الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
‏[1] قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} الآية 1‏
تاريخ النشر: ٠٧ / رمضان / ١٤٢٩
التحميل: 4046
مرات الإستماع: 11987

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ۝ يَوْم َتَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [سورة الحج:1، 2].

يقول تعالى آمراً عباده بتقواه، ومخبراً لهم بما يستقبلون من أهوال يوم القيامة وزلازلها وأحوالها، كما قال تعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ۝ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا [سورة الزلزلة:1، 2]، وقال تعالى: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ۝ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ [سورة الحاقة:14، 15]، وقال تعالى: إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ۝ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا [سورة الواقعة:4، 5]، فقال قائلون: هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا وأول أحوال الساعة، وقال ابن جرير عن علقمة في قوله: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ قال: قبل الساعة.

وقال آخرون: بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال كائن يوم القيامة في العُرصات بعد القيام من القبور، واختار ذلك ابن جرير، واحتجوا بأحاديث.

هذه السورة قال عنها بعض أهل العلم: إنها من عجائب القرآن، فيها الناسخ والمنسوخ، والمكي والمدني، وفيها السلمي والحربي، وفيها الليلي والنهاري، والسفري والحضري، وهذه كلها من الأنواع كما ذكرت في الكلام على رسالة السيوطي في أصول التفسير.

قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [سورة الحج:1].  

وهذه الآية كقوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [سورة النساء:1].

فـ "إنّ" تدل على التعليل، وكأن المعنى: لأن الله عليكم مراقب، يراقب الحركات والسكنات، وهكذا في هذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، وهذا الذي يعرف عند الأصوليين بدلالة الإيماء والتنبيه، أي يقرن الحكم بوصف، لو لم يكن علة له لكان ذلك معيباً.

والمعنى اتقوه لأن زلزلة الساعة شيء عظيم؛ ففيها من الأهوال والأوجال والأمور العظيمة الهائلة ما يستدعي العمل، والتشمير في طاعة الله -تبارك وتعالى، والانكفاف عن كل ما لا يليق، فإن العباد سيصيرون إلى مقام وأهوال وأحوال وأوجال لا يقادر قدرها، ويفضي ذلك بهم إلى خلود بلا انقطاع في نعيم دائم، أو في عذاب وجحيم دائم، ومهما وصف الواصفون فإن ذلك لا يفي بأهوال ذلك اليوم، وما يحصل فيه من الأوجال.

قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ من أهل العلم من يقول: إن هذه الزلزلة تكون قبل قيام الساعة؛ لأنه قريب منها، ويكون ذلك من قبيل إضافة الزلزلة إلى الفاعل، واحتجوا على هذا بحديث لا يصح، ولو صح لكان قاطعاً في الدلالة على المراد، والحديث فيه مجاهيل، بل فيه من هو مبهم، فلا يعتمد عليه في تفسير الآية، ولهذا ذهب أكثر أهل العلم إلى أن هذه الزلزلة تكون بعد قيام القيامة، وبعد قيام الناس من القبور، وهذا الذي أشار إليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بقوله: فقال قائلون: هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا وأول أحوال الساعة، وهذا نقل عن علقمة، وقال به غيره كالشعبي وإبراهيم النخعي وعبيد بن عمير وابن جريج من التابعين.

والقول الآخر -وهو الأرجح- أن هذه الزلزلة كائنة بعد البعث، ويكون المعنى إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِمن إضافة الشيء إلى الظرف الذي يقع فيه، والدليل على هذا الأحاديث التي ذكرها بعده، فإنها توضح المراد.

والآية محتملة كقوله -تبارك وتعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ۝ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ۝ وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا ۝ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ۝ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [سورة الزلزلة:1-5] هل هذا قبيل قيام الساعة، عند حصول التغيرات الهائلة، أو أن ذلك يحصل بعد البعث؟ فبنفخة الصعق يموت كل الأحياء، وبنفخة البعث يقوم كل الأموات، فهذه الزلزلة التي ذكرها الله في سورة الزلزلة، لكن ما ذكره الله  فيها في ثنايا السورة يدل على أن ذلك بعد البعث، فمتى تخرج الأرض أثقالها؟ ومعنى أثقالها ما فيها من الأموات، وما فيها من الكنوز، كل ذلك تخرجه.

قال بعض أهل العلم: إن الزلزلة هي زلزلة حسية، وأكثرهم يقولون: هي زلزلة معنوية وليست حسية، بمعنى الخوف، كما قال الله في سورة الأحزاب يصف حال المؤمنين وما بلغ الحال بهم من شدة الخوف قال: هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [سورة الأحزاب:11]، وإلا فأصل الزلزلة كما تدل عليه حروفها المتكررة، فإن تكرر الحروف يدل على تكرر المعنى، مثل: الصلصلة، صوت مثل صوت الجرس فيه تردد، صلصلة، وهكذا حينما يقال: زلزلة حركة واضطراب سريع، يعني الحركة الواحدة ما تسمى زلزلة، لكن حينما تميد وتتحرك فإن هذا يقال له: الزلزلة، وأصله من زل عن الموضع، زل عن المكان، ولهذا يقال: زلت قدمه، تزلزلت قدمه معناها أن هذا تكرر أكثر من مرة.

فالزلزلة -والله تبارك وتعالى أعلم- زلزلة معنوية وتحصل بعد البعث وذلك بما يحصل وبما يرون، ولهذا قال الله : يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [سورة الحج:2] فهذه الزلزلة، الخوف الشديد الذي يصيب الناس، وبعض أهل العلم عزا القول بأن الزلزلة تكون قبل الساعة وتكون من أمارتها إلى الجمهور، والآية تحتمل المعنيين.

والذين قالوا: إن الزلزلة قبل يوم القيامة استدلوا بأن القيامة ليس فيها حمل ولا إرضاع، والذين قالوا: إنها في القيامة بعد البعث قالوا: من الممكن أن المرأة التي ماتت وهي حامل تبعث وهي حامل، فتضع حملها من شدة الهول، والمرأة التي ترضع تذهل عن ولدها.

وأحسن من هذا قول من قال: إن هذا ليس بلازم، فلا يلزم أن يكون هناك حمل وإرضاع، لكن هو لتصوير شدة الخوف والأهوال التي تقع فيها ، وأنها من شدتها تضع الحوامل الحمل، والمرضع تذهل، كما قال الله : فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ۝ السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا [سورة المزمل:17، 18]، والله تعالى أعلم.

مواد ذات صلة