بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا [سورة النساء:66-70].
يخبر تعالى عن أكثر الناس أنهم لو أمروا بما هم مرتكبونه من المناهي لما فعلوه؛ لأن طباعهم الرديئة مجبولة على مخالفة الأمر، وهذا من علمه -تبارك وتعالى- بما لم يكن لو كان فكيف كان يكون؛ ولهذا قال تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ الآية [سورة النساء:66].
وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ [سورة النساء:66] أي: ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به وتركوا ما ينهون عنه لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ أي: من مخالفة الأمر وارتكاب النهي وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [سورة النساء:66].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد ذكر الله صفة أولئك المخالفين لأمر الله وأمر نبيه ﷺ فقال: وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلًا [سورة النساء:81] ثم رغَّب في طاعته وطاعة رسوله ﷺ فقال: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ الآية [سورة النساء:69] ثم قال بعد ذلك: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ [سورة النساء:66] فهل المراد بهذه الآية أن كل الناس لن يفعلوا ذلك إلا قليل منهم أم المراد بها أولئك الذين ذكر صفتهم؟
السياق في هؤلاء الذين ذكر صفتهم، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- مشى على أنه في جميع الناس، أي: لو أنا كتبنا على الناس جميعًا قتل النفوس ما فعلوه إلا قليل منهم، والذي قد يؤيد ما ذكره ابن كثير -رحمه الله- أنها في عموم الناس، أي: أن هؤلاء ما طلب منهم هذا أصلًا ومع ذلك كانوا إذا خرجوا من عنده بيَّت طائفة منهم غير الذي يقول، فكيف لو كتب عليهم قتل النفوس؟! إلا إذا قيل: إن المراد بالقليل في قوله: مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ [سورة النساء:66] أنه بمنزلة العدم.
وفي كلام العرب وأشعارهم يعبرون بذلك ولا يريدون حقيقة معناه، تقول: مررت بأرض قليل بها الكُرَّاث، يعني أنه معدوم، فهذا سمع في كلام العرب، وقد يحمل عليه عدد من الآيات التي ورد فيها لفظ القلة، منها قوله تعالى: فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا [سورة النساء:46] فالمعنى أنهم لا يؤمنون أصلًا، ومنها قوله تعالى: وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة الأحزاب:18] يعني أنهم لا يأتون البأس، فالآية تحتمل معنىً آخر وهو حقيقة القلة.
والخلاصة أنه إذا حمل قوله: مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ [سورة النساء:66] على أن المعنى لم يفعله أحد فيمكن أن تكون هذه الآية في الذين ذكر الله صفتهم بقوله: بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ يعني لم يفعله أحد منهم مطلقًا.
يقول الحافظ ابن كثير في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ”لو أمروا بما هم مرتكبونه من المناهي لما فعلوه؛ لأن طباعهم الرديئة مجبولة على مخالفة الأمر“ معناه أننا لو أمرناهم بالأمور المحرمة ما فعلوها؛ لأنهم جبلوا على المخالفة.
قول ابن كثير هذا يظهر أنه غير مراد هنا، بل المعنى –والله أعلم- أن الله يخبر عن هؤلاء الناس عمومًا أو عن هؤلاء الذين ذكر صفتهم أنه لو كتب عليهم التكاليف الشاقَّة من قتل النفوس أو الخروج من الأوطان ما فعلوه إلا قليل منهم، ويؤيد هذا المعنى قوله بعد ذلك: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [سورة النساء:66] فهذا خبر عنهم أنهم لا يستجيبون لأوامر الله وتكاليفه الشاقة، وهذا المعنى هو الذي مشى عليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- وهو الأقرب، والله تعالى أعلم.
لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ [سورة النساء:66] أي: من مخالفة الأمر وارتكاب النهي وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [سورة النساء:66] قال السدي: أي: وأشدَّ تصديقًا.
وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا [سورة النساء:67] أي: من عندنا أَجْرًا عَظِيمًا يعني: الجنة وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا [سورة النساء:68] أي: في الدنيا والآخرة.
