الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
[21] من قول الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ} الآية 75 إلى قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا} الآية 79.
تاريخ النشر: ٢٤ / شوّال / ١٤٢٦
التحميل: 5187
مرات الإستماع: 2472

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا [سورة النساء:71] يعني أن الله يأمرهم بأن ينفروا لقتال عدوهم مجتمعين ومتفرقين بحسب المصلحة.

قال: ”وقد تجمع الثُّبَةُ على ثُبين بضم الثاء وكسر الباء“.

وقوله: فَلْيُقَاتِلْ [سورة النساء:74] قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: ”أي المؤمن النافر في سبيل الله“.

الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ [سورة النساء:74] ”أي: الذين يبيعون دينهم بعرض قليل من الدنيا وما ذلك إلا لكفرهم وعدم إيمانهم“ وهذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- باعتبار أن الاسم الموصول وصلته في محل نصب مفعول به، يعني أن الذي وقع عليه القتال هو الذي يشري الدنيا بالآخرة ويكون الفاعل غيره، أي فليقاتل المؤمنون الكفارَ الذين صفتهم أنهم يشرون الدنيا بالآخرة.

لكن هذا المعنى الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- ليس هو المتبادر من السياق، بل المتبادر من السياق هو أن الفاعل الَّذِينَ يَشْرُونَ ويكون معنى يشرون أي يبيعون.

يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [سورة النساء:74] يعني يبيعونها بنعيم الآخرة، وعلى هذا الاعتبار يكون المعنى عكس ما ذكر ابن كثير، وهذا هو الأقرب في تفسير الآية، وهو الذي عليه عامة أهل العلم ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله تعالى- أي أن المعنى يكون هكذا: فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ [سورة النساء:74] يعني فليقاتل في سبيل الله أهلُ الإيمان الذين صفتهم أنهم يبيعون الدنيا العاجلة بالآخرة.

وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ۝ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [سورة النساء:75-76] يحرض تعالى عباده المؤمنين على الجهاد في سبيله وعلى السعي في استنقاذ المستضعفين بمكة من الرجال والنساء والصبيان المتبرمين من المقام بها، ولهذا قال تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ [سورة النساء:75] يعني مكة.

قوله تعالى: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ يحتمل أن يكون مضافًا إلى لفظ الجلالة هكذا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ يعني يكون المعنى ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله وسبيل المستضعفين الذين هذه صفتهم.

ويحتمل أن يكون منصوبًا على الاختصاص ويكون المعنى ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله وأخص المستضعفين، والمعنى على هذا أيضًا مقارب للذي قبله وإن كان يختلف عنه في الإعراب، لكن المقصود بهذا الاعتبار أن يكون المستضعفون أحد الأسباب التي من أجلها يقوم القتال، أي أنكم تقاتلون في سبيل مرضاة الله وطلب ما عنده من الأجر والثواب، وفي سبيل المستضعفين لاستنقاذهم ورفع الظلم عنهم فإنهم جديرون بذلك، والله أعلم.

ولهذا قال تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ [سورة النساء:75] يعني مكة كقوله تعالى: وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [سورة محمد:13] ثم وصفها بقوله: الظَّالِمِ أَهْلُهَا [سورة النساء:75].

وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا [سورة النساء:75] أي: سخر لنا من عندك وليًا وناصرًا.

روى البخاري عن ابن عباس -ا- قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين[1].

ثم قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ [سورة النساء:76] أي: المؤمنون يقاتلون في طاعة الله ورضوانه، والكافرون يقاتلون في طاعة الشيطان.

ثم هيَّج تعالى المؤمنين على قتال أعدائه بقوله: فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [سورة النساء:76].

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ۝ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ۝ مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا [سورة النساء:78-79].

كان المؤمنون في ابتداء الإسلام -وهم بمكة- مأمورين بالصلاة والزكاة وإن لم تكن ذات النُّصُب لكن كانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم.

قوله تعالى: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً الآية [سورة النساء:78] هذه الآية نزلت في المؤمنين حينما كانوا يتشوفون للجهاد كما قال الله في سورة الصف: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [سورة الصف:2-3] فإنها نزلت بسبب أنهم تمنوا أن يعرفوا أحب الأعمال إلى الله فلما أخبروا أنه الجهاد تثاقلوا وتباطؤوا، فعاتبهم الله على ذلك، وهذا القول هو الظاهر -والله أعلم- خلافًا لمن قال: إنها في المنافقين أو في اليهود؛ فإن هؤلاء لا يتشوفون إلى الجهاد أصلًا وإن كان من قال: إنها في اليهود قال: إن ذلك مما قصه الله من أخبارهم.

