بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[سورة التوبة:109، 110].
يقول تعالى: لا يستوي من أسس بنيانه على تقوى الله ورضوان، ومن بنى مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل، فإنما يبنى هؤلاء بنيانهم عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ أي: طرف حُفيرة مُثالة فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي: لا يصلح عمل المفسدين.
قال جابر بن عبد الله -ا: رأيت المسجد الذي بُني ضرارا يخرج منه الدخان على عهد رسول الله ﷺ.
وقوله: لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ أي: شكًّا ونفاقا بسبب إقدامهم على هذا الصنيع الشنيع، أورثهم نفاقا في قلوبهم، كما أُشرب عابدو العجل حبَّه.
وقوله: إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ أي: بموتهم، قاله ابن عباس -ا، ومجاهد، وقتادة، وزيد بن أسلم، والسدي، وحبيب بن أبي ثابت، والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد من علماء السلف.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي: بأعمال خلقه، حَكِيمٌ في مجازاتهم عنها، من خير وشر.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، قال: أي طرف حُفيرة، عَلَى شَفَا جُرُفٍ الشفا يعني الشفير، عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ أي: شفير جُرُف، والجُرُف ما يتجرف بالسيول، وفسره بعضهم بالذي يذهب أصله ويبقى كأنه معلق، فهو يسقط بأدنى ملابسة، فهو سريع السقوط، وجُرُفٍ هَارٍ أي ساقط، فهؤلاء بنوا على غير أساس من تقوى الله وإرادة ما عنده، فكان بنيانهم بهذه الهشاشة والضعف المتناهي كالذي أسس بنيانه على هذا المكان الذي لا ثبات له بحال من الأحوال.
فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ أي: وقع وسقط به في نار جهنم، وقال هنا: لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في معناه هو من أحسن ما قيل في تفسيره، يعني أن هذا الصنيع تسبب عن نفاق دائم وشك يصاحبه قلق في نفوس هؤلاء يلازمهم إلى الوفاة، والجزاء من جنس العمل، كما قال الله : فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ [سورة التوبة:77].
فالله يجازي عباده على أعمالهم السيئة، تارة بالطبع على القلب، وتارة بالنفاق الدائم حتى يموت الإنسان عليه، إلى غير ذلك من ألوان العقوبات فقوله: إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ يعني بالندم، وهذا فيه بُعد، والأقرب ما ذكره الحافظ -رحمه الله- هنا إِلا أَنْ تَقَطَّعَ، يعني إلا أن يموتوا بمعنى أن هذا النفاق مستمر إلى الموت لا يفارقهم ولا يزول عنهم.
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[سورة التوبة:111].
يخبر تعالى أنه عاوض عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذ بذلوها في سبيله بالجنة.
يعني هذا معنى الشراء أنه معاوضة، وسبق الكلام على قوله: اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ [سورة البقرة:175]، اشتروا الكفر بالإيمان، وأصل الشراء هو إخراج الشيء عن الملك بشيء آخر، ويعبر عنه بعبارات أخرى مقاربة، وقد سبق الكلام على هذا في أول الكلام على البيوع من العمدة، فالشاهد: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ فالنفوس والأموال مبيع والثمن هو الجنة.
وهذا من فضله وكرمه وإحسانه، فإنه قَبِل العوض عما يملكه بما تفضل به على عباده المطيعين له؛ ولهذا قال الحسن البصري وقتادة: بايَعَهم –واللهِ- فأغلى ثمنهم.
وقال شَمِر بن عطية: ما من مسلم إلا ولله في عُنُقه بيعة، وفَّى بها أو مات عليها، ثم تلا هذه الآية.
ولهذا يقال: من حمل في سبيل الله بايع الله، أي: قَبِل هذا العقد ووفى به.
وقوله: يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ أي: سواء قَتلوا أو قُتلوا، أو اجتمع لهم هذا وهذا، فقد وجبت لهم الجنة.
وفي القراءة الأخرى قراءة حمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول فيُقتَلونَ ويَقتُلون وهذا مما يحتمله الرسم العثماني، وهو وجه من أوجه التغاير في الأحرف السبعة بالتقديم والتأخير.
ولهذا جاء في الصحيحين: "وتكفل الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وتصديق برسلي، بأن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، نائلا ما نال من أجر أو غنيمة".
وقوله: وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ تأكيد لهذا الوعد، وإخبار بأنه قد كتبه على نفسه الكريمة، وأنزله على رسله في كتبه الكبار، وهي التوراة المنزلة على موسى، والإنجيل المنزل على عيسى، والقرآن المنزل على محمد -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وقوله: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ أي: ولا واحد أعظم وفاءً بما عاهد عليه من الله فإنه لا يخلف الميعاد، وهذا كقوله تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا [سورة النساء:87]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا [سورة النساء:122]؛ ولهذا قال: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي: فليستبشر من قام بمقتضى هذا العقد ووفى بهذا العهد بالفوز العظيم، والنعيم المقيم.
