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ كيف خاطبهم بما لا يدركون ولا يعرفون ولا يشاهدون؟ ولم يقل أحد: كيف تتحرك؟ كيف تجري ونحن نجدها في أماكنها؟ فبعضهم يقول: إن الله -تبارك وتعالى- أطلع على ذلك نبيه ﷺ؛ ولهذا وجه الخطاب له على سبيل الخصوص قال: وَتَرَى الْجِبَالَ وترى يا محمد مع أن أكثر المفسرين يقولون: إن الخطاب جاء هنا بصيغة المفرد، والمراد به العموم، وإن ذلك لا يختص بالنبي ﷺ، والمقصود أن بعض هؤلاء يقول: إن الله أطلع عليه نبيه ﷺ وخصه به، ولكن لم يكشف ذلك إلا في القرون المتأخرة، وقبل ذلك ما كانوا يعرفون.

وأنا أقول في مثل هذه المناسبة: إن الإنسان قد يقرأ في بعض التفصيلات، أو بعض ما يسمى بالدراسات والبحوث، ولربما لبّست عليه بعض ما يعرف، قد يحصل هذا، فما المخرج؟ بمعنى هذه طريقة في التفكير والفهم والوصول إلى النتائج السليمة من أجل ألا يقع الإنسان ضحية لمفاهيم غير صحيحة، قد تقرأ بعض الدراسات وبعض البحوث، وبعض الأرقام، وفي أي موضوع من الموضوعات في قضية غير صحيحة، غير دقيقة، ولكن الإنسان قد يحصل له بسبب ذلك شيء من اللبس، فإما أن يبقى متحيراً، وإما أن يصدق ذلك، ويقبل، ويتلقف بعض المفاهيم غير الصحيحة، والمخرج أنه يرجع إلى الأصول الكلية، فإذا خرج إلى الأصول الكلية لم يبقَ في أسر هذا البحث أو هذه الكتابة أو هذه المحاولة أو هذه الدراسة.

تجد بعض البحوث والكتابات التي تنشر أحياناً في النت أو في بعض الكتب، أو بعض الكاتبين لربما يَعمل لك دراسات وأرقاماً وإحصاءات وأشياء على أن الساعة ستقوم عام (2012م)، وإذا قرأت المعطيات التي ذكرها لربما يلتبس هذا على بعض الناس، ويصدق، ولكنك إذا رجعت إلى الأصول الكلية -أعني الأشياء التي ستكون قبل الساعة- والذين تقوم عليهم الساعة فهناك عندنا المهدي، والمسيح سيمكث في الناس سبع سنين، والحال التي يأتي فيها، الناس يقاتلون بالسيوف، هذا يعنى أن معطيات الحضارة هذه غير موجودة، يعلقون سيوفهم بأغصان الزيتون فيصيح فيهم الشيطان ويقول: إن الدجال خلَفَكم في أهليكم، فيرجعون في فتح القسطنطينية، وهو فتح غير الفتح الأول على يد محمد الفاتح، وأنهم يكبّرون، مدينة شطرها في البر وشطرها في البحر، وهذا قد لا يصدق على القسطنطينية، وذكر النبي ﷺ فتح مدينة هرقل عموماً، ولم تفتح بالتكبير، وذاك الفتح يبدأ بالتكبير، فبعضهم يصف مدينة أخرى، الشاهد أنها ستفتح بالطريقة التي وصفها النبي ﷺ والناس يقاتلون بالسيوف.

وإذا خرج يأجوج ومأجوج فقد ذكر النبي ﷺ أن الناس يوقدون -بعد هلاكهم- على نشابهم سبع سنين من أهل الأيمان، والنشاب هي السهام فهذه الأعواد التي يكون في رأسها الحديدة يوقد الناس على هذه من كثرتها سبع سنين، ودل على أنهم يوقدون بالحطب، ويقاتلون بالسهام فهذا البحث الذي يقول عام 2012م، وقرأه بعض الناس والتبس عليه الأمر وخاف، هذا كلام غير صحيح، لا يمكن أن يكون عام 2012م ما يمكن أن تقوم فيه، وذكر أشياء ودراسات وأموراً فيه ومثل هذه الدراسات يسجّر بها التنور، فعندنا أشياء ثابتة، عندنا أشياء حق لا مرية فيها بعيداً عن التكهنات والتخرصات والتحليلات، والقسمة والطرح.

