بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا [سورة النساء:6].
ينهى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها الله للناس قياماً، أي: تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها، ومن هاهنا يؤخذ الحجر على السفهاء، وهم أقسام:
فتارة يكون الحجر للصغر فإن الصغير مسلوب العبارة، وتارة يكون الحجر للجنون، وتارة لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين، وتارة يكون الحجر للفلس: وهو ما إذا أحاطت الديون برجل وضاق ماله عن وفائها، فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه حجر عليه.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإن السفيه: هو من لا يحسن التصرف في القضايا المالية، والسفه صفة تلحق الصغير والكبير سواء، إلا أنها في الصغير أعظم؛ لأنه مظنة لذلك، وبعض أهل العلم يرى بأن الكبير لا يحجر عليه إذا كان المانع سوء تصرفه، والصواب خلافه.
وأما قوله سبحانه: أَمْوَالَكُمُ فيحتمل معنيين:
الأول: وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ أي: التي تملكونها خشية أن يفسدوها ويضيعوها ويعبثوا بها فتبقوا بعدها في حال تلجئون بسببها إلى الناس.
الثاني: وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ أي: أموال اليتامى، وأن السفهاء هم اليتامى الصغار، وإنما نسبت إلى الأوصياء من باب أن الأموال التي يحصل بها التعاطي والانتفاع والقيام بشئون الناس هي من جنس واحد يملكه الناس، أو باعتبار أنهم الناظرون عليها والمتصرفون بها في مصالح اليتيم، أو باعتبار معاملة الجميع معاملة الواحد أو النفس الواحدة كما قال الله : وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ [سورة البقرة:188] أي: لا يأكل بعضكم مال بعض.
وقوله سبحانه: فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:54] أي: فليقتل بعضكم بعضاً، وقوله: ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:85] أي: تقتلون إخوانكم، والمعنى وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ يعني التي جعلها الله في أيديكم، وهي ملك لهم تتصرفون بها في مصالحهم. وقرينة هذا القول: أن سياق الآية يتحدث عن أموال اليتامى وحقوقهم والقيام على شئونهم وعدم ظلمهم فناسب أن يكون هذا هو المعنى، والله أعلم بالصواب.
قوله سبحانه: الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً ذكر أهل اللغة أن في كلمة قِيَاماً ثلاث لغات وهي: قياماً وقيماً وقواماً.
فأما قيماً فهي قراءة سبعية متواترة، وأما قواماً فلم يثبت فيها التواتر وإنما نسبت لعبد الله بن عمر بن الخطاب ، ومعنى هذه اللغات واحد على الأرجح، وهو ما تقوم معايشكم به، ومعلوم أن المال هو عصب الحياة، ومن الضرورات الخمس، ولا قوام لحياة الناس إلا به، وإذاً فقد صارت حياة الناس إلى تهارج.
ويرى ابن جرير الطبري -رحمه الله- أن معنى قوله سبحانه: الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً أي: جعلها لكم ولهم قياماً لكون هذه الأموال أموال اليتامى، وأن المخاطب بالآية الوصي عليهم، وقيل غير هذا.
والأقرب ما ذكر أن معاني هذه اللغات الثلاث واحدة، أي: ما تقوم بها معايشكم وأموركم وما أشبه هذا من المعاني، والله أعلم.
والإمام مالك -رحمه الله- يقول: السفهاء هم الأولاد الصغار، وما روي عن ابن عباس والضحاك ومجاهد وعكرمة وقتادة أن المقصود بالسفهاء في الآية النساء وبعضهم ذكر الصبيان، فهذا محمول على أن الرجل لا يضع ما ملّكه الله من المال تحت تصرف النساء؛ وعلة ذلك أن النساء غالباً ما يتصرفن فيه على سبيل التوسع في أمور لا تدعو إليها الحاجة، وليس المقصود أن المرأة سفيهة بمعنى السفه الذي يوجب الحجر عليها، بل إن المرأة في الشرع لها الحق أن تتصرف بمالها إذا بلغت وعلم حسن تصرفها فيه، وكذا اليتيم إذا بلغ سن الرشد وحسن تصرفه في المال فإنه يعطى ماله بلا فرق بين الذكر والأنثى.
