بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ومصطفاه، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً مباركاً فيه، وبعد.
يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى:
ينكر -تبارك وتعالى- على اليهود والنصارى في محاجتهم في إبراهيم الخليل ودعوى كل طائفة منهم أنه كان منهم.
كما روى محمد بن إسحاق بن يسار عن ابن عباس -ا- قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله ﷺ فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهودياً، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانياً، فأنزل الله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ.. الآية [سورة آل عمران:65].
أي كيف تدعون أيها اليهود أنه كان يهودياً، وقد كان زمنه قبل أن ينزل الله التوراة على موسى، وكيف تدعون أيها النصارى أنه كان نصرانياً، وإنما حدثت النصرانية بعد زمنه بدهر؟ ولهذا قال تعالى: أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [سورة آل عمران:65].
ثم قال تعالى: هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ.. الآية [سورة آل عمران:66]، هذا إنكار على من يحاجُّ فيما لا علم له به، فإن اليهود والنصارى تحاجوا في إبراهيم بلا علم، ولو تحاجوا فيما بأيدهم منه علم مما يتعلق بأديانهم التي شرعت لهم إلى حين بعثة محمد ﷺ لكان أولى بهم، وإنما تكلموا فيما لم يعلموا به، فأنكر الله عليهم ذلك، وأمرهم برد ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم الأمور على حقائقها وجلياتها، ولهذا قال تعالى: وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [سورة آل عمران:66]،
ثم قال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا [سورة آل عمران:67]، أي متحنفاً عن الشرك قاصداً إلى الإيمان، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة آل عمران:67]، وهذه الآية كالتي تقدمت في سورة البقرة: وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ... الآية [سورة البقرة:135].
ثم قال تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران:68]، يقول تعالى: أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل الذين اتبعوه على دينه، وَهَذَا النَّبِيُّ يعني محمداً ﷺ، وَالَّذِينَ آمَنُواْ من أصحابه المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بعدهم.
روى سعيد بن منصور عن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال: إن لكل نبي ولاة من النبيين، وإن وليي منهم أبي وخليل ربي ثم قرأ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ.. الآية [سورة آل عمران:68][1]
قوله: وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران:68] أي: ولي جميع المؤمنين برسله.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد..
فهذه الآية تتحدث عن تنازعهم في إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- فإن إبراهيم ﷺ تنازعته الطوائف، كل طائفة تضيفه إليها وتدعي أنه منها، وسبب النزول الذي ذكره هنا لا يصح، وسواء كان هذا هو سبب نزول الآية أو لم يكن، فمن المعلوم أن اليهود يقولون: إن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- كان منهم، والنصارى كذلك يقولون: إنه منهم، وهذا الآية رد عليهم.
وقوله فيها: هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ [سورة آل عمران:66]، المقصود بذلك أنهم حينما يحاجون فيما أنزل عليهم مما بين أيدهم من كلام الله ، وما بلغهم علمه، فإن ذلك أمر سائغ، وأما محاجتهم في أمر كهذا، وهو أن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- كان يهودياً أو نصرانياً، فإن هذا أمر لا يسوغ بل هو مناقض للعقل والواقع، وذلك أن إبراهيم ﷺ كان قبل موسى وعيسى بزمن طويل، فعلى كل حال هذا هو المراد بقوله تعالى: هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ [سورة آل عمران:66] والله أعلم.
قوله تعالى: وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ [سورة آل عمران:69] هنا كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- على أن الإضلال على ظاهره، وهو إزاغة أهل الإيمان وصرفهم عن الحق، وهذا الذي يدل عليه سبب النزول وتدل عليه الآيات الأخرى.
ومن أهل العلم من يحمل ذلك على معنى الإهلاك، كابن جرير -رحمه الله، وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ [سورة آل عمران:69] أي: وما يهلكون إلا أنفسهم، والإهلاك هو من لوازم الإضلال، وليس هو معنى الإضلال، والله أعلم.
يقول سبحانه: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ، قال ابن كثير: "أي تعلمون صدقها وتتحققون حقها"، يعني تعلمون أنها حق من الله تعالى، وهذا الذي عليه كثير من المفسرين من المحققين كابن جرير وابن القيم.
ومن أهل العلم من يقول: إن قوله: وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ أي: ما في كتبكم من ذلك، يعني أنكم تجدونه في كتبكم، أو وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ بمثلها من آيات الأنبياء، يعني أنتم لماذا تقرون للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- والنبي ﷺ قد جاء بنظير ذلك من الآيات ثم تنكرونها؟!
وهذه الأقوال غير متعارضة، فالله ينكر عليهم هذا الكفر بآيات الله، وهم يعلمون أنها حق، باعتبار أنها موجودة في كتبهم، وعندهم أدلة تدل على أنها حق مما رأوا من رسول الله ﷺ من دلائل نبوته، فلا تعارض في هذا حيث يعرفون نعته ﷺ، وأن الدين عند الله الإسلام.
قوله: لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ اللبس المقصود به الخلط، أي لِمَ تخلطون الحق بالباطل؟ ومن أهل العلم من يقول: إن هذا الخلط المقصود به خلط اليهودية والنصرانية بالإسلام، وهذا فعلاً من لبس الحق بالباطل، ومنهم من يقول كابن جرير: إن المراد بذلك إظهار الإيمان باللسان والبقاء على يهوديتهم أو نصرانيتهم في قلوبهم، يعني حينما أظهروا ذلك حيث منهم من أظهر هذا -كما سيأتي- بدليل قوله تعالى: وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [سورة آل عمران:72].