ولم يكن الحال إذ ذاك مناسبًا لأسباب كثيرة منها: قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم، ومنها كونهم كانوا في بلدهم وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض، فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء لائقًا؛ فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار، ومع هذا لما أمروا بما كانوا يودونه جزع بعضهم منه وخافوا مواجهة الناس خوفًا شديدًا وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [سورة النساء:77] أي: لو ما أخرته إلى مدة أخرى فإن فيه سفك الدماء ويتم الأبناء وتأيم النساء.

وهذه الآية كقوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ الآيات [سورة محمد:20].

روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -ا- أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابًا له أتوا النبي ﷺ بمكة فقالوا: يا نبي الله، كنا في عزٍّ ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة، قال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا فأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ الآية [سورة النساء:77] ورواه النسائي والحاكم[2].

وقوله: قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى [سورة النساء:77] أي: آخرة المتقي خير من دنياه، وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [سورة النساء:77] أي: من أعمالكم بل توفونها أتم الجزاء، وهذه تسلية لهم عن الدنيا، وترغيب لهم في الآخرة، وتحريض لهم على الجهاد.

وقوله تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [سورة النساء:78] أي: أنتم صائرون إلى الموت لا محالة ولا ينجو منه أحد منكم كما قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ الآية [سورة الرحمن:26] وقال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [سورة العنكبوت:57] وقال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ [سورة الأنبياء:34].

المقصود أن كل أحد صائر إلى الموت لا محالة ولا ينجيه من ذلك شيء سواء جاهد أو لم يجاهد فإن له أجلًا محتومًا ومقامًا مقسومًا كما قال خالد بن الوليد حينما جاءه الموت على فراشه: لقد شهدت كذا وكذا موقفًا وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنة أو رمية وها أنا أموت على فراشي فلا نامت أعين الجبناء.

وقوله: وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [سورة النساء:78] أي حصينة منيعة عالية رفيعة أي: لا يغني حذر وتحصن من الموت.

يقول تعالى: وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [سورة النساء:78] البرج هو المكان المرتفع وقيل له ذلك لظهوره وانكشافه، ولذلك يقال للمرأة المتبذلة أو التي تزاحم الرجال أو تمشي في وسط الطريق أو كثيرة الخروج -ولو كانت متحجبة- يقال عنها: متبرجة؛ لأن هذا نوع من التبرج بمعنى الظهور والانكشاف؛ فالبرج يراه الناس بانكشافه وظهوره وارتفاعه وبدوِّه.

والمشيدة تأتي بمعنى المرتفعة وتأتي بمعنى المطلية -بالجص مثلًا- بمعنى أنها محكمة البناء، ولذلك فالحديث الذي فيه النهي عن تشييد المساجد هل المقصود به النهي عن رفع المساجد في البناء وتعليتها من غير حاجة أو المقصود به تزيينها وتحسين بنائها وما أشبه ذلك؟

وردت نصوص دالة على كراهة أن يحمر أو يصفر، فالحاصل أن الله ذكر لهم في هذه الآيات جملة من الأمور التي يحفزهم فيها إلى الجهاد فأمرهم -تبارك وتعالى- بأن ينفروا مجتمعين ومتفرقين، وعاتب المتباطئين منهم، وذم المنافقين على قيلهم، وأمر أهل الإيمان بالقتال فقال: فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ [سورة النساء:74] وذكر ثوابهم ثم ذكر ما يحفزهم على ذلك، فقال: لماذا لا تقاتلون في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين الذين قد وقع عليهم الإذلال والظلم والقهر؟

ثم ذكر حالة أهل الإيمان، ثم عاتب الذين تباطئوا بعد أن كانوا يتمنون ذلك، ثم بعد ذلك بيّن لهم أصلًا كبيرًا وهو أن متاع الدنيا زائل وأن الموت الذي يخافون منه ويتحاشونه واقع لا محالة، لا يقدمه قتال ولا يؤخره خور وضعف وجبن، وإنما إذا جاء أجل الإنسان مات في أي مكان كان، ومهما ركب الإنسان الأهوال والأوجال والأخطار فإن ذلك لا يقدم في أجله لحظة، فهذه عقيدة قوية وراسخة إذا اعتقدها الإنسان فإنه تنقشع عنه سحائب الخوف والوجل والهلع والجبن.

