الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
‏[2] من قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} الآية 2 إلى قوله تعالى: { عَذَابِ السَّعِيرِ} الآية 4‏
تاريخ النشر: ٠٨ / رمضان / ١٤٢٩
التحميل: 5433
مرات الإستماع: 3636

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المؤلف -رحمه الله:

قال تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [سورة الحج:1]، قال بعضهم: بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال، كائن يوم القيامة في العُرصات، بعد القيامة من القبور، واختار ذلك ابن جرير، واحتجوا بأحاديث:

روى  الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- عن عمران بن حُصَين، أن رسول الله ﷺ قال وهو في بعض أسفاره، وقد تفاوت بين أصحابه السير، رفع بهاتين الآيتين صوته: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ۝ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [سورة الحج:1، 2] فلما سمع أصحابه بذلك حثوا المطي، وعرفوا أنه عند قول يقوله، فلما دنوا حوله قال: أتدرون أي يوم ذاك؟ يوم ينادى آدم ، فيناديه ربه ، فيقول: يا آدم، ابعث بعثك إلى النار فيقول: يا رب، وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار، وواحد في الجنة، قال: فأُبلس أصحابه حتى ما أوضحوا بضاحكة، فلما رأى ذلك قال: أبشروا واعملوا، فوالذي نفس محمد بيده، إنكم لمع خَليقتين ما كانتا مع شيء قط إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج، ومن هلك من بني آدم وبني إبليس، قال: فسُرّي عنهم، ثم قال: اعملوا وأبشروا، فوالذي نفس محمد بيده، ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير، أو الرقمة في ذراع الدابة[1]، وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما، وقال الترمذي: حسن صحيح.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا الحديث يدل على أن هذه الزلزلة كائنة بعد البعث، وهذا اختاره ابن جرير -رحمه الله، ومن قال به أيضاً من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، وقوله في هذا الحديث: فلما سمع أصحابه بذلك حثوا المطي يعني: الدواب بمعنى أقبلوا عليه وأسرعوا إليه ليسمعوا ما سيقول.

ثم قال: "فأُبلس أصحابه" الإبلاس هو أن يسكت الإنسان لغلبه الحزن والغم يعني كأنهم اكتئبوا "فأبلس أصحابه" سكون مع غم يعني أغمهم ذلك وأحزنهم ذلك، "فأبلس أصحابه حتى ما أوضحوا بضاحكة" الضواحك في الإنسان أربع، قيل لها ذلك باعتبار أنه إذا ضحك ظهرت وبدت، بمعنى أنهم اكتئبوا ظهر عليهم الحزن لم يضحكوا لم يظهر عليهم سرور حين سمعوا هذا من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار يعني الذي ينجو واحد.

فقال لهم ﷺ: إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء قط إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج وهما قبيلتان، وكذلك أن هذا بعث النار من بني آدم أولهم إلى آخرهم، أضف إلى ذلك من هلك من بني آدم ومن بني إبليس من بعد آدم ﷺ إلى قيام الساعة الله يقول: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103]، وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة الأنعام:116]، وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [سورة الأعراف:17]، وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ [سورة سبأ:20]، فأكثر الناس من أتباع إبليس.

ثم قال لهم ﷺ: فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير، أو الرقمة في ذراع الدابة، الرقمة: هنة ناتئة في ذراع الدابة من الداخل، هنة ناتئة شيء صغير بارز يوجد من الداخل فهي شيء يسير صغير أنتم في الناس مثل هذه الرقمة في ذراع الدابة.

