الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
‏ [2] من قوله تعالى: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} الآية:16 إلى قوله تعالى: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} الآية:28‏
تاريخ النشر: ٢٩ / شوّال / ١٤٣٢
التحميل: 6809
مرات الإستماع: 21712

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

يقول الله : يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ۝ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ ۝ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ۝ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [سورة لقمان:16-19].

هذه وصايا نافعة قد حكاها الله تعالى عن لقمان الحكيم؛ ليمتثلها الناس ويقتدوا بها، فقال: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي: إن المظلمة أو الخطيئة لو كانت مثقال حبة من خردل، وجوز بعضهم أن يكون الضمير في قوله: إِنَّهَا ضمير الشأن والقصة، وجوز على هذا رفع مِثْقَالَ والأول أولى.

وقوله : يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أي: أحضرها الله يوم القيامة حين يضع الموازين القسط، وجازى عليها إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، كما قال الله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا الآية. 

وقال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، ولو كانت تلك الذرة محصنة محجبة في داخل صخرة صَمَّاء، أو غائبة ذاهبة في أرجاء السماوات أو الأرض فإن الله يأتي بها؛ لأنه لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض؛ ولهذا قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ أي: لطيف العلم، فلا تخفى عليه الأشياء وإن دَقت ولطفت وتضاءلت خَبِيرٌ بدبيب النمل في الليل البهيم.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله: إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، لقمان -رحمه الله- يوصي ولده، وقد مضى الكلام على النصيحة وما تقتضيه من أجل أن يحصل المطلوب، وأن ذلك يتطلب صدقًا وإخلاصًا ونصحًا وحرصًا مع البيان والمعرفة والعلم، وأنه إذا اجتمعت هذه الأمور فذلك هو الكمال المطلوب في الموعظة، وأنه لا أنصح من الرسل -عليهم الصلاة والسلام- لأقوامهم، كما أن نصيحة الوالد لولده تكون أيضًا بمنزلة من ذلك، فهو يرشده إلى مراقبة الله -تبارك وتعالى، وذكر مثقال الحبة من الخردل؛ لأن ذلك يضرب به المثل في الصغر، هو شيء صغير، ومع ذلك فإن الله -تبارك وتعالى- يطلع عليه ويجازي صاحبه إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.

وقوله: إِنَّهَا قال: المظلمة أو الخطيئة، ثم ذكر القول الآخر: إن الضمير هو ضمير الشأن والقصة، وبعضهم يقول: إِنَّهَا أي: الإساءة، الخصلة يعني من الإساءة والإحسان، والواقع أن هذا يرجع إلى الأول، فالله -تبارك وتعالى- يأتي بها، فهو اللطيف الخبير.

واللطيف: هو الذي يعلم دقائق الأشياء، هذا من المعاني الداخلة تحته، يعلم دقائق الأشياء، الخبير: هو الذي يعلم الخفايا والبواطن، الأمور غير الظاهرة يعلمها الله -تبارك وتعالى، فهو يعلم ما دق وخفي، لا يفوته شيء -تبارك وتعالى، ولا تخفى عليه خافية، وإذا كان الأمر كذلك فدقائق الأشياء يحصيها، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، فإذا كانت هذه الذرة كما يقول أهل العلم: لا تؤثر في موازين أهل الدنيا، يعني ليس عندهم ميزان تؤثر فيه وتحركه، ولكنها عند الله -تبارك وتعالى- ذات أثر ويحاسب عليها، فإذا كان الحساب على مثاقيل الذر فلابد إذًا من أن يراعي الإنسان ما يصدر منه من الأقوال والأفعال، ولا يستصغر شيئًا، والله المستعان.

ثم قال: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ أي: بحدودها وفروضها وأوقاتها، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي: بحسب طاقتك وجهدك، وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ، علم أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لابد أن يناله من الناس أذى، فأمره بالصبر.

وقوله: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ أي: إن الصبر على أذى الناس لمن عزم الأمور.

أَقِمِ الصَّلاةَ قال: أي بحدودها وفروضها وأوقاتها؛ لأن هذه هي حقيقة الإقامة، فما زاد شيئًا على ما جاء به النص، فإن إقامتها تقتضي ذلك، هذه حقيقة إقامة الصلاة، قال: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، والمعروف: هو كل ما أمر الله به وأمر به رسوله ﷺ، هو ما عرف عند أهل الفضل والصلاح والفطر السوية أنه خير وبر عرفه أهل الإيمان، والمنكر بخلافه.

يقول: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، قال: أي إن الصبر على أذى الناس لمن عزم الأمور، ومعنى مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ بعضهم يقول: أي مما جعله الله عزيمة، جعله عزيمة وأوجبه على عباده، يعني هناك عندنا رخص وعزائم، فالصبر صبر الإنسان على ما أصابه، الصبر واجب، والرضا فوقه مستحب، وأعلى من ذلك الشكر على هذا في حال المصيبة، الأمور التي تحصل للإنسان المؤلمة تكرهها نفسه، فهو مأمور بالصبر عليها، فذلك واجب، فهو من العزائم ولهذا يقول بعضهم: إن ذلك مما أمر الله به عباده عزمًا منه عليهم، إن ذلك لمن عزم الأمور، عزمًا من الله على العباد أن يصبروا. 

