بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى:
قال أبو جعفر بن جرير –رحمه الله- عن نعيم المجمر أخبرني صهيب مولى العُتْواري أنه سمع أبا هريرة وأبا سعيد –ا- يقولان: خطبنا رسول الله ﷺ يومًا، فقال: والذي نفسي بيده -ثلاث مرات- ثم أكب فأكب كل رجل منا يبكي لا ندري ماذا حلف عليه، ثم رفع رأسه وفي وجهه البشر، فكان أحب إلينا من حمر النعم، فقال: ما من عبد يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويخرج الزكاة، ويجتنب الكبائر السبع، إلا فتحت له أبواب الجنة، ثم قيل له: ادخل بسلام وهكذا رواه النسائي والحاكم في مستدركه من حديث الليث بن سعد به، ورواه الحاكم أيضًا وابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال به ثم قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه[1].
(تفسير هذه السبع) وذلك بما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: اجتنبوا السبع الموبقات قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات[2].
حديث آخر فيه ذكر شهادة الزور: روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: ذكر رسول الله ﷺ الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال: الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قال: قول الزور أو شهادة الزور قال شعبة: أكبر ظني أنه قال: شهادة الزور [أخرجاه من حديث شعبة به][3].
حديث آخر أخرجه الشيخان من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: قال النبي ﷺ: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وكان متكئًا فجلس فقال: ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت[4].
حديث آخر فيه ذكر قتل الولد، وهو ثابت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ -وفي رواية: أكبر- قال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك ثم قرأ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [سورة الفرقان:68] إلى قوله: إِلَّا مَن تَابَ [سورة الفرقان:70].
حديث آخر عن عبد الله بن عمرو -ا- وفيه ذكر اليمين الغموس:
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ أنه قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين أو قتل النفس -شعبة الشاك- واليمين الغموس [رواه البخاري والترمذي والنسائي][5].
حديث آخر: عن عبد الله بن عمرو -ا- في التسبب إلى شتم الوالدين: عن عبد الله ابن عمرو -ا- قال: قال رسول الله ﷺ: إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قالوا: وكيف يلعن الرجل والديه؟! قال: يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه وهكذا رواه مسلم وقال الترمذي: صحيح[6].
وثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر[7].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه الأحاديث وغيرها مما صح عن رسول الله ﷺ في ذكر الذنوب الكبار، كل ذلك يدخل في قوله -تبارك وتعالى: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [سورة النساء:31].
فالكبائر كما قال ابن عباس -ا: إنها إلى السبعين أقرب، يعني منها إلى السبع، والنبي ﷺ حينما يقول: اجتنبوا السبع الموبقات[8] فهذا لا يدل على الحصر بحال من الأحوال، لا من جهة اللغة ولا من جهة الشرع.
والكبائر لا شك أنها تتفاوت كما أن الذنوب عمومًا تتفاوت، والجنس الواحد أيضًا من هذه الكبائر يتفاوت، فالإشراك بالله -تبارك وتعالى- ليس كالسرقة مثلًا أو عقوق الوالدين، والزنا بحليلة الجار ليس كالزنا بالبعيدة، والزنا بذات المحرم ليس كالزنا بحليلة الجار، مع أن الزنا بذات المحرم ما ذكر، وإنما ذكر الزنا بحليلة الجار؛ لأن الزنا بذات المحرم –والله أعلم- أمر تأباه الفطر ويتباعد منه الإنسان غاية التباعد، ولا يوجد داعيه في النفوس إلا إذا مسخ الإنسان مسخًا كاملًا وصار لا يفرق بين ذات المحرم والأجنبية، بخلاف حليلة الجار فإن الفرصة قد تكون مواتية للتداخل بين الجيران والحاجة والمعرفة، وهو يعرف حال جاره من ضعف وقوة وعجز وسداد رأي وضعف في ذلك، ويعرف مدخله ومخرجه وغيابه، وما إلى ذلك، فهذا أدعى إلى ذلك.
