الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
[13] من قوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} الآية 67 إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الآية 72
تاريخ النشر: ٠٨ / ربيع الأوّل / ١٤٢٨
التحميل: 3023
مرات الإستماع: 8140

بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ۝ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [سورة التوبة:67، 68].

يقول تعالى منكراً على المنافقين الذين هم على خلاف صفات المؤمنين، ولما كان المؤمنون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، كان هؤلاء وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [سورة الجاثية:34]، إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أي: الخارجون عن طريق الحق، الداخلون في طريق الضلالة.

وقوله: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ أي: على هذا الصنيع الذي ذكر عنهم، خَالِدِينَ فِيهَا أي: ماكثين فيها مخلدين، هم والكفار، هِيَ حَسْبُهُمْ أي: كفايتهم في العذاب، وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ أي: طردهم وأبعدهم، وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى- هنا: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ قال: أي نسوا ذكر الله، نَسُوا اللَّهَ يمكن أن يحمل هنا على ما ذكره المصنف -رحمه الله: نسوا ذكر الله أي ذكره بالقلب واللسان والجوارح بأنواع الذكر، وإذا حُمل على هذا المعنى فلا إشكال فيه، فمن نسي الله بقلبه بمعنى أنه لم يؤمن به ولم يستحضر عظمته، وما يليق به، ولم يتوكل عليه، ولم يقم في قلبه من الأمور الواجبة في الإيمان فضلاً عن الأمور المستحبة، فالخوف والرجاء والمحبة والتوكل منه قدر واجب، فهؤلاء نسوا الله بقلوبهم فلم يراقبوه ولم يخافوه ولم يؤمنوا به ولم يتوكلوا عليه فَنَسِيَهُمْ.

وكذلك أيضاً نسوه بجوارحهم فلم يعبدوه ونسوه بألسنتهم فلم يذكروه، فهذا المعنى بهذا الاعتبار لا إشكال فيه إذا فهم من هذه العبارة هذا العموم، وإلا فإنه يمكن أن يعبر عن هذا فيقال: نَسُوا اللَّهَ أي: تركوا الإيمان به وأعرضوا عن عبادته بالقلب واللسان والجوارح بهذه الأمور، والمقصود بالنسيان هنا الترك؛ لأن النسيان في كلام العرب يأتي لمعنيين:

المعنى الأول: ذهاب المعلوم من الذهن، قد يكون الإنسان عَلِم شيئاً أو حفِظه ثم بعد ذلك ينساه.

ذهابُ ما عُلِمَ قُل نسيانُ والعلمُ في السهوِ له اكتنانُ

فالسهو يكون الشيء موجوداً في ذهن الإنسان لكنه يصيبه شيء من الذهول عنه فقط، وإلا فهو متيقَّن عنده تقول: سهوت عن هذا الشيء، بخلاف نسيه إذ نسيه انمحى من الذهن، فالنسيان يأتي بمعنى الترك، ويأتي بمعنى ذهاب المعلوم من الذهن، فهنا المقصود بالنسيان نَسُوا اللَّهَ يعني الترك تركوا الإيمان، تركوا العمل بطاعته، هذا أيضاً كقوله -تبارك وتعالى- في سورة الحشر: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ [سورة الحشر:19]، وقوله هنا أيضاً: فَنَسِيَهُمْ قال: أي عاملهم معاملة مَن نسيهم، بمعنى تركهم. 

ويمكن أن يقال هنا مباشرة: إن النسيان المضاف إلى الله -تبارك وتعالى- دائماً هو الترك، هو بمعنى الترك -المعنى الآخر للنسيان- وليس هذا من قبيل المجاز، وإنما هو حقيقة، والله -تبارك وتعالى- لا يضل ولا ينسى لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى [سورة طه:52]، فالله منزه عن النسيان الذي هو ذهاب المعلوم، وهو سبحانه: أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [سورة الطلاق:12]، فيكون المعنى هنا فَنَسِيَهُمْ أي تركهم فلم يشملهم برحمته، ولم يدخلهم جنته، وتركهم في العذاب يخلدون لا يخرجون منه أبداً. 

