بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى:
وقوله: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً [سورة النساء:51] أي: يفضلون الكفار على المسلمين بجهلهم وقلة دينهم وكفرهم بكتاب الله بأيديهم.
وقد روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم فأخبرونا عنا وعن محمد، فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام وننحر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العُناة، ونسقي الحجيج، ومحمد صُنْبُورٌ، قَطَّع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج بنو غفار، فنحن خير أم هو؟ فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلًا، فأنزل الله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا الآية [سورة النساء:51] وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس -ا- وجماعة من السلف.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه الآية نازلة في اليهود حينما ذهبوا إلى المشركين يحرضونهم على قتال النبي ﷺ بعد غزوة أحد فلما سألهم المشركون عن حالهم وعن حال النبي ﷺ قالوا ما قالوا، وسجدوا لآلهة المشركين تأكيدًا لهم أن ما هم عليه من عبادة الأصنام هو الحق وأن ما جاء به النبي ﷺ هو الباطل.
وقولهم عن النبي ﷺ: إنه صنبور يعني لا عقب له؛ أي: إنه إذا ذهب انقطع ذكره، والصنبور يطلق أيضًا على النخلة المنفردة عن النخل، أو التي يدِقُّ أصلها يعني يكون دقيقًا توشك أن تنقلع وينتهي أمرها، فهم يشبهون النبي ﷺ بذلك، فيقولون: هذا الرجل يوشك أن يذهب ويضمحل ذكره، أو أنه منقطع منفرد وحده دون جماعتهم، فهو فرقهم حيث جاءهم بشيء لم يعرفوه ولم يعرفه آباؤهم، وقطع أرحامهم واتبعه سراق الحجيج.. الخ.
هذا هو وصف النبي ﷺ وأصحابه عندهم لما جاء بالإسلام، وهكذا فالإنسان لا يستطيع أن يضع على أفواه الناس ما يلجمها، فهم يتكلمون ولا زال أهل الباطل يتكلمون ويصفون أهل الحق بشتى الأوصاف القبيحة والله هو الموعد.
قوله: ”وهذا لعن لهم وإخبار بأنهم لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة“ هذا الكلام عن الآية التالية وهي قوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا [سورة النساء:52].
حتى حفر النبي ﷺ وأصحابه حول المدينة الخندق فكفى الله شرهم وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [سورة الأحزاب:25].
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا [سورة النساء:53-55].
يقول تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ [سورة النساء:53] وهذا استفهام إنكاري، أي: ليس لهم نصيب من الملك، ثم وصفهم بالبخل فقال: فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا [سورة النساء:53] أي: لأنهم لو كان لهم نصيب في الملك والتصرف لما أعطوا أحدًا من الناس -ولا سيما محمد ﷺ- شيئًا، ولا ما يملأ "النقير" وهو النقطة التي في النواة، في قول ابن عباس -ا- والأكثرين.
يقول: فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا [سورة النساء:53] ”أي: لأنهم لو كان لهم نصيب في الملك والتصرف لما أعطوا أحدًا من الناس شيئًا -ولا سيما محمد ﷺ“ الفاء هنا للسببية الجزائية، ويكون هناك شرط محذوف بمعنى أن الكلام يكون هكذا: أم لهم نصيب من الملك فلو كان لهم ذلك أو فإن أعطوا نصيبًا من الملك فإذًا لا يؤتون الناس نقيرًا، أي لا يعطون عندئذ أحدًا شيئًا لا قليلًا ولا كثيرًا، فالمقصود أن هناك شرطًا محذوفًا مقدرًا يفهم من السياق، فالعرب تحذف من الكلام ما تثق معه بفهم السامع أو المخاطب.
أم لهم نصيب من الملك فإذًا لا يؤتون الناس نقيرًا، أي: فلو كان لهم ذلك، فلو أعطوا ذلك، فإذا كان لهم شيء من هذا فإنهم يمنعون، ولا يعطون عندئذ أحدًا من الناس شيئًا لا قليلًا ولا كثيرًا.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [سورة النساء:49]، فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [سورة الإسراء:71]
يقول ابن كثير: ”ولا ما يملأ النقير، وهو النقطة التي في النواة وهو قول ابن عباس والأكثرين“ المقصود أنهم لا يؤتون الناس شيئًا ولو كان حقيرًا تافهًا قليلًا، فالحافظ ابن كثير حمل النقير على أنها الحفرة الصغيرة أو النقطة التي تكون في ظهر النواة، والفتيل على أنه الخيط الذي يكون في الشق، أي أنهم لا يعطون الناس شيئًا ولو كان يسيرًا لا يملأ إلا تلك الحفرة، ومعلوم أن اليهود أشد الناس بخلًا فهم عبدة الذهب وبقيت فيهم عبادة العجل جيلًا بعد جيل كما قال تعالى: وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [سورة البقرة:93].
