الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
[5] من قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ} الآية 76 إلى قوله تعالى: {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} الآية 100
تاريخ النشر: ٠٢ / صفر / ١٤٣٠
التحميل: 4085
مرات الإستماع: 3542

بسم الله الرحمن الرحيم

يقول المصنف -رحمنا الله تعالى وإياه- في تفسير هذه الآيات:

وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ۝ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ۝ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ۝ وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ۝ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ۝ بلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ ۝ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ۝ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سورة المؤمنون:76-83].

يقول تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ أي: ابتليناهم بالمصائب والشدائد فَمَا اسْتَكَانُواْ لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرّعُونَ، أي: فما ردهم ذلك عما كانوا فيه من الكفر والمخالفة، بل استمروا على غيهم وضلالهم فَمَا اسْتَكَانُواْ أي: ما خشعوا وَمَا يَتَضَرّعُونَ، أي: ما دعوا، كما قال تعالى: فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ [سورة الأنعام:43] الآية.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -ا- أنه قال: جاء أبو سفيان إلى رسول الله ﷺ فقال: يا محمد أنشدك الله والرحم، فقد أكلنا العلهز -يعني الوبر والدم- فأنزل الله: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُواْالآية، وكذا رواه النسائي، وأصله في الصحيحين أن رسول الله ﷺ دعا على قريش حين استعصوا، فقال: اللهم أعني عليهم بسبعٍ كسبعِ يوسف[1].

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِظاهر السياق يدل على أن الضمير يرجع إلى كفار أهل مكة، الذين بعث فيهم النبي ﷺ فآذوه وكذبوه، وهذه السورة من السور المكية كما هو معلوم.

فمن أهل العلم من فسر العذاب بما ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- كما في الحديث أن النبي ﷺ دعا عليهم حتى أصابتهم مجاعة وقحط، فأكلوا العلهز، وكانوا يطبخون في أوقات المجاعة والقحط الوبرَ مع الدم ثم يأكلونه، ومن أهل العلم من يقول: العذاب هو كل ما يصيبهم من شدة كالمرض وغيره، ومن العلماء من حمل ذلك على ما وقع لهم يوم بدر، ولكن كون هذه السورة من السور المكية يُشكل على هذا القول، والأصل أن آيات السورة المكية نزلت كلها في مكة، ولا تُستثنى أي آية إلا بدليل، وقد حمل ابن جرير –رحمه الله– ذلك على كل ما وقع لكفار أهل مكة من قحط وشدة.

وقوله -تبارك وتعالى: فَمَا اسْتَكَانُواْ فسره هنا بالخشوع، قال: أي ما خشعوا، وهذا تفسير له بمعنى يقاربه، وإلا فلفظة الاستكانة ليست مطابقة للخشوع من كل وجه، والاستكانة تدل على انكسار، أيْ: انكسار في الباطن، كما تدل -أيضاً- على سكون في الظاهر، ولهذا يقال للمسكين، كأنه قد سكن لشدة حاجته وفقره، فهؤلاء لما نزل بهم بأس الله  لا زالت نفوسهم مجترئة على الله ولا زال الواحد منهم متوثباً في معصية ومحادة رسوله ﷺ.

وهكذا أيضا في تفسير التضرع بالدعاء هو تفسير بما يقاربه، وإلا فالضراعة أخص من مطلق الدعاء، وليس كل دعاء يقال له ضراعة.

وقوله: حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [سورة المؤمنون:77] أي: حتى إذا جاءهم أمر الله وجاءتهم الساعة بغتة، فأخذهم من عذاب الله ما لم يكونوا يحتسبون فعند ذلك أُبلسوا من كل خير وأيسوا من كل راحة، وانقطعت آمالهم ورجاؤهم.

قوله: حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ، من أهل العلم من يقول: هذا في الدنيا، وكان ذلك قد حصل لهم في يوم بدر.

وقد ذهب ابن جرير –رحمه الله– إلى تفسير هذه الآية بالقحط الذي دعا به عليهم النبي ﷺ.

وقوله: مُبْلِسُونَ"وأيسوا من كل راحة، وانقطعت آمالهم ورجاؤهم"، فالإبلاس هو التحير واليأس من كل خير، تقول فلان أبلس، أي: انقطع رجاؤه في حال لا يستطيع أن يدفع ما نزل به ولا أن يضع شيئاً، ولذلك إذا كان الإنسان قد تقطعت آماله ولم يجد سبيلاً إلى الخلاص فإنه يصير إلى هذه الحال أبلس، ولهذا يقولون: إن إبليس قيل له ذلك لقنوطه ويأسه وانقطاع رجائه من رحمة ربه .

ثم ذكر تعالى نعمه على عباده بأن جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، وهي العقول والفهوم التي يذكرون بها الأشياء ويعتبرون بما في الكون من الآيات الدالة على وحدانية الله وأنه الفاعل المختار لما يشاء.

وقوله: قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ أي: ما أقل شكركم لله على ما أنعم به عليكم، كقوله: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103].

يشير إلى قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ [سورة المؤمنون:78]، فالسمع جنس، وإذا ذكرت الأبصار مجموعة فلا إشكال، ووجه جمع الأبصار وإفراد السمع من ناحية الاتحاد في السمع، بخلاف الأبصار فمن حيث أصل هذه الحاسة، وبعضهم يذكر متعلق هذه الأمور فكثرة المبصرات، وكثرة المرئيات بخلاف السمع، فالأصوات شيء واحد.