وعلى كل حال لبس الحق بالباطل يدخل فيه هذا، فكل ذلك من لبس الحق بالباطل، ويدخل فيه أيضاً والله أعلم ما كانوا يحرفونه، ومنه ما يحصل من ليِّهم ألسنتهم بالكتاب من أجل أن يوهموا أنه من كتاب الله وليس كذلك، ويحصل أيضاً بأنواع التحريف كتحريف الألفاظ وتحريف المعاني، فهذا كله من خلط الحق بالباطل، إلى غير ذلك مما يحصل به هذا التخليط.
المراد بوجه النهار أول النهار وهو أحسنه.
وهو أنهم اشتوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار ويصلوا مع المسلمين صلاة الصبح، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم ليقول الجهلة من الناس: إنما ردهم إلى دينهم اطلاعهم على نقيصة وعيب في دين المسلمين، ولهذا قالوا: لعلهم يرجعون.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: في قوله تعالى إخباراً عن اليهود بهذه الآية، يعني يهوداً صلت مع النبي ﷺ صلاة الفجر وكفروا آخر النهار مكراً منهم، ليُروا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالة بعد أن كانوا اتبعوه.
يعني اليهود أهل كتاب وأهل علم فإذا دخلوا في الإسلام استبشر الناس من أهل الإيمان، فإذا رجعوا قال الناس: إن هؤلاء ما رجعوا إلا وقد اطلعوا على أمور تدل على بطلان هذا الدين، وأنه ليس من عند الله .
هذه الآية تحتمل وجوهاً من المعنى، فقوله -تبارك وتعالى: وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ [سورة آل عمران:73] حمله ابن كثير على معنى "لا تطمئنوا وتظهروا سرَّكم وما عندكم إلا لمن تبع دينكم.
ومعنى وَلاَ تُؤْمِنُواْ أي: لا تخبروا أحداً بما عندكم في الكتاب مما يمكن أن يحتج به عليكم، أو يكون سبباً لإيمان أحد برسول الله ﷺ فلا تخبروا بهذه الحقائق إلا أتباع دينكم، فهذا احتمال، لكن يرد على هذا أيضاً أنهم إن أخبروا أتباع دينهم فقد يكون ذلك سبباً لإسلامهم أيضاً.
فعلى كل حال المعنى الآخر الذي تحتمله الآية وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ [سورة آل عمران:73] أنهم قالوا ذلك على وجه الحسد لرسول الله ﷺ، حيث إنهم كانوا قد نزلوا في المدينة أصلاً انتظاراً لرسول الله ﷺ حيث قد قرب زمان بعثته، فكانوا ينتظرونه ويتوعدون العرب باتباعه وقتلهم معه، فلما بعث رسول الله ﷺ من العرب، حسدوه وناصبوه العداوة، فقالوا: وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ [سورة آل عمران:73]
يعني هذا النبي العربي لا تؤمنوا به ولا تصدقوه، وهذا هو الظاهر المتبادر من الآية، أي أنهم يتواصون بعدم الإيمان، ويقولون: يمكن أن يدخل بعضنا في هذا الدين على سبيل الخدعة والمكر ثم يرتد في آخر النهار من أجل أن يزلزلهم وأن يشككهم، أما الإيمان الحقيقي والمتابعة فإن ذلك لا يكون إلا لمن كان على ديننا، أي إلا لمن كان من اليهود.
وقوله: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ [سورة آل عمران:73] هذه جملة اعتراضية -على الأرجح- من كلام الله ، وما بعدها يكون من بقية كلام اليهود، فيكون الكلام هكذا: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم.
ومن أهل العلم من يقول: إن ما بعدها متصل بها هكذا: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ [سورة آل عمران:73] فيكون من كلام الله .
والأقرب والله أعلم أنها جملة اعتراضية، وكلام أهل العلم في هذه الآية كثير، وهذه الآية أكثر الآيات في سورة آل عمران إشكالاً، وقد اختلفت فيها أقوال السلف وأقوال أهل الإعراب والمعاني، إضافةً إلى سائر المفسرين.
قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ [سورة آل عمران:73] أي: هو الذي يهدي قلوب المؤمنين إلى أتم الإيمان بما ينزله على عبده ورسوله محمد ﷺ من الآيات البينات والدلائل القاطعات والحجج الواضحات، وإن كتمتم أيها اليهود ما بأيدكم من صفة محمد النبي الأمي في كتبكم التي نقلتموها عن الأنبياء الأقدمين.
وقوله: أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ [سورة آل عمران:73] يقولون: لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين فيتعلموه منكم، ويساووكم فيه ويمتازوا به عليكم لشدة الإيمان به.
أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ أي: يتخذوه حجةً عليكم بما في أيديكم فتقوم به عليكم الدلالة وتتركب الحجة في الدنيا والآخرة.
قوله: أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ [سورة آل عمران:73] يعني يقولون: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، فإذا فسر ذلك بالإخبار كما قال ابن كثير: لا تؤمنوا أي: لا تطلعوهم على ما عندكم من الحقائق التي تدل على صدق ما جاء به النبي ﷺ، إذا فسر بذلك يكون معنى أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ كأنه يقول: كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، يعني ستستوون مع هؤلاء الأميين في العلم الذي خصكم الله به بما أنزل عليكم من كتب، وأرسل إليكم من رسل، أو بعث فيكم من أنبياء، أو يحاجوكم بهذه العلوم التي اختصكم الله بها وأطلعكم عليها إذا أظهرتموها لهم فيكون فيها حجة لهم عليكم.