ورأى النحاس أن السفهاء في الآية ليس المقصود بهم النساء، وذلك لأن النساء لا تجمع على سفهاء، وإنما تجمع على سفيهات وسفائه، لكن هذا من حيث اللغة لا إشكال فيه؛ لأنه عبر بالذكور من باب التغليب.
والصواب أن قوله سبحانه: وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ عام يصدق على كل من لا يحسن التصرف في المال فإنه يحجر عليه ولا يعطى المال.
وعلى المعنى الآخر لا تجعل المال في أيدي من تقومون عليهم من الأيتام ونحوهم فيضيعونه.
القول المعروف ورد في الآية على صيغة لا يفهم منها التخصيص، مما يستوجب على العبد القول الحسن عموماً، فيدخل فيه كل قول حسن طيب من دعاء وما إلى ذلك، وقد جاء الأمر بالقول المعروف في مواضع عدة من كتاب الله كما قال سبحانه لبني إسرائيل: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً [سورة البقرة:83] وهذا في عموم التعامل مع الناس، وأولى الناس بالمعاملة الحسنة والكلام الطيب أقرباء العبد كالزوج والزوجة والأب والأم والإخوان والأرحام...
وفي المحتاجين يقول سبحانه: قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى [سورة البقرة:263] والقول المعروف أي الكلام الطيب، ولما قال الله في سورة الإسراء: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [سورة الإسراء:27]، قال بعدها: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا [سورة الإسراء:28]، والمعنى: إن لم تجد ما تعطيهم من فتات الدنيا فلا أقل من أن تسمعهم قَوْلاً مَّيْسُورًا.
وأحسَنَ مَن قال:
إلا يكن ورق يوماً أجود بها | للسائلين فإني لين العود |
لن يعدم السائلون الخير من خلقي | إما نوالي وإما حسن مردودي |
وقوله تعالى: وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى [سورة النساء:6]، قال ابن عباس –ا- ومجاهد والحسن والسدي ومقاتل بن حيان أي: اختبروهم.
حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ قال مجاهد: يعني الحلم، قال الجمهور من العلماء: البلوغ في الغلام تارة يكون بالحلم، وهو أن يرى في منامه ما ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد.
وهذه الآية تفسرها الآية الأخرى وهي قوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ [سورة النــور:59]، فيكون المقصود بالنكاح الحلم، وقد دلت الآية على أن دفع الأموال للأيتام مرتهن بتوفر أمرين اثنين:
الأول: بلوغ الحلم، أو وجود علامة من علامات البلوغ، كبلوغ خمس عشرة سنة؛ لأنه لا يحكم شرعاً للإنسان بالبلوغ إلا إذا بلغ خمس عشرة سنة ذكراً كان أو أنثى على الراجح.
الثاني: حسن التصرف في المال؛ لأن الله قال: فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ والمعنى علمتم ولمستم صلاحاً في دينهم وحفظاً لأموالهم، ولابد من مجموع الأمرين، وهذا الكلام بالنسبة لمسألة دفع الأموال للأيتام.
وأما دخول الأطفال على النساء فلا ارتباط له بالبلوغ كما قال سبحانه: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء [سورة النــور:31] وللآية تفسيران مشهوران:
أحدهما: أي لم يطلعوا على عورات النساء، ويكشفوا عنها للجماع، بمعنى أنه لا يطيق الجماع، وهذا فيه بعد.
ثانيها: أنه لا يتفطن لمفاتن النساء، بخلاف ما إذا ميز وأدرك فيحتجب منه وإن لم يبلغ الحلم، فهذا هو الضابط في الدخول على النساء، والله أعلم.
وفي سنن أبي داود عن علي قال: حفظت من رسول الله ﷺ لا يُتْمَ بعد احتلام، ولا صُمَات يوم إلى الليل[1].
وفي الحديث الآخر عن عائشة وغيرها من الصحابة - وأرضاهم- عن النبي ﷺ قال: رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق[2] أو يستكمل خمس عشرة سنة، وأخذوا ذلك من الحديث الثابت في الصحيحين عن ابن عمر -ا- قال: عرضت على النبي ﷺ يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني"[3]، فقال عمر بن عبد العزيز لما بلغه هذا الحديث: إن هذا الفرق بين الصغير والكبير.