فالحاصل أن ما لم يذكره النبي ﷺ في السبع الموبقات أو في غيرها مما يساويها أو مما هو أعظم منها فإنه داخل في الموبقات، فالنبي ﷺ مثلًا ذكر الفرار يوم الزحف من السبع الموبقات، وأعظم من الفرار أن يفشي أسرار المجاهدين وأن يدل عليهم العدو ويخبر عن أماكنهم ونقاط ضعفهم وما أشبه هذا، فهذا أعظم من الفرار؛ لأن الفار يفر بجلده لغلبة الخوف فقد لا يتمالك أقدامه في أرض المعركة فيولي منهزمًا، لكن الآخر خطره أعظم من هذا بكثير، فهذا أعظم من الفرار يوم الزحف كما ذكر ذلك بعض أهل العلم.
فالمقصود أن الذنوب العظام مما ذكر ومما يضاهيه أو يزيد عليه مما لم يذكر كله داخل في الكبائر، وكذلك كل ما جاء الوعيد فيه بخصوصه أو التنصيص على أنه من الكبائر، أو أنه من الموبقات أو نحو هذا ولو كان فاشيًا وتساهل الناس فيه كعقوق الوالدين وقول الزور ونحو ذلك.
وقول الزور يدخل فيه الكذب على الله ، والتلبيس على الناس، وتبديل حقائق الشرع، وتضليل الخلق، كل هذا من قول الزور ومن أعظم الزور، ويدخل في الزور أشياء كثيرة جدًا منها شهادة الزور، لكن شهادة الزور يضيع بها حق واحد، وأما الذي يخرج في قنوات ويضلل الناس ويكذب على الله ويفتري فهذا أعظم من واحد يأتي للمحكمة ويشهد شهادة زور أن فلان هو ابن فلان، أو أن فلان هو صاحب الأرض الفلانية.
المقصود أن هذه الأشياء في الجنس الواحد منها يتفاوت أفرادها غاية التفاوت، وانتشار هذا لا يؤثر في تقليله أو تصغير الذنب والمعصية، وإن كان أكثر الخلق يقعون في هذا، ومن ذلك العقوق، وأخص عقوق الوالدين؛ لأنه يقع فيه للأسف كثير من المتدينين وغير المتدينين وطلاب العلم.
والعقوق في نفسه أنواع أعلاه القتل ويليه الضرب ويليه الشتم، ثم يأتي بعد ذلك درجات كنفض اليد في وجهه والتقطيب والعبوس والزجر وإخراج الكلمات القوية من نفس محتدمة تبدي الضجر والضيق، كل هذا عقوق، وهو من أكبر الكبائر، ومن الكبائر المنتشرة بين الناس الغيبة، وقلَّ من يسلم منها مع أنها من الكبائر.
وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [سورة النساء:32].
روى الإمام أحمد عن أم سلمة -ا- قالت: يا رسول الله، يغزو الرجال ولا نغزو ولنا نصف الميراث، فأنزل: وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ورواه الترمذي[9].
قوله: وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [سورة النساء:32] يؤخذ من عموم اللفظ أن ذلك المنع يدخل فيه كل ألوان التمني التي لا يحصل بها المقصود والمطلوب، ولا ينتج بها وإنما تكون من قبيل الأماني الفارغة الضارة مما يقع بين الناس عمومًا، وليس بين الرجال والنساء فقط، فيتمنى هذا أن يكون في عافية فلان، أو في سؤدده أو يكون له مثل مال فلان، أو نحو ذلك مما لا يوصله التمني فيه إلى المطلوب، وإنما كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- هي أماني البطَّالين، أي أنه لا يعمل عملًا منتجًا ولا يجدّ ولا يجتهد وإنما بضاعته الأماني، فالله قسم الأرزاق وقسم معها ما قسم مما يعطيه الله بعض خلقه من أمور كمحبة الناس أو ما أشبه ذلك مما يقسمه الله -تبارك وتعالى- بين الخلائق، فلا يشتغل الإنسان بالأماني.
وهذا الذي ذكرته مأخوذ من عموم اللفظ، وإلا فإن الذي يدخل في الآية دخولًا أوليًا هو تمني النساء مراتب الرجال؛ لأنه قال: لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ [سورة النساء:32] فالآية في هذا، وقد يوجد العكس عند بعض من انتكست فطرته، أو يتمنى في بعض الجوانب على الأقل حال النساء كأن يميل إلى الكسل والدعة والضعف ويتمنى أن يكون مثل المرأة يُضمن له النفقة ولا يطالب بعمل، ويُنفِق عليه طرف آخر مثلًا.
