بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [سورة التوبة:30، 31].
وهذا إغراء من الله تعالى للمؤمنين على قتال المشركين الكفار من اليهود والنصارى، لمقالتهم هذه المقالة الشنيعة، والفِرْية على الله تعالى، فأما اليهود فقالوا في عُزَير -: "إنه ابن الله"، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
وأما ضَلال النصارى في المسيح فظاهر؛ ولهذا كَذَّب الله سبحانه الطائفتين فقال: ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ أي: لا مستند لهم فيما ادعوه سوى افترائهم واختلاقهم، يُضَاهِئُونَ أي: يشابهون قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ أي: من قبلهم من الأمم، ضلوا كما ضل هؤلاء، قَاتَلَهُمُ اللَّهُ وقال ابن عباس: لعنهم الله، أَنَّى يُؤْفَكُونَ؟ أي: كيف يضلون عن الحق وهو ظاهر، ويعدلون إلى الباطل؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ هذه المقالة أضافها الله إلى اليهود، ويحتمل أن يكون ذلك من العام المراد به الخصوص، وَقَالَتِ الْيَهُودُ يعني طائفة من اليهود، من العام المراد به الخصوص، وهذا هو الظاهر -والله تعالى أعلم.
ومعروف أن العام منه ما هو عام باقٍ على عمومه، ومنه ما هو عام مخصوص، ومنه ما هو عام يراد به الخصوص، فهذا من هذا النوع الثالث باعتبار أن الذي قال ذلك هو بعض اليهود لا كل اليهود، ويمكن أن يضاف إلى جميع اليهود إذا كانوا يعتقدون هذا وقالوه، أو قاله أحدهم، أو بعضهم، وأقره الآخرون فيضاف إليهم، وهذا كثير في القرآن، ولما كان طوائف اليهود لا تقول بهذا القول، وإنما قال به بعضهم صح أن يقال: إنه من العام المراد به الخصوص، والله تعالى أعلم.
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، والمرويات الواردة في هذا مأخوذة عن بني إسرائيل، وعامتها يدور على أن عزير جاءهم بالتوراة بعد أن ذهبت حينما غزاهم بُخْتُنَصَّر فلم يبقَ شيءٌ منها، يعني أن بُختُنصَّر أتلفها، مسخ التوراة، وما كانوا يحفظون الكتاب، فجاء عزير بالتوراة على تفاوت في تلك الروايات واختلاف كيف حصل له ذلك؟ وهل هو الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها؟ ولا يثبت في هذا شيء عن النبي ﷺ، والله تعالى أعلم.
فالشاهد أن هذه المرويات الإسرائيلية تقول: إن سبب هذه المقالة هو أنه جاءهم بالتوراة فبالغوا في تقديسه وتعظيمه، وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فأضاف القول إلى الأفواه، ويحتمل أن تكون الإضافة إلى الأفواه هنا بمعنى أنه قول لا يجاوز الأفواه، بمعنى أنه لا حقيقة له، كما قال الله : ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ أي أنه قول لا يجاوز الأفواه، لا حقيقة له.
ويحتمل أن يكون المراد التأكيد، ويسجل ذلك عليهم، كما تقول: كتب ذلك بيده، وتقول: مشيت إليه برجلي، ونظرت إليه بعيني، وقد يكون منه أيضا قوله: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38]، يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79]، وما شابه ذلك يحتمل أن يكون المعنى في كل موضع ما يناسبه، يعني مثلا وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ يعني قد يعبر بالطائر عن الإسراع، ولا يقصد به الطائر الحقيقي، قد يعبر بهذا فأكده وأراد أن يبين أنه طائر ذو جناحين فقال: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ يحتمل هذا، تقول: طاروا إليه زَرافاتٍ ووُحداناً، يعني أسرعوا إليه، وهنا يقول: ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ، يحتمل هذا وهذا.
ويُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا، يقول: أي يشابهون، هذا صحيح، المضاهاة: هذا يضاهي هذا أي يحاكيه ويشابهه، وقوله: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ هذه الكلمة تأتي للدعاء، وتأتي بمعنى اللعن، وهو عائد إلى الدعاء، "قاتله الله" أي لعنه الله، وقد قال بعض السلف: كل "قاتله الله" في القرآن فهي بمعنى لعنه الله، ثم صار ذلك أيضا يستعمل في كلام العرب للتعجب ولا يقصد معناه، يقال: قاتله الله ما أشجعه!، قاتله الله ما أصبره!، ما أجلده!، ما أحذقه!، ما أحفظه!، فيكون مثل: ترِبتْ يداه، ورغِم أنفُه، وما أشبه ذلك.