والحقيقة أن دلالة حديث ابن عمر ليست قاطعة في أن استكمال خمس عشرة سنة علامة ظاهرة على البلوغ؛ وذلك لأن الحرب يطلب فيها ما لا يطلب في غيرها، ويراعى فيها القوة والقدرة على القتال، وهيئة الإنسان واكتمال النمو وما أشبهه، وليست محكومة بعمر معين، ولكن يمكن أن يستأنس بها، وأما الحكم بالبلوغ فلا بد من ظهور علامة من علاماته.
وهي علامة ظاهرة يمكن الرجوع إليها في الحقوق والمطالبات؛ لأن الاحتلام قد يجحده الولد، وقد لا يعرفه لقلة الوعي.
وأما المرأة فيعرف بلوغها بشيئين: الحمل والحيض، وأما نمو الصدر فليس علامة من علامات البلوغ.
آنس تأتي بمعنى: أبصر، ويمكن أن يفسر به قوله تعالى: آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا [سورة القصص:29]، وقوله سبحانه: إِنِّي آنَسْتُ نَارًا [سورة طـه:10]، وتأتي أيضاً بمعنى: وجد وعلم، وهو المراد من الآية.
ورد النهي عن أكل أموال الأيتام من باب كون الأكل هو غالب وجوه الانتفاع عادة، وإلا فيدخل في الآية النهي عن جميع أنواع الانتفاع بمال اليتيم، والإسراف: هو الإفراط ومجاوزة الحد، وكذا يشمل النهي المبادرة إلى أموال الأيتام قبل بلوغهم بدافع الاستحواذ عليها، والله أعلم.
قوله سبحانه: فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ هذا الخطاب موجه للأوصياء الفقراء القائمين على مال اليتيم يبيح لهم الأكل من ماله إذا احتاجوا لذلك، إلا أنه قيده بالمعروف ولم يحدد ماهيته، فلذلك يرجع فيه إلى شخص الإنسان، وحال زمانه، ومطلب مكانه، ومقدار المال الذي يحتاجه، وما أشبه ذلك.
والأكل ليس مقصوداً بعينه، فينطوي تحته كل ما يحتاجه في سبيل إراحتهم وخدمتهم، بشرط أن لا يتجاوز حدود المعروف هذا هو الراجح، والله أعلم.
ومن أهل العلم من يرى أنه لا يجوز للوصي المحتاج أن يأخذ من مال اليتيم لا قليلاً ولا كثيراً، وحمل الآية على القرض، بمعنى أن الوصي يأخذ منه ما يحتاج إليه ديناً ثم يعيده وقت السداد، وهذا اختاره ابن جرير الطبري -رحمه الله- وجماعة.
والأقرب القول الأول: وهو جواز الأكل من مال اليتيم بالمعروف كما هو ظاهر الآية، وذلك نظير قيام هذا الإنسان على أموال الأيتام وإصلاحها، وما أشبه ذلك، والله أعلم.
الذي روي هذا الحديث عن عمرو بن شعيب.
ومعنى قوله: ولا متأثل مالاً: يعني ولا جامع مالاً، إما يدخره لنفسه، أو يجعله أصلاً لتجارة، أو نحو ذلك.
وقيل المراد بقوله: فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ: النفقات التي يعطاها في حال اليتم.
وحكمة الإشهاد تكمن في أمرين:
أولاً: لدفع التهمة؛ لئلا يظن الناس أنه لم يعطه.
ثانياً: أن اليتيم عرضة للنسيان، وقد يكون محل جحود، فيحكم بشهادة العدول.
وابن الصلاح -رحمه الله- جمع هذه الأموال التي ينبغي التحرز منها بقوله:
واحذر من الواوات أربعة فهن من الحتوف | واو الوصية والوكالة والوديعة والوقوف |
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه وسلم.
- رواه أبو داود برقم (2875) (3/74)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (13567).
- رواه أبو داود برقم (4405) (4/ ص 245) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3512)..
- رواه مسلم في كتاب الإمارة – باب بيان سن البلوغ برقم (1868) (3/1490).
- رواه الترمذي برقم (1584) (4/145)، وأبو داود برقم (4406) (4/245)، والنسائي برقم (3429) (6/155)، وابن ماجه برقم (2541) (2/849)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (1584).
- رواه أبو داود برقم (2874) (3/74)، والنسائي برقم (3668) (6/256)، وابن ماجه برقم (2718) (2/907)، وأحمد برقم (6747) (2/186)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (8626).
- رواه مسلم في كتاب الإمارة – باب كراهة الإمارة بغير ضرورة برقم (1826) (3/1457).