قال -رحمه الله:

طريق أخرى لهذا الحديث روى الترمذي عن عمران بن حُصَيْن، أن النبي ﷺ قال: "لما نزلت: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ... إلى قوله: وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ، قال: نزلت عليه هذه، وهو في سفر، فقال: أتدرون أي يوم ذلك؟، فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذلك يوم يقول الله لآدم: ابعث بعث النار، قال: يا رب، وما بعث النار؟ قال: تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة، فأنشأ المسلمون يبكون، فقال رسول الله ﷺ: قاربوا وسَدِّدوا، فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية، قال: فيؤخذ العدد من الجاهلية، فإن تمت وإلا كُمّلت من المنافقين، وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرَّقمة في ذراع الدابة، أو كالشامة في جنب البعير، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبروا ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فكبروا، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، فكبروا، ثم قال: ولا أدري أقال الثلثين أم لا."[2]

وكذا رواه الإمام أحمد، ثم قال الترمذي أيضا: هذا حديث حسن صحيح.

وروى البخاري عند تفسير هذه الآية عن أبي سعيد قال: قال النبي ﷺ: يقول الله تعالى يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك ربنا وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار، قال: يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألف -أراه قال- تسعمائة وتسعة وتسعين، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد،وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ، فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم، قال النبي ﷺ: من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون، ومنكم واحد، ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبرنا، ثم قالثلث أهل الجنة، فكبرنا، ثم قال: شطر أهل الجنة فكبرنا[3].

وقد رواه البخاري أيضا في غير هذا الموضع، ومسلم، والنسائي في تفسيره.

هذا من التفسير النبوي الذي لا يجوز العدول عنه بحال من الأحوال؛ لأن تفسير القرآن بالسنة على نوعين:

 النوع الأول: يفسر القرآن بالسنة، وذلك بحديث لم يتعرض فيه النبي ﷺ للآية ويكون ذلك مما يدخله الاجتهاد، واجتهاد المقصر -بمعنى المفسر: قد يجتهد في الربط بين الآية مع الحديث ولكن المفسر قد يخطئ باعتبار أن الحديث أصلاً لا تعلق له بالآية، لكن المفسر فهم أن هذا الحديث مفسر لهذه الآية، والنبي ﷺ لم يتعرض للآية في الحديث فهذا يدخله الاجتهاد، يصيب ويخطئ.

النوع الثاني: من تفسير القرآن بالسنة هو ما ذكر فيه النبي ﷺ الآية، فهذا صح إسناده فلا يجوز العدول عنه بحال من الأحوال، كما في هذه الروايات النبي ﷺ قال: فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد وقرأ الآية: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [سورة الحج:2] 

فقوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [سورة الحج:1] يحتمل أنها الأهوال التي تكون في التغيرات التي تحصل قبل قيام الساعة، ويحتمل أن يكون ذلك بعد البعث من القبور، والآية تحتمل المعنيين، وبكل احتمال قال طائفة من أهل العلم، لكن هذا الحديث يدل دلالة واضحة على أن ذلك يكون بعد البعث يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا يكون هذا بعد القيام من القبور، وليس لأحد أن يعترض على هذا بأن يقول: هناك لا حمل ولا إرضاع، فيقال: قد يوجد حمل، تُبعث حاملاً، وقد يكون ذلك لتصوير الشدة.

لكن لو قال قائل: إن أهوال الساعة هو ما يحصل عند وقوعها قبل البعث من القبور، وما يحصل بعد البعث وأن هذا الحديث يذكر ما يكون بعد البعث، فهذا القول قد لا يكون معارضاً لهذا التفسير النبوي، وحتى آية الزلزلة إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ۝ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا [سورة الزلزلة:1، 2]، لا يكون إلا بعد النفخة الثانية، تخرج الأرض أثقالها بعد النفخة الثانية، تخرج ما في بطونها من الدفائن والكنوز وما أشبه ذلك، وهكذا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ۝ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [سورة الزلزلة:4، 5] يعني أمرها بذلك، وهذا لا يكون إلا بعد النفخة الثانية.

وقال -رحمه الله:

والأحاديث في أهوال يوم القيامة والآثار كثيرة جدا، لها موضع آخر، ولهذا قال تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ أي: أمر كبير، وخطب جليل، وطارق مفظع، وحادث هائل، وكائن عجيب.