وإذا فسر بأن المراد بقولهم: وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ [سورة آل عمران:73] أي الإيمان المعروف، يكون معنى أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أي أن تكون النبوة والرسالة في غيركم، وقد كانت في بني إسرائيل مدداً متطاولة، بل كل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- والرسل بعد إبراهيم ﷺ سوى إسماعيل كانوا في بني إسرائيل، وكان في الزمن الواحد يوجد عشرات الأنبياء، فبنو إسرائيل كان يسوسهم الأنبياء.
فالمقصود أنهم يقولون: إذا أقررتم لهؤلاء، أو أقررتم بنبوة محمد ﷺ فإن هذا يقتضي أن يساووكم في الفضل، أو يحاجوكم به عند ربكم، ولهذا قال بعده: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ [سورة آل عمران:73]، وكما قال الله في الآية الأخرى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا [سورة النساء:54]، فقوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ يعني يحسدون محمداً ﷺ أو يحسدون هؤلاء العرب على ما آتاهم الله من فضله.
ومن أهل العلم من يقول: إن قوله -تبارك وتعالى: أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ متعلق بمحذوف أي: فعلتم ذلك لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، يعني أن ما بكم من الحسد والبغي أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم، فيكون من تمام الجملة قوله: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ [سورة آل عمران:73]
وعلى هذا يكون كلام اليهود انتهى عند قوله تعالى: وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ [سورة آل عمران:73] بمعنى أن قوله: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ [سورة آل عمران:73] من كلام الله –تبارك وتعالى- ردّاً عليهم، أي أنه يقول لهم: لماذا تتواصون ألا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، فالفضل بيد الله وإنما فعلتم ذلك أو قلتم ما قلتم من أجل الحسد والبغي من أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب، فهذا هو الذي دعاكم إلى أن تقولوا ما قلتم.
وبعضهم يقول: قوله: أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ من تمام كلامهم، بمعنى أنهم يقولون: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهية أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم على أن قوله: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ جملة اعتراضية، ولعل هذا القول هو المتبادر والأقرب من ظاهر السياق، وهو الأقل تكلفاً، والله أعلم.
قوله: أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ [سورة آل عمران:73] بناءً على أن القضية تتصل بالمعلومات وإطلاع الأميين أو المسلمين على بعض ما في كتبهم تكون هذه الجملة أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ معطوفة على الجملة التي قبلها أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ والمعنى لا تطلعوهم على ذلك فيساووكم في الفضل أو يتخذوا ذلك حجةً عليكم.
وأما إذا فسر الإيمان بمعنى الإقرار والتصديق والإذعان في قوله: وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ [سورة آل عمران:73] فيمكن أن يكون بهذا معطوفاً على أَن يُؤْتَى أي: لا تؤمنوا إيماناً صحيحاً لغير أتباع دينكم؛ من أجل ألا يساووكم في الفضل ولا يعُد لكم مزية، ولئلا يتخذ المسلمون ذلك حجةً يحتجون بها عليكم.
لذلك لم يكن شيءٌ أشدَّ على اليهود من دخول بعض علمائهم في الإسلام مثل عبد الله بن سلام لأنهم يلزمون به ويصير ذلك حجة على إخوانهم حيث يقال لهم: هؤلاء من أتباعكم أقرَّوا وصدَّقوا بالرسول ﷺ وآمنوا به، فمن هنا هم يتواصون بهذا ويقولون: لا أحد يظهر منه الإيمان الحقيقي إلا أن يكون من باب التمثيل أو المكيدة؛ لئلا يستوي أحد معكم في الفضل أو يتخذ ذلك حجة عليكم.
وعلى كل حال مثل هذا القول قريب، وهو أقل الأقوال تكلفاً، وإلا فإن أقوال أهل العلم في الآية كثيرة جداً، ومن ذلك أن المحاجة في قوله: أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ يمكن أن تكون في الآخرة عند الله تعالى وهو ظاهر أيضاً، والله تعالى أعلم..
قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء [سورة آل عمران:73] أي الأمور كلها تحت تصرفه، وهو المعطي المانع، يمن على من يشاء بالإيمان والعلم والتصور التام، ويضل من يشاء فيعمي بصره وبصيرته، ويختم على قلبه وسمعه، ويجعل على بصره غشاوة، وله الحجة التامة والحكمة البالغة وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة آل عمران:73].
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [سورة آل عمران:74]، أي: اختصكم أيها المؤمنون من الفضل بما لا يُحدُّ ولا يوصف، بما شرف به نبيكم محمداً ﷺ على سائر الأنبياء، وهداكم به إلى أكمل الشرائع.
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران:75-76].
يخبر تعالى عن اليهود بأن فيهم الخونة، ويحذر المؤمنين من الاغترار بهم، فإن منهم من إن تأمنه بقنطار، أي من المال، يؤده إليك، أي وما دونه بطريق الأولى أن يؤديه إليك، وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا أي: بالمطالبة والملازمة والإلحاح في استخلاص حقك، وإذا كان هذا صنيعه في الدينار فما فوقه أولى أن لا يؤديه إليك، وقد تقدم الكلام على القنطار في أول السورة، وأما الدينار فمعروف.
وقوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أي: إنما حملهم على جحود الحق أنهم يقولون: ليس علينا في ديننا حرج في أكل أموال الأميين، وهم العرب، فإن الله قد أحلها لنا، قال الله تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي: وقد اختلقوا هذه المقالة، وائتفكوا بهذه الضلالة، فإن الله حرم عليهم أكل الأموال إلا بحقها، وإنما هم قوم بهت.
روى عبد الرزاق عن صعصعة بن يزيد أن رجلاً سأل ابن عباس، فقال: إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة، قال ابن عباس: فتقولون ماذا؟ قال: نقول: ليس علينا بذلك بأس، قال: هذا كما قال أهل الكتاب: ليس علينا في الأميين سبيل، إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم.