وابن جرير -رحمه الله- يقول: يحتمل أن يكون المعنى أن ذلك من مكارم أهل الأخلاق وعزائم أهل الحزم، السالكين طريق النجاة، وبهذا أيضًا فسرها به القرطبي -رحمه الله، إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، مما يعزم عليه، أو بمعنى أن ذلك مما أوجبه الله على عباده، أو أن ذلك من الأمور التي يعزم عليها.

وقوله: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ، يقول: لا تُعرِضْ بوجهك عن الناس إذا كلمتهم أو كلموك احتقارًا منك لهم، واستكبارًا عليهم ولكن ألِنْ جانبك، وابسط وجهك إليهم، كما جاء في الحديث: ولو أنْ تلقى أخاك ووجهك إليه مُنْبَسِط، وإياك وإسبال الإزار فإنها من المَخِيلَة، والمَخِيلة لا يحبها الله[1].

وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ قال: لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلمتهم أو كلموك احتقارًا منك لهم، وأصل الصعر هو الميل، وهذا جاء في كلام العرب وأشعارها، ولهذا يقولون للداء المعروف الذي يصيب الإبل فيحصل لها التواء في أعناقها: صعر، وبعضهم يقول: لا تمل شدقك إذا ذُكر عندك أحد احتقارًا له، يعني يعمل بشفته أو بشدقه، يُميل ذلك ليفهم الناظر أنه يقصد احتقار هذا المذكور، ولكن هذا وإن كان فيه ميل إلا أن الله قال: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ.

لكن كأن هؤلاء نظروا إلى الارتباط بين الخد والشدق، فإذا أمال شدقه أثر ذلك في خده، نظروا إلى هذه الحيثية، فقالوا: لا تمل شدقك، وكأنهم نظروا إلى الارتباط بين الشدق والخد، وبعضهم كابن خويز منداد حمله على أن لا يُذل الإنسان نفسه، كيف يذل الإنسان نفسه من غير حاجة؟ إما بسؤال الناس، أو بأن يقف موقف مذلة، أو يفعل فعلًا يودي به إلى المذلة، وقد جاء عن النبي ﷺ أنه ليس للمؤمن أن يذل نفسه، وبين النبي ﷺ هذا بأن يتعرض من البلاء لما لا يطيق.

وهذا ليس هو ظاهر المعنى في الآية، وإنما الظاهر المتبادر، وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ بمعنى أنه يعرض عنهم إذا كلمهم، وهو لا يلقاهم بوجهه، لا يستقبلهم بوجهه إذا كلمهم، وإنما يكلمهم هكذا، يتكلم مع الناس بهذه الطريقة كالإبل التي أصيبت بالصعر، أعناقها مائلة، فهو كأنه لكبره وتعاليه وتعاظمه يأنف من أن ينظر إلى الناس فتكلم معهم بهذه الطريقة، ولا تصعر خدك للناس، ولاحظ هذه الأشياء -يعني الآداب- لا ترفع صوتك رفعًا زائدًا، لا تصعر خدك، لا تمش في الأرض مرحًا. 

هذه لربما يرى بعض الناس أنها أمور من الآداب يسيرة، ليست قضايا تتصل اتصالًا مباشرًا بالنجاة، يعني الإيمان مثلًا، ولكن إذا نظرت إلى هذا مع ما جاء في صفات أهل الإيمان في سورة الفرقان، فأول ما بدأ به وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا [سورة الفرقان:63]، وإذا نظرت إلى ما جاء أيضًا في الوصايا في سورة الإسراء وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا [سورة الإسراء:37]، فدل ذلك على كمال الشريعة، وأن قضاياها قضايا مترابطة متلازمة، وأن هذا الإيمان يظهر في سلوك الإنسان في مشيته، وفي تصرفاته وكلامه مع الناس، وتعامله معهم، وأن هذه القضايا لا تستصغر ولا تستسهل، وأن هذه التربية لازمة حيث جاء القرآن مقررًا لها في مثل هذه المقامات، فينبغي أن يعتنى بها كما يعتنى بالقلب وصلاحه، فإنه يعتنى أيضًا بمثل هذه الأمور من السمت الحسن وكمال المروءات والأخلاق الفاضلة.

وقوله: وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا أي: خيلاء متكبرًا جبارًا عنيدًا، لا تفعل ذلك يبغضك الله؛ ولهذا قال: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ أي: مختال معجب في نفسه، فخور: أي على غيره، وقال تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا [سورة الإسراء:37]، وقد تقدم الكلام على ذلك في موضعه.

الفرح غير مذموم بإطلاق، وإنما المقصود به فرح خاص، وهو الفرح الذي يحمل صاحبه على الأَشَر والبطر، والتعالي والتعاظم، والتكبر، والاختيال على الناس، والفرح ينقسم إلى ثلاثة أنواع: فرح بأمور يحبها الله ، قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [سورة يونس:58]، فيفرح الإنسان حينما يُحصّل الكمالات الدينية، ويفرح حينما يَحصل شيء من ذلك لأهل الإيمان أو للأمة، كانتصار المسلمين ونحو ذلك. 

وكذلك النوع الثاني: وهو الفرح المباح، وهو فرحه بما يحصل له من اللذات والكمالات الدنيوية، فرح لأنه نجح مثلًا، هذا جائز لا إشكال فيه. 