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ[سورة التوبة:112].
هذا نعتُ المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بهذه الصفات الجميلة والخلال الجليلة.
هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير ووافقه عليه ابن جرير معناه أن هذه الأوصاف المذكورة ترجع إلى ما سبق، إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ التائبين العابدين الحامدين السائحين هؤلاء هم الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فهذا فردٌ لأوصافهم، وتفصيل لها، وقرأ ابن مسعود وهي قراءة ليست متواترة- بالجر "التائبين العابدين" إن الله اشترى من المؤمنين التائبين العابدين...إلى آخره، بمعنى أن يكون هذا تفصيلاً لما سبق، الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم من هم؟ هم هؤلاء، وهنا الرفع في القراءة المتواترة يحتمل أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف أي: هم إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ هم التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ هؤلاء هم الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم.
ويحتمل أن يكون التَّائِبُونَ مبتدأ وتكون جملة جديدة، يعني الله -تبارك وتعالى- ذكر أوصاف الأولين إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ هذه طائفة ممن يدخلون الجنة، والطائفة الثانية هم أصحاب هذه الأوصاف، التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ التَّائِبُونَمبتدأ، وما بعده معطوف عليه، والخبر مقدر يعني لهم الجنة، فيكون الذين وُعدوا بالجنة هم الطائفتين، الطائفة الأولى: هم الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، والطائفة الثانية: هم أصحاب هذه الأوصاف.
وعلى القول الأول كل هذا طائفة واحدة موصوفة بهذه الأوصاف، فأولائك الذين يقاتلون في سبيل الله يجب أن تتحقق فيهم هذه الأوصاف على القول الأول المشهور أن يكونوا من التائبين العابدين الحامدين السائحين...إلى آخره.
يعني ذكر هذه الأوصاف التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ فالتوبة تكون بترك ما نهى عنه، والعبادة تكون بفعل ما أمر به، جمعوا بين هذا وهذا، التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ، الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ.
أصل السياحة هي السير في الأرض، ساحَ في الأرض، ساح الماء بمعنى جرى وانساب، يعني الذهاب على وجه الأرض يقال له: سياحة، فهنا عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ [سورة التحريم:5]، وذكر من الأوصاف سَائِحَاتٍ قال: وليس المراد بذلك أنهن مجاهدات أو يسافرن في طلب العلم، أو يُدِمنَ الصيام، فعائشة -ا- كانت تؤجل القضاء إلى شعبان.
فمثل هذا قال: ليس هو المراد، وإنما المراد سياحة القلب، ولفتَ النظر إلى ما اقترن به وهو أن الله هنا في هذه الآية قال: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ فهذا الاقتران التوبة والعبادة ترك ما نهى عنه، وفعل ما أمر به، التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ، الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ ذكْرُ اللسان، وذكْرُ القلب، فسر السائحين بهذا بذكر القلب، التأله لله ، وما إلى ذلك من معانٍ ذكرناها، ثم قال: الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الركوع والسجود قرينان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قرينان، وهكذا في وصف النساء الآتي ذكرَ الله : تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ وذكر أيضاً السائحات.
هنا قال: عطف هذه الأوصاف جميعاً بدون حرف العطف بدون "الواو"، وفي قوله: الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ ذكر الواو فيحتمل أن يكون ذكر الواو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبار أنها خصلة واحدة، يعني هما متلازمان، هي قضية واحدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتي بعدها، وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ باعتبار أنه جاورها فذكر الواو معه، وهذا لا يخلو من إشكال بالنسبة لقوله: وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ، يعني هذا الجواب ما هو من الوضوح بمكان، القرب وحده قد لا يكون كافياً في تبرير هذا.
والعطف بالواو يأتي في كلام العرب تارة تَذكرُ العطف بالواو، وتارة تُسقطُه في ذكر الأوصاف، ومنه قوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [سورة الأعلى:1-4]، فذكر بعض هذه الأوصاف بالواو، وبعض هذه الأوصاف بغير واو، كقوله: غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ [سورة غافر:3]، فيذكر الواو مع هذا، ويحذفه في بعض المواضع.
وبعضهم يقول: هذه الواو واو الثمانية، وإن كان بعض أهل اللغة كأبي على الفارسي ينكر واو الثمانية أصلاً!! ويثبتها آخرون سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [سورة الكهف:22]، وفي قوله في الآية المتقدمة: ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا، وهكذا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [سورة الزمر:73] فذكر الواو، والأمثلة على هذا كثيرة.