وبعضهم يقول: إن النقير هو ما نقر الرجل بأصبعه في الأرض، ويطلق النقير أيضًا على الخشبة التي تنقر بالنحت عليها من الداخل بحيث تصبح تلك الخشبة بذلك النقر صالحة لوضع الأسقية فيها، وقد جاء في حديث وفد عبد القيس في الصحيحين أن النبي ﷺ أمرهم بأشياء ونهاهم عن أشياء –ثم نسخ ذلك النهي فيما بعد- وكان من جملة ما نهاهم عنه المزفت والمقير والنقير والدباء وكلها أوعية كانوا ينتبذون بها؛ لأن هذه الأوعية التي كانوا ينتبذون فيها كان يسرع إليها التخمر.
فالمقصود أنه إذا كان هذا يقال له: نقير، والشق والنقطة المثقوبة في ظهر النواة يقال لها نقير، وما ينقره الرجل بأصبعه يقال له: نقير فإن ذلك يفهم منه أنهم لا يؤتون الناس شيئًا ولو كان حقيرًا قليلًا تافهًا لا شأن له ولا خطر له، وهذا الذي ذهب إليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله.
إذن الفتيل هو الخيط الذي في شق النواة -على أحد التفسيرات المشهورة- والنقير النقرة التي في ظهرها -وهذا أشهر التفاسير للنقير وإن كان يطلق على الشيء التافه كما ذكرنا- والقطمير هو القشرة التي تغلف النواة، والله أعلم.
وهذه الآية كقوله تعالى: قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ [سورة الإسراء:100] أي: خوف أن يذهب ما بأيديكم مع أنه لا يتصور نفاده، وإنما هو من بخلكم وشحكم؛ ولهذا قال تعالى: وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا [سورة الإسراء:100] أي: بخيلًا.
ثم قال: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ [سورة النساء:54] يعني بذلك حسدهم النبي ﷺ على ما رزقه الله من النبوة العظيمة، ومنعهم من تصديقهم إياه حسدهم له.
في قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ [سورة النساء:54] يحتمل أن تكون ”أم“ هذه منقطعة بمعنى أنها تفيد الانتقال فوبخهم على شيء ثم انتقل يوبخهم على شيء آخر هكذا: أم لهم نصيب من الملك فإذًا لا يؤتون الناس نقيرًا، أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، فانتقل من توبيخ إلى توبيخ آخر، بمعنى بل يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.
يقول: ”يعني بذلك حسدهم النبي ﷺ على ما رزقه الله من النبوة العظيمة“ فيكون لفظ ”الناس“ في قوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ [سورة النساء:54] من العام المراد به الخصوص فالناس لفظ جنس عام لكنه قد يطلق ويراد به واحد كما في قوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [سورة آل عمران:173] فيكون المراد به النبي ﷺ وهذا لا إشكال فيه، فقد كان اليهود يرجون أن يكون النبي الخاتم من الإسرائيليين فلما رأوا أنه من العربن النبي ا حسدوه، حسدوه على ذلك فلم يؤمنوا به.
والإمام ابن جرير -رحمه الله- حمل لفظ ”الناس“ في قوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ [سورة النساء:54] على النبي ﷺ وأصحابه، ويمكن أن نقول أيضًا: إنهم حسدوا العرب؛ لأن النبوة انتقلت من بني إسرائيل إليهم، والله يقول: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورة فاطر:32] فبعد أن كانت الرسالة والكتاب في بني إسرائيل عهودًا متطاولة انتقلت إلى غيرهم، وهذا شرف للنبي ﷺ ولقومه حسدهم اليهود عليه، فقوله تعالى: عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ [سورة النساء:54] يعني من النبوة، وهذا ما عليه عامة المفسرين ومنهم ابن جرير -رحمه الله.
ومنعهم من تصديقهم إياه حسدهم له؛ لكونه من العرب وليس من بني إسرائيل.
وروى الطبراني عن ابن عباس -ا- في قوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ الآية [سورة النساء:54] قال ابن عباس: نحن الناس دون الناس.
قال الله تعالى: فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا [سورة النساء:54].
قول ابن عباس –ا: ”نحن الناس دون الناس“ يعني أنه عام لكن ليس المراد به جنس البشر وإنما المقصود به النبي ﷺ وأصحابه، أو العرب أو هذه الأمة.
يقول الله : فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ فآل إبراهيم حمله ابن كثير هنا على بني إسرائيل وهذا وجه معروف في كلام العرب حيث يطلق الآل ويقصد به تارة آل فلان بعينه وتارة يقصد به ذريته أو قومه أو أهله أو نحو ذلك، فالله يقول في آية أخرى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [سورة غافر:46] فالمراد بآل فرعون هنا فرعون وقومه ممن كانوا معه على الكفر دون من آمن كامرأته.