والنوع الثالث: هو النوع المحرم، إما أن يفرح بتحصيل مطلوبات نفسه المحرمة، فهذا لا يجوز، أو يفرح بما يسوء غيره من إخوانه المسلمين، أو يفرح بما يحصل لعموم الأمة من غلبة الأعداء ونحو ذلك، أو كان فرحه من النوع المذكور في الآية: وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا، وهو فرح خاص، الفرح الذي يحمل صاحبه على الأشر والبطر والكبرياء والخيلاء والتعاظم، وما أشبه ذلك، ولا زال الناس يستعملون هذا إلى يومنا الذي نعيشه، يقال: فلان فرِحٌ بنفسه، يقصدون بذلك أنه مغرور متعاظم يرى نفسه، فرحٌ بنفسه، آل فلان فرحون بأنفسهم، بنفس المعنى.

وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا قال: أي خيلاء متكبرًا جبارًا عنيدًا، ثم بين ذلك بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ فهذا مما يفسره، يعني تمشي بخيلاء وتعاظم، ومن هذا التعاظم الفخر، الفخر بالمآثر، الفخر بمكاسبه، بمكاسب آبائه وأجداده، وما حصلوه من الأمور الحسية أو المعنوية.

وقوله: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أي: امش مشيًا مقتصدًا ليس بالبطيء المتثبط، ولا بالسريع المفرط، بل عدلًا وسطًا بين بين.

هذه القضايا ربما قد يقال: إنها يسيرة، لكنها عند الله ليست كذلك، فالله كرر ذكرها، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ والقصد هو الاعتدال، أن يكون مشيًا باعتدال، وأهل العلم في مثل هذا في سورة الفرقان والإسراء يقولون: إن المشية تدل على صاحبها، فيعرف حاله من الأخلاق كالكبر والغرور أو الحياء، أو تعرف حاله من جهة العقل من الخفة أو الطيش والسفه، يعرف ذلك من مشية الإنسان، وقد تعرف أيضًا من ركوبه في سيارته وقيادته لها، يعرف السفيه أحيانًا من مشيته، ويعرف أصحاب النفوس الضيقة أيضًا في مزاولاتهم في مشيتهم، وهذا شيء مشاهد.

وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ، تمشي مشيًا معتدلًا، وهذا لا ينافي ما جاء عن النبي ﷺ أنه كان إذا مشى أسرع[2]، وأبو هريرة يقول: "وإنا لنجهد وهو غير مكترث"[3]، نحاول أن نلحق به، فليس المقصود به أنه كان يسرع إسراعًا زائدًا كالذي يهرول مثلًا، وإنما جاء في مشيته: "كأنما ينحط من صبب"[4]، فكان يضع ﷺ قدمًا ويرفع أخرى، لا يسحب رجله على الأرض، ولا يمشي مشيًا متماوتًا أو متكاسلًا، وإنما يمشي مشية ثابتة قوية لا تباطؤ فيها ولا تماوت وإنما فيها إسراع مع تؤدة.

فالمشية تدل على صاحبها غالبًا، مع أن الإنسان قد يتصنع شيئًا كما قيل: "كم من متئد وهو ذئب أطلس"، لكن لا يظن أن الوقار في التباطؤ في المشي، وابن عاشور -رحمه الله- ذكر هذا المعنى في بعض كتبه غير التفسير، وتحدث عن عادة غالب من رآهم في بلده ممن ينتسب إلى العلم، وعاب طريقتهم في مشيتهم، ومزاولاتهم وحركاتهم، وما هم فيه من التباطؤ، وأنهم يظنون أن ذلك من كمال الوقار، فالمقصود أن يمشي الإنسان مشية ثابتة معتدلة بين الإسراع المفرط والتباطؤ والتماوت في المشية.

ومثل هذه الأمور الظاهرة تؤثر في نفس الإنسان، في نفس صاحبها، -والله المستعان، فلباسه يؤثر، ومشيته تؤثر، وكلامه يؤثر، كل ذلك يؤثر فيه، ولذلك بعض الناس قد تكون حاله أقرب إلى العلة والمرض ولربما كان ذلك أو كثير منه بسبب مزاولاته هذه، ومن الناس من يكون في حال من الانطلاقة وإشراق النفس والتفاؤل والحزم وما إلى ذلك، وهذا مما يؤثر فيه هذه الأمور.

وقوله: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أي: لا تبالغ في الكلام، ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه؛ ولهذا قال: إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ قال مجاهد وغير واحد: إن أقبح الأصوات لصوت الحمير، أي: غاية مَنْ رفع صوته أنه يُشبه بالحمير في علوه ورفعه، ومع هذا هو بغيض إلى الله تعالى، وهذا التشبيه في هذا بالحمير يقتضي تحريمه وذمه غاية الذم؛ لأن رسول الله ﷺ قال: ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه[5].

يعني التشبه بالحيوانات لا يجوز، وكذا التشبه بالشياطين، وبالكفار والفساق؛ ولهذا نهى النبي ﷺ عن بروكٍ كبروك الجمل أو البعير، وغير ذلك مما جاء النهي عنه كانبساط الكلب في الصلاة، فهنا في الصوت، وقد ذكر بعضهم أن صوت الحمار أوله زفير وآخره شهيق، بدايته زفير وآخر الصوت شهيق، ويكفي قول الله : إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ، فمن تكلموا على الأصوات ذكروا قبح صوت الحمار، وأنه أقبح الأصوات على الإطلاق، لكن قول الله لا يُحتاج معه إلى غيره.

