الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
(15) تتمة تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الآية 40 إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} الآية 43.
تاريخ النشر: ١٧ / شوّال / ١٤٢٦
التحميل: 3685
مرات الإستماع: 2442

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

وقوله: حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ [سورة النساء:43] هذا أحسن ما يقال في حد السكران أنه الذي لا يدري ما يقول فإن المخمور فيه تخليط في القراءة وعدم تدبره وخشوعه فيها.

وقد روى الإمام أحمد عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف فلينم حتى يعلم ما يقول[1]انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم، ورواه هو والنسائي، وفي بعض ألفاظ الحديث: فلعله يذهب يستغفر فيسُبّ نفسه[2].

وقوله: وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ [سورة النساء:43] روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -ا- في قوله: وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ [سورة النساء:43] قال: لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل، قال: تمرُّ به مرًا ولا تجلس.

ثم قال: ورُوي عن عبد الله بن مسعود وأنس وأبي عُبَيْدَة وسعيد بن المُسَيَّبِ وأبي الضُّحَى، وعطاء، ومُجَاهد، ومسروق، وإبراهيم النَّخَعي وزيد بن أسلم، وأبي مالك، وعَمْرو بن دينار، والحكم بن عُتَيْبَة، وعِكْرِمَة، والحسن البصري، ويَحْيَى بن سعيد الأنصاري، وابن شهاب، وقتادَة نحوُ ذلك.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ [سورة النساء:43] ذكرنا في الدرس السابق أنه يحتمل معنيين: الأول: أي لا تقربوا محال الصلاة إلا أن تكونوا عابري سبيل فاعبُروا ولا تمكثوا فيه، وهذا هو المعنى المتبادر -والله تعالى أعلم- وعليه يكون قوله تعالى: لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ [سورة النساء:43] أي: لا تتلبسوا بها وأنتم في حال السُّكر، وهذا المعنى الذي نقله عن كثير من السلف وهو مذهب مالك والشافعي، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- هو الأقرب، والله تعالى أعلم.

والمعنى الثاني: من أهل العلم من جمع بين هذا وهذا فقال: وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ [سورة النساء:43] أي: لا تتلبسوا بالصلاة ولا تقربوا محالَّها –أي المساجد- إلا وأنتم في حال طهارة إلا من كان عابر سبيل.

ومن فسر قوله تعالى: لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ [سورة النساء:43] بالتلبس في كليهما فقال: إن المعنى لا تتلبسوا بها في حال السكر ولا الجنابة إلا أن تكونوا عابري سبيل – يعني مسافرين- قالوا: يجوز له في هذه الحالة أن يتيمم، لكن يرد على هذا أن التيمم لا يختص بالمسافر وإنما هو لكل من فقد الماء حقيقة أو حكمًا كأن يكون عجز عن استعماله لبرد ونحوه فإنه يتيمم سواء كان في الحضر أو في السفر.

وأولئك يمكن أن يجيبوا بالقول: إنه ذُكر عابر السبيل تغليبًا؛ لأن الغالب أن تكون هذه الحال لمن كان مسافرًا، فالمسافر مظنة احتياج الماء وعدم التمكن منه، ولهذا عبر بالغالب وإلا فهو يشمل المسافر وغيره.

وعلى كل حال فالذي يظهر -والله تعالى أعلم- هو المعنى الأول، أي: لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى [سورة النساء:43] يعني لا تتلبسوا بها في حال السكر وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ [سورة النساء:43] أي: هذا نهي عن المكث في محال الصلاة إلا إذا كان الإنسان عابرًا فإنه يجوز له ذلك، والله تعالى أعلم.

وروى ابن جرير عن يَزِيد بن أبي حَبِيبٍ عن قول الله : وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ [سورة النساء:43] أن رجالًا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فكانت تصيبهم جنابة ولا ماء عندهم، فيريدون الماء ولا يجدون ممرًا إلا في المسجد فأنزل الله: وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ [سورة النساء:43].

ويشهد لصحة ما قاله يزيد بن أبي حَبِيبٍ -رحمه الله- ما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله ﷺ قال: سدوا كل خوخة في المسجد إلا خَوخةَ أبي بكر [3] وهذا قاله في آخر حياته ﷺ علمًا منه أن أبا بكر سيلي الأمر بعده ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيرًا للأمور المهمة فيما يصلح للمسلمين، فأمر بسدِّ الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا بابه ومن روى: «إلا باب علي»[4] كما وقع في بعض السنن فهو خطأ، والصواب ما ثبت في الصحيح.

وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة -ا- قالت: قال لي رسول الله ﷺ: ناوليني الخُمْرة من المسجد فقلت: إني حائض فقال: إن حيضتك ليست في يدك[5].

وله عن أبي هريرة مثله، ففيه دلالة على جواز مرور الحائض في المسجد والنفساء في معناها، والله أعلم.

وقوله: وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا [سورة النساء:43] أما المرض المبيح للتيمم فهو الذي يخاف معه من استعمال الماء فوات عضو أو شَيْنه أو تطويل البُرء، ومن العلماء من جَوّز التيمم بمجرد المرض لعموم الآية، والسفر معروف ولا فرق فيه بين الطويل والقصير.

قوله في السفر: "ولا فرق فيه بين الطويل والقصير" أي أنه لا يحد بمسافة فلا يقال: يعتبر سفرًا إذا كان يجوز فيه القصر وإن لم يجُز فيه القصر فلا، أعني لا يقال ذلك؛ لأن الله  أطلق السفر، والسفر كما هو معروف تحصل به الرخص التي رخص الله فيها للمسافر من قصر وجمع وما إلى ذلك.

قوله تعالى: وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا [سورة النساء:43] هذه الأمور التي ذكرها الله متعاطفة، إن كنتم مرضى أو على سفر، فالمرض هو المرض الذي يبيح التيمم، والذي ذكر ضابطه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وليس مطلق المرض؛ لأن هذه رخصة ترفع المشقة، وذلك إذا كان الإنسان في حال من المرض لا يستطيع معها الوصول إلى الماء، كأن يكون على السرير بحيث لا يستطيع أن يقوم ولا يتوضأ فإنه يتيمم، أو أن يكون به مرض يتضرر معه من الماء كالذي يصاب بالحروق أو نحو ذلك فهذا يتيمم، هذا بالنسبة للمرض.

وقوله: أَوْ عَلَى سَفَرٍ يعني إذا كان فاقدًا للماء وليس مطلق المسافر.

وقوله: أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ المقصود قضاء الحاجة، والغائط هو المكان المطمئن المنخفض في الأرض، فكانوا يقصدونه لقضاء الحاجة للتستر فصار يطلق ذلك على الخارج وإلا فأصله يراد به المحل.

وقوله: أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء [سورة النساء:43] سيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.

فالمقصود أن الله تعالى قال: فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا [سورة النساء:43] هذا القيد في قوله: فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء [سورة النساء:43] هل يرجع إلى الأخيرين فقط أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء [سورة النساء:43] أم يرجع إلى الأمور السابقة جميعًا؟ بمعنى هل المريض يتيمم إن لم يجد الماء أم أنه لا يرتبط بوجود الماء فهو قد يكون في الحضر غالبًا ومع ذلك له أن يتيمم لمجرد المرض وليس لفقد الماء؟

من قال: إن القيد في قوله: فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء [سورة النساء:43] يرجع إلى الأخيرين فقط أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء قال: هذا فيمن عليه حدث أصغر أو أكبر -على تفسير لاَمَسْتُمُ النِّسَاء بأنه الجماع، فقالوا: من هذا حاله ولم يجد الماء فإنه يتيمم، أما المريض والمسافر فإنه لا يتيمم بإطلاق وإنما يتيمم في حال المرض ولو كان واجدًا للماء، وبالنسبة للمسافر فمن أهل العلم من يقول: يرخص له التيمم مطلقًا ولو كان واجدًا للماء -وهذا قول ضعيف- فعلى هذا القول يكون القيد متعلقًا بالأخيرين.

والأقرب -والله تعالى أعلم- أن ذلك لا مانع من أن يرجع إلى الجميع، وبالنسبة للمريض فقوله تعالى فيه: فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء [سورة النساء:43] يعني حقيقة أو حكمًا، وذلك أن الذي لا يستطيع القيام من سريره ليتوضأ –وهذا حال كثير من المرضى الذين توجد لهم أسئلة يستفتون بها عن هذا الأمر- إن لم يجد ماء قريبًا منه في حجرته، أو لم يجد الماء حكمًا بأن لا يستطيع أن يمس الماء لعجز أو خوف ضرر من استعماله فإنه يتيمم.

قوله: أَوْ عَلَى سَفَرٍ المسافر كذلك إذا فقد الماء حقيقة أو حكمًا فإنه يتيمم، ومعنى فقدانه حكمًا هنا كأن يكون الماء موجودًا قريبًا منه لكن لن يحصل عليه إلا بمنَّة، ففي هذه الحال ليس مطالبًا أن يطلبه، ومن أمثلة فقدان الماء حكمًا للمسافر أن يباع بأغلى من السعر المعهود، يعني في مكان يستغل الناس فيه المشترين له لعدم وجود الماء إلا عند هذا الذي يبيع، فهنا لا يجب عليه أن يشتري هذا الماء وإنما يتيمم -على القول الراجح. 