فالمقصود أن الغالب هو أن النساء يتمنين مراتب الرجال وأحوال الرجال في أي باب من الأبواب؛ كأن تتمنى أن تكون لها القوامة أو لها الحرية كالرجل في الذهاب والمجيء وما إلى ذلك، بحيث لا تحتاج إلى وصي ولا إلى ولي، وأن تسافر حيث شاءت ولا تسأل، وربما تتمنى أن تكون مثل الرجل في قضاء حاجاتها وأوطارها ولا تنتظر أحدًا يذهب بها، وتتمنى أن تكون كالرجل فتعمل في الأعمال الفلانية التي يعمل بها الرجل.
كذلك ربما تتمنى ذلك لأمر عند الله ترجوه من الثواب كأن تتمنى أن تكون رجلًا أو مثل الرجل لتحصل الأعمال الفاضلة كالجهاد في سبيل الله أو تحصيل الولايات أو ما إلى هذا مما يختص به الرجال، فهذا التمني لا يجدي شيئًا، ولن يغير من الحال لا قليلا ًولا كثيرًا، فهو من الأماني الباطلة، والعاقل لا يشتغل بالأماني الباطلة وإنما يشتغل بالعمل المثمر الذي ينفعه في عاجل أمره أو في آجله، فالله فضل الرجل بقوة البدن مثلًا وبكمال العقل، وفضله بالقوامة، وفضله بأنه هو الذي يذهب ويكتسب وما إلى ذلك من الأمور التي تقتضيه طبيعة الرجل، وفضله في بعض القضايا الشرعية كحضور الجمع والجماعات وشهود الجهاد في سبيل الله -تبارك وتعالى- فإذا تمنت المرأة مثل هذه الأشياء وُجهت إلى الاشتغال بما ينفعها كما قال تعالى: وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ [سورة النساء:32] والله تعالى أعلم.
إذا قلنا: إن المراد بذلك الميراث مثلًا فالمعنى أن المرأة تتمنى أن تكون مثل الرجل في الميراث لكن الآية لا تُخص بهذا؛ لأن المعنى أعم من ذلك، أي لا تتمنوا ما فضل به بعضكم على بعض في كلِّ شيء، وتمني المرأة أن تكون مساوية للرجل في الميراث هذا مثال وليس هو فحسب؛ لأن قوله تعالى: لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ [سورة النساء:32] يعني من الأعمال.
ثم إن سبب النزول يدل على هذا، وحديث أم سلمة -ا- لما سألت النبي ﷺ هذا السؤال نزل فيه آيات، وليس فقط هذه الآية، نزل فيه ثلاث آيات في ذكر النساء، وهذا مثال على السبب الواحد الذي يكون النازل فيه متعددًا، أي تنزل آيات متعددة لسبب واحد، فأم سلمة -ا- سألت النبي ﷺ: يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو ولنا نصف الميراث؟ فأنزل الله: وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ [سورة النساء:32] فذكرت قضية الغزو مما يتعلق به الثواب، وذكرت الميراث مما لا يتعلق به الثواب وإنما هو شيء قسمه الله وحكم به، وقال: وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [سورة النساء:32] فيحمل على ذلك جميعًا وسبب النزول يدل عليه.
والمقصود أن سبب النزول هنا يدل على التعميم مع أن الغالب أن سبب النزول يتعلق بجزئية معينة، ونقول عندها: العبرة بعموم اللفظ والمعنى لا بخصوص السبب، وهنا سبب نزول يؤخذ منه أن القضية أعم من هذا.
فقوله: وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضََكُمْ عَلَى بَعْضٍ [سورة النساء:32] أي مما حكم الله به من أمور تختص بالرجل: كالميراث، أو قضايا أخرى: كحضور الجمع والجماعات والجهاد والولايات وما أشبه هذا، أو أمور جِبلِّيَّة مثل: قوة الخلقة وكمال العقل مما يعرف بالتفضيل الوهبي، فتفضيل الرجل يكون وهبيًا ويكون كسبيًا.