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ[سورة التوبة:113، 114].
روى الإمام أحمد عن ابن المسيب، عن أبيه قال: لما حَضَرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي ﷺ وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية، فقال: "أيْ عَمّ، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاجّ لك بها عند الله "، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملَّة عبد المطلب؟ فقال النبي ﷺ: لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك، فنزلت: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ قال: ونزلت فيه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [سورة القصص:56] أخرجاه[1].
وروى ابن جرير عن سليمان بن بُرَيدة، عن أبيه؛ أن رسول الله ﷺ لما قدم مكة أتى رَسْمَ قبر، فجلس إليه، فجعل يخاطب، ثم قام مستعبرًا، فقلنا: يا رسول الله، إنا رأينا ما صنعت، قال: إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي، فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي[2]، فما رئي باكيا أكثر من يومئذ.
وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الآية: فإن رسول الله ﷺ أراد أن يستغفر لأمه، فنهاه الله عن ذلك فقال: فإنّ إبراهيم خليل الله استغفر لأبيه، فأنزل الله: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ الآية.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في هذه الآية: كانوا يستغفرُون لهم، حتى نزلت هذه الآية، فأمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم، ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا، ثم أنزل الله: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ الآية.
هذه الروايات وغيرها مما لم يذكره كثيرة جداً، منها الصحيح، ومنها الضعيف، وقد ثبت أنها نزلت في قصة أبي طالب لما قال له النبي ﷺ: لأستغفرن لك ما لم أُنهَ عن ذلك، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام، وثبت أنها نزلت حينما سمع عليٌّ رجلاً يستغفر لأبويه، فأنكر عليه هذا، فاحتج بأن إبراهيم ﷺ استغفر لأبيه، فذكر ذلك للنبي ﷺ فنزلت، وهكذا ما جاء من روايات منها ما صح، ومنها ما لم يصح في طلب النبي ﷺ الاستغفار لأمه فلم يؤذن له.
فالشاهد أن الروايات التي صحت في سبب النزول متنوعة، فإن كان الزمان متقارباً فيمكن أن يقال: إن هذه الآية نزلت بعد هذه القضايا جميعاً، وإذا كان الزمان متباعداً فيمكن أن يقال: إن الآية نزلت مرتين، يمكن أن يقال: إن هذا حصل فنهى الله نبيه ﷺ.
وهل يتصور أن يقع هذا من أحد بعد نزول الآية؟
الجواب: أن هذا يتصور من غير النبي ﷺ، من الناس من يخفى عليه فتنزل الآية كما قال الحافظ -بغير هذا الموضع: إن الآية تنزل تذكيراً بالحكم، يمكن هذا وأحياناً لا يقال، مثل ما ورد في سبب نزول يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [سورة التحريم:1]، صح أنها نزلت بسبب العسل، وأيضاً بسبب تحريم الجارية، فهنا لابد أن يقال: من أهل العلم من يلجأ إلى الترجيح، أو يقال للجمع: إن الزمان كان متقارباً، ولا يمكن أن يقال: إن كان الزمان متباعداً حكم بتكرر الآية؛ لأن النبي ﷺ ما يمكن أن يحرم ما أحل الله له مرتين.
وهكذا ما جاء في قوله -تبارك وتعالى- في اللعان: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ [سورة النور:6]، في قصة هلال بن أمية، وعويمر العجلاني، فلابد أن يقال هناك بأن الزمان كان متقارباً فنزلت الآية بعد هذه الوقائع جميعاً، ويمكن أن يقال: إن الآية نزلت مرتين؛ لأن النبي ﷺ قال لكل واحد منهما: البينة أو حدٌّ في ظهرك[3]، فلو كانت نزلت عليه كان طلب منه اللعان –أي من الثاني.
لكن هنا يتصور، ولكن هل يتصور في جميعها؟ يعني هل يتصور أن النبي ﷺ قاله في قصة أبي طالب، وهذا كان في مكة فنزلت سورة براءة من آخر ما نزل، والواقعة في مكة، وقد تنزل الآية من السورة قبل نزول أكثرها، ويحكم على السورة بأنها مكية أو مدنية باعتبار صدر السورة، باعتبار الأغلب، فالشاهد أن هذه الآية تكون نزلت في مكة في قصة أبي طالب، ثم أيضاً نزلت متأخرة جداً حينما أراد النبي ﷺ أن يستغفر لأمه حينما مر بقبرها، وبعض الروايات التي وردت في هذا -وإن كان فيها ضعف- أنه حينما رجع من تبوك أراد أن يذهب، هذه فيها ضعف، يذهب إلى مكة فمر بقبرها، ومروره بقبرها كان متأخراً يعني إما أن يكون هذا في عمرة القضاء في السنة السابعة للهجرة، أو يكون ذلك بعد فتح مكة، أو في حجة الوداع، فهو متأخر فهل يمكن أن يقال: إن النبي ﷺ استغفر لعمه أبي طالب فنزلت الآية هنا، ثم أراد أن يستغفر لأمه؟
هذا فيه إشكال كبير، إلا أن يقال: إن النبي ﷺ لم يستغفر لمّا مر على قبر أمه، وإنما قال: استأذنت ربي أن أزور قبرها فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يؤذن لي استأذنه ولم يستغفر، فأما وقوع هذا من بعض الصحابة، وأنهم احتجوا بأن إبراهيم ﷺ استغفر لأبيه، فيمكن أن يقال: إن هذا خفيَ عليهم فنزلت الآية تذكيراً، والله أعلم.