قول السدي في قوله تعالى: وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [سورة النساء:66] أي: وأشدَّ تصديقا” هذا المعنى لا يبعد في تفسير الآية، ولا يعارض ما قيل فيها من المعاني التي ذكرها السلف فقد قال الله عن المنفقين في سبيله وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ [سورة البقرة:265] وقد سبق الكلام عليها أنها تحتمل عدة معانٍ ومن جملة المعاني التي تحتملها أن ذلك ينعكس أثره عليهم بالثبات، ومن معانيها أيضًا أن الإنسان تنازعه نفسه عند إخراج المال بمحبته له فهو يجاهدها ويحملها على الإنفاق والبذل وما أشبه ذلك.
وعلى كل حال إذا فعل الإنسان ما أمره الله به فإن ذلك يكون من دواعي ثباته ولزومه الصراط المستقيم وانتفاء التردد والشك من قلبه فيكون بذلك مؤمنًا؛ لأن الإيمان قول وعمل.
وقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- عند قوله تعالى: وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا [سورة النساء:68] أي: في الدنيا والآخرة“ الهداية في الدنيا هي هداية الإرشاد وهداية التوفيق، والهداية في الآخرة هي كما قال الله : وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ [سورة محمد:4-5] ومعنى ذلك -على القول الراجح في تفسير تلك الآية- أن الله يهديهم في الآخرة إلى الصراط ويهديهم على الصراط، ويهديهم عند الحساب، ويهديهم إلى الجنة، ويهديهم إلى منازلهم في الجنة، فكل هذه الهدايات تكون في الآخرة، وهناك هدايات أخرى تكون لغير الشهداء؛ لأن الشهيد يأمن من الفتَّان، لكن غيره بحاجة إلى هداية عند سؤال الملكين.
قوله: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [سورة النساء:69] الصديقين هذه صيغة مبالغة تدل على كمال الاتصاف بهذه الصفة التي هي الصدق، فالصدّيق هو الذي كمل تصديقه، ولذلك قيل لأبي بكر الصدّيق؛ لكمال تصديقه فقد كان كثير التصديق وكذلك يقال لمن كمل صدقه حتى عرف بذلك: إنه صدِّيق، وفي الحديث: ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا[1] فهذه صيغة مبالغة تدل على كمال الاتصاف بهذه الصفة كما يقال لمن اكتمل احترافه حرِّيف.
ثم أثنى عليهم تعالى فقال: وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [سورة النساء:69].
وروى البخاري عن عائشة -ا- قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من نبي يمرضُ إلا خيِِّر بين الدنيا والآخرة وكان في شكواه التي قبض فيها فأخذته بُحَّة شديدة فسمعته يقول: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ [سورة النساء:69] فعلمت أنه خُيِّر” وكذا رواه مسلم[2] وهذا معنى قوله ﷺ في الحديث الآخر: اللهم في الرفيق الأعلى ثلاثًا ثم قضى -عليه أفضل الصلاة والتسلي[3].
روى ابن جرير عن سعيد بن جُبير قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله ﷺ وهو محزون، فقال له النبي ﷺ: يا فلان، ما لي أراك محزونًا؟ قال: يا نبي الله شيء فكرت فيه؟ قال: ما هو؟ قال: نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك وغدًا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك، فلم يرد النبي ﷺ شيئًا، فأتاه جبريل بهذه الآية: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ الآية [سورة النساء:69] فبعث النبي ﷺ فبشره وقد روي هذا الأثر مرسلًا عن مسروق وعكرمة وعامر الشَّعْبي وقتادة وعن الربيع بن أنس وهو من أحسنها سندًا[4].
وقد روي مرفوعًا من وجه آخر، ورواه أبو بكر بن مردويه عن عائشة -ا- قالت: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله إنك لأحب إليَّ من نفسي، وأحب إليَّ من أهلي، وأحب إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك وعرفت أنك إذا دخلتَ الجنة رفعتَ مع النبيين وإن دخلتُ الجنة خشيت ألا أراك، فلم يرد عليه النبي ﷺ حتى نزلت عليه: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [سورة النساء:69] وهكذا رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه: صفة الجنة ثم قال: لا أرى بإسناده بأسًا، والله أعلم.
هذه الرواية قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله: رجالها موثقون، والرواية التي قبلها هي من قبيل المرسل عن سعيد بن جبير، وقد أشار الحافظ ابن كثير -رحمه الله- إلى جملة من المراسيل الواردة في هذا المعنى، وقد جاءت روايات أخرى مرفوعة غير ما ذكر، ومعلوم أن المرسل من قبيل الضعيف لكن إذا تعددت المراسيل أو جاءت من وجه آخر مرفوعةً فإنها تصحح بهذا.