والمقصود بالتفضيل الوهبي أي الذي لا يد له فيه، ككمال العقل وكمال وقوة البدن، والتفضيل الكسبي هذا أمر آخر، فالرجل فُضِّل بهذا وفضل بهذا، فعنده من القدر والإمكانات ما ليس عند المرأة، فهي منهية أن تتمنى مثل هذا، فالرجال لهم نصيب مما اكتسبوا سواء كان ذلك من الميراث أو كان ذلك من العمل الذي يعملونه ويتقربون به إلى الله ويحصلون ثوابه، والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا كما قال سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [سورة النحل:97] وقال تعالى: أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ [سورة آل عمران:195].
يعني لو أن المرأة صرفت ذهنها بدلًا من أن تتمنى الأماني الفارغة إلى سؤال الله من فضله فقد يهبها من الفضائل ما لا يحصل لكثير من الرجال، وذلك أنك إذا نظرت في حال بعض النساء تجدها أفضل من كثير من الرجال في قربها إلى الله وانتفاعها بالقرآن، وانتفاعها بالعلم، وفي بذلها بل حتى في رأيها وسداد قولها وحكمها، كما يحصل لها من التفضيل على الرجل في أمور مما يتعلق بالمكاسب، وما يحصل لها من المال، وما يحصل لها من أمور كثيرة لا تخفى، فالله هو الوهاب.
وحينما يقال: إن الرجال أكمل من النساء وإن الرجال أفضل من حيث ما يقومون به من الأعمال فهذا في الجنس ولا يمنع هذا من أن يوجد بعض الأفراد ممن تكون امرأته أفضل منه وأسدَّ رأيًا، وهي التي تدبره بل هو معها كالطفل، وربما كان هذا كثيرًا في هذا العصر حيث صار كثير من الرجال تبعًا لنسائهم، فهي التي تقرر وهي التي تخطط وهي التي تنفق أحيانًا، وهو ليس عليه إلا شيء واحد وربما يغلب حتى في هذا.
قوله: إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ليس فقط في من يستحق الغنى والفقر، بل القضية المناسبة هنا في الآية أنه يعلم ما يصلح الرجل وما يصلح المرأة، وما يصلح للرجل، وما يصلح للمرأة، فحينما قسم هذه الأشياء الوهبية أو التي تكون من قبيل العمل المشروع أو نحو ذلك فإن الله -تبارك وتعالى- قسمه وحكم به وأعطاه عن علم تام بما يصلح هذا وهذا، والواقع يشهد على ذلك.
والناس لما وصلوا إلى المدى الأقصى في هذا العصر في إخراج المرأة وجعلها تعمل في كل مجال من المجالات أصبحوا الآن يدركون أنهم قد أخطئوا وأن المرأة لا تصلح لكثير من هذا، وأن مقر المرأة ومكانها بيتها، ولكن الناس إذا دخلوا في طريق واسترسلوا واستمرءوا فيه، قد يصعب عليهم الرجوع، فيصبح الناس من طبيعة نظام حياتهم وتكوينهم وأنماط سلوكهم أن المرأة تخرج، ولو أنه أريد لها أن ترجع مرة ثانية لحصل لهم بسبب ذلك خلل كبير؛ لأن نفوسهم قد تروضت عليه، وساروا في طريق لا يستطيعون الرجوع منه.
الشيخ أحمد شاكر في مصر كتب كتابات قال فيها: لن يصلح أمر المرأة إلا بإرجاعها إلى بيتها لكنها كلمة تتلاشى، وهي كلمة حق ولا شك لكن الناس إذا ساروا في طريق فإنه يصعب رجوعهم، فتجد الرجل لا يستطيع أن يسيطر على بيته فيذهب لأشياء هو غير مقتنع بها كأن تواصل المرأة دراستها الثانوية والجامعة، وربما ما بعد الجامعة ثم تتوظف؛ لأن المجتمع يسير هكذا، فإذا أبقاها شعرت بأنها دون الآخرين وأنها محرومة، وأن الناس ينظرون إليها بنظر آخر، فتجد الناس يتجهون بهذا الاتجاه ولو كان يخالف قناعاتهم، ثم تأتي أجيال ترى أن هذا هو الوضع الطبيعي ولا قوامة للعيش إلا به، ومن ثم يكون الرجوع من أصعب الأشياء، بل ربما عده كثير منهم من قبيل المستحيلات، لذلك كان الدفع أسهل من الرفع وسد الأبواب لطرد الشر هو الواجب وهو المطلوب قبل أن يدخل الناس فيما لا يستطيعون الرجوع منه بعد ذلك.