ومما يذكره أهل العلم جنس السمع، فيشمل الواحد والكثير فيه بمعنى هذا الجمع وقوله: قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ من أهل العلم من ينزل القلة هنا منزلة العدم، ويُعبَّر بالقليل ويراد به المعدوم، وهذا معروف في كلام العرب، وهو أيضاً في مواضع في كتاب الله على هذا التفسير، وقد قال -تبارك وتعالى- في سورة الأحزاب: وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة الأحزاب:18]، فمن أهل العلم من قال: إنهم لا يأتون أصلاً، ومَن حمله على ظاهره قال: إنهم يأتون البأس قليلاً لغرض أخذ الغنيمة أو غير ذلك.

وهنا قال تعالى: قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ يعني: أن الشكر الصادر من العباد في مقابل هذه النعم العظام شيء قليل لا يكافئها، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم، وليس ذلك بمعنى العدم، فلا يختص هذا الخطاب بالمشركين.

ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة وسلطانه القاهر في برئه الخليقة وذرئه لهم في سائر أقطار الأرض على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وصفاتهم، ثم يوم القيامة يجمع الأولين منهم والآخرين لميقات يوم معلوم، فلا يترك منهم صغيراً ولا كبيراً، ولا ذكراً ولا أنثى، ولا جليلاً ولا حقيراً إلا أعاده كما بدأه، ولهذا قال: وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [سورة المؤمنون:80]، أي: يحيي الرمم ويميت الأمم، وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أي وعن أمره تسخير الليل والنهار، كل منهما يطلب الآخر طلباً حثيثاً، يتعاقبان لا يفتران ولا يفترقان بزمان غيرهما، كقوله: لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ [سورة يس:40] الآية.

قوله -تبارك وتعالى: وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، لما كان الله هو المدبر لهذا الكون والمصرف له فإن ذلك يعبر عنه بمثل هذه العبارة، واللام في "له" تأتي لمعانٍ منها الاختصاص، ومنها الملك، فالله -تبارك وتعالى- له التدبير وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يعني: له تدبير ذلك وتصريفه، فالله هو الذي يجري هذه الأمور ويقلبها.

ومن أهل العلم من يقول: هذا الاختلاف في الألوان فهذا أسود وهذا أبيض، ومنهم من يقول: الاختلاف في الطول والقصر، ومنهم من يقول الاختلاف في التعاقب يأتي الليل والنهار بعده، وهكذا يختلفان كما قال الله : لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ فهذا الاختلاف يشمل ما ذكر من الطول والقصر، ويشمل التعاقب الذي يحصل ويتكرر كما نشاهد، والله أعلم.

وقوله: أَفَلا تَعْقِلُونَ، أي: أفليس لكم عقول تدلكم على العزيز العليم الذي قد قهر كل شيء، وعز كل شيء وخضع له كل شيء؟ ثم قال مخبراً عن منكري البعث الذين أشبهوا من قبلهم من المكذبين بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ ۝ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبعُوثُونَ [سورة المؤمنون:81، 82] يعني: يستبعدون وقوع ذلك بعد صيرورتهم إلى البِلى.

لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سورة المؤمنون:83] يعنون: الإعادة محال، إنما يُخبِر بها من تلقاها عن كتب الأولين واختلافهم، وهذا الإنكار والتكذيب منهم كقوله إخباراً عنهم أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً ۝ قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ۝ فَإِنَّمَا هيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ۝ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ [سورة النازعات:11-14].

وقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ۝ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ۝ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [سورة يس:77- 79] الآيات.

قوله -تبارك وتعالى: بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ ۝ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، هذه الآية كقوله -تبارك وتعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ ۝ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سورة النمل:67، 68].

يقصدون أن هذا لا حقيقة له، وأنه سبق لآبائهم أن وُعدوا بهذا ولم يروا ذلك ولم يقع لهم، إنما هو شيء تلقوه أو من أساطير الأولين ولا حقيقة له، من أخبارهم الباطلة، فهذا معنى الأساطير.

قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ۝ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ۝ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ۝ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ۝ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [سورة المؤمنون:84-90].

يقرر تعالى وحدانيته واستقلاله بالخلق والتصرف والملك ليرشد إلى أنه الله الذي لا إله إلا هو، ولا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له، ولهذا قال لرسوله محمد ﷺ أن يقول للمشركين العابدين معه غيره المعترفين له بالربوبية، وأنه لا شريك له فيها، ومع هذا فقد أشركوا معه في الإلهية فعبدوا غيره معه مع اعترافهم أن الذين عبدوهم لا يخلقون شيئاً ولا يملكون شيئاً ولا يستبدون بشيء، بل اعتقدوا أنهم يقربونهم إليه زلفى مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [سورة الزمر:3]، فقال: قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا [سورة المؤمنون:84]، أي: مَن مالكها الذي خلقها ومن فيها من الحيوانات والنباتات والثمرات وسائر صنوف المخلوقات إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلّهِ أي: فيعترفون لك بأن ذلك لله وحده لا شريك له.