ولهذا عبر عنها بـ "شيء عظيم"، كأنه أمر تعجز الألفاظ عن التعبير عنه وعن وصفه، شيء عظيم فأبهمه، شيء فظيع فلم يذكر نوعاً من أنواع الفظاعة، وإنما عبر بهذه العبارة التي يدخل تحتها كل ما يمكن أن يتصوره الذهن، والعقول قاصرة عن إدراك كنهه، وتصور أهوالها شيء لا يخطر على البال.

وقال -رحمه الله:

والزلزال: هو ما يحصل للنفوس من الفزع، والرعب كما قال تعالى: هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا [سورة الأحزاب:11].

أصل الزلزلة من الحركة المتكررة، حركة شديدة واهتزاز، وهذه الزلزلة زلزلة معنوية بمعنى ما يحصل من الأهوال والأوجال، فيكون عند ذلك الرعب الشديد والخوف الذي ينقطع منه نياط القلب.

وقال -رحمه الله:

ثم قال تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَهَا: هذا من باب ضمير الشأن.

الرؤية في قوله: يَوْمَ تَرَوْنَهَا الظاهر أنها رؤية بصرية، وأن الضمير في قوله: تَرَوْنَهَا يرجع إلى الزلزلة، وليس معناها ترون الساعة، والساعة وقت تحصل به أهوال وأوجال وتغيرات علوية وسفلية، لكن المقصود تَرَوْنَهَا أي ترون الزلزلة، ومعلوم أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ وأقرب مذكور زلزلة، والزلزلة مضاف، والساعة مضاف إليه، والمضاف هو المحدث عنه ولا يصح رجوع الضمير إلى مضاف إليه، وإنما يرجع إلى المحدث عنه إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، والمحدث عنه الزلزلة زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ تقول: كتاب زيد جميل، فالكتاب المضاف هو المحدث عنه إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَرَوْنَهَا أي: ترون الزلزلة.

وقال -رحمه الله:

ثم قال تعالى:يَوْمَ تَرَوْنَهَا هذا من باب ضمير الشأن؛ ولهذا قال مفسرًا له: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ.

الذهول هو الذهاب عن الشيء مع دهشة، تقول: أذهله الموقف، فذهب عما هو بصدده واشتغل عنه بغيره.

وقال رحمه الله:

أي: تشتغل لهول ما ترى عن أحب الناس إليها، والتي هي أشفق الناس عليه، تدهش عنه في حال إرضاعها له؛ ولهذا قال: كُلُّ مُرْضِعَةٍ، ولم يقل: "مرضع" وقال: عَمَّا أَرْضَعَتْ أي: عن رضيعها قبل فطامه.

أي: فتشتغل بهول ما ترى عن أحب الناس إليها والتي هي أشفق الناس عليه قال كُلُّ مُرْضِعَةٍ ولم يقل: مرضع عما أرضعت، وهناك قاعدة من قواعد التفسير تقول: إن الأوصاف المختصة بالإناث مثل المرضع والحائض والطالق ونحو ذلك إذا أريد بها النسبة جردت من التاء، وإذا أريد بها الفعل لحقتها التاء، هي أصلاً وصف مختص بالإناث، يعني ما يلتبس أن يقال الله يريد به مذكر مثلاً، فالرجل لا يكون مرضعاً وإنما هذا وصف يختص بالإناث، الإرضاع تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ فإذا أريد به النسبة فإنه يتجرد من التاء، تقول: فلانة مرضع، يعني من شأنها الإرضاع، فمرضع يعني عندها ولد ترضعه، لكن إذا قلت: فلانة مرضعة فالمعنى أنها تباشر الإرضاع قد ألقمت ولدها الثدي.

وهكذا حينما يقال: طالقة بمعنى إيقاع الطلاق عليها، وإذا قيل: فلانة طالق يعني قد طلقت من زوجها، امرأة حائض لو صح الحديث: لا يقبل الله صلاة الحائض إلا بخمار[4]، ومعنى حائض المرأة البالغة، يكون من شأنها الحيض، حائض، لكن إذا كان الحيض قد نزل عليها يقال حائضة، وامرأة طامث يعني يأتيها الحيض، وطامثة يعني الآن ينزل عليها الدم، هي في فترة الحيض، فمرضعة يعني تباشر الإرضاع لحقتها التاء.