ومن أمثلة ذلك أيضًا أن توجد بئر ونحوها لكنه لا يستطيع أن يشغّل الماكينة الخاصة برفع الماء ولا يوجد من يقوم بهذا، أو توجد بئر لكن ليس عنده دلو، أو يوجد خزان لكن لا يعرف أين المفتاح ونحو ذلك، كل هذا يجعل هذا الشخص فاقدًا للماء حكمًا وبالتالي ينطبق عليه قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا [سورة النساء:43].

وقوله: أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ [سورة النساء:43] الغائط هنا هو المكان المطمئن من الأرض، كنى بذلك عن التغوط، وهو الحدث الأصغر، وأما قوله: أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء [سورة النساء:43] فقرئ: لَمَسْتم) ولاَمَسْتُمُ.

القراءة الأولى قراءة حمزة والكسائي، والقراءة الأخرى قراءة البقية.

وهو كناية عن الجماع؛ لقوله تعالى: وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [سورة البقرة:237] وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [سورة الأحزاب:49].

هذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم- وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري، أي أن المس واللمس في لاَمَسْتُمُ و(لَمَسْتم) كل ذلك في الجماع ولا يقال: إنه بمجرد اللمس، لا بشهوة ولا بغير شهوة، لكنه قد يستحب له إذا لمس بشهوة أن يتوضأ؛ لأن ذلك يحرك الشهوة، والشهوة يناسبها الماء كما يقول الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله: يناسب حرارة الشهوة أن تطفأ بالماء، فلو أنه توضأ فهذا يستحب، لكن لا يجب إلا إذا خرج منه شيء، ويدل على هذا أن النبي ﷺ كان يقبِّل ثم يخرج إلى الصلاة ولا يتوضأ، فهل يُظن أن تقبيل الزوجة يكون من غير شهوة؟ أبدًا، ومع ذلك كان يذهب يصلي ولا يتوضأ.

روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -ا- في قوله: أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء [سورة النساء:43] قال: الجماع، ورُوي عن علي وأبيّ بن كعب -ا- ومجاهد وطاوس والحسن، وعُبَيد بن عمير، وسعيد بن جبير، والشَّعْبي وقتادة، ومقاتل بن حيَّان نحوُ ذلك.

وقوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا [سورة النساء:43] في الصحيحين من حديث عمران بن حصين -ا- أن رسول الله ﷺ رأى رجلًا معتزلًا لم يصلِّ في القوم فقال: يا فلان ما منعك أن تصلي مع القوم؟ ألست برجل مسلم؟ قال: بلى يا رسول الله، ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك [6].

والتيمم في اللغة هو القصد، تقول العرب: تيممك الله بحفظه أي: قصدك، والصعيد هو التراب فقط؛ لقوله تعالى: فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا [سورة الكهف:40].

تخصيص الصعيد بالتراب هذا قول لبعض أهل العلم، ويحتجون على مثل هذا ببعض الروايات التي جاء فيها في الخصائص التي ذكرها النبي ﷺ قال: وجعلت تربتها[7] وفي بعض الروايات: ترابها[8] فقالوا: إن المطلق يحمل على المقيد، ففي قوله: جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا الأرض مطلق والتربة مقيد، فالمطلق محمول على المقيد، والمقصود بالأرض أي التراب الطاهر، ولا يجزئ التيمم بغير ذلك،.

والذين يقولون بأنه يجوز التيمم بما على ظهر الأرض من طين وحجارة وما أشبه ذلك يستدلون على هذا بأدلة منها أن ذكر التراب مفهوم لقب، ومفهوم اللقب لا عبرة به عند الأصوليين، فالمفاهيم أنواع كما قال في المراقي:

أعلاه لا يرشد إلا العلما فما لمنطوق بضعف انتمى
فقوله: أعلاه لا يرشد إلا العلما يعني النفي والاستثناء، وقوله: فما لمنطوق بضعف انتمى يعني مثل: إنما فهي للحصر، إلى أن قال:
أضعفها اللقب وهْو ما أُبي من دونه نظم كلام العرب