يقول: "أي: فيعترفون لك بأن ذلك لله وحده لا شريك له" في قراءة الجمهورسَيَقُولُونَ لِلّهِ، والمعنى مَن ربُّها ومن مالكها؟ ولمن هي؟ وفي قراءة أبي عمرو فسَيَقُولُونَ الِلّهُ.

فإذا كان ذلك قُلْ أَفَلاَ تَذَكّرُونَ أنه لا تنبغي العبادة إلا للخالق الرزاق لا لغيره قُلْ مَن رّبّ السّمَاوَاتِ السّبْعِ وَرَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أي: من هو خالق العالم العلوي بما فيه من الكواكب النيرات والملائكة الخاضعين له في سائر الأقطار منها والجهات؟! ومن هو رب العرش العظيم، يعني الذي هو سقف المخلوقات ولهذا قال ههنا: وَرَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أي: الكبير، وقال في آخر السورة: رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [سورة المؤمنون:116]، أي الحسن البهي.

العظيم لا يفسر بمجرد الكبير، فليس كل كبير عظيم، وإنما العظيم كبير وزيادة.

فقد جمع العرش بين العظمة في الاتساع والعلو والحسن الباهر، ولهذا قال من قال: إنه من ياقوتة حمراء. وقال ابن مسعود: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور العرش من نور وجهه.

وقوله: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [سورة المؤمنون:87] أي: إذا كنتم تعترفون بأنه رب السموات ورب العرش العظيم، أفلا تخافون عقابه وتحذرون عذابه في عبادتكم معه غيره وإشراككم به؟! قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، أي: بيده الملك مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا [سورة هود:56] أي: متصرف فيها، وكان رسول الله ﷺ يقول: لا والذي نفسي بيده[2]. وكان إذا اجتهد في اليمين قال: لا ومقلب القلوب[3] فهو سبحانه الخالق المالك المتصرف وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ.

قوله: قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ أي: بيده الملك، وزيادة التاء –ملكوت- مثلما يقال الجبروت، يقولون للمبالغة، فهي بمعنى الملك، ولكن زيدت التاء للمبالغة، ملكوت.

وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَكانت العرب إذا كان السيد فيهم فأجار أحداً لا يُخْفَر في جواره، وليس لمن دونه أن يجير عليه لئلا يفتات عليه.

لا يُخفَر في جواره أي لا ينتهك ذلك المُجار.

ولهذا قال الله: وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ، أي: وهو السيد العظيم الذي لا أعظم منه، الذي له الخلق والأمر ولا معقب لحكمه، الذي لا يمانع ولا يخالف، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وقال الله: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [سورة الأنبياء:23] أي: لا يسأل عما يفعل لعظمته وكبريائه وغلبته وقهره وحكمته وعدله، فالخلق كلهم يُسألون عن أعمالهم، كما قال تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ ۝ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الحجر:92، 93].

قوله: وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ بمعنى أن الله -تبارك وتعالى- لا يمنع أحد من عذابه، لهذا يقول الله -تبارك وتعالى: وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة:48]، فالله -تبارك وتعالى- يجير فإذا أجار أحداً لا يستطيع أحد أن ينتهك جواره، ولا يستطيع أحد أن يجير أحداً من الناس من الله ، فالخلق قد يجير بعضهم بعضاً، أما الله -تبارك وتعالى- فلا يجار عليه، ولا يستطيع أحد أن يمنع أحداً من بأس الله ونقمته وعذابه، وهذا يدل على كمال عظمته وقوته وعزته فإن المخلوقين يجير بعضهم بعضاً، وقد يجير الواحد منهم ولكن هذا الجوار يُنتهك، أما الله -تبارك وتعالى- فلا يحصل معه شيء من هذا.

وقوله: سَيَقُولُونَ لِلّهِ، أي: سيعترفون أن السيد العظيم الذي يجير ولا يجار عليه هو الله تعالى وحده لا شريك له قُلْ فَأَنّىَ تُسْحَرُونَ، أي: فكيف تذهب عقولكم في عبادتكم معه غيره مع اعترافكم وعلمكم بذلك؟!

عبارة ابن كثير -رحمه الله- في قوله: فَأَنّىَ تُسْحَرُونَ، قال: "أي: فكيف تذهب عقولكم في عبادتكم معه غيره مع اعترافكم وعلمكم بذلك؟!" فهؤلاء لم يقع لهم سحر حقيقة، ولكنه نزل ذلك منزلة السحر حيث ذهبت العقول وانصرفت عن هذه الحقائق البينة الواضحة الظاهرة فخدعوا بالشبهات والأباطيل، وانصرفوا عن عبادة الله فذُهب بعقولهم كما ذهب بعقل المسحور، فالمسحور تتصور له الأشياء على غير حقيقتها، وهؤلاء تصوروا أن الحجر هو الرب الذي ينفع ويعطي وينزل، وانصرفوا عن عبادة المنعم المتفضل ، فهذا الفعل كأنه سحر.

فهؤلاء حينما يشاهدون دلائل القدرة، والعظمة والوحدانية كان الواجب أن يذعنوا لله وأن ينقادوا وأن يؤمنوا، ثم بعد ذلك يقلبون هذه القضايا فإذا جيء لهم بالحق الواضح المبين قالوا: هذا أساطير الأولين، تجيء لهم بالدلائل على الوحدانية فيقولون: كيف نترك ما كان يعبد آباؤنا؟! أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟! وما شابه ذلك، فمهما تأته بالآيات والبينات والحجج الواضحة لكن دون جدوى.