وهنا حينما يقال: إن هذا في الدنيا وإن الكرة الأرضية تدور، وهذا معنى وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، نرجع إلى أصل كلي وهو أنه لا يمكن أن تُجمع الأمة على ضلالة، لا يمكن أن هؤلاء السلف من الصحابة عبر القرون المتطاولة كلهم يفهمون الآية خطأ، ويقولون: هذا في اليوم الآخر ثم يأتي أحد في آخر الزمان ويقول: هذا خطأ، والصحيح أنها في الدنيا، وأنها تدور بدوران الأرض، فيُشترط في التفسير العلمي ألا يعود على أقوال السلف بالإبطال، يعنى ينبغي أن يكون من باب الزيادة، وقد يكون فهماً يؤتيه الله رجلاً في كتابه لكن يعود على أقوال السلف كلها بالبطلان!، كلهم فهموا خطأ، ما أحد منهم فهم الآية على وجه صحيح! هذا كلام لا يمكن، فهذا أصل كلي، فإذا التبس على الإنسان، اختلف عليه الأمر بسبب ما يقرأ دائما ينبغي أن يرجع إلى الأصول الكلية، وإلا فسيبقى أسيراً لهذا الكاتب، هذا منجاة بإذن الله ويبقى الإنسان على الجادة، والله تعالى أعلم.

قوله -تبارك وتعالى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ إذا قلنا: إن ذلك في اليوم الآخر كما دل عليه القرآن والسياق، هنا يدل أيضا على أنه في الآخرة تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ما المعنى على هذا؟ كما قال ابن جرير وابن قتيبة وجماعة من الأئمة بأن ذلك يكون في الأجرام الكبيرة، فإن حركتها قد لا تدرك بالعين لأول وهلة، يعنى: الناظر إلى الجيش كما هو معروف، وكما جاء في أشعار العرب جيش كبير يتحرك -لماذا سمي بالزحف- جيش يتحرك إذا نظرت إليه كأنه واقف، لكن لو نظرت بمكبر من بعيد نظرت إلى أرجل الدواب وأرجل الناس تجد أنها تتحرك لا تتوقف، لكن ترى الجيش كأنه في مكان واحد، وهو يمشي، ويقطع المسافات فهذه الجبال تجمع وتسير فتكون في رؤية العين كأنها قائمة، كأنها واقفة، وهي تسير فهي لكثرتها وضخامتها إذا نظر إليها الناظر لا يدرك أو لا يشعر بحركتها في اليوم الآخر كأنها واقفة وهي تُسير، والعلماء يذكرون على هذا شواهد من كلام العرب في وصف الجيوش مما يوافق هذا المعنى.

قال الشيخ الشنقيطي -رحمه الله تعالى: "قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً، ويكون في الآية قرينة تدل على بطلان ذلك القول، وذكرنا في ترجمته أيضا أن من أنواع البيان التي تضمنها الاستدلال على المعنى، بكونه هو الغالب في القرآن؛ لأن غلبته فيه، تدل على عدم خروجه من معنى الآية، ومثلنا لجميع ذلك أمثلة متعددة في هذا الكتاب المبارك، والأمران المذكوران من أنواع البيان قد اشتملت عليهما معًا آية "النمل" هذه.