وعلى كل حال مثل هذا المرسل عن سعيد بن جبير جاءت مراسيل متعددة بنحوه وجاءت مرفوعةً من غير وجه، ولذلك يمكن أن يصحح بهذا أو يحسن إسناده، والروايات في هذا أكثر مما ذكرها الحافظ ابن كثير، لكنها كلها تدور على هذا المعنى.
وثبت في صحيح مسلم عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال: كنت أبيت عند النبي ﷺ فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: سل فقلت: يا رسول الله، أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: أو غَيْرَ ذلك؟ قلت: هو ذاك، قال: فَأَعِنِّي على نفسك بكثرة السجو [5].
أورد هذه الرواية استشهادًا بها على قوله تعالى: وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [سورة النساء:69] وفي هذا الحديث بيان كيف يكون الإنسان مع النبيين حيث فيه مثال على أن مما يوصل به إلى هذه المراتب ما قاله –عليه الصلاة والسلام: أَعني على نفسك بكثرة السجود.
سبب نزول هذه الآية:
إذا أردنا أن نستخرج سبب النزول من هذه الروايات المتعددة فإننا سنقتصر على الصحيح منها والصريح دون غيره، ولذلك يمكن أن نقول: إن سبب النزول أن رجلًا جاء إلى النبي ﷺ أو سأل رجل النبي ﷺ فكل هذه الروايات لا منافاة بينها سواء كانت من قبيل المراسيل كمرسل سعيد أو غيره، أو حديث عائشة، فكل ذلك لا منافاة بينه، فتكون الآية نازلة على سبب هو أن النبي ﷺ سئل -عما سبق ذكره- فنزلت هذه الآية لبيان ذلك.
وروى الإمام أحمد عن عمرو بن مُرَّةَ الجُهَنِيّ قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الخمس وأديت زكاة مالي وصمت شهر رمضان، فقال رسول الله ﷺ: من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا -ونصب أصبعيه- ما لم يعق والديه تفرد به أحمد[6].
وأعظم من هذا كله بشارة ما ثبت في الصحاح والمسانيد وغيرهما من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله ﷺ سئل عن الرجل يحب القوم ولمّا يلحق بهم؟ فقال: المرء مع من أحب [7] قال أنس -: فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث[8].
وفي رواية عن أنس أنه قال: إني أحب رسول الله ﷺ وأحب أبا بكر وعمر -ا- وأرجو أن يبعثني الله معهم وإن لم أعمل كعملهم[9].
قال تعالى: ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ [سورة النساء:70] أي: من عند الله برحمته وهو الذي أهلهم لذلك لا بأعمالهم وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا أي: هو عليم بمن يستحق الهداية والتوفيق.
يقول –عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب ومحبة الله ومحبة النبي ﷺ لا تكون إلا من مخلص، ولذلك يخاف الإنسان على قلبه من النفاق؛ لأن المنافقين لا تتحقق عندهم هذه المحبة، ولا يكون الطريق إلى محبة الله ومحبة رسوله ﷺ إلا بلزوم الصراط المستقيم، وكلما انحرف الإنسان عن الجادة كلما أثر ذلك في هذه المحبة، ولذلك فالذين أبعدوا في الانحراف وإن كان بعضهم ينتسب إلى التدين أو إلى الدعوة أو نحو ذلك هؤلاء قد لا توجد عندهم هذه المحبة، والله المستعان.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:71-74].
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوهم، وهذا يستلزم التأهب لهم بإعداد الأسلحة والعدد وتكثير العدد بالنفير في سبيله.
ثُبَاتٍ أي: جماعة بعد جماعة وفرقة بعد فرقة وسرية بعد سرية، والثبات: جمع ثُبَة وقد تجمع الثبة على ثُبين.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- قوله: فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ [سورة النساء:71] أي: عُصبا يعني: سرايًا متفرقين أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا [سورة النساء:71] يعني: كلكم.
وكذا رُوي عن مجاهد وعكرمة والسدي وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني ومُقاتل بن حَيَّان وخُصَيف الجَزَري.