فهذا الذي يرفع صوته رفعًا زائدًا من غير حاجة مشبه بالحمار؛ لأن ذلك من الأمور المنكرة، فهو وإن لم يكن يتشبه بالحمار بصوته بعينه من زفير وشهيق كما يصدر ذلك من هذه البهيمة تمامًا، لكن الرفع في الجملة مشبه بذلك، إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ، صوت مرتفع تنفر منه النفوس السوية وتكرهه، ولذلك جاء في وصف النبي ﷺ "أنه ليس سَخّاباً في الأسواق"[6]

ورفع الأصوات رفعاً زائداً من غير حاجة أمر يخل بمروءة صاحبه، أمر ينقصها، بل قد يذهبها بالكلية، وهذا لربما يقع في الأسواق، ولربما يقع في المجالس، فالناس لربما اعتاد بعضهم أن يرفع صوته من غير حاجة في المجالس وهو يتحدث، ولربما يقع بالأبواب، كما قال الله : إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [سورة الحجرات:4]، فبعض الناس يرفع صوته رفعًا زائدًا من غير حاجة، ينادي أهل الدار، ينادي صاحبه، وكان يمكن أن يكتفى بغير ذلك، فإذا رأيت الرجل يتصرف هكذا، فإن ذلك يكون حطًّا من مرتبة، ولربما ترى الرجل وتظن أنه من أهل الكمالات في المروءات ونحو ذلك، فإذا سمعته تكلم لربما لم يكن كما سبق إلى الظن والنفس من حاله، والمرء بأصغريه.

فهذه وصايا نافعة جدًا، وهي من قَصص القرآن العظيم عن لقمان الحكيم، وقد روي عنه من الحكم والمواعظ أشياء كثيرة، فلنذكر منها أنموذجًا ودستورًا إلى ذلك.

روى الإمام أحمد عن ابن عمر قال: أخبرنا رسول الله ﷺ قال: إن لقمان الحكيم كان يقول: إن الله إذا استودع شيئا حفظه[7].

هذا ثبت عن النبي ﷺ من قوله، من غير إضافة له إلى لقمان، يعني جاء هذا من كلام النبي ﷺ بإسناد صحيح، أمّا بهذا السياق أن لقمان قال ذلك فإنه لا يصح عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام، فيكون هذا النص من كلام النبي ﷺ ثابتًا من غير نسبة إلى لقمان.

وروى ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله ﷺ قال: قال لقمان لابنه وهو يعظه: يا بني إياك والتقنع فإنه مَخْوَفة بالليل، مذمة النهار[8].

التقنع بمعنى أنه يغطي وجهه، إياك والتقنع، فإنه أمر مخيف في الليل، يعني كأنه يريد أن يعمل عملًا، أن يجني جناية، ومذمة في النهار، الناس إذا رأوا إنسانًا يفعل هذا من غير حاجة، أنت الآن في المسجد، وإنسان جالس في الدرس، أو في الكلية، في المدرسة، ومثل هذا، أنتم تبتسمون الآن؛ لأنه مذمة بالنهار، فإذا رأيت من يفعل هذا فإن ذلك يكون نقيصة في حقه، فهو كما قلت بأن مثل هذه التصرفات التي يظن بعض الناس أنها يسيرة إلا أنها تؤثر في مروءة صاحبها، ويرجع ذلك إلى نفسه، كما قال شيخ الإسلام في الاقتضاء بأن لباس الإنسان وما أشبه ذلك يؤثر فيه، ولهذا نهي عن التشبه بالكفار؛ لأن المتشبه بهم يجد في نفسه ميلًا إليهم، انجذابًا إلى هؤلاء، -والله المستعان، لذلك ذكرنا أن الذي يلبس لباس الجند يجد في نفسه توثبًا للقتال، والذي يلبس زي العلماء -في وقتهم كانوا يلبسون لباسًا معينًا- يجد في نفسه ميلًا إلى الوقار، وقل مثل هذا في الذي يلبس ملابس رياضية يجد في نفسه خفة.

وروى عن الثري بن يحيى قال: قال لقمان لابنه: يا بني، إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك.

وروى أيضًا عن عَوْن بن عبد الله قال: قال لقمان لابنه: يا بني، إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام -يعني السلام- ثم اجلس في ناحيتهم، فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا، فإن أفاضوا في ذكر الله فَأجِلْ سهمك معهم، وإن أفاضوا في غير ذلك فتحول عنهم إلى غيرهم.

هذا كأنه يعني مما أخذ وتلقي من بني إسرائيل، ومثل هذا يحدث به، ونقل عنه أشياء كثيرة هي من قبيل الحكمة الله أعلم بصحتها، فمن ذلك مثلًا، هم يقولون: إنه مملوك، وكثيرون يقولون: إنه من بلاد النوبة، يعني: جنوب مصر، وشمال السودان، ويقولون: إن سيده طلب منه قال له: اذبح هذه الشاه، وأعطني أطيب شيئين فيها، فأعطاه القلب واللسان، وفي مرة أخرى قال له: اذبح هذه الشاه وأعطني أسوأ شيئين فيها، فأعطاه القلب واللسان، فسأله متعجبًا، فقال: لا أطيب منهما إذا صلحا، ولا أسوأ منهما إذا فسدا، هذه حكمة، والمعنى صحيح، والله أعلم.

أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ ۝ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [سورة لقمان:20، 21].

يقول تعالى منبهًا خلقه على نعمه عليهم في الدنيا والآخرة، بأنه سخر لهم ما في السماوات من نجوم يستضيئون بها في ليلهم ونهارهم، وما يخلق فيها من سحاب وأمطار وثلج وبرد، وجعْله إياها لهم سقفًا محفوظًا، وما خلق لهم في الأرض من قرار وأنهار وأشجار وزروع وثمار، وأسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة من إرسال الرسل وإنزال الكتب، وإزاحة الشبه والعلل، ثم مع هذا كله ما آمن الناس كلهم، بل منهم من يجادل في الله، أي: في توحيده وإرسال الرسل، ومجادلته في ذلك بغير علم، ولا مستند من حجة صحيحة، ولا كتاب مأثور صحيح.

قوله -تبارك وتعالى- هنا: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ، التسخير المقصود به جعل الشيء المسخر بحيث ينتفع به من سُخر له، سواء كان ذلك بطوعه أو كان خارجًا عن قدرته وإرادته، يعني: عن قدرة المسخر له، فالشمس والقمر والنجوم، وما إلى ذلك هذه مسخرة للإنسان، لكن ليس هي تحت طوعه وإرادته، لكن الله سخرها من أجل أن ينتفع الناس بها، هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [سورة يونس:5]، إلى غير ذلك من ألوان المنافع. 

والنوع الثاني هو ما سُخر للإنسان وجعل تحت قدرته وتصرفه، مثل تسخير الأنعام، ذللها جعلها منقادة للإنسان، يتصرف فيها، يصرفها كيف شاء، فهذا النوع الثاني من التسخير، وإذا عرفت هذا التنوع ينحل الإشكال الذي قد يرد على بعض الناس: أن الله سخر لنا الشمس والقمر والنجوم إلى آخره مع أننا لا نستطيع أن نتصرف فيها؟

فالجواب: أن التسخير نوعان، قال: ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، الإسباغ معناه: الإتمام والإكمال، إسباغ الوضوء على الراجح من قول الجمهور كما هو معروف: هو إتمامه، فيبلغ إلى المواضع التي أمر الله أن يبلغها، من غير زيادة، أن لا يقصد الزيادة، إلا على ما جاء عن بعض السلف كأبي هريرة -رضي الله تعالى عنه، فقد فهم ذلك من الحديث، لكن الجمهور على أن الإسباغ معناه: الإتمام والإكمال للمواضع التي أمر بغسلها في الوضوء أو مسحها.

فهنا وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ: أتم وأكمل عليكم نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، بعضهم يفسر الظاهرة بما ظهر للحس، مما يراه ويحسه بحواسه، فهذه نعم ظاهرة، الحواس معروفة، والباطنة ما يدركه بوجدانه كالعلم والإيمان والخشية وما إلى ذلك من الأمور. قالوا: هذه هي الباطنة.

وبعضهم يقول: إن الباطنة: هي ما لا يدركه الناس، يعني: الأشياء الظاهرة التي يدركونها بحواسهم، هذه الأمور التي يعرفونها، والباطنة هي التي لا يعرفونها، نعم الله على عباده لا تحصى، فلو نظر الإنسان في بدنه، والأشياء التي تعمل فيه فإن عامة ذلك مما يخفى عليه، وقد يتعطل شيء يسير من هذا فيتعرف الإنسان على أسماء هذه الأبعاض، والأجزاء التي لم يسمع بها من قبل، ويتعرف على ألوان الوظائف التي لم تخطر له على بال، وأنها إذا تعطلت حصل له من الآثار والأضرار ما قد يكدر عليه عيشه، هذه أمور ما يعلم بها أكثر الناس، وما خفي فهو أعظم، ولذلك تجد بعض العلل تخفى على الأطباء، لا يعرفونها ولم يتوصلوا إليها، الإنسان لا يدرك ما في بدنه من النعم الباطنة، فكيف بغير ذلك مما خلقه الله وأوجده، فنعمه على عباده كثيرة.

وبعضهم يفسر النعم الظاهرة بصحة الأبدان، وما إلى ذلك مما ظهر من كمال الخلق، وأن الباطنة العقل، فالله خلق الإنسان في أحسن تقويم من الجهتين، من الجهة الظاهرة، ومن الجهة الباطنة، والواقع أن هذا يصلح أن يكون من قبيل التفسير بالمثال، ولا يراد به الحصر؛ لأن نعم الله هنا أعم من ذلك، ما تختص بالقلب أو بالعقل أو بصحة البدن وكمال البدن، أسبغ علينا نعمه الظاهرة والباطنة في الأبدان والعقول وغير ذلك مما هو أوسع وأعم من ذلك.

وبعضهم يقول: الظاهرة نعم الدنيا، والباطنة ما كان في الغيب من أمور الآخرة، وهذا أن تفسر الآية به وأن يقال: هذا هو المعنى: فيه بعد، ولكن الله أسبغ نعمه الظاهرة والباطنة مما يشمل أمور الدنيا المحسوسة، والأمور الأخرى المعنوية كبعث الرسل -عليهم الصلاة والسلام، والهداية بنوعيها هداية الإرشاد والتوفيق، فهذه من نعم الله، بل هي من أجل النعم، وما خفي من ألوان النعم وبطن ولم يظهر، ونعم الله لا تختص في الدنيا، بل في الدنيا والآخرة.