ثم قال تعالى:بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ [سورة المؤمنون:90] وهو الإعلام بأنه لا إله إلا الله، وأقمنا الأدلة الصحيحة الواضحة القاطعة على ذلك وَإِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ أي: في عبادتهم مع الله غيره ولا دليل لهم على ذلك، كما قال في آخر السورة: وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [سورة المؤمنون:117] فالمشركون لا يفعلون ذلك عن دليل قادهم إلى ما هم فيه من الإفك والضلال، وإنما يفعلون ذلك اتباعاً لآبائهم وأسلافهم الحيارى الجهال، كما قال الله عنهم: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ [سورة الزخرف:23].

مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [سورة المؤمنون:91، 92].

ينزه تعالى نفسه عن أن يكون له ولد أو شريك في الملك والتصرف والعبادة، فقال تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ أي: لو قدر تعدد الآلهة لانفرد كل منهم بما خلق فما كان ينتظم الوجود، والمشاهد أن الوجود منتظم متسق، كل من العالم العلوي والسفلي مرتبط بعضه ببعض في غاية الكمال مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ [سورة الملك:3]، ثم لَكان كل منهم يطلب قهر الآخر وخلافه، فيعلو بعضهم على بعض والمتكلمون ذكروا هذا المعنى، وعبروا عنه بدليل التمانع، وهو أنه لو فرض صانعان فصاعداً فأراد واحد تحريك جسم والآخر أراد سكونه، فإن لم يحصل مراد كل واحد منهما كانا عاجزين، والواجب لا يكون عاجزاً، ويمتنع اجتماع مراديهما للتضاد.

وما جاء هذا المحال إلا من فرض التعدد، فيكون محالاً، فأما إن حصل مراد أحدهما دون الآخر، كان الغالب هو الواجب والآخر المغلوب ممكناً، لأنه لا يليق بصفة الواجب أن يكون مقهوراً، ولهذا قال تعالى: وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ أي: عما يقول الظالمون المعتدون في دعواهم الولد أو الشريك علواً كبيراً.

قوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ، الولد هو شريك فهو جزء من والده، ولهذا النصارى الذين نسبوا له الولد أشركوا بالله معه غيره، نفى عن نفسه الولد فقال: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ، والكون شاهد بأن شيئاً من ذلك لم يحصل؛ إذ لم يكن ولد، ولم يكن معه إله، إنما هو إله واحد .

آيتان من كتاب الله يتحدث عنها المتكلمون فيما يتصل بدليل التمانع الذي أشار إليه ابن كثير -رحمه الله- هذه واحدة، والآية الثانية هي قوله -تبارك وتعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [سورة الأنبياء:22].

وقوله: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ يعني: لفسد نظام هذا العالم، وتفرق كما يحصل بين الملوك فإما أن يذهب كل خالق أو كل ملك أو مالك بما ملك، ويختص به ويكون له نظامه، وإما أن تحصل بينهم المغالبة فلابد أن يتغلب أحدهما على الآخر، فلو أراد أحدهما تحريك جسم والآخر تسكينه فإما أن يحصل المراد، هذا وهذا، وإما أن لا يحصل، وإما أن يحصل مراد واحد، وهذا الواحد هو الذي يصلح أن يكون إلهاً، وكونه ينتفي مراد كل واحد فهذا لا يمكن لا في المتناقضات، ولا في المتضادات، هذه خلاصة الكلام.

"ودليل التمانع قوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ، وأنزله الله تعالى ليبطل قول من أشرك به سبحانه في الربوبية".

وقد نقل الطحاوي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، لربما أن الكثير من أهل الكلام والصوفية لا يقبلون كلام هؤلاء، وشارح الطحاوية حنفي.

قال: "وأنزله الله تعالى ليبطل قول من أشرك به سبحانه في الربوبية فلابد في هذا الذي ذكره الله تعالى من ثلاثة أمور:

  • إما أن يذهب كل إله بخلقه، وسلطانه.
  •  وإما أن يعلو بعضهم على بعض.
  • وإما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء، ولا يتصرفون فيه بل يكون وحده هو الإله وهم العبيد المربوبون، المقهورون من كل وجه.

فدليل التمانع دل على أن خالق العالم واحد لا رب غيره، فلا إله سواه، فذلك تمانع في الفعل، والإيجاد، وهذا تمانع في العبادة الإلهية".

فالربوبية: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ هذا تمانع في الفعل والإيجاد يعني في الربوبية، وذاك لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [سورة الأنبياء:22] في الإلهية، والمتكلمون يذكرون أنه تمانع في الربوبية، فهو تمانع في الإلهية؛ لأنه ذكر الآلهة وذكر أن الفساد بعد الوجود، وهذا تمانع، الذي بين أيدينا مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ فهذا تمانع في الربوبية مع أنه يعني نحن لسنا بملزمين ولا مقيدين بعبارات أهل الكلام أصلاً، والقرآن أوسع من هذا وأشمل وأبلغ دلالة، ولا يمكن أن يوضع القرآن ودلالات القرآن في قوالب المتكلمين لكن ابتلي الناس فهذا في مقام المناقشة، والرد على هؤلاء وإلا فالمعنى أوسع من ذلك.