كما قال : فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا [سورة الأعراف:51]، ينساهم في النار يعني يتركهم في النار لا يخرجون منها نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ وهي تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهذا الذي يسميه الأصوليون بدلالة الإيماء والتنبيه، بعضهم يقول: إن هذا من باب المشاكلة نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ لا حاجة لهذه المشاكلة، المشاكلة عندهم نوع من المجاز عند كثير من أهل البلاغة، ولا حاجة لهذا، وليس من باب المشاكلة، والنسيان بالمعنى الذي ذكرته لا إشكال في إضافته إلى الله -تبارك وتعالى، وهكذا قوله: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ فلاحِظ المؤكدات هنا "إنّ" بمنزلة إعادة الجملة مرتين إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الفصل بضمير الفصل بين طرفي الكلام يفيد تقوية النسبة.

نسبة الصفة للموصوف أو الموصوف للصفة ودخول "ال" على "الفاسقين" هُمُ الْفَاسِقُونَ يشعر بأن هؤلاء قد استحقوا من هذه الصفة الأكملَ منها كأنه لا فاسق إلا هؤلاء، وكل ما مر عليك في القرآن بهذه الطريقة وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة البقرة:254] وأشباه ذلك فهو من هذا الباب، والله أعلم.

كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ[سورة التوبة:69].

يقول تعالى: أصاب هؤلاء من عذاب الله في الدنيا والآخرة كما أصاب مَن قبلهم، وقوله: بِخَلاقِهِمْ قال الحسن البصري: بدينهم، كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أي: في الكذب والباطل.

هنا كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةًباعتبار أن الخطاب هنا للمنافقين، فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ يقول هنا: قال الحسن البصري: أي بدينهم، الخلاق أصله بمعنى النصيب، والحظ كأنه يعني الشيء الذي خلق للإنسان فصار خلاقاً، والنصيب كأنه الشيء الذي نصب له، والقدر كأنه الشيء الذي قدر له، فخلاقه أي حظه ونصيبه، فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ يعني في باب الشهوات تمتعوا بألوان اللذات وعافسوا ما عافسوا من حظوظ النفوس، ومطلوباتها، قال هنا: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ حذو القذّة بالقذّة، شابهتموهم في هذا.

وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا وهنا هذا باب الشبهات وابن كثير -رحمه الله- هنا يقول: أي في الكذب والباطل وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا بالتكذيب والكفر والاستهزاء بالرسل -عليهم الصلاة والسلام- وبالكتاب الذي أنزله عليكم، أو في أمر محمد ﷺ خضتم وقلتم كذاب وساحر وما شابه ذلك وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا فيكون الأول في الشهوات والثاني في الشبهات، فيكونون جمعوا بين طرفي الضلال الشهوة والشبهة، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن القيم -رحمه الله- وشرحه في عدد من كتبه كإغاثة اللهفان وإعلام الموقعين.

أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ أي: بطلت مساعيهم، فلا ثواب لهم عليها لأنها فاسدة فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ.

بالنسبة للحبوط قال هنا بطلت، وأصله من حبطت الدابة يعني أكلت حتى بشمت، ثم بعد ذلك ماتت كما قال النبي ﷺ: وإنّ كلَّ ما أنبتَ الربيعُ يقتلُ حَبَطاً أو يُلِّمُّ[1] يقارب الدابة يعني وهي تأكل كثيراً فينتفخ بطنها ولا تستطيع أن تصرف هذا الذي أكلته فتموت.

لأنهم لم يحصل لهم عليها ثواب.

قال ابن عباس: ما أشبه الليلة بالبارحة، كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ هؤلاء بنو إسرائيل، شبهنا بهم، لا أعلم إلا أنه قال: والذي نفسي بيده، لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم جُحر ضَبٍّ لدخلتموه[2].

قوله: بنو إسرائيل شبهنا بهم، لا أعلم إلا أنه قال: والذي نفسي بيده... يعني شبهنا بهم بالحديث، وإلا فالآية أعم من بني إسرائيل، وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا كما جاء في الآية التي بعدها من تسمية هؤلاء الأقوام من قوم نوح ومن بعدهم.

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: والذي نفسي بيده، لتتبعن سَنَن الذين من قبلكم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، وباعا بباع، حتى لو دخلوا جُحْر ضَبٍّ لدخلتموه، قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ أهل الكتاب؟ قال: فَمَهْ؟[3]، وهذا الحديث له شاهد في الصحيح.

تكلم شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم فذكر نحو عشرة أوجه أو عشر صور من مشابهة هذه الأمة لبني إسرائيل، في موضع واحد ذكرها، وفي أواخر الكتاب ذكر صوراً أخرى.

أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة التوبة:70].

يقول تعالى واعظا لهؤلاء المنافقين المكذبين للرسل: قَوْمِ نُوحٍ وما أصابهم من الغرق العام لجميع أهل الأرض، إلا من آمن بعبده ورسوله نوح ، وَعَادٍ كيف أهلكوا بالريح العقيم، لما كذبوا هودا ، وَثَمُودَ كيف أخذتهم الصيحة لما كذبوا صالحا ، وعقروا الناقة.

وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وهم قوم شعيب ، وكيف أصابتهم الرجفة والصيحة وعذاب يوم الظلة، وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [سورة النجم:53] أي: الأمة المؤتفكة، وقيل: أم قراهم، وهي "سدوم"، والغرض: أن الله تعالى أهلكهم عن آخرهم بتكذيبهم نبي الله لوطا ، وإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين.

ويمكن أن يكون وَالْمُؤْتَفِكَاتِ يعنى القرى، وهي مجموعة من القرى، فعُبر عنها بالجمع وعبر عنها بالإفراد، فبالنظر إلى مجموعها يقال: مؤتفكات، قرى مؤتفكة، والإفك أصله القلب، ومنه الإفك: قلب الحقيقة، الكذب الفج الذي لا أساس له، يعني لا شبهه فيه، قد يلتبس الأمر على الإنسان، فيعبر بغير الحق، فيتكلم بغير الحق لكن إذا كان الشيء مختلقاً لا أساس له فهذا إفك إِنَّ الَّذِينَ جَاءُُوا بِالْإِفْكِ [سورة النور:11] فالمؤتفكات: المنقلبات باعتبار أنها رفعت وقلبت ثم بعد ذلك أُتبعوا بالحجارة الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ [سورة الفرقان:40].

أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ أي: بالحجج والدلائل القاطعات، فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي: بإهلاكه إياهم؛ لأنه أقام عليهم الحجة بإرسال الرسل وإزاحة العلل وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي: بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم الحق، فصاروا إلى ما صاروا إليه من العذاب والدمار.

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[سورة التوبة:71].

لما ذكر الله تعالى صفات المنافقين الذميمة، عطف بذكر صفات المؤمنين المحمودة، فقال: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ أي: يتناصرون ويتعاضدون، كما جاء في الصحيح: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وشبك بين أصابعه"[4]، وفي الصحيح أيضا: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر[5].

وقوله: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، كقوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة آل عمران:104].

وقوله تعالى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ أي: يطيعون الله ويحسنون إلى خلقه، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي: عزيز، من أطاعه أعزه، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، حَكِيمٌ في قسمته هذه الصفات لهؤلاء، وتخصيصه المنافقين بصفاتهم المتقدمة، فإن له الحكمة في جميع ما يفعله،  -تبارك وتعالى.

بمعنى أن التعقيب هنا ختَمَ الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يعني قد يقال: إن المتبادر أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فمقتضى كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا أن ذلك لا يختص بهذه الجزئية أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ وإنما يرجع إلى ما سبق، فالله -تبارك وتعالى- وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ، وهكذا أيضاً وعد المؤمنين.

يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هي من جملة طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، فهذا من باب عطف العام على الخاص، فذِكرُ بعض أفراد الخاص وتخصيصه قبل العام أو بعده يكون لنكتة، كبيان أهميته مثلاً، كقوله -تبارك وتعالى: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [سورة البقرة:98]، فهذا من باب عطف الخاص على العام ومَا بَيْنَ أَيْدِينَا [سورة مريم:64]، أما هنا فهو من باب عطف العام على الخاص.

وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[سورة التوبة:72].

يخبر تعالى بما أعده للمؤمنين به والمؤمنات من الخيرات والنعيم المقيم في جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أي: ماكثين فيها أبدا، وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً أي: حسنة البناء، طيبة القرار، كما جاء في الصحيحين عن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن[6].

وبه قال : قال رسول الله ﷺ: إن للمؤمن في الجنة لَخَيْمَة من لؤلؤة واحدة مُجَوَّفة، طولها ستون ميلا في السماء، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم، لا يرى بعضهم بعضا[7]، أخرجاه في الصحيحين.

وفيهما أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة وصام رمضان، فإن حقا على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها، قالوا: يا رسول الله، أفلا نخبر الناس؟ قال: إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تَفَجَّر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن[8].

وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إذا صليتم عليّ فسلوا الله لي الوسيلة، قيل: يا رسول الله، وما الوسيلة؟ قال: أعلى درجة في الجنة، لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكون أنا هو[9].

وفي مسند الإمام أحمد، من حديث سعد أبي مجاهد الطائي، عن أبي المُدِلَّة، عن أبي هريرة  قال: قلنا: يا رسول الله، حدثنا عن الجنة، ما بناؤها؟ قال: لبنة ذهب، ولبنة فضة، وملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم لا يبأس، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه[10].

بعض أهل العلم يقول: إن جَنَّاتِ عَدْنٍ بمعنى جنات إقامة، وبعضهم يقول: إن هذا يعني به وسط الجنة، وبعضهم يقول: اسم لمدينة الجنة، وبعضهم يقول غير هذا، وهذه اللفظة في كلام العرب تدل على الإقامة، جَنَّاتِ عَدْنٍ أي إقامة، أي أنهم يمكثون فيها لا يخرجون عنها، يخلدون، ويكون ما يذكر بعده إذا كان هذا هو المعنى خَالِدِينَ فِيهَا يمكن أن تكون بمعنى الصفة الكاشفة، ويمكن أن تكون هذه الصفة تؤكد وتبين أن هذه الإقامة غير منقطعة الخلود، فهو البقاء الأبدي السرمدي.

وقوله تعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ أي: رضا الله عنهم أكبر وأجل وأعظم مما هم فيه من النعيم، كما قال الإمام مالك -رحمه الله، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخُدْري  أن رسول الله ﷺ قال: إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك يا ربنا وسعديك، والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تُعط أحداً من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا[11] أخرجاه من حديث مالك.

في قوله -تبارك وتعالى- هنا: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ التنكير عرفنا في مناسبات شتى أنه يأتي تارة للتعظيم، وتارة للتحقير، فهنا وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُهَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الصف:10]، "تجارة" فالتنكير هنا للتعظيم، وكقوله -تبارك وتعالى: إِلَى مَغْفِرَةٍ يعني مغفرة عظيمة، فهنا هذا التنكير للتعظيم.

لكن قد تجد في بعض كتب التفسير من يعبر، ويقول: التنكير هنا للتحقير، هذا موجود فلا يهولنّك ذلك، هذا الذي قال: إن التنكير للتحقير، يعني لو عبر بعبارة أخرى غير كلمة التحقير كالتقليل مثلا لكان أفضل، بمعنى أن أدنى رضوان من الله  أفضل من جميع الملاذ والنعيم، قصدَ هذا المعنى، ذكرت هذا؛ ليُفهم كلام أهل العلم، فقد يقرأ الإنسان أحياناً ويقول: هذا كلام غير معقول، يمكن أن يكون سبق قلم، لا، هو يقصد هذا المعنى الذي ذكرته آنفا، والله أعلم.

  1. رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، برقم (6063)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، برقم (1052).
  2. رواه البزار في مسنده، برقم (8411)، وأصله في مسلم كما سيأتي في الحاشية التالية.
  3. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (8340)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ، فمن رجال مسلم"، ومسلم، كتاب العلم، باب اتباع سَنن اليهود والنصارى، برقم (2669).
  4. رواه البخاري، كتاب المظالم، باب نصر المظلوم، برقم (2314).
  5. رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، برقم (2586).
  6. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الرحمن، برقم (4597)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم ، برقم (180).
  7. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الرحمن، برقم (4598)، ومسلم -واللفظ له- كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفة خيام الجنة وما للمؤمنين فيها من الأهلين، برقم (2838).
  8. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء [سورة هود:7]، وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [سورة التوبة:129]، برقم (6987).
  9. رواه الترمذي، كتاب المناقب عن رسول الله ﷺ، باب في فضل النبي ﷺ، برقم (3612)، وأحمد في المسند، برقم (7598)، وقال محققوه: إسناده ضعيف، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (5767).
  10. رواه أحمد في المسند، برقم (8043)، وقال محققوه: حديث صحيح بطرقه وشواهده، وقال الألباني صحيح لشواهده في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (5630).
  11. رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، برقم (6183)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إحلال الرضوان على أهل الجنة فلا يسخط عليهم أبدا، برقم (2829).

مواد ذات صلة