والمرأة وهي ترضع ولدها تكون في أعظم صورة من العطف، والحنان، والإشفاق، والرأفة والحنو، فإذا جلست المرأة قبل أن تلقم ولدها الثدي يبدأ الحليب يسيل، وبمجرد أن تضعه في حجرها تبدأ مشاعر غير عادية تحصل لجميع خلايا الجسم، ويبدأ الحليب يسيل فإذا ألقمته الثدي ضمته إلى صدرها، لا تسأل عما يخالجها وعما يفيض منها لا تستطيع هي أن تعبر عنه، ولربما ودت أن تعطيه قلبها ليرضعه، فهذا يصور لك شدة الهول الذي ليس هناك تصوير أبلغ من هذا، فتترك هذا الصبي وتقوم مندهشة في حالة من الذهول، وتعرض عنه؛ لشدة فظاعة أهوال القيامة، وهذا من بلاغة القرآن ودقة التعبير فيه، فعبر بالمرضعة، والشاعر يقول:

كمرضعةٍ أولادَ أخرى وضيّعتْ بني بطنِها هذا الضلالُ عن القصدِ

ترضع أولاد الناس وتباشر إرضاعهم، وتضيع أولادها..

امرئ القيس له بيت يقول:

فَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ ومُرْضِعٍ فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحوِلِ

"حبلى قد طرقتُ"، يقول: لستِ أول واحدة، غيرك من هو أشغل منك –الحامل- فجرى بها، والمرضع قال:

ومُرْضِعٍ فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْوِلِ.

كانوا يربطون على الصغار التمائم، مرضع: يعني من شأنها الإرضاع، فجلس يجامعها ولا يريدها أن ترضع الآن.

وقال -رحمه الله:

وقوله: وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا أي: قبل تمامه لشدة الهول، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى.

قراءة حمزة والكسائي: وترى الناس سكرى وما هم بسكرى.

وقال -رحمه الله:

وقرئ: "سَكْرَى" أي: من شدة الأمر الذي قد صاروا فيه قد دهشت عقولهم، وغابت أذهانهم، فمن رآهم حسب أنهم سُكارى، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ.

يعني أن الإنسان أحياناً يصيبه فزع شديد يكون مثل السكران، ولربما تكلم بأشياء وتسأله عنها بعد مدة فيقول: لم أشعر بشيء، وهذا يحصل للناس من الأهوال العظيمة، تحصل أمور مفجعة -نسأل الله العافية، وإذا حصل أمر هائل كأن يحدث زلزال أو حريق أو غيره يخرج الناس من العمارات بما عليهم من ثياب، أو أحياناً بدون ثياب، لا يشعر بنفسه، يقول: خرجت ولم أشعر بهذا، حتى إن بعض الناس لا يعرف أين يتجه من شدة الهول، وبعض من يصاب بحادث قد تنكسر رجله لكنه يقوم ويقع وينزف ولا يعرف إلا بعد مدة في المستشفى، فهذا في أوقات الأهوال، نسأل الله العافية.

وقال -رحمه الله:

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ۝ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [سورة الحج:3، 4].

يقول تعالى ذامًا لمن كذب بالبعث، وأنكر قدرة الله على إحياء الموتى، معرضا عما أنزل الله على أنبيائه، متبعًا في قوله وإنكاره وكفره كل شيطان مريد، من الإنس والجن، وهذا حال أهل البدع الضُّلال، المعرضين عن الحق، المتبعين للباطل، يتركون ما أنزله الله على رسوله من الحق المبين، ويتبعون أقوال رءوس الضلالة، الدعاة إلى البدع بالأهواء والآراء، ولهذا قال في شأنهم وأشباههم:وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أي: علم صحيح، وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ۝ كُتِبَ عَلَيْهِ، قال مجاهد: يعني الشيطان، يعني: كتب عليه كتابة قدرية أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ أي: اتبعه وقلده، فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِأي: يضله في الدنيا ويقوده في الآخرة إلى عذاب السعير، وهو الحار المؤلم المزعج المقلق.