يعني في قوله -تبارك وتعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا هذا يدل على تمانع في الإلهية، وعلى تمانع في الربوبية لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ فذكر الآلهة لَفَسَدَتَا وهذا الفساد بسبب الاختلاف في التدبير، والتصريف فهذا يتعلق بالربوبية، وهكذا في الآية الأخرى مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ فذكر اسم الجلالة الله وذكر الإله، قال: إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وهذا يتصل -أي الجزء الأخير- بالربوبية.

فحينما يعبر القرآن ويتحدث عن قضايا التوحيد لا نستطيع أن نفصل هذه القضايا عن بعض، هذا منهج القرآن في بيان قضايا الاعتقاد فتجد هذه القضية تتحدث عن الإلهية، والربوبية، والأسماء والصفات في آن واحد كما في هذه الآيات، لكن المتكلمين لما كان غاية ما يدورون عليه هو توحيد الربوبية من جهة الإثبات والاستدلال المنطقي هذا استدلال منطقي يعتبر لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا لكنهما لم تفسدا فانتفى أن يكون، فامتنع أن يكون لهما أكثر من إله، مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ لكنه لم يذهب كل إله بما خلق، فدل على أنه لا إله إلا الله.

عندهم طرق في الاستدلال في قوالب معينة يزعمون أن القرآن جاء بهذه المناهج والأدلة التي يسمونها الأدلة العقلية والبراهين العقلية، والواقع أن دلالة القرآن أبلغ من هذا وأدق وأشمل وأوسع، ولذلك يخطئ طالب العلم إذا أراد أن يحصر نفسه بقوالبهم ويريد أن يناقش الآيات من هذا المنطلق، ولهذا كما ترون في هذا المثال هو من أشهر الأدلة عند المتكلمين يصعب أن تأتي وتقول: هذا في الإلهية، وهذا في الربوبية فحسب، لا يمكن هذا، فهذه الآيات تتحدث عن التوحيد، والتوحيد يشمل هذا وهذا، فقيل له: دليل التمانع؛ لأنه يمتنع حصول مراد هذا وهذا، أو ارتفاع المراديْن، يمتنع حصول مراد هذا وهذا أو يمتنع ارتفاع مراد هذا وهذا، فلابد من وقوع واحد منهما.

عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ، أي: يعلم ما يغيب عن المخلوقات وما يشاهدونه فَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ، أي: تقدس وتنزه وتعالى و عما يقول الظالمون والجاحدون.

في قوله: عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ قراءتان متواترتان: هذه قراءة، وقُرئ: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ فقراءة الرفع، هو عالمُ الغيب، وعالمِ الغيب يكون ذلك من صفة الله -تبارك وتعالى- لأنه قال قبله سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ فيه قراءتان كان المفترض أنه حينما جاء بها في التفسير في هذا الجزء من الآية أن يأتي بها على القراءة التي تقرأ بها عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ لكن الطالب يأتي ويأخذ الجملة، ولا ينظر إلى ضبطها، لكن لما كانت فيها قراءة متواترة فإن مثل هذا يغتفر وإلا فالأصل جاء بها مرفوعة.

قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ۝ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ۝ وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ۝ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ۝ وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ۝ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ [سورة المؤمنون:93-98].

يقول تعالى آمراً نبيه محمداً ﷺ أن يدعو بهذا الدعاء عند حلول النقم رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ، أي: إن عاقبتهم وأنا أشاهد ذلك، فلا تجعلني فيهم كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه وإذا أردتَ بقوم فتنة فتوفّني إليك غير مفتون[4]، وقوله تعالى: وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ، أي: لو شئنا لأريناك ما نحل بهم من النقم والبلاء والمحن، ثم قال تعالى مرشداً له إلى الترياق النافع في مخالطة الناس وهو الإحسان إلى من يسيء إليه، ليستجلب خاطره فتعود عداوته صداقة وبغضه محبة، فقال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ، وهذا كما قال في الآية الأخرى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ۝ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا [سورة فصلت:34، 35] الآية.

أي وما يُلهَم هذه الوصية أو هذه الخصلة أو الصفة، إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ [سورة هود:11]، أي: على أذى الناس فعاملوهم بالجميل مع إسدائهم القبيح وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ، أي: في الدنيا والآخرة.

هذه من الآيات التي يقول بعض أهل العلم: إنها منسوخة، هذه السورة مكية، يقولون: منسوخة بآية السيف كل آية فيها عفو وصفح.... إلى آخره، وهذا الكلام فيه نظر، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- يرى أن مثل هذه الآية قد نسخت في حق الكفار بعد نزول الجهاد، وأنه لا مجال للعفو والصفح، وإنما يكون ذلك محكماً في حق المؤمنين، هذا كلام الشيخ الشنقيطي -رحمه الله- يقول: بعدما نزل الجهاد فلا مجال بـادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.