ثم قال تعالى: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى [سورة آل عمران:76] أي: لكن من أوفى بعهده واتقى منكم يا أهل الكتاب الذي عاهدكم الله عليه من الإيمان بمحمد ﷺ إذا بعث، كما أخذ العهد والميثاق على الأنبياء وأممهم بذلك، واتقى محارم الله تعالى، واتبع طاعته وشريعته التي بعث بها خاتم رسله وسيد البشر، فإن الله يحب المتقين.
في قوله تعالى: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى [سورة آل عمران:76]، يقول ابن كثير -رحمه الله: "أي لكن من أوفى بعهده واتقى منكم يا أهل الكتاب الذي عاهدكم الله عليه من الإيمان.. " إلى آخره.
ومن أهل العلم من يجعل قوله: بَلَى مفصولاً عما بعده، بمعنى بلى عليكم سبيل ما دمتم تقولون: ليس علينا في الأميين سبيل، ثم أتى بجملة استئنافية تقرر معنىً، وهو الثناء على الموفين بعهدهم والوعد الجميل لهم، مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران:76]، هذا احتمال، وإن كان ما ذكره ابن كثير -رحمه الله- هو المتبادر من ظاهر السياق، والله أعلم.
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة آل عمران:77].
يقول تعالى: إن الذين يعتاضون عما عاهدوا الله عليه من اتباع محمد ﷺ وذكر صفته للناس وبيان أمره، وعن أيمانهم الكاذبة الفاجرة، الآثمة بالأثمان القليلة الزهيدة، وهي عروض هذه الحياة الدنيا الفانية الزائلة، أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ أي: لا نصيب لهم فيها ولا حظَّ لهم منها.
وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أي: برحمة منه لهم، يعني لا يكلمهم كلام لطف بهم، ولا ينظر إليهم بعين الرحمة، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ أي: من الذنوب والأدناس، بل يأمر بهم إلى النار ولهم عذاب أليم.
لماذا قال هنا: "لا يكلمهم كلام لطف بهم" وقال: "ولا ينظر إليهم بعين الرحمة"؟
قال ذلك لأنه يكلمهم كلاماً فيه توبيخ لهم كما قال تعالى: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [سورة المؤمنون:108] فهذا تكليم لهم، لكن المقصود أنه لا يكلمهم كلام تكريم ولطف، فلهذا قيده، وكذلك قال: لا ينظر إليهم بعين الرحمة؛ لأن الله ينظر إلى خلقه أجمعين وهو مطلع عليهم وبصره نافذ فيهم، لكن النظر يطلق على معنىً خاص، وهذا هو المنفي هنا.
وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الآية الكريمة، فلنذكر بعضاً منها:
الحديث الأول:
روى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قلت: يا رسول الله، من هم خابوا وخسروا؟ قال: وأعاده رسول الله ﷺ ثلاث مرات قال: المسبل والمنفق سلعته بالحلف الكاذب والمنان[2] ورواه مسلم وأهل السنن.
الحديث الثاني:
روى الإمام أحمد عن عدي بن عميرة الكندي قال: خاصم رجل من كندة يقول له امرؤ القيس بن عابس، رجلاً من حضرموت إلى رسول الله ﷺ في أرض، فقضى على الحضرمي بالبينة، فلم يكن له بينة، فقضى على امرئ القيس باليمين، فقال الحضرمي: إن أمكنته من اليمين يا رسول الله ذهبتْ ورب الكعبة أرضي، فقال النبي ﷺ: من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أحد، لقي الله وهو عليه غضبان قال رجاء أحد رواته: وتلا رسول الله ﷺ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً [سورة آل عمران:77] فقال امرؤ القيس: ماذا لمن تركها يا رسول الله؟ فقال: الجنة قال: فاشهد أني قد تركتها له كلها [ورواه النسائي][3].
الحديث الثالث:
روى أحمد عن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان، فقال الأشعث: فيَّ والله كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض جحدني، فقدمته إلى رسول الله ﷺ، فقال لي رسول الله ﷺ: ألك بينة؟ ، قلت: لا. فقال لليهودي: احلف، فقلت: يا رسول الله إذن يحلفَ فيذهبَ مالي، فأنزل الله : إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً.. الآية [سورة آل عمران:77] [أخرجاه][4].
الحديث الرابع:
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، رجل منع ابن السبيل فضل ماء عنده، ورجل حلف على سلعة بعد العصر -يعني كاذباً- ورجل بايع إماماً فإن أعطاه وفّى له وإن لم يعطه لم يفِ له ورواه أبو داود والترمذي وقال الترمذي: حسن صحيح[5].
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة آل عمران:78].
يخبر تعالى عن اليهود -عليهم لعائن الله- أن منهم فريقاً يحرفون الكلم عن مواضعه، ويبدلون كلام الله، ويزيلونه عن المراد به، ليوهموا الجهلة أنه في كتاب الله كذلك، وينسبونه إلى الله وهو كذب على الله، وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كله، ولهذا قال الله تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة آل عمران:78]، وقال مجاهد والشعبي والحسن وقتادة والربيع بن أنس: يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ يحرفونه، وهكذا روى البخاري عن ابن عباس أنهم يحرفون ويزيدون.
يقول تعالى: يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ أصل اللّي هو الميل بمعنى التحريف، ويدخل فيه تحريف الألفاظ وتحرف المعاني.