فاللقب يستعمل من أجل أن يفهم الكلام نحو جاء زيد ودخل عمرو، فلو حذفت هذه الأسماء لم يفهم الكلام، ولا يكون له وجه يدركه المخاطب، فيضطر إليه لكن لا يوقف عنده، فحديث: جعلت تربتها هذا مفهوم لقب، مثل قول النبي ﷺ مثلًا: ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار[9] فلما قال: الإزار لا يعني أن السراويل والثوب والبشت لا يدخل في ذلك بل الحكم واحد في الجميع، فالإزار مفهوم لقب لا عبرة به، فلا يقول الإنسان: أنا أقصر الإزار لكن الثوب لا أقصره، نقول: هذا كلام غير صحيح؛ لأن الإزار مفهوم لقب ومفهوم اللقب لا بد منه حتى يفهم الكلام ولذلك لو قال: ما أسفل الكعبين فلا بد أن يعبِّر بكلمة حتى يفهم المراد، وهذا معنى قول صاحب المراقي:

أضعفها اللقب وهْو ما أُبي من دونه نظم كلام العرب

فمعنى ما أبي من دونه نظم الكلام العربي، يعني لا يمكن أن تفهم الخطاب إلا بأن تأتي بلفظة مفيدة، فقوله: جعلت تربتها مفهوم لقب على هذا الأساس، ومما يدل على أنه يتيمم بما على الأرض أن النبي ﷺ ضرب على الجدار لرد السلام[10]، فهذا نص في هذا الموضوع، والكلام في هذه المسألة يطول.

لكن قول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا: التيمم بمعنى القصد فهذا في اللغة، يعني أنك تقصد الصعيد، والصعيد هو وجه الأرض مطلقًا ويدخل فيه التراب والطين والحجارة وما أشبه ذلك، وهذا قال به أئمة كبار من أئمة اللغة مثل الخليل بن أحمد الفراهيدي وابن الأعرابي والزجاج، حتى إن الزجاج قال: لا أعلم فيه خلافًا، ومن أهل العلم من توسع في هذا جدًا مثل الإمام مالك -رحمه الله- وأبي حنيفة، حتى قال بعضهم: إنه يجوز أن يتيمم بالملح -وليس المقصود هنا الملح الصناعي- وقالوا: يتيمم بالزرنيخ وبالجص والجبس والنورة، كل هذه الأشياء قالوا: يجزئ التيمم بها.

قوله: "والصعيد هو التراب فقط؛ لقوله تعالى: فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا [سورة الكهف:40]" أي: تصبح ترابًا أملس طيبًا -هكذا فسره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- مع أن الظاهر المتبادر -وهو الذي عليه كثير من أهل العلم من أهل اللغة وغيرهم- أن معنى فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا [سورة الكهف:40] أي دحضًا لا تثبت فيه الأقدام بل تسوخ، والله تعالى أعلم.

ولما ثبت في صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان -ا- قال: قال رسول الله ﷺ: فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورًا إذا لم نجد الماء[11] فخصص الطهورية بالتراب في مقام الامتنان، فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه.

والطيب هاهنا قيل: الحلال، وقيل: الذي ليس بنجس كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا ابن ماجه عن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر حجج، فإذا وجده فليمسه بَشرته فإن ذلك خير وقال الترمذي: حسن صحيح[12].

وقوله: فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ [سورة النساء:43] التيمم بدل عن الوضوء في التطهر به لا أنه بدل منه في جميع أعضائه، بل يكفي مسح الوجه واليدين فقط بالإجماع، والصحيح أنه يكفي له مسح الوجه والكفين بضربة واحدة.

يعني بالإجماع أن يمسح به الوجه واليدين، لكن تبقى التفاصيل، فاليد إذا أطلقت هل المراد بها من الكف إلى المنكب، أم إلى المرافق، وما هو القدر الذي يجب مسحه؟

من أهل العلم من قال: يمسح الكفين؛ لأنه هو الوارد الثابت في الروايات الصحيحة، ومن أهل العلم من قال: يمسح إلى المرفقين؛ لأن ذلك قيد في طهارة أخرى وهي الوضوء، واستدلوا ببعض الروايات أيضًا، ومنهم من قال: إلى المنكبين، وهذا قول معروف لبعض أهل العلم.

وعلى كل حال فالإجماع قائم على أن التيمم يكون بالمسح على اليدين والوجه؛ لأن الله قال: فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ [سورة النساء:43] ويبقى الخلاف في اليد ما المراد بها، وهل هو بضربة واحدة أو بضربتين، وهل الترتيب مطلوب أو غير مطلوب يعني هل يمسح الوجه ثم الكفين أم يمسح الكفين ثم الوجه؟

كل هذه التفاصيل فيها خلاف كبير ومشهور بين العلماء بناء على مسائل عدة منها: هل الواو تقتضي الترتيب أم لا؟ والروايات الواردة في ذلك أيضًا في بعضها تقديم الوجه وفي بعضها تقديم اليدين، ومسألة حد اليد وغير ذلك كل ذلك فيه خلاف طويل بين أهل العلم.

