الأربعاء 23 / جمادى الآخرة / 1446 - 25 / ديسمبر 2024
(14) من قول الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الآية 40 إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} الآية 43
تاريخ النشر: ١٦ / شوّال / ١٤٢٦
التحميل: 3878
مرات الإستماع: 2649

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ۝ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا ۝ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:40-42].

يخبر تعالى أنه لا يظلم عبدًا من عباده يوم القيامة مثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة بل يوفيها له ويضاعفها له إن كانت حسنة كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ الآية [سورة الأنبياء:47].

وقال تعالى مخبرًا عن لقمان أنه قال: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ الآية [سورة لقمان:16] وقال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ۝ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة:6-8].

وفي الصحيحين عن أبي سَعِيدٍ الخُدْري عن رسول الله ﷺ في حديث الشفاعة الطويلِ وفيه: فيقول الله : ارْجِعُوا، فَمَن وجدتم في قلبه مثقالَ حبة خردل من إيمان فأخرجوه من النار وفي لفظ: أدنى أدنـى أدنى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه من النار، فيخرجون خلقا ًكثيرًا ثم يقول أبو سعيد: اقرءوا إن شئتم: إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ الآية [سورة النساء:40][1].

وعن سعيد بن جُبَيْرٍ في قوله: إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [سورة النساء:40] فأما المشرك فيخفف عنه العذاب يوم القيامة ولا يخرج من النار أبدًا، وقد استدل له بالحديث الصحيح أن العباس قال: يا رسول الله، إن عمك أبا طالب كان يحوطك وينصرك، فهل نفعته بشيء؟ قال: نعم هو في ضَحْضَاح من نار، ولولا أنا لكان في الدَّرْك الأسفل من النار[2].

وقد يكون هذا خاصًا بأبي طالب من دون الكفار بدليل ما رواه أبو داود الطَّيالسِي في مسنده عن أنس أن رسول الله ﷺ قال: إن الله لا يظلم المؤمن حسنة، يثاب عليها الرزق في الدنيا ويُجْزَى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة[3] .

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [سورة النساء:40] قراءة أهل الحجاز بالرفع قي حسنة هكذا (وإن تك حسنةٌ يضاعفها) يعني وإن توجد، فتكون "كان" هنا تامَّة، وعلى قراءة غيرهم كما هنا وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [سورة النساء:40] أي وإن تك فِعلتُه حسنة يضاعفها، على أن "كان" ناقصة.

وكلام ابن كثير -رحمه الله- هنا وذكره قول سعيد بن جبير -رحمه الله- بأن الإنسان الكافر قد يخفف عنه العذاب في الآخرة بسبب حسناته، وهل يختص ذلك بأبي طالب بناءً على حديث أنس أن الكافر يطعم بها في الدنيا ثم يوافي يوم القيامة وليس له حسنة يقال فيه: هذا يحصل للكافر في الدنيا؛ لأن الله يعطيه بحسناته أو يدفع عنه بعض المكاره بسبب هذه الحسنات؛ فيوافي وليس له شيء في الآخرة. 

مع ملاحظة أن الكفار يتفاوتون في كفرهم وبناءً عليه يتفاوت عذابهم في النار، فليسوا على مرتبة واحدة، ولذلك كانت النار دركات والله يقول: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۝ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۝ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ۝ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ۝ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [سورة المدثر:42-46] إلى آخره فالكفار يتفاوتون في هذا فقد تجتمع في بعضهم هذه الأوصاف فتجتمع فيه جميع أنواع الموبقات ويحارب أهل الإيمان، وبعض الكفار غاية ما هنالك أنهم وقعوا في نوع من الشرك، والشرك ظلم عظيم لكنهم لم يقعوا في بقية الموبقات فلم يحاربوا أهل الإيمان أو نحو ذلك، فهم يتفاوتون في كفرهم وبالتالي فمسألة تفاوتهم في العذاب أمر لا شك فيه، ولكن بالنسبة للحسنات فإنها تعجل لهم في الدنيا.

وأما ما يحصل لأبي طالب فإنه يكون بسبب شفاعة النبي ﷺ وهي شفاعة خاصة، والكلام في الشفاعة وأنواعها أمر معلوم ومنها الشفاعة العظمى وهي خاصة بالنبي ﷺ وشفاعة النبي ﷺ لأبي طالب خاصة أيضًا، وهناك شفاعات أخرى يشترك فيها النبي ﷺ والأنبياء وأهل الإيمان وإن اختُلف في بعضها كالشفاعة لأهل الكبائر والشفاعة لمن استوجب النار أن لا يدخلها والشفاعة لمن دخلها أن يخرج منها، والشفاعة لأهل الجنة في المراتب العالية، ونحو ذلك.