وذكر الله  لهم في هذه الآيات قضية مهمة تتعلق بحالهم وحال عدوهم في القتال، وهي أن هؤلاء الأعداء يقاتلون في سبيل الطاغوت، فأهدافهم واهية، ويركنون إلى ركن هش ضعيف لا يستطيع أن يقدم لهم نفعًا ولا نصرًا، وأن أهل الإيمان يقاتلون في سبيل الله فقال: فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ [سورة النساء:76] وبيّن لهم ضعف كيد الشيطان فقال: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [سورة النساء:76] وهذا يرجع إلى أوليائه فإن كيدهم يتلاشى، والهالة التي يضفونها على أنفسهم تنقشع إذا قابلوا أهل الإيمان وقاتلوهم، وهذه المعاني لو أن أهل الإيمان تأملوها فإنه ترتفع عن نفوسهم كثير من الأمور التي تضعفهم وتؤخرهم.

ثم ذكر تعالى بعد ذلك حال المنافقين وإرجافهم وأنهم كانوا إذا وقعت هزيمة أو نحو ذلك أعادوا هذا إلى النبي ﷺ، وإذا جاء نصر وظفر وغنيمة قالوا: هذا من عند الله ، كما قال الفراعنة لموسى -عليه الصلاة والسلام- عندما كانوا يتطيرون به ويمن معه: وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ [سورة الأعراف:131].

وقوله: وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ [سورة النساء:78] أي: خصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو ذلك، هذا معنى قول ابن عباس -ا- وأبي العالية والسدي يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ [سورة النساء:78] وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ [سورة النساء:78] أي: قحط وجدب ونقص في الثمار والزروع، أو موت أولاد، أو نتاج، أو غير ذلك كما يقوله أبو العالية والسدي يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ [سورة النساء:78] أي: من قِبَلك وبسبب اتباعنا لك واقتدائنا بدينك، كما قال تعالى عن قوم فرعون: فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ [سورة الأعراف:131] وكما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ الآية [سورة الحـج:11]

وهكذا قال هؤلاء المنافقون الذين دخلوا في الإسلام ظاهرًا وهم كارهون له في نفس الأمر، ولهذا إذا أصابهم شر إنما يسندونه إلى اتباعهم النبي ﷺ فأنزل الله : قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ [سورة النساء:78] فقوله: قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ [سورة النساء:78] أي: الجميع بقضاء الله وقدره وهو نافذ في البر والفاجر والمؤمن والكافر.

ثم قال تعالى مخاطبًا لرسوله ﷺ والمراد جنس الإنسان ليحصل الجواب: مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ [سورة النساء:79] أي: من فضل الله ومنِّه ولطفه ورحمته.

قوله: مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [سورة النساء:79] الحسنة تشمل كل المعاني التي ذكرها السلف، فهي كل أمر يسرهم من نصر أو غنى أو نزول مطر أو نحو ذلك، والسيئة كل ما يسوء من هزيمة وموت ولد وهلاك زرع وخسارة التجارة، وما أشبه ذلك مما يتشاءمون به ويقولون: هذا بشؤمك وشؤم دينك الذي جئت به، وقد كانوا يقولون هذا الكلام بطريقة أو بأخرى، كقولهم: أنت الذي سببت لنا هذه الكوارث؛ لأنك جعلت الناس يحاربوننا ويستهدفوننا ويرموننا عن قوس واحدة، فحصل ما حصل من هذه الأمور.

وقوله تعالى: مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [سورة النساء:79] هذه الآية ليست معارضة لما قبلها، وذلك أن وقوع الحسنة هي من توفيق الله وفضله ووقوع السيئة يكون بسبب الإنسان من التقصير والذنوب ونحو ذلك، وكل من الحسنة والسيئة لا يقع شيء منها إلا بإذن الله وقدره.

وقوله تعالى: قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ [سورة النساء:78] هذا رد على المنافقين، وقوله تعالى: مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [سورة النساء:79] هذا خطاب للنبي ﷺ وهذا الخطاب لا يرد عليه إشكال في أن النبي ﷺ لم يكن له سيئات أو ذنوب حتى يقال: وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [سورة النساء:79] فالذين التفتوا إلى هذا المعنى قالوا: هذا خطاب للأمة ولا مانع من أن يقال: إن الخطاب متوجه إلى النبي ﷺ والمقصود به الأمة، أو أن الأمة داخلة فيه باعتبار أن الأمة تخاطب في شخص قدوتها ومقدمها -عليه الصلاة والسلام، والخطاب الموجه إلى النبي ﷺ تارة يكون مختصًا به، وتارة يكون المراد به الأمة قطعًا، وتارة يدخل فيه النبي ﷺ وتدخل فيه الأمة بالاعتبار الذي ذكرته آنفًا.