لكن هذا الكلام أيضاً ليس على إطلاقه، فهذه الشريعة جاءت بالرخص والعزائم، ففي أوقات الضعف يُعمل بمثل هذه الآيات النازلة بمكة الصبر والدفع بالتي هي أحسن، والتجاوز والعفو، وفي أوقات القوة والتمكين والغلبة والظهور يعمل بآية السيف فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُم ْوَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ [سورة التوبة:5] إلى آخره، ولهذا يقال للناس في حال الضعف والعجز عن مقاتلة الأعداء أو نحو ذلك يقال لهم: كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ [سورة النساء:77] حتى يصير حالهم إلى قوة فعند ذلك يقاتلون.

وقوله تعالى: وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ [سورة المؤمنون:97] أمره الله أن يستعيذ من الشياطين لأنهم لا تنفع معهم الحيل ولا ينقادون بالمعروف، وقد قدمنا عند الاستعاذة أن رسول الله ﷺ كان يقول: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه"

قوله هنا: هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ بعض أهل العلم يفسر ذلك يعني يقول: إن أصل معنى الهمز هو الدفع باليد أو بغيرها، هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ومنهم من يفسره بما يليق بالسياق، ويصلح في هذا المقام فيفسر هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ يقول: الهمز بمعنى النغز، والنخس أو الوسوسة وهو ما يلقيه الشيطان يدفعه للانتقام والإساءة، ولهذا لما أمره الله بالدفع بالتي هي أحسن أمره بعده بأن يستعيذ من همزات الشياطين، ولهذا قال الله في الآية الأخرى: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ [سورة الأعراف:200]، و [سورة فصلت:36].

فهذا النزغ هو المذكور هنا في قوله: أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ النزغ، والنخس وذلك أن الشيطان يحركه بمقابلة الإساءة بالإساءة أو الظلم والتجاوز هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ فيقول له: لا تترك حقك، انتقم لنفسك تركُ الحق والعفو يكون ضعفاً وعجزاً وما أشبه هذا، فيلقي الشيطان في قلبه هذه الأمور ليفعل ما لا يليق وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ.

ومن أهل العلم من يفسر ذلك بالخنق كما يقول ابن جرير، وقال: فسر به طائفة من أهل العلم قول النبي ﷺ: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه[5]، لكن قالوا: الهمز أصله الضغط، يقول: همز هذا بمعنى ضغطه، فإذا ضغط مثلاً على هذا العرق أو على هذين العرقين في جانبي العنق فإن الإنسان يغمى عليه ينقطع الدم عن الاندفاع كما هو معروف.

ولذلك بعض الرقاة يفعل هذا فيغمى على المريض، ثم يضرب صدره ويقول: قم اخرج ويقول: خلاص أنت كان فيك مس وخرج، قد ذكر لي أحد الرقاة المشاهير -شيطان ونحو ذلك- يقول: أضغط هذا العرق، ويسقط وأضرب صدره وأقول له: قم اخرج وكذا، فيقوم وأقول: الحمد لله أنت الآن.

فالشاهد أن الهمز يطلق على هذا المعنى، ولهذا فسره بعض أهل العلم بالخنق "من همزه ونفخه ونفثه"، فقالوا: من همزه هو الخنق ولهذا فسره بعضهم بالموتة الخنق من الشيطان، والنفخ الكِبر، فُسر بالكِبر، والنفث فسر بالشعر، وقوله -تبارك وتعالى- هنا: وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ يدخل فيه كل ما يلقيه الشيطان من وساوس وخواطر وما يحصل من تعدي الشيطان على الإنسان فإن الشيطان له ملابسات، أو خنق الشيطان ونحو ذلك.

وقوله تعالى: وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ [سورة المؤمنون:98] أي: في شيء من أمري، ولهذا أمر بذكر الله في ابتداء الأمور وذلك لطرد الشيطان عند الأكل والجماع والذبح وغير ذلك من الأمور.

هذا أحسن في التفسير وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ لا يخص ذلك كما يقول بعضهم مثلاً عند الموت، وإنما هنا لم يذكر المتعلق فيحمل على العموم وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ في أمر من أموري، لا عند الموت ولا عند الأكل، ولا عند دخول المنزل، ولا عند الجماع.

ولهذا روى أبو داود أن رسول الله ﷺ كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهرم، وأعوذ بك الهدم ومن الغرق، وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان عند الموت[6].

فهذه إحدى حالات حضور الشيطان، الكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا في غاية النفاسة يقول: أمره أن يستعيذ من الشياطين؛ لأنهم لا تنفع معهم الحيل ولا ينقادون بالمعروف، وسبق الكلام على هذا يعني أن العدو من الإنس تنفع معه المصانعة والإحسان، ولهذا أمر بأن يدفع بالتي هي أحسن وأما العدو من شياطين الجن فلا تنفع معه المصانعة لا سبيل إلى مصانعته ولا سبيل إلى دفعه بالقوة أيضاً، وإنما الاستعاذة بالله منه، فإن الله مالكه والمتصرف فيه فهو الذي يقدر على منعه من أن يصل إليك بشيء من الأذى.

ثم قال: وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ قال ابن زيد: في أموري، وقال الكلبي: عند تلاوة القرآن، وقال عكرمة عند النزع، والسياق: فأمره أن يستعيذ من نوعي شر: إصابتهم بالهمز، وقربهم ودنوهم منه، فتضمنت الاستعاذة ألا يمسوه ولا يقربوه، وذكرَه الله سبحانه عقيب قوله: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ فأمره أن يحترز من شر شياطين الإنس، يدفع إساءتهم إليه بالتي هي أحسن وأن يدفع شر شياطين الجن بالاستعاذة منهم.

حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ۝ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [سورة المؤمنون:99، 100].

يخبر تعالى عن حال المحتضر عند الموت من الكافرين أو المفرطين في أمر الله تعالى، وقِيلهم عند ذلك وسؤالهم الرجعة إلى الدنيا ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته.

حَتَّى هذه هي التي يقال لها: الابتدائية، يعني التي تقال في ابتداء الكلام، هذا الكلام جديد مستأنف، بمعنى أنها ليست للغاية لو قال: إنها متعلقة بما قبلها ومرتبطة بما سبق، وإنما هي ابتداء كلام تتكلم أحياناً وتأتي بحتى، تقول مثلاً: لقيت زيداً حتى سافرت إلى الرياض وزرت عمراً واشتريت كذا حتى اعتمرت لا تقصد الغاية إنما ابتداء الكلام، وأحياناً من معانيها الغاية، وأحياناً تكون لابتداء الكلام، تبتدئ جملة جديدة لا ترتبط بما قبلها، فهنا هذه ابتدائية حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ.

ولهذا قال: رَبِّ ارْجِعُونِ ۝ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا [سورة المؤمنون:99، 100]، كما قال تعالى: وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إلى قوله: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [سورة المنافقون:10، 11].

هنا قال: رَبِّ ارْجِعُونِ بصيغة الجمع، وذلك يدل على التعظيم فهو لا يعظم نفسه وإنما يعظم المخاطب وهو الله -تبارك وتعالى- وهذا أحسن ما قيل في توجيهه، أي التعبير بصيغة الجمع.

وفي هذه الآية يتمنى الرجعة عند الموت حينما يرى الملائكة وعندئذ يندم على ما فرط وضيع فيتمنى الرجعة رَبِّ ارْجِعُونِ ۝ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا، والآية الأخرى كذلك في [سورة المنافقون وهي التي ذكرها هنا وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ ۝ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا [سورة المنافقون:10، 11] ولهذا قال ابن عباس -ا: ما من أحد يجب عليه زكاة في المال، أو يعني فلم يزكِّ إلا تمنى الرجعة عند الموت، يعني يكون ترك وضيع واجبات النفقات الواجبة الزكاة ونحو ذلك إلا تمنى الرجعة عند الموت فقيل له: اتق الله يا ابن عباس فإنه لا يتمنى الرجعة من له عند الله حظ ونصيب، فقرأ هذه الآية، احتج بهذا الآية ليست في هذه السورة وإنما في الآية الأخرى وَأَنفِقُوا.

وقال تعالى: وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ إلى قوله: مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ [سورة إبراهيم:44].

الآيات: وَأَنذِرِ النَّاسَ هؤلاء يتمنون الرجعة في الآخرة، والآية التي بين أيدينا، والآية التي في [سورة المنافقون يتمنى الرجعة عند الموت تدل على أنه يتمنى الرجعة في الآخرة إذا رأى العذاب، وهنا وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ ۝ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ۝ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ۝ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [سورة إبراهيم:44-47] إلى آخره، هذا كله في الآخرة، يتمنى الرجعة في الآخرة، لا إشكال، هو يتمنى عند الموت ويتمنى أيضاً الرجعة في الآخرة كما أنه يتمنى إذا دخل النار رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [سورة المؤمنون:107]، والآيات كثيرة في هذا المعنى.

وقال تعالى: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [سورة الأعراف:53].

هذا يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يعني وقوع ما أخبر به: القيامة، فالتأويل هنا بهذا المعنى يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ فهذا تمنٍّ للرجعة في الآخرة وليس عند الموت.

وقال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [سورة السجدة:12].

وهذا في الآخرة.

وقال تعالى: وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَاإلى قوله: وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [سورة الأنعام:27، 28].

وهذا أيضاً في الآخرة عند الوقوف على النار وقبل دخولها.

وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ [سورة الشورى:44]، وقال تعالى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ [سورة غافر:11]، والآية بعدها، وقال تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [سورة فاطر:37].

فذكر تعالى أنهم يسألون الرجعة فلا يجابون عند الاحتضار ويوم النشور ووقت العرض على الجبار، وحين يعرضون على النار وهم في غمرات عذاب الجحيم.

الآية المفسَّرة هنا: تمنِّى الرجعة عند الموت، ولكن ابن كثير -رحمه الله- أراد أن يوسع المعنى فذكر أنهم يتمنون عند الموت وفي البعث، وبعد البعث والنشور وإذا وقفوا على النار ورأوها وكذلك إذا دخلوها، كل هذه المقامات يتمنون فيها الرجعة.

تمنِّى الرجعة عند الموت، ولكن ابن كثير -رحمه الله- أراد أن يوسع المعنى فذكر أنهم يتمنون عند الموت وفي البعث، وبعد البعث والنشور وإذا وقفوا على النار ورأوها وكذلك إذا دخلوها، كل هذه المقامات يتمنون فيها الرجعة.