هذا الأثر عن ابن عباس معناه أن التحريف إنما هو من جهة المعنى فقط؛ لأن التحريف لا يكون في الألفاظ، لأنهم لا يستطيعون ذلك، وهذا قول قال به بعض أهل العلم، في مسألة معروفة وهي هل الكتب التي حُرِّفت هل حرفوا ألفاظها أم أن المقصود بالتحريف هو تحريف المعاني؟
من أهل العلم من يقول هذا، ومنهم من يقول هذا، وابن عباس في هذا الأثر ذكر أنه يكون في المعاني بمعنى أنه يقع في تحريف تفسيرها،، وقد ذكر البخاري هذا الأثر تعليقاً وكأنه –رحمه الله- يرجح هذا، وبهذا لا يختص ذلك بأهل الكتاب، وإنما هو موجود أيضاً عند طوائف من هذه الأمة من المعتزلة والرافضة ونحوهم ممن حرفوا كتاب الله ، فكل منهم يحمله على غير معناه متبعاً للهوى، فهذا من التحريف، فالتحريف المعنوي لا يختص باليهود ولا بالنصارى بل هو موجود في هذه الأمة.
وبالنسبة للكلام في تحريف الألفاظ أخبر الله عن التوراة أن حفظها موكول إلى الأحبار والربانيين، قال الله : بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء [سورة المائدة:44] فهو سبحانه وكل حفظها إليهم، فكان ذلك فرقاً بينها وبين القرآن، فالقرآن تعهد الله بحفظه، وهذه وكلها إلى علمائهم فحرفت وبدلت، وبقي القرآن محفوظاً.
هذان قولان، وهناك قول ثالث، وهو أن التحريف إنما وقع في القراطيس التي كانوا يبدونها، كما قال الله : تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91] حيث كانوا يحرفون في تلك القراطيس التي يخرجونها للناس؛ إذ لم يكونوا يخرجون لهم أصل الكتاب، وإنما يخرجون لهم تلك القراطيس، وأما هذه الكتب فهي محفوظة لم تحرف.
وعلى كل حال هذا نوع من التحريف الذي وقعوا به، وهو كتابة تلك القراطيس والتبديل فيها، ووقعوا في التحريف من جهة المعاني، ويدل عليه ما جاء في قصية اليهودي واليهودية لما زنيا كانوا يحممونهم ويضعونهم على حمار... إلى آخره، فدعا النبي ﷺ بالتوراة، فكان الحبر قد وضع أصبعه على آية الزنا، وأخبر عن غير الحق الذي في كتابهم وأنه لا يوجد عندهم الرجم، فهذا كان من تحريف المعنى، ومن الكذب على الله ؛ إذ إن آية الرجم كانت مكتوبة، فلما قال عبد الله بن سلام : مره يا رسول الله فليرفع أصبعه، هناك ظهرت آية الرجم تلوح، فهذا مما يحتج به من يقول: إن التحريف كان في المعاني.
هذه ثلاثة أقوال معروفة لأهل العلم، والذي يظهر -والله أعلم- وهو الذي عليه كثير من أهل العلم سلفاً وخلفاً أن التحريف واقع في الألفاظ وفي المعاني، ويدل عليه الواقع من خلال التناقضات الموجودة في كتبهم والأناجيل المتعددة؛ إلا أن المخالف الذي يقول إن التحريف كان في المعنى يقول: نُسخ التوراة منتشرة في الآفاق ولو أن أحداً حرف فيها شيئاً لافتضح وظهر تحريفه.
لكن يقال: هذا خلاف الواقع، فالواقع يدل على أنها تحرف وتبدل وتغير ولا يتفطنون لها، لأنهم لا يحفظونها أصلاً، وإلا كيف ضاعت؟ وكذلك الإنجيل ما كتب كما هو معروف في التاريخ إلا بعد المسيح -عليه الصلاة والسلام- بمدة طويلة، وهي أناجيل كثيرة ومتعددة، والتحريف فيها لا شك فيه إطلاقاً، ففي كتبهم أشياء تشيب لها رءوس الولدان من نسبة الموبقات والفواحش للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- مما لا يجرؤ الإنسان على نقلها وحكايتها مما يقطع أنه كذب، وأنه ليس من عند الله .
ومن أهل العلم من بالغ في الطرف الآخر فقال: هذه الكتب كل ما فيها محرف، وبناءً عليه يجوز امتهانها، وهذا كلام غير صحيح، بل فيها أشياء كثيرة ليست محرفة وفيها أشياء محرفة، فلا يجوز امتهانها لما اشتملت عليه من كلام الله الذي لم يحرف، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- له كلام في هذا حيث يرى أن الذي حُرف من ألفاظها قليل وأن الغالب هو تحريف المعاني.
وعلى كل حال من أكثر ما يُحتج به اليوم على اليهود والنصارى عند مناظرتهم هو التناقضات الموجودة في كتبهم.
وهذه المسألة فيها كلام لأهل العلم، منهم الحافظ ابن حجر –رحمه الله- حيث يقول في الفتح:
"قوله: وليس أحد يزيل لفظ كتاب الله من كتب الله ، ولكنهم يحرفونه، يتأولونه عن غير تأويله، في رواية الكشميهني: يتأولونه على غير تأويله، قال شيخنا ابن الملقن في شرحه: هذا الذي قاله أحد القولين في تفسير هذه الآية وهو مختاره -أي البخاري- وقد صرح كثير من أصحابنا بأن اليهود والنصارى بدلوا التوراة والإنجيل، وفرعوا على ذلك جواز امتهان أوراقهما، وهو يخالف ما قاله البخاري هنا، انتهى.