وبعضهم يقول: إن النعم الظاهرة مثل الإسلام، والجمال، وإن النعم الباطنة هي ما ستره الله على عباده فلم يظهر للناس، فالله أسبغ عليهم نعمه بالإسلام وجمّلهم بما جملهم به وستر القبيح.

قال الإمام أحمد -رحمه الله- ليس المقصود تفسير الآية لكن الشيء بالشيء يذكر: لولا ستر الله لافتضحنا، فما يسبغه الله على العبد حيث ستره وإلا لافتضح، ولو تأمل الإنسان هذا المعنى وما يدخل تحته من ألوان العيب والنقص الذي يكون بالإنسان فإنه يعرف بعض نعمة الله عليه بالستر، سواء كان ذلك مما يتصل بطاعته الله ومعصيته، يعني من تقصير في طاعة أو فعل المعصية، أو كان ذلك مما يتصل بغيره، يعني غير موضوع الطاعة والمعصية، وإنما أشياء أخرى من ضعف الإنسان وأمور ترجع إلى ما جبل عليه في خلقته وضعفه وما إلى ذلك، فلولا ستر الله عليه لافتضح، فنعم الله على عباده كثيرة، فيخرج الإنسان متجملًا إلى الناس بعد راحة، فيلقاهم وهو في حال لا بأس بها، حسنة، ولكن لو بقي مع نفسه وضعفه وعجزه لرأى الناس منه أشياء وأشياء -والله المستعان. 

والقراءة الأخرى وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعْمَةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً يعني بالإفراد، وهي قراءة متواترة، وهي قراءة عامة الكوفيين، وقرأ بها بعض المكيين، نِعْمَةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، والنعمة هذه لما نظر بعضهم إلى الإفراد فيها قال: هي الإسلام، أو شهادة أن لا إله إلا الله، ولا حاجة لهذا؛ لأن النعمة هنا مفرد ولكنه اسم جنس، فيصدق على الواحد والكثير، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعْمَةً أي: نِعَمًا، فيرجع إلى الأول في المعنى، فهي ليست نعمة واحدة.

ولهذا قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ أي: مبين مضيء.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أي: لهؤلاء المجادلين في توحيد الله: اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ أي: على رسوله من الشرائع المطهرة، أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ أي: فما ظنكم أيها المحتجون بصنيع آبائهم أنهم كانوا على ضلالة وأنتم خلف لهم فيما كانوا فيه؛ ولهذا قال: أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ.

هذا ذكره الله بعد وصايا لقمان وهو من الأمور المذمومة بلا شك، ولا ينبغي للإنسان أن يقع في مثل هذا، أن يجادل في الله، في وحدانيته، في ذاته، في أسمائه، في صفاته، بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ، ليس له علم بما يجادل به، ولم يكن جداله عن بينة وهدى، ولم يكن مما تلقاه وأخذه من الكتاب المنزل، وإنما يجادل بجهل مما يمليه عليه هواه أو عقله الفاسد، أو نحو ذلك، فكل من جادل بغير علم، كل من جادل في الله أو في شرعه، في دينه بغير علم فله نصيب من هذه الآية.

واليوم اجترأ كثير من الناس فصار كثيرون يظنون أن من حق كل أحد أن يتكلم، وأن يكتب، وأن يرد وأن يجادل بحجة أنه لا يوجد عندنا كهنوت، بزعمهم، فأبقوا جميع الاختصاصات إلا الاختصاص بعلوم الشريعة، فعندهم بلسان المقال والحال أن هذا يشترك فيه كل أحد، ومن حق كل أحد أن يتكلم، في القضايا الكبار وغيرها، فاجترءوا جرأة عظيمة على الله -تبارك وتعالى، وكتابه، ودينه وشرعه، وعلى عباده المؤمنين، فصاروا يتكلمون ويكتبون، والواحد منهم لربما لو سرح مع اثنتين من البقر لم يحسن رعايتها -نسأل الله العافية، أعوذ بالله.

يجمع الإنسان بين الجهل والضلالة مع جرأة يجترئ بها على ما لا يحسنه، فيعلن جهله أمام الناس، فهذا -نسأل الله العافية- قد هتك ستره وعرض عقله على الناس، كشف حاله، فهو يظن أنه يحسن، والواقع أن أول ما يرجع إليه من هذا هو أنه يسيء إلى نفسه قبل كل شيء، وأن هذا الكلام إنما يضره هو، فالخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات، كما يقول ابن جرير -رحمه الله: إن الكلمات الخبيثة للخبيثين من الناس، فهم معدن لها، فإن صدرت منهم فهم أهلها، وإن صدرت في حقهم فهم أهلها، ويرجع ضررها عليهم لا على غيرهم، وإن صدرت منهم في حق أهل الإيمان ما ضرتهم، -والله المستعان، ولذلك لا يستغرب أن يصدر مثل هذا من مأفون القلب والفؤاد، لكنه يستغرب لربما لو أنه كتب غير ذلك، يعني: لو كتب كتابة جيدة، يستغرب يقال: ما شاء الله فلان ما الذي حصل؟! لأن ذلك خرج من غير مظنته، فنسأل الله العافية.

وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ ۝ وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۝ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [سورة لقمان:22-24].