يعني أنه ختم له بالشقاوة، بالكفر كان يرجو أن يهديه الله للإسلام.
وكذا قال مجاهد، والضحاك، وقتادة، وغيرهم -رحمهم الله.
وقال عُبَيْد بن عمير، وسعيد بن جُبَيْر: إنه يتبرأ منه يوم القيامة حين يلقى أباه وعلى وجه أبيه القترة والغبرة فيقول: يا إبراهيم، إني كنت أعصيك وإني اليوم لا أعصيك، فيقول: أيْ رَبي، ألم تعدني ألا تخزني يوم يبعثون؟ فأيّ خزْي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقال: انظر إلى ما وراءك، فإذا هو بِذِيخٍ متلطخ، أي: قد مُسخ ضِبْعانًا، ثم يسحب بقوائمه، ويلقى في النار.
الذِّيخ هو ذَكر الضبع، وبعضهم قيده بذَكر الضبع الذي يكون عليه شعر كثير، فالله يقول: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى، مَا كَانَ هذه في القرآن تأتي تارة للنهي، مثل هذا الموضع، وكقوله: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [سورة الأحزاب:53].
وتارة تأتي بمعنى النفي كقوله: مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا [سورة النمل:60]، ووَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله [سورة آل عمران:145]، وإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- قال الله في شأنه: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ، وهو قوله: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [سورة مريم:47] فهذا هو الوعد، والله يقول: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ [سورة الممتحنة:4]، إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ فهذا استثناء، فيحتمل أن يكون هذا الاستثناء عائداً إلى الأسوة والقدوة، فلكم فيه أسوة إلا في هذا الأمر فإنه كان عن موعدة ثم بعد ذلك تبين له أنه عدو لله فترك الاستغفار له، فتكون أسوة فيها استثناء.
ومن هذا أخذ بعض أهل العلم أن النبي ﷺ أفضل من إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وهذا لا شك فيه، لكن هنا من ناحية أن الله لما ذكر الأسوة بالنبي ﷺ لم يستثنِ في سورة الأحزاب، وفي إبراهيم استثنى، ومن أهل العلم من يقول: إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ: إن الاستثناء منقطع بمعنى لكن، فما يكون ذلك استثناءً من الأسوة.
باعتبار أن "أواه" صيغة مبالغة، فقال الدّعّاء وهذا الذي اختاره ابن جرير في معناه، الدّعّاء.
قوله: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ الدّعّاء بمعنى أنه استغفر لأبيه، والاستغفار دعاء طلب المغفرة، وكذا روي من غير وجه عن ابن مسعود ، وقيل: المتضرع، وهذا التضرع في معنى التذلل.
وقيل غير ذلك كمن فسره بأنه فقيه، أو يعلم الناس الخير، أو -وهذا من أشهر ما قيل فيه، وهو معنى قريب وجيد- أنه كثير التأوه، وهذا تفسير على الظاهر، ظاهر اللفظ لأوَّاهٌ يعني كثير التأوه، ومعنى كثير التأوه أنه يتأوه كثيراً من ذنوبه، فالذي يتأوه بمعنى أنه يحصل له ويتنفس بطريقة يعني فيها قوة أو نحو هذا يتأوه، وهكذا من يقول: أواه من ذنوبي، لأوَّاهٌ أي كثير التأوه، وابن جرير -رحمه الله- فسره بالدّعّاء، كثير الدُّعاء، والتضرع إلى الله ، والسؤال بالحزن والإشفاق.
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة براءة، برقم (4398).
- رواه مسلم، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي ﷺ ربه في زيارة قبر أمه، برقم (976).
- رواه البخاري، كتاب الشهادات، باب إذا ادعى أو قذف فله أن يلتمس البينة وينطلق لطلب البينة، برقم (2526)، وبرقم (4470)، كتاب التفسير، باب تفسير سورة النور.