وقال أبو هريرة وعِكْرِمَة وسعيدُ بن جُبَيْرٍ، والحسنُ وقتادةُ والضحاكُ، في قوله: وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:40] يعني: الجنة، نسأل الله رضاه والجنة.

يقول الله : وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:40] ويقول في هذه المضاعفة: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [سورة الأنعام:160] ويقول -تبارك وتعالى: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء [سورة البقرة:261] وهنا يقول سبحانه: وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:40] فهذا الأجر العظيم هو كل ما يحصل مما يصدق عليه ذلك مما يؤتيه الله -تبارك وتعالى- لأوليائه وعباده المؤمنين، ونعيم الجنة من هذا الأجر العظيم.

وروى ابن أبي حاتم عن أبي عثمان النهدي، قال: لم يكن أحد أكثر مجالسة مني لأبي هريرة، فقدم قبلي حاجًا، وقدمت بعده فإذا أهل البصرة يأثرون عنه أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة فقلت: ويحكم، ما كان أحد أكثر مجالسة مني لأبي هريرة وما سمعت منه هذا الحديث! فهممت أن ألحقه فوجدته قد انطلق حاجًا فانطلقت إلى الحج أن ألقاه في هذا الحديث[4].

ورواه ابن أبي حاتم من طريق أخرى عن أبي عثمان قال: قلت: يا أبا هريرة، سمعت إخواني بالبصرة يزعمون أنك تقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة فقال أبو هريرة: والله بل سمعت نبي الله ﷺ يقول: إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة ثم تلا هذه الآية: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [سورة التوبة:38].

وقوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا [سورة النساء:41] يقول تعالى مخبرًا عن هول يوم القيامة وشدة أمره وشأنه: فكيف يكون الأمر والحال يوم القيامة حين يجيء من كل أمة بشهيد -يعني الأنبياء عليهم السلام- كما قال تعالى: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء الآية [سورة الزمر:69] وقال تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ الآية [سورة النحل:89].

وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله ﷺ: اقرأ عليَّ قلت: يا رسول الله، أأقرأ عليك وعليك أُنزلَ؟ قال: نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا [سورة النساء:41] قال: حسبك الآن فإذا عيناه تَذْرِفَان[5].

الإشارة هنا بقوله: وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا [سورة النساء:41] هل المراد بهم كفار قريش كما قاله بعض أهل العلم ولهذا قال بعده: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ [سورة النساء:42] أو أن المراد به الأمة؟

قولان معروفان للسلف والثاني هو الأقرب بدلالة قوله -تبارك وتعالى- قبله: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ [سورة النساء:41] ليكون قوله: وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا أي شهيدًا على هذه الأمة، وهي أمة محمد ﷺ والمقصود بها أمة الدعوة فيدخل فيها كل من بُعث إليهم النبي ﷺ ممن أجابوه وممن لم يجيبوه.

وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:42] أي: لو انشقت وبلعتهم مما يرون من أهوال الموقف وما يحل بهم من الخزي والفضيحة والتوبيخ كقوله: يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ الآية [سورة النبأ:40].

هذا الجزء من هذه الآية: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ [سورة النساء:42] فيه ثلاث قراءات متواترة، فالقراءة الأولى: هي قراءة ابن عامر ونافع من السبعة لو تَسَّوَّى بهم الأرض بتشديد السين وفتح التاء، والقراءة الثانية هي قراءة حمزة والكسائي: لو تَسَوَّى بهم الأرض من غير تشديد، والقراءة الثالثة: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ بالبناء للمجهول، فعلى القراءة الأولى والثانية لو تَسَّوًّى ولو تَسَوَّى يعني أن الأرض تسوى عليهم فيتساوون معها، فبعض أهل العلم يقول: يعني لو تنشق لهم الأرض فيدخلون فيها.

ومثل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- يرى أن القراءات الثلاثة بمعنىً واحد، وأحسن ما يُفسر به هذا -والله تعالى أعلم- هو قوله -تبارك وتعالى: يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [سورة النبأ:40] وذلك أنه كما ورد في الحديث إذا حصل القصاص بين الحيوانات ثم قيل لها: كوني ترابًا فكانت ترابًا، والكافر ينظر إلى ذلك فإنه يتمنى عندئذ أن يتحول إلى تراب فيستوي مع الأرض فلا يكون له بقاء ولا وجود كي لا يعذب.