وقوله: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ روى الإمام أحمد، والترمذي، وابن جرير من طرق، عن عدي بن حاتم ، أنه لما بلغته دعوة رسول الله ﷺ فرَّ إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأُسرت أخته وجماعة من قومه، ثمَّ منَّ رسول الله ﷺ على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها، ورَغَّبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله ﷺ، فقدم عَدِيٌّ المدينة، وكان رئيسا في قومه طيِّئ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدَّث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله ﷺ وفي عنق عَدِيّ صليب من فضة، فقرأ رسول الله ﷺ هذه الآية: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال: "بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم". وقال رسول الله ﷺ: يا عدي، ما تقول؟ أيُفرّك أن يقال: الله أكبر؟ فهل تعلم شيئًا أكبر من الله؟ ما يُفرك؟ أيفرّك أن يقال لا إله إلا الله؟ فهل تعلم مِن إله إلا الله؟، ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم، وشهد شهادة الحق، قال: فلقد رأيتُ وجهه استبشر ثم قال: إن اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون[1].
وهكذا قال حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وغيرهما في تفسير: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا.
ولهذا قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا أي: الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام، وما حلله حل، وما شرعه اتبع، وما حكم به نفذ.
لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي: تعالى وتقدس وتنزه عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأولاد، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[سورة التوبة:32، 33].
يقول تعالى: يريد هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
والكافر: هو الذي يستر الشيء ويغطيه، ومنه سمي الليل "كافرا"؛ لأنه يستر الأشياء، والزارع كافرا؛ لأنه يغطي الحب في الأرض كما قال: أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ [سورة الحديد:20].
ثم قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ فالهدى: هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة، والإيمان الصحيح، والعلم النافع، ودين الحق هو الأعمال الصالحة الصحيحة النافعة في الدنيا والآخرة.
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي: على سائر الأديان، كما ثبت في الصحيح، عن رسول الله ﷺ أنه قال: إن الله زَوَى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها[2].
روى الإمام أحمد عن تميم الداري ، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ليبلغن هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهار، ولا يترك الله بيت مَدَر ولا وَبَر إلا أدخله هذا الدين، بعِزِّ عزيز، أو بِذُلِّ ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر، فكان تميم الداري يقول: "قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخيرَ والشرفَ والعزَّ، ولقد أصاب من كان منهم كافراً الذلَّ والصغار والجزية"[3].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنزتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنزونَ[سورة التوبة:34، 35].
قال السدي: الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى.
وهو كما قال، فإن الأحبار هم علماء اليهود، كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [سورة المائدة:82].
والمقصود: التحذير من علماء السوء وعُبَّاد الضلال كما قال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عُبَّادنا كان فيه شبه من النصارى. وفي الحديث الصحيح: لتركبنّ سَنَن من كان قبلكم حَذْو القُذّة بالقُذّة، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟[4]، وفي رواية: فارس والروم؟ قال: وَمَن الناسُ إلا هؤلاء؟[5].
والحاصل التحذير من التشبه بهم في أقوالهم وأحوالهم؛ ولهذا قال تعالى: لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين ومناصبهم ورياستهم في الناس، يأكلون أموالهم بذلك، كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهلية شرف، ولهم عندهم خَرْج وهدايا وضرائب تجيء إليهم، فلما بعث الله رسوله ﷺ استمروا على ضلالهم وكفرهم وعنادهم، طمعا منهم أن تبقى لهم تلك الرياسات، فأطفأها الله بنور النبوة، وسلبهم إياها، وعوضهم بالذلة والمسكنة، وباءوا بغضب من الله.
وقوله تعالى: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: وهم مع أكلهم الحرام يصدون الناس عن اتباع الحق، ويُلبسون الحق بالباطل، ويظهرون لمن اتبعهم من الجهلة أنهم يدعون إلى الخير، وليسوا كما يزعمون، بل هم دعاة إلى النار، ويوم القيامة لا ينصرون.