وهو كالصريح في أن قوله: وليس أحد إلى آخره من كلام البخاري، ذيّل به تفسير ابن عباس، وهو يحتمل أن يكون بقية كلام ابن عباس في تفسير الآية، وقال بعض الشراح المتأخرين: اختلف في هذه المسألة على أقوال:
أحدها: أنها بدلت كلها وهو مقتضى القول المحكي بجواز الامتهان وهو إفراط، وينبغي حمل إطلاق من أطلقه على الأكثر وإلا فهي مكابرة، والآيات والأخبار كثيرة في أنه بقي منها أشياء كثيرة لم تبدل، من ذلك قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ الآية [سورة الأعراف:157]، ومن ذلك قصة رجم اليهوديين وفيه وجود آية الرجم، ويؤيده قوله تعالى: قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة آل عمران:93].
ثانيها: أن التبديل وقع، ولكن في معظمها، وأدلته كثيرة، وينبغي حمل الأول عليه.
ثالثها: وقع في اليسير منها، ومعظمها باق على حاله، ونصره الشيخ تقي الدين ابن تيمية في كتابه الرد الصحيح على من بدل دين المسيح.
رابعها: إنما وقع التبديل والتغيير في المعاني لا في الألفاظ، وهو المذكور هنا، وقد سئل ابن تيمية عن هذه المسألة مجرداً، فأجاب في فتاويه أن للعلماء في ذلك قولين واحتج للثاني من أوجه كثيرة منها قوله تعالى: لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ [سورة الأنعام:115] وهو معارض بقوله تعالى: فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ [سورة البقرة:181].
ولا يتعين الجمع بما ذكر من الحمل على اللفظ في النفي وعلى المعنى في الإثبات؛ لجواز الحمل في النفي على الحكم، وفي الإثبات على ما هو أعم من اللفظ والمعنى، ومنها أن نسخ التوراة في الشرق والغرب والجنوب والشمال لا يختلف، ومن المحال أن يقع التبديل فتتوارد النسخ بذلك على منهاج واحد".
طبعاً شيخ الإسلام لا يقرر هذا، ولكنه يورد أدلة من يقول: إن التحريف كان بالمعنى ويرد عليها.
"وهذا استدلال عجيب، لأنه إذا جاز وقوع التبديل، جاز إعدام المبدل، والنسخ الموجودة الآن هي التي استقر عليها الأمر عندهم عند التبديل والأخبار بذلك طافحة، أما فيما يتعلق بالتوراة فلأن بختنصَّر لما غزا بيت المقدس وأهل بني إسرائيل ومزقهم بين قتيل وأسير وأعدم كتبهم، حتى جاء عزيرٌ فأملاها عليهم، وأما فيما يتعلق بالإنجيل فإن الروم لما دخلوا في النصرانية جمع ملكهم أكابرهم على ما في الإنجيل الذي بأيديهم، وتحريفهم المعاني لا ينكر بل هو موجود عندهم بكثرة، وإنما النزاع هل حرفت الألفاظ أو لا؟ وقد وجد في الكتابين ما لا يجوز أن يكون بهذه الألفاظ من عند الله أصلاً.
وقد سرد أبو محمد بن حزم في كتابه الفصل في الملل والنحل أشياء كثيرة من هذا الجنس، من ذلك أنه ذكر أن في أول فصل في أول ورقة من توراة اليهود التي عند رهبانهم وقرائهم وعاناتهم وعيسويهم حيث كانوا في المشارق والمغارب لا يختلفون فيها على صفة واحدة، لو رام أحد أن يزيد فيها لفظة أو ينقص منها لفظة لافتضح عندهم متفقاً عليها عندهم إلى الأحبار الهارونية الذين كانوا قبل الخراب الثاني يذكرون أنها مبلغة من أولئك إلى عزرا الهاروني، وأن الله تعالى قال: لما أكل آدم من الشجرة، هذا آدم قد صار كواحد منا في معرفة الخير والشر، وأن السحرة عملوا لفرعون نظير ما أرسل عليهم من الدم والضفادع، وأنهم عجزوا عن البعوض، وأن ابنتي لوط بعد هلاك قومه ضاجعت كل منهما أباها بعد أن سقته الخمر، فوطئ كلاً منهما فحملتا منه، إلى غير ذلك من الأمور المنكرة المستبشعة، وذكر في مواضع أخرى أن التبديل وقع فيها إلى أن أعدمت، فأملاها عزرا المذكور على ما هي عليه الآن".
قوله: "فأملاها عزرا المذكور "، يعني عزير في القصة التي هي من الإسرائيليات، والتي يوردها بعض المفسرين عند تفسير قوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [سورة البقرة:259]، وحاصلها أنه مات منذ مدة طويلة جداً، ثم لما بُعث وجد اليهود ليس منهم أحد يحفظ التوراة فقرأها عليهم.
والخلاصة أن بعضهم يقول: إنه حصل تحريف فجاء عزير فأملى عليهم التوراة المحفوظة، وأن هذا هو الذي لا تختلف فيه النسخ الآن، لكن يقال: الواقع اليوم يدل على أن التحريف موجود.
ثم ساق أشياء من نص التوراة التي بأيديهم الآن، الكذب فيها ظاهر جداً، ثم قال: وبلغنا عن قوم من المسلمين ينكرون أن التوراة والإنجيل اللتين بأيدي اليهود والنصارى محرفَّان، والحامل لهم على ذلك قلة مبالاتهم بنصوص القرآن والسنة، وقد اشتملا على أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون، ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله، ويلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق وهم يعلمون.