وقوله: وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:42] إخبار عنهم بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه ولا يكتمون منه شيئًا.

يقول: "وقوله: وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:42] إخبار عنهم بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه ولا يكتمون منه شيئًا" فهذه الجملة من الآية: وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:42] يحتمل أن تكون معطوفة على ما قبلها هكذا: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:42] يعني أنهم يتمنون شيئين، الأول أن لو تسوى بهم الأرض والثاني أن لا يكتمون الله، وعلى هذا يكون هناك مقدر محذوف ليكون معنى الآية هكذا: يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ويومئذ لا يكتمون الله حديثًا، فهذا هو المعنى الأول الذي تحتمله الآية.

ويُحتمل أن يكون قوله: وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:42] جملة استئنافية، ليكون معنى الآية هكذا: يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض، أي هذه هي الأمنية، ثم أخبر الله عنهم أنهم لا يكتمون الله حديثًا.

وبعضهم يقول: إن قوله: وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:42] معطوف، لكن المعنى مغاير لما سبق، فيكون ذلك من جملة أمانيهم، يعني يومئذ يتمنى الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثًا، أي ويتمنون أنهم لم يكتموا الله شيئًا لأنهم قد افتضحوا وانكشف أمرهم؛ لأن الله  يختم على الأفواه فتنطق الجوارح فعندئذ يتندمون غاية الندم ويتمنون أنهم لم يكتموا الله حديثًا؛ لظهور كذبهم، وهذا الذي مال إليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله.

ولعل أقرب هذه المعاني -والله تعالى أعلم- هو المعنى الأول، ويليه المعنى الثاني، ثم المعنى الثالث في القوة، فيكون المعنى -والله تعالى أعلم- أن الله يخبر عنهم أنهم يتمنون لو تسوى بهم الأرض، ويخبر عنهم في ذلك الحين أنهم لا يكتمون الله حديثًا، ولهذا سأل رجل ابن عباس عن هذه الآية وعن وجه الجمع بينها وبين الآيات الدالة على أنهم يكتمون ويكذبون فيقولون: وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23] ويجحدون ما كانوا يعبدون من قبل، فبين له ابن عباس أنهم يكتمون في أول الأمر ويجحدون وينكرون الإشراك، ثم بعد ذلك تنطق الجوارح كما قال تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [سورة يــس:65] ثم بعد ذلك تنطق ألسنتهم.

وروى عبد الرزاق عن سعيد بن جُبَيْر قال: جاء رجل إلى ابن عباس -ا- فقال: أشياء تختلف عليَّ في القرآن قال: ما هو؟ أشكٌّ في القرآن؟ قال: ليس هو بالشك ولكن اختلاف، قال: فهات ما اختلف عليك من ذلك، قال: أسمع الله يقول: ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23] وقال: وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:42] فقد كتموا.

ومما يشبه هذه الآيات قوله تعالى: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ [سورة النحل:28] وقوله تعالى: بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا [سورة غافر:74] ونحو ذلك.

فقال ابن عباس: أما قوله: ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23] فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله لا يغفر إلا لأهل الإسلام، ويغفر الذنوب ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولا يغفر شركًا، جحد المشركون، فقالوا: وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23] رجاء أن يغفر لهم، فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون فعند ذلك: يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:42].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا [سورة النساء:43].

ينهى -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السُّكْرِ الذي لا يدري معه المصلي ما يقول.

السكر لا شك أنه معروف، وهو المعنى المتبادر في الآية، وإن كان ابن عباس -ا- والضحاك يقولان: لا تقربوا الصلاة في حال مغالبة النعاس كما جاء في الحديث: إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقدن حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه[6] فهذا المعنى الذي ذكروه ليس معناه أن معنى السكر يخفى عليهم، وإنما أرادوا أن يشيروا إلى معنىً قد يغفل عنه السامع وهو أن الإنسان في حال مغالبة النوم لا يعقل ما يقول. 