وقوله: وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ هؤلاء هم القسم الثالث من رءوس الناس، فإن الناس عالة على العلماء، وعلى العُبَّاد، وعلى أرباب الأموال، فإذا فسدت أحوال هؤلاء فسدت أحوال الناس، كما قال ابن المبارك:
وَهَل أفْسَدَ الدِّينَ إلا المُلوكُ | وَأحبارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُها؟ |
وأما الكنز فقال مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أنه قال: هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة.
وروى البخاري من حديث الزهري، عن خالد بن أسلم قال: خرجنا مع عبد الله بن عمر، فقال: هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت جعلها الله طُهرًا للأموال.
وكذا قال عمر بن عبد العزيز، وعراك بن مالك: نسخها قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [سورة التوبة:103].
قوله -تبارك وتعالى: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ "صد" هنا تحتمل أن تكون لازمة، وأن تكون متعدية، لازمة بمعنى يصدون في أنفسهم فهم يأخذون -أو يأكلون- أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله في أنفسهم، ويحتمل أن تكون بمعنى المتعدية، ولا مانع من الجمع بين المعنيين؛ لأنهم يصدون في أنفسهم عن الحق، ويصدون غيرهم من الناس عن اتباعه، وقوله -تبارك وتعالى- هنا: يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَاهذا الجزء يحتمل أن يكون مرتبطا بما قبله يعني أنه يعود إلى هؤلاء الذين تحدث عنهم إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ يعني أن ذلك من أوصافهم أيضا يأكلون أموال الناس بالباطل، ويكنزون الذهب والفضة.
ولهذا قال معاوية حينما وقع بينه وبين أبي ذر -رضي الله عن الجميع- محاورة واختلاف، فكان أبو ذر يرى أن ما زاد على حاجة الإنسان أنه كنز يكوى به جبينه وظهره وجنبه، فمعاوية لما قرأ أبو ذر هذه الآية قال له: هذه في أهل الكتاب، فأبو ذر قال: "هذه فينا وفي أهل الكتاب"، فهذه الآية ليست في أهل الكتاب، وإنما هذه الآية عامة، وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ فهي لا تعود إلى الأحبار والرهبان، وإنما هذا كلام مستأنف.
وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا، والكَنز أصله في المعنى يرجع إلى الضم والجمع، فكل شيء جمعت بعضه إلى بعض فإن العرب تقول عنه: كنز، ولهذا يقال: مكتنز اللحم مثلا بمعنى مجتمع، وقوله: وَلاَ يُنفِقُونَهَا فذكر هنا الذهب وذكر الفضة، وأعاد الضمير مفرداً، فيحتمل أن يكون الضمير يعود على أحدهما لاعتبار من الاعتبارات، كمن قال: إنه يعود إلى الذهب، الضمير الآن مفرد، ذكر شيئين وأعاد الضمير على أحدهما، يمكن أن يكون عائداً إلى أحدهما فعلاً، وهو الذهب وَلاَ يُنفِقُونَهَا فالذهب العرب تذكره وتؤنثه، فـ وَلاَ يُنفِقُونَهَا يكون عائداً إلى الذهب، والفضة معطوف عليه بهذا الاعتبار.
ويحتمل أن يكون ذلك يعود إلى الفضة باعتبار أنها الأكثر في الاستعمال عندهم، فالذهب قليل، وأكثر ما كانوا يتعاطون ويتداولون الدراهم من الفضة، وَلاَ يُنفِقُونَهَا أي الفضة، ويحتمل أن الضمير يرجع إلى الأمرين لكنه أعاده إلى أحدهما اكتفاء بذلك عن الآخر، أو ليدل على الآخر كما سبق في قوله تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَاَ [سورة الجمعة:11]، وهذه الآيات يحتمل أن يكون انفَضُّوا إِلَيْهَاَ باعتبار أن التجارة هي المقصودة، فأعاد الضمير إليها وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَاَ، ويحتمل غير هذا، وهنا يمكن أن يكون أعاد الضمير إلى أحدهما إلى الفضة مثلاً ليدل ذلك على الآخر، وهذا كثير في كلام العرب، يقول الشاعر:
رَماني بأمرٍ كنتُ منه ووالدي | بريئًا ومن جُولِ الطَّوِيِّ رماني |
يعني بريئين، فهذا معروف في كلام العرب يعود الضمير إلى أحد المذكوريْن لمعنى من المعاني، وبعضهم يقول: إنه يعود إليهما، والمقصود وَلاَ يُنفِقُونَهَا يعني الزكاة، وهذا فيه بُعد، وبعضهم يقول: إن الذهب والفضة جنسان تحتهما أفراد دنانير ودراهم، وَلاَ يُنفِقُونَهَا يعني باعتبار ما تحت هذا الجنس الذي هو الذهب والفضة كما قال الله : وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [سورة الحجرات:9] ما قال: اقتتلا باعتبار أن الطائفتين كل طائفة تحتها أفراد فأعاد الضمير مجموعاً بعد أن ذكر شيئين، والعلم عند الله .