ويقال لهؤلاء المنكرين: قد قال الله تعالى في صفة الصحابة: ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ إلى آخر السورة [سورة الفتح:29] وليس بأيدي اليهود والنصارى شيء من هذا، ويقال لمن ادعى أن نقلهم نقل متواتر: قد اتفقوا على أن لا ذكر لمحمد ﷺ في الكتابين، فإن صدقتموهم فيما بأيديهم لكونه نُقِل نقْل المتواتر فصدقوهم فيما زعموه أن لا ذكر لمحمد ﷺ ولا أصحابه.
هذا طريق في المجادلة، حيث يقولون: هؤلاء نقلوا التوراة نقلاً متواتراً فكيف يصح أن يقع التحريف في الألفاظ؟ فهو يرد عليهم فيقول: إذا كنتم تستدلون بهذه الطريقة، فإذاً هم يقولون: لا يوجد عندنا وصف النبي ﷺ في هذا الكتاب، فصدقوهم إذاً!! مع أن القرآن مصرح بأن صفته ﷺ مذكورة.
فإن صدقتموهم فيما بأيديهم لكونه نُقِل نقْل المتواتر فصدقوهم فيما زعموه ألا ذكر لمحمد ﷺ ولا أصحابه، وإلا فلا يجوز تصديق بعض وتكذيب بعض مع مجيئهما مجيئاً واحداً. انتهى كلامه وفيه فوائد.
وقال الشيخ بدر الدين الزركشي: اغتر بعض المتأخرين بهذا -يعني بما قال البخاري- فقال: إن في تحريف التوراة خلافاً، هل هو في اللفظ والمعنى أو في المعنى فقط؟ ومال إلى الثاني ورأى جواز مطالعتها، وهو قول باطل، ولا خلاف أنهم حرفوا وبدلوا، والاشتغال بنظرها وكتابتها لا يجوز بالإجماع.
وقد غضب ﷺ حين رأى مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة، وقال: لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي[6]، ولولا أنه معصية ما غضب فيه.
قلت: إن ثبت الإجماع فلا كلام فيه، وقد قيده بالاشتغال بكتابتها ونظرها، فإن أراد من يتشاغل بذلك دون غيره، فلا يحصل المطلوب، لأنه يفهم أنه لو تشاغل بذلك مع تشاغله بغيره جاز، وإن أراد مطلق التشاغل فهو محل النظر، وفي وصفه القول المذكور بالبطلان مع ما تقدم نظر أيضاً، فقد نسب لوهب بن منبه وهو من أعلم الناس بالتوراة، ونسب أيضاً لابن عباس ترجمان القرآن، وكان ينبغي له ترك الدفع بالصدر والتشاغل برد أدلة المخالف التي حكيتها.
يريد أن يقول: إن هذا ثابت عن ابن عباس ووهب بن منبه أنها لم تحرف ألفاظها، فلا حاجة أن يحمل على هذه المحامل، وأن يدعى الإجماع على ذلك.
نعم هي حرِّفت وبدلت لكن قصة عمر يمكن للمخالف أن يجيب عنها فيقول: النبي ﷺ أنكر عليه القراءة فيها والنظر فيها؛ لئلا يشتغلوا بشيء عن القرآن، وإلا فإن النبي ﷺ يقول: لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي، وموسى -عليه الصلاة والسلام- نبي الله ويوحى إليه ومع ذلك لا يسعه، فكيف بالتوراة ولو لم تكن قد حرفت؟! فقد جاء القرآن وهو ناسخ لها، فالنبي –عليه الصلاة والسلام- أنكر على عمر هذا الاشتغال والنظر فيها بصرف النظر عن كونها محرفة أو غير محرفة فإن هذا أمر آخر، والمقصود أنه يمكن أن يجاب بهذا.
الكلام السابق من كتاب فتح الباري لابن حجر في كتاب التوحيد – باب قول الله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ [سورة البروج:21-22] الجزء الثالث عشر، صفحة خمسمائة وخمسة وعشرين، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية - الجزء الثاني من الطبعة القديمة، صفحة مائة وسبعة وأربعين، بعنوان: تحريف أهل الكتاب وتبديلهم أديانهم.
قال الحافظ ابن كثير في كتابه البداية والنهاية:
تحريف أهل الكتاب وتبديلهم أديانهم
"أما اليهود فقد أنزل الله عليهم التوراة على يدي موسى بن عمران وكانت كما قال الله تعالى: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ [سورة الأنعام:154].
وقال تعالى: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91]، وقال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ [سورة الأنبياء:48]، وقال تعالى: وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الصافات:117-118].
وقال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [سورة المائدة:44].
فكانوا يحكمون بها وهم متمسكون بها برهة من الزمان، ثم شرعوا في تحريفها وتبديلها وتغييرها وتأويلها وإبداء ما ليس منها كما قال الله تعالى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة آل عمران:78]
فأخبر تعالى أنهم يفسرونها ويتأولونها ويضعونها على غير مواضعها، وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء وهو أنهم يتصرفون في معانيها ويحملونها على غير المراد، كما بدلوا حكم الرجم بالجلد والتحميم، مع بقاء لفظ الرجم فيها، وكما أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد مع أنهم مأمورون بإقامة الحد والقطع على الشريف والوضيع".
فأما تبديل ألفاظها فقال قائلون: إنها جميعها بدلت، وقال آخرون: لم تبدل، واحتجوا بقوله تعالى: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ [سورة المائدة:43] وقوله: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ... الآية [سورة الأعراف:157]، وبقوله: قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة آل عمران:93] وبقصة الرجم فإنهم كما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر، وفي صحيح مسلم عن البراء بن عازب وجابر بن عبد الله، وفي السنن عن أبي هريرة وغيره لما تحاكموا إلى رسول الله ﷺ في قصة اليهودي واليهودية اللذين زنيا فقال لهم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون، فأمرهم رسول الله ﷺ بإحضار التوراة فلما جاءوا بها وجعلوا يقرءونها ويكتمون آية الرجم التي فيها، ووضع عبد الله بن صور يده على آية الرجم وقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له رسول الله ﷺ: ارفع يدك يا أعور فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فأمر رسول الله ﷺ برجمهما وقال: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه[7].