وأما السكر فمعروف أنه ذهاب العقل بتعاطي المسكر، وحده بعضهم -مثل الإمام أحمد -رحمه الله- بأنه إذا لم يميز بين نعله ونعل غيره وثوبه وثوب غيره فهو منه، وحده بعضهم فقال: إذا أباح السر المكتوم وأفضى بالمكنون فهو منه، وبعض أهل العلم يقول: إذا وصل إلى حال ينتفي عنه العقل تمامًا فهذا في حكم المجانين، لكن المراد دون ذلك وهو إذا صار يخلط ولا يعقل الصلاة كما ينبغي، كما هو حال من يغالبه النوم مثلًا ويحصل منه بعض الهذيان أو نحو ذلك.

والذي حملهم على هذا أن الله قال: لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى [سورة النساء:43] فيتوجه هنا سؤال وهو كيف خاطبهم وهم لا يعقلون والخطاب إنما يتوجه للعاقل؟ فقال من قال: إن هؤلاء في حال يسمعون فيه الخطاب ويستطيعون الجواب ولم ينتف العقل عنهم بالكلية وإلا لصاروا في عالم المجانين ولا يتوجه إليهم خطاب، إلا أني أظن أنه لا حاجة لشيء من هذا؛ فالله يخاطب أهل الإيمان فيقول: لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى [سورة النساء:43] فهذا الخطاب لا يعني أنه خاطبهم حال سكرهم وإنما يخاطب أهل الإيمان خطابًا عامًا -وهذا قبل تحريم الخمر- فالخطاب لم يتوجه إليهم في حال السكر، وإنما هو خطاب عام للأمة، فلا حاجة لمثل تلك المحامل التي ذكروها، والله تعالى أعلم.

 وعن قربان محالها التي هي المساجد.

على كل حال هذا القول الذي قاله الحافظ ابن كثير -رحمه الله- عن فعل الصلاة في حال السكر في الذي لا يدري معه المصلي ما يقول، لكن إذا كان يدري ما يقول حيث إن من الناس من لا يسكر بالشرب المعتاد الذي اعتاد عليه إلا إذا زاد فمثل هذا لا يكون داخلًا في النهي لأنه ليس بسكران، ولأنه لم يقل: لا تقربوا الصلاة إذا شربتم الخمر، وإنما قال: وَأَنتُمْ سُكَارَى [سورة النساء:43]، فالذين يشربون أنواعًا من الخمور ولا تسكرهم إما لكميتها، وإما لنوعها، وإما لحال قامت بهم من الإدمان والاعتياد غير داخلين في النهي، وهذا قبل تحريم السكر، وإلا فإن شرب الخمر حرام لا يجوز، بل ذلك من الكبائر، فهذه كانت مرحلة من المراحل قبل التحريم، لكن لو جاء إنسان وعصى الله ورسوله وشرب الخمر وسكر فصلى فإننا نقول: إن صلاته باطلة، وهذا أوضح مثال على اقتضاء النهي الفساد.

في قوله تعالى: لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ [سورة النساء:43] يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله:

"ينهى -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السُّكْرِ الذي لا يدري معه المصلي ما يقول وعن قربان محالها التي هي المساجد للجنب إلا أن يكون مجتازًا من باب إلى باب من غير مكث".

قوله: لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ يعني لا تتلبسوا بها -هذا هو المعنى المتبادر- لكن قوله: وَلاَ جُنُبًا هل المعنى ولا تتلبسوا بها وأنتم في حال الجنابة -كما يقول أبو حنيفة- أم أن المعنى لا تقربوا محال الصلاة التي هي المساجد وأنتم سكارى ولا جنبًا إلا عابري سبيل؟

على قول من قال: وَلاَ جُنُبًا أي لا تتلبسوا بالصلاة وأنتم في حال جنابة فإن هذا القول يقويه أنه معطوف على ما قبله، أي لا تتلبسوا بالصلاة وأنتم في حال سكر ولا تتلبسوا بها وأنتم في حال جنابة، كما يقوي هذا المعنى أنه ليس المقصود نهي السكران عن قربان محال الصلاة، فالمتبادر أنه نهي عن التلبس بالصلاة لمن كان جنبًا ولمن كان سكرانًا، أي لا تتلبسوا بالصلاة في هاتين الحالتين.

ومن قال في قوله: وَلاَ جُنُبًا: إن المعنى لا تقربوا محال الصلاة فإن هذا القول يضعفه أنه فرَّق بين المعطوف والمعطوف عليه ويقويه أنه قال: إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ [سورة النساء:43] حيث لا يتأتى أن يكون المراد بقوله: إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ [سورة النساء:43] الصلاة، وإنما المراد محل الصلاة وهو المسجد، أي أن الجنب ممنوع من دخول المسجد والمكث فيه إلا إذا كان عابر سبيل، وهذا المعنى أظنه أقرب -والله تعالى أعلم. 