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا [سورة النساء:33].
قال ابن عباس -ا- ومجاهد، وسعيد بن جُبَير وأبو صالح وقتادة وزيد بن أسلم والسدي والضحاك ومقاتل بن حيان وغيرهم في قوله: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ أي: ورثة.
وعن ابن عباس -ا- في رواية: أي عَصَبة. قال ابن جرير: والعرب تسمي ابن العم مولى.
المولى يطلق بإطلاقات متعددة، فيطلق على المعتِق كما يقال: الموالي الأعلون يعني المعتقين، ويطلق على المعتَق ويقال له: المولى الأدنى، ويطلق أيضًا على الحليف والناصر وتقول: فلان نسب إلى آل فلان بالولاء.
والنبي ﷺ كان يؤاخي مثلًا بين الأنصار والمهاجرين فهذا نوع ولاء خاص، ولهذا قال الله بعده: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [سورة النساء:33] أي الحليف ونحوه، فمن كان بينك وبينه عهد وحلف أو مؤاخاة فهو من هذا القبيل.
لكن في قوله تعالى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ [سورة النساء:33] قال ابن عباس وغيره: أي ورثة، وهذا كقوله تعالى: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي [سورة مريم:5] على القول المشهور أن المراد بذلك الورثة.
وعن ابن عباس في رواية: أي العصبة، والعصبة هم من جملة الورثة، والعصبة كأنه مأخوذ من عصبة الرأس، ويراد بهم قرابة الرجل من جهة أبيه ومن الرجال الذين هم كل من يرث من غير تقدير، فقد يكون له فرض لكنه يرث مع الفرض ما بقي من التركة، مثل الأب، والابن، والعم والأخ وما أشبه ذلك، فهؤلاء عصبة.
قوله: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [سورة النساء:33] على القول بأن المراد بالموالي هنا العصبات يكون المعنى: لكل جعلنا عصبة يرثون ما أبقت الفرائض، فإذا مات الرجل مثلًا عن أم وزوجة وأب وإخوة، فإن الأم لها السدس، والزوجة لها الربع إن لم يكن له ولد، وما بقي فلأولى رجل ذكر، وهو الأب هنا.
وهكذا لو مات الإنسان عن ابن وأم وزوجة فالأم لها السدس إن كان له أخوة، والزوجة يكون لها الثمن لوجود الولد، والولد له الباقي تعصيبًا.
قال: ويعني بقوله: مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [سورة النساء:33] من تركة والديه وأقربيه من الميراث، فتأويل الكلام: ولكلِّكم -أيها الناس- جعلنا عصبة يرثون به.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [سورة النساء:33] أي: والذين تحالفتم بالأيمان المؤكدة -أنتم وهم- فآتوهم نصيبهم من الميراث كما وعدتموهم في الأيمان المغلظة، إن الله شاهد بينكم في تلك العهود والمعاقدات، وقد كان هذا في ابتداء الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك.
بعض أهل العلم يقول: إن هذا كان في الجاهلية، ولهذا قال النبي ﷺ في تلك الأحلاف والعهود التي كانت في الجاهلية: إنه لا يزيدها الإسلام إلا توثيقًا، وقال: لا حلف في الإسلام[10] فعلى هذا هل يقال هذا في أحلاف الجاهلية، أو يقال في المؤاخاة التي كانت في أول الإسلام حيث كان النبي ﷺ يؤاخي بين الرجلين من المهاجرين والأنصار وكانوا يتوارثون بذلك؟
على هذا أو على الأول يمكن أن تكون الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة الأحزاب: وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ [سورة الأحزاب:6] أي بما يقع بينهم من المؤاخاة التي يتوارثون فيها من المؤمنين والمهاجرين إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا [سورة الأحزاب:6] وذلك بأن توصي لمن بينك وبينه مؤاخاة بشيء من أملاكك ومن النصيحة التي هي من جملة المعروف، أما الميراث فيكون بين القرابات كما شرع الله .