قوله: وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ هذا الذي عليه عامة الصحابة بل كل الصحابة -سوى أبي ذر- وهو الذي عليه أهل العلم: أن المقصود من لم يخرج الزكاة، والنبي ﷺ حينما أرسل معاذاً إلى اليمن أخبره بأن يأمرهم بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن أطاعوه لذلك فيخبرهم بأن الله افترض عليهم خمس صلوات، ثم ذكر الزكاة، والإنسان لا يزكي إلا إذا كان غنياً، وهذا الغنى معناه أنه عنده فوق حاجته، والمواريث تكون، إذا كان الإنسان ينفق ما زاد على حاجته لن يكون هناك ميراث، وأصحاب النبي ﷺ كان عندهم أموال، وأخبارهم في هذا مستفيضة عبد الرحمن بن عوف، عثمان بن عفان.
وأما ما قد يفهم منه أن الإنسان لا يجوز له أن يدخر شيئاً مثل الرجل الذي توفى من أهل الصفة فوجد أنه قد ترك دينارين، فقال النبي ﷺ: كَيَّتان[6]، فهذا محمول على أنه كان في أول الأمر لضيق الحال والشدة لا يجوز للإنسان أن يدخر فوق حاجته، ثم بعد ذلك رُخص للناس أن يدخروا، وإذا كان الإنسان قد أخرج الزكاة فإن ذلك لا يكون كنزاً سواءً كان فوق الأرض أو في باطنها، قلّ ذلك أو كثر هذا الذي عليه عامة الصحابة وأهل العلم.
أما أبو ذر فقد اعتذر له بعض الصحابة ومن بعدهم بأنه كان يأتي النبي ﷺ، جاء إلى النبي ﷺ وسمع منه أشياء ثم رجع إلى قومه، وبقي فيهم مدة طويلة، وفاته أشياء، فلم يبلغه بعد ذلك الترخيص في هذا -والله تعالى أعلم.
ومن أهل العلم من يقول: إن هذه الآية منسوخة بقوله: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا [سورة التوبة:103] والنسخ لا يثبت بالاحتمال، ولذلك يمكن أن يقال: إن هذه الآية ليست منسوخة، وإنما هي محكمة وهي في من لم يخرج الزكاة فهو متوعد بهذه العقوبة.
وقد جاء في مدح التقلل من الذهب والفضة وذم التكثر منهما أحاديث كثيرة؛ ولنورد منها هنا طرفا يدل على الباقي، روى عبد الرزاق عن علي ، في قوله: وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قال النبي ﷺ: تَبًّا للذهب، تَبًّا للفضة، يقولها ثلاثا، قال: فشق ذلك على أصحاب رسول الله ﷺ وقالوا: فأيَّ مال نتخذ؟ فقال: عمر ، أنا أعلم لكم ذلك فقال: يا رسول الله، إن أصحابك قد شق عليهم، وقالوا: فأيَّ مال نتخذ؟ قال: لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً وزوجة تعين أحدكم على دين([7].
وقوله تعالى: يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنزتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنزونَ أي: يقال لهم هذا الكلام تبكيتا وتقريعا وتهكما، كما في قوله: ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [سورة الدخان:48، 49] أي: هذا بذاك، وهذا الذي كنتم تكنزون لأنفسكم؛ ولهذا يقال: من أحب شيئا وقدمه على طاعة الله عذب به، وهؤلاء لما كان جمع هذه الأموال آثر عندهم من رضا الله عنهم، عذبوا بها، كما كان أبو لهب -لعنه الله- جاهدًا في عداوة الرسول، ﷺ وامرأته تعينه في ذلك، كانت يوم القيامة عونًا على عذابه أيضا فِي جِيدِهَا أي: عنقها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [سورة المسد:5] أي: تجمع من الحطب في النار وتلقي عليه، ليكون ذلك أبلغ في عذابه ممن هو أشفق عليه -كان- في الدنيا، كما أن هذه الأموال لما كانت أعز الأشياء على أربابها، كانت أضر الأشياء عليهم في الدار الآخرة، فيحمى عليها في نار جهنم، وناهيك بحرها، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.