وإذا كان ممنوعًا من المكث في المسجد فمنعه من التلبس بالصلاة من باب أولى، ولهذا يقال: وَلاَ جُنُبًا أي: لا تتلبسوا بها في حال الجنابة ولا تقربوا محالها أيضا ًإلا عابري سبيل، والله أعلم.

وقد كان هذا قبل تحريم الخمر كما دلَّ عليه الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة، عند قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الآية [سورة البقرة:219] فإن رسول الله ﷺ تلاها على عمر، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فلما نزلت هذه الآية، تلاها عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلوات فلما نزل قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة المائدة:90] إلى قوله: فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [سورة المائدة:91] فقال عمر : انتهينا انتهينا[7].

وفي رواية: فنزلت الآية التي في النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ [سورة النساء:43] فكان منادي رسول الله ﷺ إذا قامت الصلاة ينادي: "ألّا يقربن الصلاة سكران" لفظ أبي داود[8].

وذكروا في سبب نزول هذه الآية ما رواه ابن أبي حاتم عن سعد قال: نزلت فيَّ أربع آيات، صنع رجل من الأنصار طعامًا، فدعا أناسا من المهاجرين وأناسًا من الأنصار، فأكلنا وشربنا حتى سَكرْنا، ثم افتخرنا فرفع رجل لَحْي بعير فَفَزَر به أنف سعد، فكان سعدٌ مَفْزور الأنف، وذلك قبل أن تحرم الخمر، فنزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى الآية [سورة النساء:43] والحديث بطوله عند مسلم ورواه أهلُ السُّنَن إلا ابنَ ماجه[9].

سبب آخر: روى ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعامًا، فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرتِ الصلاةُ فقدَّموا فلانًا، قال: فقرأ: قل يا أيها الكافرون، ما أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ [سورة النساء:43]، هكذا رواه ابن أبي حاتم، وكذا رواه الترمذي وقال: حسن صحيح[10].

هناك اختلاف في الروايات فيما قرئ وكيف قرئ، ومن الذي وقع له ذلك، والله أعلم. 

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب كلام الرب يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم (7072) (ج 6 / ص 2727) ومسلم في كتاب الإيمان - باب أدني أهل الجنة منزلة فيها (193) (ج 1 / ص 180) وبعض ألفاظه في مسند أحمد (11143) (ج 3 / ص 16).
  2. أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة – باب قصة أبي طالب (3670) (ج 3 / ص 1408) ومسلم في كتاب الإيمان - باب شفاعة النبي ﷺ لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه (209) (ج 1 / ص 194).
  3. أخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا (2808) (ج 4 / ص 2162).
  4. أخرجه أحمد (10770) (ج 2 / ص 521) وابن أبي شيبة (ج 8 / ص 187) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف لضعف علي بن زيد وهو ابن جدعان.
  5. أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن - باب قول المقرئ للقارئ حسبك (4763) (ج 4 / ص 1925) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب فضل استماع القرآن وطلب القراءة من حافظ للاستماع والبكاء عند القراءة والتدبر (800) (ج 1 / ص 551) واللفظ للبخاري.
  6. أخرجه البخاري في كتاب الوضوء - باب الوضوء من النوم ومن لم ير من النعسة والنعستين أو الخفقة وضوءاً (209) (ج 1 / ص 87) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها (786) (ج 1 / ص 542).
  7. أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب تفسير سورة المائدة (3049) (ج 5 / ص 253) والنسائي في كتاب الأشربة - باب تحريم الخمر (5540) (ج 8 / ص 286) وأحمد (378) (ج 1 / ص 53) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير خلف بن الوليد.
  8. أخرجه أبو داود في كتاب الأشربة - باب في تحريم الخمر (3672) (ج 3 / ص 364) وأحمد (378) (ج 1 /ص 53) وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (3670).
  9. أخرجه أحمد (1614) (ج 1 / ص 185) والبيهقي (17788) (ج 8 / ص 285) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن، وبعض هذا الحديث في صحيح مسلم بألفاظ أخرى ورواه مختصراً في كتاب فضائل الصحابة باب في فضل سعد بن أبي وقاص (1748) (ج 4 / ص 1876).
  10. أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب تفسير سورة النساء (3026) (ج 5 / ص 238) وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (3026).

مواد ذات صلة