وعند أبي داود أنهم لما جاءوا بها نزع الوسادة من تحته فوضعها تحتها وقال: آمنت بك وبمن أنزلك[8]، وذكر بعضهم أنه قام لها، ولم أقف على إسناده، والله أعلم.
وهذا كله يشكل على ما يقوله كثير من المتكلمين وغيرهم: إن التوراة انقطع تواترها في زمن بختنصر ولم يبق من يحفظها إلا العُزير، ثم العُزير إن كان نبياً فهو معصوم، والتواتر إلى المعصوم يكفي، اللهم إلا أن يقال: إنها لم تتواتر إليه، لكن بعده زكريا ويحيى وعيسى وكلهم كانوا متمسكين بالتوراة فلو لم تكن صحيحة معمولاً بها لما اعتمدوا عليها وهم أنبياء معصومون.
ثم قد قال الله تعالى فيما أنزل على رسوله محمد خاتم الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع الأنبياء- منكراً على اليهود في قصدهم الفاسد إذ عدلوا عما يعتقدون صحته عندهم وأنهم مأمورون به حتماً إلى التحاكم إلى رسول الله ﷺ وهم يعاندون ما جاء به لكن لما كان في زعمهم ما قد يوافقهم على ما ابتدعوه من الجلد والتحميم المصادم لما أمر الله به حتماً وقالوا: إن حكم لكم بالجلد والتحميم فاقبلوه.. إلى آخره.
وقال وهب بن منبه: إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى، لم يغيَّر منهما حرف ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل وكتبٍ كانوا يكتبونها من عند أنفسهم، وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ، فأما كتب الله فإنها محفوظة لا تحول [رواه ابن أبي حاتم].
فإن عنى وهب ما بأيديهم من ذلك فلا شك أنه قد دخلها التبديل والتحريف والزيادة والنقص، وأما تعريب ذلك المشاهَد بالعربية ففيه خطأ كبير وزيادات كثيرة ونقصان، ووهم فاحش.
نعم، هذا من جهة الترجمة، والترجمة هي بناءً على فهم المترجم، فهي تفسير في الواقع وليست ترجمة حرفية؛ لأن هذا لا يمكن، فليس الكلام في الترجمة، إنما الكلام في الأصول باللغات التي نزلت عليها هذه الكتب.
إذا جئنا بترجمات القرآن الكريم وقمنا بالمقارنة بينها فإننا سنجد التفاوت بينها، ومع ذلك لا يقال: إن حصول هذا التفاوت بين الترجمات يدل على وقوع التحريف في القرآن؛ لأن الترجمة هي من باب التفسير، لذلك لا بد لمن أراد أن يترجم إلى اللغات الأخرى أن يفهم ويرجح، فالمسألة ليست سهلة وإنما تحتاج إلى معرفة تامة باللغتين، وتحتاج أيضاً إلى علم بالتفسير، وللأسف فإن الذي يقع في أحسن أحوال المترجم الآن أنك تجده يعرف اللغتين معرفة جيدة، وأما المعاني فشيء آخر.
هذا على كلام وهب أي: إن عنى وهب ما بأيديهم من ذلك فلا شك أنه قد دخلها التبديل والتحريف والزيادة والنقص، وإما إن عنى كتب الله التي هي كتبه من عنده فهذا بعيد أن يكون مراداً لوهب أو لابن عباس؛ لأن المحرفين إنما يتسلطون على ما بأيديهم.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
- أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ – باب تفسير سورة آل عمران (2995) (ج 5 / ص 223) وأحمد (4088) (ج 1 / ص 429) والحاكم (3151) (ج 2 / ص 320) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2158) وهو في كتاب التفسير من سنن سعيد بن منصور.
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (106) (ج 1 / ص 102) وأبو داود في كتاب اللباس - باب ما جاء في إسبال الإزار (4089) (ج 4 / ص 100) وأحمد (21356) (ج 5 / ص 148) والترمذي في كتاب البيوع - باب ما جاء فيمن حلف على سلعة كاذبة (1211) (ج 3 / ص 516) والدارمي في كتاب البيوع - باب في اليمين الكاذبة (2605) (ج 2 / ص 345).
- أخرجه أحمد (17752) (ج 4 / ص 191) والنسائي في السنن الكبرى (5996) (ج 3 / ص 486) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح.
- أخرجه البخاري في كتاب الخصومات - باب كلام الخصوم بعضهم في بعض (2285) (ج 2 / ص 851) ومسلم في كتاب الإيمان - باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار (138) (ج 1 / ص 122).
- أخرجه البخاري في كتاب الشهادات - باب اليمين بعد العصر (2527) (ج 2 / ص 950) ومسلم في كتاب الإيمان - باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (108) (ج 1 / ص 103).
- أخرجه أحمد (15195) (ج 3 / ص 387) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف لضعف مجالد بن سعيد.
- أخرجه البخاري في كتاب المناقب - باب قول الله تعالى: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:146] (3436) (ج 3 / ص 1330) ومسلم في كتاب الحدود - باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى (1699) (ج 3 / ص 1326) وابن حبان (4435) (ج 10 / ص 280).
- أخرجه أبو داود في كتاب الحدود - باب في رجم اليهوديين (4451) (ج 4 / ص 264) وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (4449).