خص الجباه والجُنوب والظهور فيمكن أن يقال: إن هذه المواضع أشد إيلاماً لما تحويه فهي أعضاء شريفة، وتحوي ما تحوي مما يحصل به شدة الألم إذا حصل إحراقها، ويحتمل أن يكون أراد -والله تعالى أعلم- جميع الجهات تكوى بها جباههم هذا الأمام، وجنوبهم يعني الأمام يدل على الخلف، والظهر يدل على المقدمة، والجبهة على أعلاه، والجنب على الناحية الأخرى الجنب الآخر، يعني أنه يحرق بالنار من كل الجوانب.
وروى الإمام أبو جعفر بن جرير عن ثوبان أن نبي الله ﷺ كان يقول: من ترك بعده كنزا مثل له يوم القيامة شُجاعًا أقرع له زبيبتان، يتبعه، يقول: ويلك ما أنت؟ فيقول: أنا كنزك الذي تركته بعدك، ولا يزال يتبعه حتى يُلقمه يده فَيُقَصْقِصَها ثم يتبعها سائر جسده[8]، ورواه ابن حبان في صحيحه[9]، من حديث يزيد، عن سعيد به، وأصل هذا الحديث في الصحيحين عن أبي هريرة [10].
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -، أن رسول الله ﷺ قال: ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل يوم القيامة صفائح من نار يكوى بها جنبه وجبهته وظهره، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس، ثم يَرَى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار[11] وذكر تمام الحديث.
هذا الجزء من الحديث هو الذي استدل به عامة أهل العلم على أن من منع الزكاة بخلا أنه لا يكفر، يعني الله يقول: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ [سورة التوبة:11] فهذه من الأدلة على أن تارك الصلاة كافر؛ لأن مفهوم المخالفة في الآية أنه إن لم يفعل ذلك فليس من إخواننا في الدين، فهذا في الصلاة، والزكاة لو بقينا مع هذه الآية فقط فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ لفهم منها هذا، فإذا نظرت إلى الأحاديث والنصوص الواردة في الصلاة والزكاة تجد أن الأحاديث الواردة في الصلاة: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر[12]، بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة[13] إلى غير ذلك، أما الزكاة فمثل هذا الحديث يدل على أنه لا يكفر إن تركها وامتنع منها بخلا؛ لأنه قال هنا: ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ولا يمكن أن يرى سبيله إلى الجنة إذا كان كافراً، والله أعلم.
- رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة التوبة، برقم (3095)، وجامع البيان في تأويل القرآن، لابن جرير الطبري (14/211).
- رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، برقم (2889).
- رواه أحمد في المسند، برقم (16957)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.
- رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي ﷺ: لتتبعن سنن من كان قبلكم، برقم (6889).
- رواه أحمد في المسند، برقم (8309)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وبرقم (8433)، ولفظه: "وما الناس إلا أولائك"، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
- رواه أحمد في المسند، برقم (788)، وقال محققوه: حديث حسن لغيره وهذا إسناد ضعيف لجهالة عتيبة وبريد بن أصرم، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (6258)، وابن حبان في صحيحه برقم (3263)، وقال محققه شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2637).
- رواه أحمد في المسند، برقم (23101)، وقال محققوه: "حسن لغيره، وهذا إسناد رجاله ثقات رجال الصحيح غير سلم -وهو ابن عطية الفقيمي- فقد لينه الحافظ ابن حجر في التقريب"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (2907).
- جامع البيان في تأويل القرآن، لابن جرير الطبري (14/232).
- رواه ابن حبان في صحيحه، برقم (3257)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم، وابن خزيمة في صحيحه برقم (2255).
- رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة، برقم (1338)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة، برقم (988).
- رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة، برقم (987).
- رواه النسائي، كتاب الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة، برقم (463)، والترمذي، كتاب الإيمان عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في ترك الصلاة، برقم (2621)، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، برقم (1079)، وأحمد في المسند، برقم (23007)، وقال محققوه: إسناده قوي، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4143).
- رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، برقم (82).
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة براءة، برقم (4383).