روى الإمام أحمد عن ابن عبد الرحمن بن أبزى أن رجلًا أتى عمر –- فقال: إني أجنبت فلم أجد ماءً؟ فقال عمر: لا تصلِّ، فقال عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماءً فأما أنت فلم تصلِّ، وأما أنا فتمعكت في التراب فصليت.

قول عمار: "وأما أنا فتمعكت في التراب" يعني كأنه قاس ذلك على غسل الجنابة فأراد أن يعمم البدن بالتراب.

فلما أتينا النبي ﷺ ذكرت ذلك له فقال: إنما كان يكفيك وضرب النبي ﷺ بيده الأرض ثم نفخ فيها ومسح بها وجهه وكفيه[13].

هذا قول معروف لعمر وهو الذي احتج به ابن مسعود حينما تحاور مع أبي موسى الأشعري فأبو موسى الأشعري سأل ابن مسعود فقال: أرأيت إذا أصابت الإنسان جنابة ولم يجد الماء ماذا يصنع؟ فابن مسعود ذكر له قول عمر فقال: أما رأيت أن عمر لم يقبل قول عمار حيث قال له: اتق الله يا عمار، فقال له عمار: إن شئت لم أحدث به فقال له: بل نحملك ما تحملت، فابن مسعود كان على قول عمر لا يرى التيمم من الحدث الأكبر مع أن الأحاديث في هذا واضحة، وقول بقية الصحابة أنه يتيمم من هذا وهذا، فأبو موسى ذكر لابن مسعود الآية أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ [سورة النساء:43] يعني قال: دعنا من حديث عمار، ما تقول في الآية؟ فسكت ابن مسعود ولم يجب!

والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الوضوء - باب الوضوء من النوم ومن لم ير من النعسة والنعستين أو الخفقة وضوءاً (209) (ج 1 / ص 87) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك (786) (ج 1 / ص 542) ولفظ: فلينصرف فلينم حتى يعلم ما يقول لأحمد (12469) (ج 3 / ص 142)
  2. هذا لفظ البخاري في كتاب الوضوء - باب الوضوء من النوم ومن لم ير من النعسة والنعستين أو الخفقة وضوءاً (209) (ج 1 / ص 87) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك (786) (ج 1 / ص 542).
  3. أخرجه البخاري في أبواب المساجد - باب الخوخة والممر في المسجد (455) (ج 1 / ص 178) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر الصديق (2382) (ج 4 / ص 1854).
  4. أخرجه الترمذي في كتاب المناقب – باب مناقب علي بن أبي طالب (3732) (ج 5 / ص 641) وضعفه الألباني في المشكاة برقم (6096).
  5. أخرجه مسلم في كتاب الحيض - باب جواز غسل رأس زوجها وترجيله وطهارة سؤرها والاتكاء في حجرها وقراءة القرآن فيه (298) (ج 1 / ص 244).
  6. أخرجه البخاري في كتاب التيمم - باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء (337) (ج 1 / ص 130) دون قوله: ألست برجل مسلم؟ فهذا عند النسائي بسند صحيح في كتاب الإمامة – باب إعادة الصلاة مع الجماعة بعد صلاة الرجل لنفسه (857) (ج 2 / ص 112).
  7. صحيح مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة (522) (ج 1 / ص 371).
  8. صحيح ابن حبان (6400) (ج 14 / ص 310) قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح.
  9. أخرجه البخاري في كتاب اللباس - باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار (5450) (ج 5 / ص 2182).
  10. صحيح البخاري في كتاب التيمم - باب التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء وخاف فوت الصلاة (330) (ج 1 / ص 129).
  11. أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة (522) (ج 1 / ص 371).
  12. أخرجه الترمذي في أبواب الطهارة - باب ما جاء في التيمم للجنب إذا لم يجد الماء (124) (ج 1 / ص 211) والنسائي في كتاب الطهارة - باب الصلوات بتيمم واحد (322) (ج 1 / ص 171) وأحمد (21408) (ج 5 / ص 155) وابن حبان (1313) (ج 4 / ص 140) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1667).
  13. أخرجه البخاري في كتاب التيمم - باب التيمم ضربة (340) (ج 1 / ص 133) ومسلم في كتاب الحيض – باب التيمم (368) (ج 1 / ص 280).

مواد ذات صلة