وقوله ههنا: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا كلا حرف ردع وزجر، أي لا نجيبه إلى ما طلب ولا نقبل منه، وقوله تعالى: إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا أي: سؤاله الرجوع ليعمل صالحاً هو كلام منه وقول لا عمل معه، ولو رُد لما عمل صالحاً ولكان يكذب في مقالته هذه.

قال قتادة: والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة، ولا بأن يجمع الدنيا ويقضي الشهوات، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله ، فرحم الله امرءاً عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب إلى النار.

يعني هذا وجه في تفسير كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا أي أنه لا حقيقة لذلك، وأنه كاذب به، ويحتمل أن يكون المعنى، وهذا قال به كثير من المفسرين كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا يعني أنه سيقول ذلك، ولكن هذا لا ينافي ما ذكره ابن كثير، فهذا الكلام الذي سيقوله لا حقيقة له، لكن من أهل العلم من يقول: إن هذا يرجع إلى الله كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ الله قائلها، وهي الكلمة التي سيقولها الله  أو هو قائلها حين قال الله -تبارك وتعالى- هنا: حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ۝ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا يعني لا يمكن هذا الرجوع، وأن الله لا يمكّنه من ذلك، لكن هذا المعنى بعيد، ظاهر السياق يدل على أن ذلك يرجع إلى هذا الإنسان الذي تمنى الرجعة.

وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، قال أبو صالح وغيره وَمِنْ وَرَائِهِمْ يعني: أمامهم.

يعني: هي كلمة من الأضداد كما في [سورة الكهف أيضاً وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ [سورة الكهف:79] بمعنى كان أمامهم على قول الجمهور في تفسيرها -كما سبق- وإلا فمن أهل العلم من قال: وَكَانَ وَرَاءهُم أي: خلفهم، وفسر هذا بمعنى أنهم يريدون الذهاب إلى مقصودهم ثم سيرجعون، وسيكون في طريقهم في الرجعة ملِك، لكن هذا بعيد، فإن هذه الكلمة من الأضداد، وتأتي بمعنى أمام مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ [سورة الجاثية:10] ليس المقصود خلفهم جهنم؟ لا، فتأتي بمعنى الخلف، وتأتي بمعنى الأمام.

وقال مجاهد: البرزخ الحاجز ما بين الدنيا والآخرة، وقال محمد بن كعب: البرزخ ما بين الدنيا والآخرة، ليسوا مع أهل الدنيا يأكلون ويشربون ولا مع أهل الآخرة يجازون بأعمالهم، وقال أبو صخر: البرزخ المقابر لا هم في الدنيا ولا هم في الآخرة، فهم مقيمون إلى يوم يبعثون.

يعني هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرها معناها واحد: أن البرزخ هو المرحلة التي تكون ما بين الحياة الدنيا، والبعث، والنشور وهي مدة البقاء في القبور هذه كلها بمعنى واحد ، لكن من أهل العلم من يقول: إن البرزخ المذكور هنا هو ما بين النفختين، نفخة الصعق، ونفخة البعث، وهذا وإن قال به بعض السلف إلا أن القول الأول هو الأقرب والأرجح والمتبادر، وهو الذي عليه عامة أهل العلم سلفاً وخلفاً وإن اختلفت عباراتهم.

يقول: إنها ثلاثة دور: الدنيا والآخرة والبرزخ.

لا إشكال إذا أردت أن تفصل تقول: الدور ثلاثة: فدار الدنيا، هي دار العمل، ودار البرزخ وهي ليست دار جزاء وحساب، ولكنه يصله من الثواب أو العقاب ما يصله، ودار الآخرة هي دار النعيم المقيم أو العذاب الأليم، ولهذا ابن القيم -رحمه الله- يقول: إن الدنيا يجد الإنسان فيها اللذة والألم وأكثر ما يقع على النفس، والروح تبع، وفي البرزخ أكثر ما يقع على الروح والبدن تبع، وفي الدار الآخرة يكون كمال اللذة، والنعيم، والعذاب يقع على الروح والبدن على حد سواء، وهذا أكمل في اللذة، وأكمل في العذاب، فيمكن أن تقول في هذا الاعتبار: الدور ثلاثة، وإذا قلنا: إن الدار تنقسم قسمين: دار الدنيا والآخرة، فالبرزخ هو أول منازل الآخرة، ولا إشكال باعتبار أن الإنسان عاين وعرف مصيره وختم على عمله، ويأتيه من النعيم والعذاب..... إلى آخره، وهذا كله مما يتصل بالآخرة، فالبرزخ ليس من الدنيا وإنما هو أول منازل الآخرة.

  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة يوسف، برقم (4416)، والنسائي في السنن الكبرى، برقم: (11352)، وابن حبان في صحيحه، برقم (967).
  2. رواه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النبي ﷺ، برقم: (6632).
  3. رواه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النبي ﷺ، برقم: (6628).
  4. رواه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة ص، برقم (3233).
  5. رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك، برقم (775)، والترمذي، أبواب الصلاة عن رسول الله ﷺ، باب ما يقول عند افتتاح الصلاة، برقم (242)، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب الاستعاذة في الصلاة، برقم (807)، وأحمد في المسند، برقم (11473)، وقال محققوه: إسناده ضعيف، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (748).
  6. رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب في الاستعاذة (2/92)، برقم: (1552)، وصححه الألباني.

مواد ذات صلة