وقوله -تبارك وتعالى: إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة آل عمران:33] قد يكون المقصود بالآل هنا إبراهيم وحده وقد يكون المقصود ما سبق في آية النساء، وكذلك الأمر في آل عمران -عليهم السلام جميعًا- وفي قولنا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، فآل محمد أتباعه على دينه وقد يراد به معنىً أخص من هذا وهم أزواجه وأهل بيته، وقد يطلق ويراد به معنىً أخص من ذلك أي علي وفاطمة والحسن والحسين -أصحاب الكساء.
على كل حال فقوله تعالى: فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ [سورة النساء:54] يحتمل أن يكون آتينا إبراهيم، ويمكن أن يكون المراد بآل إبراهيم عقبه ﷺ فإن ذرية إسحاق -عليه الصلاة والسلام- هم أسباط بني إسرائيل وكان فيهم الأنبياء، ويكون المراد بالكتاب بهذا الاعتبار جنس الكتاب، أي: الكتب التي نزلت على بني إسرائيل، أما إذا قلنا: إن المراد به إبراهيم فيكون المقصود به كتاب واحد وتكون ”أل“ عهدية ويعني صحف إبراهيم -عليه الصلاة والسلام.
يقول: فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة النساء:54] الحكمة هي السنة، ومعلوم أن الحكمة إذا ذكرت مع الكتاب فإن المراد بها ما أوتيه الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- من وحيٍ غير الكتاب.
قوله: وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا [سورة النساء:54] يمكن أن يراد بالملك الملك الذي حصل لبني إسرائيل عمومًا ومنه ملك داود -عليه الصلاة والسلام- ويمكن أن يكون المراد به ما ينطبق عليه هذا الوصف في ملك معين، فالملك العظيم المعروف هو ملك سليمان -عليه الصلاة والسلام- ولهذا حملها كثير من السلف ومن بعدهم على ملك سليمان، ومن هؤلاء الذين رجحوا هذا المعنى ابن جرير –رحمه الله تعالى- والآية تحتمل هذا وتحتمل معنىً أعم من ذلك كما قال الله عن موسى ﷺ لما ذكّرهم بنعمة الله عليهم، ومن ذلك قوله: وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:20]، فالله جعل فيهم الملك وجعل فيهم النبوة والكتاب.
وجعلنا منهم الملوك ومع هذا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ أي بهذا الإيتاء وهذا الإنعام وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ [سورة النساء:55] أي: كفر به وأعرض عنه وسعى في صدِّ الناس عنه، وهو منهم ومن جنسهم من بني إسرائيل فقد اختلفوا عليهم، فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل؟
وقال مجاهد: فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ أي: بمحمد ﷺ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ [سورة النساء:55].
قوله تعالى: فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ الضمير يرجع في الأصل إلى أقرب مذكور وهو المخبر عنه والمحدث عنه وهو ذلك الإفضال والإنعام الذي أعطاه الله لبني إسرائيل، وهذا الذي مشى عليه ابن كثير -رحمه الله- حيث قال: ”أي بهذا الإيتاء وهذا الإنعام“ وهذا هو المتبادر والله تعالى أعلم.
ومن أهل العلم من يقول –كمجاهد: فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ أي بمحمد ﷺ وعلى هذا يكون عود الضمير إلى غير مذكور إلا ذكرًا بعيدًا، وهو قوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ [سورة النساء:54] أي: محمدًا ﷺ إذا فسرت الآية بهذا.
وبعضهم يقول: الضمير يرجع إلى إبراهيم هكذا: فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ [سورة النساء:54-55] أي: بإبراهيم ﷺ وبعضهم يقول: يرجع إلى الكتاب، ولعل الأقرب -والله تعالى أعلم- أن المراد به ما ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله.
فالكفرة منهم أشد تكذيبًا لك، وأبعد عما جئتهم به من الهدى، والحق المبين، ولهذا قال متوعدًا لهم: وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا [سورة النساء:55] أي: وكفى بالنار عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب الله ورسله.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًا ظَلِيلًا [سورة النساء:56-57].
يخبر تعالى عما يعاقب به في نار جهنم من كفر بآياته وصدَّ عن رسله فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا الآية [سورة النساء:56] أي ندخلهم نارًا دخولا يحيط بجميع أجرامهم وأجزائهم.
قوله تعالى: نُصْلِيهِمْ نَارًا تدل على الإدخال وتدل على الاحتراق، تقول: صليته بالنار يعني أنه مسَّه حرُّها ولهيبها، وكذلك تدل على الدخول كما في قوله تعالى: لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى [سورة الليل:15] يعني لا يدخلها، والمعنيان متلازمان وذلك أن من دخلها احترق وقاسى حرها.