وإيضاح ذلك أن بعض الناس قد زعم أن قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، يدل على أن الجبال الآن في دار الدنيا يحسبها رائيها جامدة، أي: واقفة ساكنة غير متحركة، وهي تمر مر السحاب، ونحوه قول النابغة يصف جيشا:

بأرْعنَ مثلِ الطَّودِ تحسبُ أنهم وقوفٌ لِحاجٍّ والركابُ تُهملجُ"[3]

"والركاب تهملج" يقول: كأنهم أي الحجاج وقوف بعرفة مثلاً والركاب في الواقع أنهم يمشون، فالركاب تهملج فهي سائرة لا تتوقف، لكن شكلهم كأنهم في حال من الوقوف.

وقال -رحمه الله: "والنوعان المذكوران من أنواع البيان، يبينان عدم صحة هذا القول.

أما الأول منهما وهو وجود القرينة الدالة على عدم صحته: فهو أن قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبَالَمعطوف على قوله: فَفَزِعَ، وذلك المعطوف عليه مرتب بالفاء على قوله تعالى: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ، أي: ويوم ينفخ في الصور، فيفزع من في السماوات وترى الجبال، فدلت هذه القرينة القرآنية الواضحة على أن مر الجبال مر السحاب كائن يوم ينفخ في الصور، لا الآن.

وأما الثاني: وهو كون هذا المعنى هو الغالب في القرآن فواضح؛ لأن جميع الآيات التي فيها حركة الجبال كلها في يوم القيامة؛ كقوله تعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ۝ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا، وقوله تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً [سورة الكهف:47]، وقوله تعالى: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [سورة النبأ:20]، وقوله تعالى: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [سورة التكوير:3].

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ جاء نحوه في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [سورة المؤمنون: 14]"[4].

فالذين قالوا: هذا في الدنيا الواو تكون للاستئناف وليست عاطفة.

قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: وقوله: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ أي: يفعل ذلك بقدرته العظيمة.

وقوله: صُنْعَ اللَّهِمنصوب على المصدر، وبعضهم يقول: على الإغراء، صنع اللهِ.

الذي قد أتقن كل ما خلق، وأودع فيه من الحكمة ما أودع، إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ أي: هو عليم بما يفعل عباده من خير وشر فيجازيهم عليه.

ثم بين تعالى حال السعداء والأشقياء يومئذ فقال: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا قال قتادة: بالإخلاص.

وقد بين تعالى في الموضع الآخر أن له عشر أمثالها.

مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا الحسنة إذا قلنا: إن "ال" هذه للجنس، وليست للعهد -جنس الحسنة- فله خير منها، كما أخبر النبي ﷺ: الحسنة بعشر أمثالها[5]، والله ذكر هذا مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [سورة الأنعام:160]، لكن قوله -تبارك وتعالى: وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ، هذه قرينة حملت كثيراً من أهل العلم على القول بأن الحسنة هنا يراد بها حسنة خاصة، وهي حسنة الإيمان، حسنة لا إله إلا الله، حسنة التوحيد، فإنه لا يحصل الأمن إلا لأهلها الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَـٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82] فهؤلاء هم الذين يحصل لهم الأمن بقدر إيمانهم، فهم يتفاوتون في هذا الأمر في اليوم الآخر بحسب ما يتحقق لهم من هذا الوصف الذي هو الإيمان، فقال هنا: وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ.

ولهذا فسر ابن جرير -رحمه الله- وغيره هذه الحسنة بما ذكر، ولا فرق بين من عبر عنها بـ لا إله إلا الله، أو قال: التوحيد أو قال: الإيمان فكل ذلك صحيح، والسيئة هي الشرك؛ لأنه قال: فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ وهذا لا يكون إلا لأهل الإشراك، وليس لجنس السيئات، ثم إن المقابلة بين هذه الحسنة وبين هذه السيئة، وذكْر جزاء هذا وهذا دل على أن الآية يراد بها الإيمان والكفر، حسنة الإيمان وسيئة الكفر، كما قال الله -تبارك وتعالى- أيضا: بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ [سورة البقرة:81] ما هي السيئة والخطيئة التي تحيط بصاحبها؟ هي الشرك.

وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ، كما قال في الآية الأخرى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ [سورة الأنبياء:103]، وقال: أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة فصلت:40]، وقال: وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سورة سبأ:37].

قوله -تبارك وتعالى: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ على قراءة أبي عمرو وابن عامر وابن كثير -القراءة متواترة- من فزعِ يومِئذٍ على الإضافة، يعنى فزع ذلك اليوم، هذا في هذه القراءة، وعلى القراءة الأخرى وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ هذا الفزع بعضهم فهم منه فزع النفخة التي في قوله: فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ، فقال: هذا فزع معين فلا يفزعون بسببه، ولذلك من أهل العلم من قال: إنهم أهل الإيمان، هم الذين استثناهم الله فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ قالوا: هم من ذكر الله -تبارك وتعالى: مِنْ فَزَعٍ فزع معين فزع خاص.

ولو قيل: إن القراءتين ترجعان إلى معنى واحد يعني أيّ فزع فهذا من قبيل المطلق، والمطلق فيه شمول لكنه على سبيل البدل فيصدق على الإفراد على سبيل البدل، فأي فزع في ذلك اليوم هم آمنون منه، كما يدل عليه القرآن الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَـٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ [سورة الأنعام:82]، وهكذا لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [سورة الأنبياء:103]، أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة فصلت:40]، والله تعالى أعلم.

الفزع الذي يصيب الناس في اليوم الآخر، ولا يلزم من ذلك أن يدخل فيه نفخة الفزع، فيقال: إنهم لا يفزعون منها؛ لأن هذه النفخة تكون قبل اليوم الآخر، يعنى تكون بين يديه فيحصل هذا الفزع فقيل: هي نفخة الصعق، فيحصل بعد ذلك نفخة البعث فيكون الناس في المحشر، ويكون أهل الإيمان في حال من الأمن، والكفار في حال من الخوف -والله تعالى أعلم.

ومن أهل العلم من جعل ذلك مستثنى مما ذكره الله في هذه النفخة، نفخة الفزع.

وقوله: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ أي: مَنْ لقي الله مسيئًا لا حسنة له، أو قد رجحت سيئاته على حسناته، كل بحسبه؛ ولهذا قال: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.

وبعض أهل العلم نقل الإجماع على أن المراد بالسيئة هنا هي الشرك، وهذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ هو أولى من أن يقال: رجحت سيئاته على حسناته، فهنا قابل حسنة بسيئة، وذكر جزاء الحسنة وجزاء السيئة، مما ظاهره -والله تعالى أعلم- أن الحسنة هي الإيمان، والسيئة هي الشرك وهذا -كما سبق- نقل عليه بعضهم الإجماع.

وقوله -تبارك وتعالى: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ بعضهم يقول: القائل هم خزنة جهنم، والله أعلم بذلك، لكنه يقال لهم: هذا تقوله لهم الملائكة، أو غير ذلك، والعلم عند الله .

إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ۝ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ۝ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سورة النمل:91-93].

يقول تعالى مخبرًا رسوله وآمرًا له أن يقول: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شـَيْءٍ، كما قال: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعـْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ [سورة يونس:104].

وإضافة الربوبية إلى البلدة على سبيل التشريف لها والاعتناء بها، كما قال: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ۝ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [سورة قريش:3، 4].

 ولهذا قال: وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ يعنى لئلا يتوهم أن ربوبيته -تبارك وتعالى- تختص بالبلدة، تختص بمكة، هذه إضافة تشريف، ولا يدل ذلك على الاختصاص، والمحترزات تأتي في القرآن في كل موضع بحسبه، بحسب الحاجة إما لدفع توهم الحصر، كما في هذا الموضع مثلا: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ.

وقوله: الَّذِي حَرَّمَهَا أي: الذي إنما صارت حرامًا قدَرًا وشرعًا، بتحريمه لها.