ومما يختص بالأمة دون النبي ﷺ، أن الله قال: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ۝ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [سورة الإسراء:23، 24] النبي ﷺ لما نزلت عليه هذه الآيات لم يكن له أب ولا أم،  فهذا الخطاب قطعًا متوجه إلى الأمة.

وقد يختص بالنبي ﷺ وتقوم قرينة تدل على ذلك كقوله تعالى: خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأحزاب:50] وقد تشترك الأمة مع النبي ﷺ في الخطاب وهذا هو الغالب.

وبالنسبة للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فإن الصغائر تقع منهم على القول الراجح عند أهل السنة، لكنهم لا يصرون عليها ولا تكون هذه الصغائر من قبيل المدنسات التي يسميها العلماء صغائر الخسَّة -يعني التي تدل على دناءة- فهذه لا تقع من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- والله قال: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ [سورة الفتح:2] فالله غفر للنبي ﷺ ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

فالحاصل أن الله قال: وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [سورة النساء:79] فالأولى رد على المنافقين قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ [سورة النساء:78] أي: بقضائه وقدره، وفي القراءة التي قرأ بها أبي وابن عباس وابن مسعود: (وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك) والقراءة الآحادية إذا صح سندها فإنها تفسر القراءة المتواترة، فالله رد على المنافقين قائلًا: قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ [سورة النساء:78] ثم بعد ذلك قرر لأهل الإيمان معنىً ينتفعون به فقال: مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ [سورة النساء:79] أي أن هذا من فضله عليك وعلى هذه الأمة أن حصل لهم الخصب أو النصر أو ربح التجارة وما أشبه ذلك.

وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [سورة النساء:79] أي بسبب ذنوبكم وتقصيركم ومخالفتكم لأمر الله -تبارك وتعالى- كما وقع من الهزيمة في يوم أحد لما عصوا النبي ﷺ وهذا كما قال الله -تبارك وتعالى- في الآية الأخرى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [سورة الشورى:30] فالمصائب التي تقع للإنسان إنما تقع بسبب ذنوبه وظلمه وتقصيره، فهذا المعنى ينتفع به أهل الإيمان، أي: ما أصابكم من حسنات ومن أمور طيبة فهي من عند الله فاشكروه عليها وما وقع بكم من مصائب ونقص في الأرزاق والأموال وما إلى ذلك فهذا بسبب تقصيركم وذنوبكم فتوبوا إلى الله وارجعوا إليه ليرفع ما بكم من الضر وما نزل بكم من المصيبة، فالشر لا ينسب إلى الله كما في الحديث: والشر ليس إليك[3] فالله -تبارك وتعالى- خلق الخير وخلق الشر لكن ليس في أفعال الله شر وإنما الشر يوجد في مفعولاته لِحِكَمٍ بالغة يعلمها الله فهذا الذي يقع للإنسان من المكاره إنما هو بسبب ما جنته يداه والكل مجتمع تحت قضاء الله وقدره، وبهذا يتبيّن الفرق وأنه لا تعارض بين هذه النصوص.

وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [سورة النساء:79] أي فمن قِبَلك ومن عملك أنت كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [سورة الشورى:30] قال السدي والحسن البصري وابن جريج وابن زيد: فَمِن نَّفْسِكَ [سورة النساء:79] أي: بذنبك، وقال قتادة في الآية: فَمِن نَّفْسِكَ عقوبة لك يا ابن آدم بذنبك.

وقوله تعالى: وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا [سورة النساء:79] أي: تبلغهم شرائع الله وما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه ويأباه.

وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا [سورة النساء:79] أي: على أنه أرسلك وهو شهيد أيضًا بينك وبينهم وعالم بما تبلغهم إياه وبما يردون عليك من الحق كفرًا وعنادًا.

الله يقول: وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا [سورة النساء:79] يعني لست أنت الذي تكون سببًا لما يقع بهم من الكوارث والمصائب والضيق والشدة في العيش وما أشبه هذا، فأنت إنما أرسلناك للناس رسولًا، فكونهم يتشاءمون بك فهذا ليس له معنى.

وقوله: وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا [سورة النساء:79] يعني على أنه أرسلك وهو شهيد أيضًا بينك وبينهم، وهو شهيد على أفعال العباد وعلى أقوالهم، ومن ذلك التشاؤم الذي قالوه.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة النساء (4311) (ج 4 / ص 1675).
  2. أخرجه النسائي في السنن الكبرى في كتاب التفسير – باب تفسير سورة النساء (11112) (ج 6 / ص 325) والحاكم (2377) (ج 2 / ص 76).
  3. أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه (771) (ج 1 / ص 534).

مواد ذات صلة