وقد قال السدي، عن أبي مالك: نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث. وكذلك قال ابن جريج.

قوله وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ هذا يشمل -كما ذكر الحافظ ابن كثير- الذين يجادلون في الوحدانية، والنبوة، والوحي وما إلى ذلك، ويشمل أيضاً أهل البدع، الذين يجادلون بالباطل، فبدعوتهم وضلالتهم كل هؤلاء يدخلون في هذا المعنى، فكل من جادل بغير علم فهو داخل في هذه الآية، ومفهوم المخالفة أن من جادل بعلم فإنه ليس بمذموم؛ ولهذا قال الله : وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة النحل:125]، وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة العنكبوت:46]، يقول: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي: علم صحيح، وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ مريد هنا بمعنى المارد، والمريد والمارد يعني العاتي، فكل عاتٍ فهو مارد: مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ [سورة الصافات:7]، وفي رمضان أخبر النبي ﷺ أن المَردة من الشياطين تصفد[5]، والمردة يعني الكبار، الرؤساء، العتاة منهم.

وقال مجاهد في قوله: وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ يعني الشيطان كُتب عليه كتابة، أي قُدر أن من تولاه فالنتيجة هي الإضلال، فالشيطان لا يهديه إلى الخير ولا يدعوه إلى هدى، وأنه من تولاه أي اتبعه وقلده، فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ استعمل الهدى في الدلالة على الضلال، وهذا معنى صحيح وهو مستعمل في القرآن، والله يقول: فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [سورة الصافات:23]، فهو يستعمل في الخير والشر وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [سورة القصص:41]، فالهداية والدعاء وما أشبه ذلك، استعملوا في هذا وهذا كُتِبَ عَلَيْهِ، قال: فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ أي: يضله في الدنيا، ويقوده في الآخرة إلى عذاب السعير، والسعير فعيل بمعنى مفعول، يعني المسعَّر، النار تتوقد وتتسعر وتتلهب وهو الحار المؤلم المقلق المزعج، قال: عن أبي مالك نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث، وكذلك قال ابن جريج، وهذا يحتاج إلى دليلٍ صحيح أنها نزلت فيه، ومثل هذه المراسيل لا يحتج بها ولكن هذه الآية تشمل كل ما كان بهذه الصفة، ولا يختص ذلك بالنضر بن الحارث، والله تعالى أعلم .

  1. رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة الحج، برقم (3169)، وأحمد في المسند، برقم (19901)، وقال محققوه: حديث صحيح، وهذا إسناد رجاله ثقات رجال الشيخين، إلا أن الحسن -وهو البصري- لم يسمع من عمران، لكنه قد توبع.
  2. رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة الحج، برقم (3168)، والحاكم في المستدرك، برقم (8697)، وقال: هذا حديث صحيح بهذه الزيادة و لم يخرجاه، وأحمد في المسند، برقم (19901)، وقال محققوه: حديث صحيح، وهذا إسناد رجاله ثقات رجال الشيخين، واللفظ للترمذي.
  3. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الحج، برقم (4464).
  4. رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب المرأة تصلي بغير خمار، برقم (641)، وابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها، باب إذا حاضت الجارية لم تصل إلا بخمار، برقم (655)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7747).
  5. رواه النسائي، كتاب الصيام، باب ذكر الاختلاف على معمر فيه، برقم (2106)، وأحمد في المسند، برقم (7917)، وقال محققوه: إسناده ضعيف جدا، هشام بن أبي هشام -وهو هشام بن زياد القرشي أبو المقدام- متفق على ضعفه، ومحمد بن  محمد بن الأسود-وهو ابن بنت سعد بن أبي وقاص- مجهول الحال، لم يرو عنه غير هشام هذا وعبد الله بن عون، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (55).

مواد ذات صلة