قدَرًا وشرعًا بمعنى أن الله حينما خلق الخلق وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [سورة القصص:68]، اختار هذه البقعة لتكون حرما، فهذا معنى أن الله -تبارك وتعالى- جعلها حرما قدرا واختارها هذا الاختيار، وشرعا أن الله أمر بمراعاة ذلك فيها، فلا يقتل صيدها ولا يعبد شجرها.

كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ يوم فتح مكة: إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة.

حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهذا تحريم قدري، وحين خلق السموات والأرض ما كان فيه ناس.

لا يُعضَد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لُقَطَتُه إلا لِمَنْ عرفها، ولا يختلى خلاها[6]، الحديث بتمامه.

هذا التحريم الشرعي.

وقد ثبت في الصحاح والحسان والمسانيد من طرق جماعة تفيد القطع، كما هو مبين في موضعه من كتاب الأحكام، ولله الحمد.

وقوله: وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ من باب عطف العام على الخاص، أي: هو رب هذه البلدة، ورب كل شيء ومليكه، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي: الموحدين المخلصين المنقادين لأمره المطيعين له.

وقوله: وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ أي: على الناس أبلغهم إياه، كقوله:ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [سورة آل عمران:58]، وكقوله: نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [سورة القصص:3] أي: أنا مبلغ ومنذر.

قوله: وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ هنا حمله على تلاوة البلاغ، أن أتلوَ القران على الناس تبليغا له، ويدخل فيه التلاوة تعبداً، فيؤخذ من عموم الآية هذا المعنى اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [سورة العنكبوت:45] فيدخل في ذلك قراءة القرآن على سبيل التعبد، وللتدبر والعمل، والامتثال، فيحتج بمثل هذه الآيات على أن تلاوة القرآن مطلوبة من المكلفين.

فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ أي: لي أسوة بالرسل الذين أنذروا قومهم، وقاموا بما عليهم من أداء الرسالة إليهم، وخَلَصُوا من عهدتهم، وحساب أممهم على الله، كقوله تعالى: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [سورة الرعد:40]، وقال: إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [سورة هود:12].

وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا، أي: لله الحمد الذي لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه، والإعذار إليه؛ ولهذا قال: سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَاكما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [سورة فصلت:53].

سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا فسره بقوله: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ فتعرفونها: يعني أنها حق، وإن ما جاء به الرسول ﷺ حق، فهي آيات دالة على صدقه، وصدق ما جاء به أنه رسول من عند الله -تبارك وتعالى- يؤيد بالآيات الكونية، والآيات الشرعية، ويؤيد بالآيات التي تكون في الآفاق والأنفس.

وقوله: وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أي: بل هو شهيد على كل شيء.

وقد ذكر عن الإمام أحمد -رحمه الله، أنه كان ينشد هذين البيتين، إما له أو لغيره:

إذَا مَا خَلَوتَ الدهْرَ يَومًا فَلا تَقُل خَلَوتُ وَلكنْ قُل عَليّ رَقيبُ
وَلا تَحْسَبَنّ الله يَغْفُل ساعةً وَلا أنّ مَا يَخْفى عَلَيْه يَغيبُ

آخر تفسير سورة النمل ولله الحمد والمنة.

  1. رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب في خروج الدجال ومكثه في الأرض ونزول عيسى وقتله إياه وذهاب أهل الخير والإيمان وبقاء شرار الناس وعبادتهم الأوثان والنفخ في الصور وبعث من في القبور، برقم (2940).
  2. رواه الحاكم في المستدرك، برقم (8519)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (9761)، وضعفه الألباني في تحقيق شرح الطحاوية (463).
  3. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للإمام الشنقيطي (6/ 144).
  4. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للإمام الشنقيطي (6/ 145).
  5. رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب حسن إسلام المرء، برقم (41)، ومسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوّت به حقا أو لم يفطر العيدين والتشريق وبيان تفضيل صوم يومٍ وإفطار يوم، برقم (1159).
  6. رواه البخاري، كتاب الحج، باب فضل الحرم، برقم (1510)، ومسلم، كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، برقم (1353).

مواد ذات صلة