أي أن المقصود بقوله: فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا [سورة النساء:71] أي بحسب المصلحة والحاجة، فقد تكون المصلحة في قتال العدو أن ينفروا إليه مجتمعين بجيش عرمرم، وقد تكون المصلحة في نفورهم مجموعات صغيرة لئلا يظفر بهم العدو، وذلك أن القوة أحيانًا تكون بالتفرق وأحيانًا تكون بالاجتماع، قال يعقوب لأبنائه: يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ [سورة يوسف:67].
قوله: ”ويبطئ غيره عن الجهاد“ هذا المعنى صحيح؛ لأن الله قال: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [سورة الأحزاب:18] فقوله: وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ [سورة النساء:72] أي ليبطئن غيره فيثبطه ويقعده ويحتمل أيضًا المعنى الآخر وهو أنه يتباطأ هو، ومعلوم أن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، وكما دل القرآن على أنهم يبطئون غيرهم ويقعدونهم عن الجهاد فإنه قد دل أيضًا على أنهم يتباطؤون ويتأخرون ويتخلفون، قال تعالى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ [سورة التوبة:81] فكل ذلك واقع منهم قاتلهم الله.
كما كان عبد الله بن أبي بن سلول -قبحه الله- يفعل، يتأخر عن الجهاد ويُثَبّط الناس عن الخروج فيه، وهذا قول ابن جُرَيْج وابن جَرِيرٍ؛ ولهذا قال تعالى إخبارا عن المنافق أنه يقول إذا تأخر عن الجهاد: فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ [سورة النساء:72] أي: قتل وشهادة وغلب العدو لكم لما لله في ذلك من الحكمة قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا [سورة النساء:72] أي: إذ لم أحضر معهم وقعة القتال يعد ذلك من نعم الله عليه ولم يدر ما فاته من الأجر في الصبر أو الشهادة إن قتل.
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله أي: نصر وظفر وغنيمة لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ أي: كأنه ليس من أهل دينكم يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا [سورة النساء:73] أي: بأن يضرب لي بسهم معهم فأحصل عليه وهو أكبر قصده وغاية مراده.
ثم قال تعالى: فَلْيُقَاتِلْ [سورة النساء:74] أي: المؤمن النافر فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ [سورة النساء:74] أي: يبيعون دينهم بعَرَض قليل من الدنيا وما ذلك إلا لكفرهم وعدم إيمانهم.
ثم قال تعالى: وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:74] أي: كل من قاتل في سبيل الله -سواء قُتل أو غَلب وسَلَب- فله عند الله مثوبة عظيمة وأجر جزيل كما ثبت في الصحيحين وتكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه بما نال من أجر أو غنيمة.
- أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله (2607) (ج 4 / ص 2012).
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير – باب تفسير سورة النساء (4310) (ج 4 / ص 1675) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة - - باب في فضل عائشة -ا- (2444) (ج 4 / ص 1893).
- أخرجه البخاري في كتاب المغازي - باب مرض النبي ﷺ ووفاته (4174) (ج 4 / ص 1613).
- حديث مرسل أخرجه الطبري في تفسيره من مراسيل سعيد بن جبير (ج 8 / ص 534) وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن عائشة من مرسل الشعبي (1380) (ج 2 / ص 131) وهو صحيح، انظر كتاب تخريج أحاديث وآثار كتاب في ظلال القرآن (ص 90).
- أخرجه مسلم في كتاب الصلاة - باب فضل السجود والحث عليه (488) (ج 1 / ص 353).
- هذا الحديث موجود في كتاب اسمه الأحاديث الساقطة من مسند الإمام أحمد بن حنبل برقم (24299) (ص 23) وقد قال صاحب كتاب مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني بإسنادين ورجال أحد إسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح، انظر مجمع الزوائد (ج 8 / ص 67).
- أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب علامة الحب في الله (5818) (ج 5 / ص 2283) ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب المرء مع من أحب (2640) (ج 4 / ص 2034).
- كلام أنس ثابت من رواية أخرى أخرجها البخاري في كتاب فضائل الصحابة - باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي (3485) (ج 3 / ص 1349) والترمذي في كتاب الزهد عن رسول الله ﷺ- باب ما جاء أن المرء مع من أحب (2385) (ج 4 / ص 595) وأحمد (12738) (ج 3 / ص 168).
- رواية البخاري في كتاب فضائل الصحابة - باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي (3485) (ج 3 / ص 1349) ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب المرء مع من أحب (2639) (ج 4 / ص 2032).