وقوله -تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [سورة النساء:33] من أهل العلم من يقول: إن الآية ليست منسوخة، وإن المقصود بها أنهم كانوا في الجاهلية يحصل بينهم هذا التعاقد فالله قال: آتوهم نصيبهم من النصيحة، ويمكن أن توصي له بشيء دون الميراث، فيكون ذلك تشريعًا جديدًا يرفع ما كان الناس يتعاطونه ويتعاملون به في جاهليتهم.
المقصود أن يوفوا بأنواع البر والإحسان الأخرى، دون الميراث.
روى البخاري عن ابن عباس -ا: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ [سورة النساء:33] قال: ورثة.
وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ [سورة النساء:33] كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوّة التي آخى النبي ﷺ بينهم، فلما نزلت وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ نُسخت.
ثم قال: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [سورة النساء:33] من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويُوصي له.
على كل حال الجمهور يقولون: إن الآية منسوخة بآية الأحزاب: وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [سورة الأحزاب:6] فقد كانوا يتوارثون بالمؤاخاة.
ومثل ابن جرير -رحمه الله- يحمل ذلك على ما كانوا في الجاهلية يتعاقدون به بحيث إنه يتفق مع إنسان أنه يرثه إذا مات والعكس، أي يكون بينهم حلف وتعاهد على التآزر والتناصر وأن يتوارثا، فابن جرير -رحمه الله- يقول: إن هذه الآية دلت على أن هؤلاء يُعطَون نصيبهم من غير الميراث فلا نسخ، وإنما هي رافعة لأمر كانوا عليه في الجاهلية وهذا لا يعتبر نسخًا وإنما هو حكم جديد.
وعلى كل حال الآية تحتمل هذا كله، والعلم عند الله لكن الأصل المقرر الذي لا يختلف فيه هو أنه لا يتوارث الناس بغير ما ذكر الله وفصله في آيات المواريث، وما يتبع ذلك ويحتف به مما هو معروف مثل التوارث بالولاء، يعني أن المعتِق يرث المعتَق في حالات خاصة وهي إذا لم يوجد وارث.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
- أخرجه النسائي في كتاب الزكاة - باب وجوب الزكاة (2438) (ج 5 / ص 8) وابن حبان (1748) (ج 5 / ص 43) والحكم (719) (ج 1 / ص 316) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (6110).
- أخرجه البخاري في كتاب الوصايا - باب قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [سورة النساء:10] (2615) (ج 3 / ص 1017) ومسلم في كتاب الإيمان - باب بيان الكبائر وأكبرها (89) (ج 1 / ص 92).
- أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب عقوق الوالدين من الكبائر (5632) (ج 5 / ص 2230) ومسلم في كتاب الإيمان - باب بيان الكبائر وأكبرها (88) (ج 1 / ص 91).
- أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب عقوق الوالدين من الكبائر (5631) (ج 5 / ص 2229) ومسلم في كتاب الإيمان - باب بيان الكبائر وأكبرها (87) (ج 1 / ص 91).
- أخرجه البخاري في كتاب الديات - باب قول الله تعالى: وَمَنْ أَحْيَاهَا [سورة المائدة:32] (6476) (ج 6 / ص 2519) والترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ – باب تفسير سورة النساء (3020) (ج 5 / ص 236) والنسائي في كتاب تحريم الدم - باب ذكر الكبائر (4011) (ج 7 / ص 89).
- أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب لا يسب الرجل والديه (5628) (ج 5 / ص 2228) ومسلم في كتاب الإيمان - باب بيان الكبائر وأكبرها (90) (ج 1 / ص 92).
- أخرجه البخاري في كتاب الإيمان - باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر (48) (ج 1 / ص 27) ومسلم في كتاب الإيمان - باب بيان قول النبي ﷺ: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر (64) (ج 1 / ص 81).
- سبق تخريجه في الحاشية رقم (2).
- أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ – باب تفسير سورة النساء (3022) (ج 5 / ص 237) وأحمد (26779) (ج 6 / ص 322) وقال الألباني: صحيح الإسناد، انظر كتاب صحيح الترمذي حديث رقم (3022).
- أخرجه البخاري في كتاب الكفالة - باب قول الله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [سورة النساء:33] (2172) (ج 2 / ص 803) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة - باب مؤاخاة النبي ﷺ بين أصحابه (2529) (ج 4 / ص 1960).