ثم أخبر عن دوام عقوبتهم ونكالهم فقال: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ [سورة النساء:56] قال الأعمش عن ابن عمر -ا: إذا احترقت جلودهم بدلوا جلودًا غيرها بيضاء أمثال القراطيس، رواه ابن أبي حاتم.
وروى ابن أبي حاتم عن الحسن قوله: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ الآية [سورة النساء:56] قال: تنضجهم في اليوم سبعين ألف مرة، قال حسين: وزاد فيه فضيل عن هشام عن الحسن: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ كلما أنضجتهم فأكلت لحومهم قيل لهم: عودوا فعادوا.
هذه الآية فيها كلام معروف للذين يتكلمون عن الإعجاز العلمي للقرآن فإنهم يقولون: إن العلم الحديث اكتشف أن مركز الإحساس في الجلد، وهذا معنىً صحيح وهو شيء يدركه الإنسان وهو مدرك قديمًا لكن فلسفته العلمية لعلها عرفت بشكل ظاهر في هذا العصر، والإنسان يجد أنه إذا ذهب الجلد ذهب الإحساس، فهذا من الأمثلة الصحيحة على أن التفسير العلمي لا إشكال فيه.
وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [سورة النساء:57] هذا إخبار عن مآل السعداء في جنات عدن، التي تجري فيها الأنهار في جميع فجاجها ومحالها وأرجائها حيث شاءوا وأين أرادوا، وهم خالدون فيها أبدًا لا يحولون ولا يزولون ولا يبغون عنها حولًا.
وقوله: لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ [سورة النساء:57] أي: من الحيض والنفاس والأذى والأخلاق الرذيلة والصفات الناقصة.
هنا حذف المتعلق فما قال مطهرة من كذا، ولذلك فالأصل أنه يحمل على العموم فيقال: أي مطهرة من كل أذى حسي ومعنوي، فهي مطهرة من الأخلاق المرذولة التي توجب نفور النفوس ووقوع المشكلات بين الأزواج وكذلك مطهرة من كل أذىً حسي مستقذر.
كما قال ابن عباس -ا: مطهرة من الأقذار والأذى وكذا قال عطاء والحسن والضحاك والنخعي وأبو صالح وعطية والسدي، وقال مجاهد: مطهرة من البول والحيض والنخام والبزاق والمني والولد.
وقوله: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًا ظَلِيلًا [سورة النساء:57] أي: ظلًا عميقًا كثيرًا غزيرًا طيبًا أنيقًا.
الظل الظليل يعني الظل الوارف التام، وهذه المعاني لها وقعٌ عند العرب؛ لأنهم في بلاد حارة، ولهذا لما ذكر الله نعيم الجنة قال: وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ [سورة الواقعة:29] على أحد التفسيرين المشهورين في الآية أن الطلح هو شجر الشوك المعروف في أرض الحجاز من بلاد العرب حيث يستظلون به وهو من شجر العضاة ولا تكاد تنتفع به أو تجلس حتى تتأذى بشوكه الذي يتساقط من تحته، فالله تعالى قال: وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ [سورة الواقعة:29] وهم لا يتصورون أن يوجد هذا الشجر الذي يستظل به من غير شوك لكن يبدو أن شوكه قد أزيل كما قال الزجاج: يجوز أن يكون في الجنة وقد أزيل شوكه[1].
قوله تعالى: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًا ظَلِيلًا [سورة النساء:57] وصف الله ظل الجنة بأوصاف في آيات أخرى نحو كونه قد مُدَّ كقوله: وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ [سورة الواقعة:30] وكقوله: أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا [سورة الرعد:35] أي ظلها دائم لا ينقطع بخلاف ظل الدنيا الذي ينتقل هنا وهناك ويضمحل ويقصر.
ومن الآيات التي تذكر ظل الجنة قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ [سورة المرسلات:41] وقوله تعالى: هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [سورة يــس:56] وغير ذلك من الآيات.
في الدنيا ربما تداعى الناس من أجل النظر إلى شجرة يزعمون أنه يجتمع أربعة من الرجال كلٌّ يمسك بيد الآخر حتى يحيطون بأصلها من ضخامتها، وهذه في مائة عام لا يقطعها الراكب، فإذا كانت الأرض كلها لو مشى الإنسان مائة عام على قدمه لقطعها فما هذه الشجرة؟!
نسأل الله أن يرزقنا الجنة ونعيمها، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين.
- تفسير القرطبي (ج 18 / ص 208).
- أخرجه أحمد (9951) (ج 2 / ص 462) وقال الأرنؤوط: صحيح دون قوله "شجرة الخلد" وهذا إسناد ضعيف.