يقول تعالى مخبرًا عمن أسلم وجهه لله، أي: أخلص له العمل وانقاد لأمره واتبع شرعه؛ ولهذا قال: وَهُوَ مُحْسِنٌ أي: في عمله، باتباع ما به أمر، وترك ما عنه زجر.

وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ، هنا فسره بالإخلاص، وهذا صحيح.

فلواحدٍ كن واحدًا في واحد أعني سبيلَ الحق والإيمانِ

فالإنسان يسلم وجهه لله فلا يكون في قلبه منازعة، أدنى منازعة، فلا يلتفت في عمله إلى غير الله -تبارك وتعالى، وإسلام الوجه لله -تبارك وتعالى- بمعنى إسلام النفس في تحقيق العبودية لله وحده دون ما سواه، يعني: أنه يُعبِّدُ وجهه، يُعبِّدُ نفسه، فالوجه هنا مراد به أن يُعبِّد الإنسان نفسه لله -تبارك وتعالى، وذكر الوجه له معنىً ودلالة أخص هنا بلا شك، أن يتوجه بعبادته وقلبه وكليته إلى ربه وخالقه فلا يلتفت إلى أحد سواه.

وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ، وهو محسن في عمله بقلبه ولسانه وجوارحه، وهذا الإحسان على مراتب أعلاها أن يعبد الله كأنه يراه، فتكون هذه الآية قد اشتملت على ما يذكر من شروط العمل في مواضع من كتاب الله -تبارك وتعالى، الإخلاص والمتابعة؛ لأن العمل لا يمكن أن يتحقق فيه وصف الإحسان إلا إذا كان قد تابع فيه النبي ﷺ، على وفق ما شرَّعه الله -تبارك وتعالى.

وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [سورة الكهف:2]، وذكر الإيمان، وهو الشرط الثالث في قبول الأعمال، فيكون عمل الصالحات منتظمًا للإخلاص والمتابعة في أول سورة الكهف، في آخرها: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [سورة الكهف:110]. 

فالعمل الصالح هو الصواب، وَلَا يُشْرِكْ ينتظم: الإيمان والإخلاص، فصارت شروط قبول العمل ثلاثة؛ لأن الإنسان إذا كان مخلصًا وعمله على شرع الله ، ولكنه لم يكن من المؤمنين لا يقبل العمل أبدًا، وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا [سورة الفرقان:23]، أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ [سورة إبراهيم:18]، أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ [سورة النور:39]، وإذا كان العمل قد صدر من المؤمن ولكن من غير إخلاص فلا يقبل، فإذا كان بإخلاص ولكنه مبتدع فإنه لا يقبل.

فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى أي: فقد أخذ موثقا من الله متينًا أنه لا يعذبه.

العروة الوثقى أي اعتصم بالعهد الأوثق، اسْتَمْسَكَ، ولاحظْ اسْتَمْسَكَ، زيادة المبنى لزيادة المعنى، ما قال: تمسّكْ، اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، والأحرف الثلاثة في أوله تدل على الطلب، اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، يعني: كأنه تمسك بالحبل والسبب الأوثق في النجاة، فكثير من الناس يتمسك بأوهام وأمور ما أنزل الله بها من سلطان فيضل، فيعبد حجرًا، أو شجرًا، أو قبرًا، أو يعبد غير ذلك مما يُعبِّدُ الضالون نفوسهم له من دون الله -تبارك وتعالى، فهؤلاء إنما يتبعون وهمًا، وليس لهؤلاء من حقيقة، فالله -تبارك وتعالى- هو الإله الحق وحده دون ما سواه.

فالذي يعبد الله -تبارك وتعالى- موحدًا له، يُعبِّدُ نفسه له مع استقامة في العمل ومتابعة للنبي ﷺ يكون قد استمسك بالعروة الوثقى، أخذ بالسبب المتين، السبب الوثيق في النجاة، من أراد أن يحصل النجاة فعليه أن يسلك هذا المسلك، وأن يسير على هذا الطريق من الإخلاص، تحقيق العبودية لله -تبارك وتعالى، مع إصلاح العمل بالقلب واللسان والجوارح، هذا طريق النجاة.

اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، يقولون: مثل من أراد أن يصعد جبلًا فتمسك بحبل، تعلق به، فهذا الذي يريد أن يصل إلى الله -تبارك وتعالى، فإذا حقق هذه الأمور فهذا هو طريق سلامة محققة، هذا هو الطريق الوحيد للنجاة، هذا هو سلوك المحجة الواضحة لا الأوهام التي لا توصله إلى مطلوبه، فهذا من فضل الله على العباد، وهذا من نعمه عليهم، أن بيّن لهم ما يحتاجون إليه، فلم يحوجهم إلى اجتهادات وتخرصات، واتباع أمور مظنونة، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: إن كل ما تتوقف عليه النجاة قد جاء بيانه في هذه الشريعة بيانًا لا يدع في الحق لبسًا، وإنما الاختلاف في أمور لا تتوقف عليها النجاة، في قضايا أخرى تفصيلية لا تتوقف عليها نجاة الإنسان.

وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ ۝ وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ أي: لا تحزن عليهم يا محمد في كفرهم بالله وبما جئت به؛ فإن قدر الله نافذ فيهم، وإلى الله مرجعهم فينبئهم بما عملوا، أي: فيجزيهم عليه، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، فلا تخفى عليه خافية.

وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ، هذا كقوله: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [سورة الكهف:6]، فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [سورة فاطر:8]، وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ۝ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ [سورة الأنعام:35، 36]، سماع يعني: إجابة، وَالْمَوْتَى الكفار، يَبْعَثُهُمُ اللّهُ، وقد مضى الكلام على هذا في الأمثال في القرآن، فهذا كله تسلية للنبي ﷺ أن لا تذهب نفسه عليهم حسرات، فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ ينهاه عن الحزن على هؤلاء.

ومثل هذا نحتاج إليه في عصرنا هذا، فإن الكثيرين لربما يحصل لهم شيء من اليأس، ويتعاظم الحزن في نفوسهم والأسى لما يرى من أمور يكرهها، حينما يرى جرأة على الله ، وعلى دينه، وكذبًا على الله، وعلى شرعه، فكثير من أهل الإيمان لربما يحصل له شيء من اليأس والحزن والضيق، ولربما يتوارد ذلك على النفس ويتعاظم حتى يضعف الإنسان وتتلاشى قواه، فلا ينتفع به في شيء من أمر الدنيا أو الآخرة. 

وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: إن الحزن إذا تتابع على القلب أضعفه، فهذا غير مطلوب شرعًا، ولا يحسن، ولا يجمل، فهذا دين الله ، وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ، ولما ذكر ما يحصل من وحي الشياطين، شياطين الجن والإنس، قال: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ۝ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ [سورة الأنعام:112، 113]، فهذه أمور الله -تبارك وتعالى- أرادها، وقلوب الخلق بين أصبعين من أصابعه، وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى، ولكنه شاء لبعضهم الردى والضلالة فبقوا في ضلالهم يعمهون، -نسأل الله العافية.

فالمؤمن حينما يرى مثل هذه الأشياء هو يفعل ما بجهده، وما في طاقته واستطاعته، والله -تبارك وتعالى- أكملُ بل الله -تبارك وتعالى- أعظم غيرة على دينه وشرعه وحرماته، ولكنه يمهلهم ويملي لهم، قال الله تعالى: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فنحن الضعفاء المساكين لسنا أغير على دين الله من الله، فالإحباط لا محل له في نفس المؤمن، وهذا الحزن الذي يتعاظم لدى بعض الخيرين لا معنى له، وإنما ينبغي على الإنسان أن ينطلق يبلغ دين الله قدر جهده واستطاعته، والله ناصر دينه وكتابه، ورسوله وعباده المؤمنين، وهذا أمر قد حكم الله به، ولا يستطيع أحد أن يبدله أو يغيره مهما بذل، فالله متم نوره ولو كره من كره من أهل الضلالات كلها، والله المستعان.

ثم قال: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا أي: في الدنيا، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ أي: نلجئهم إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ أي: فظيع صعب مشق على النفوس، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ۝ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [سورة يونس:69، 70].

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ۝ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [سورة لقمان:25، 26].

يقول تعالى مخبرًا عن هؤلاء المشركين به: إنهم يعرفون أن الله خالقُ السماوات والأرض، وحدَه لا شريك له، ومع هذا يعبدون معه شركاء يعترفون أنها خَلْقٌ له وملك له؛ ولهذا قال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ أي: إذْ قامت عليكم الحجة باعترافكم، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ.

ثم قال تعالى: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أي: هو خلقه وملكه، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أي: الغني عما سواه، وكل شيء فقير إليه، الحميد في جميع ما خلق، له الحمد في السماوات والأرض على ما خلق وشرع، وهو المحمود في الأمور كلها.

يعني سواء حمده الناس أو لم يحمدوه فهو مستحق للحمد؛ لأنه الكامل من كل وجه -تبارك وتعالى، وهو غني وحميد، فهو محمود في غناه، فكان له من اجتماع هذين الوصفين كمال ثالث، بمعنى أن الغِنى قد يحمل الناس أو كثيرًا من الناس على الطغيان، إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى [سورة العلق:6، 7]، وأما الله -تبارك وتعالى- فهو الغني الحميد، فمحمود في غناه، وله الحمد المطلق من كل وجه؛ لأنه الكامل من كل وجه.

وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ۝ مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ[سورة لقمان:27، 28].

يقول تعالى مخبرًا عن عظمته وكبريائه وجلاله، وأسمائه الحسنى وصفاته العلا وكلماته التامة التي لا يحيط بها أحد، ولا اطلاع لبشر على كنهها وإحصائها، كما قال سيد البشر وخاتم الرسل: لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك[9]، فقال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ أي: ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلامًا، وجعل البحر مدادًا ومَده سبعة أبحر معه، فكتبت بها كلمات الله الدالة على عظمته وصفاته وجلاله لتكسرت الأقلام، ونَفدَ ماء البحر، ولو جاء أمثالها مَدَدًا.

وإنما ذكرت السبعة على وجه المبالغة، ولم يرد الحصر ولا أن ثم سبعة أبحر موجودة تحيط بالعالم، كما يقوله من تلقاه من الإسرائيليات التي لا تُصدق ولا تكذب، بل كما قال تعالى في الآية الأخرى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [سورة الكهف:109]، فليس المراد بقوله: بِمِثْلِهِ آخر فقط، بل بمثله ثم بمثله ثم بمثله، ثم هلم جرا؛ لأنه لا حصر لآيات الله وكلماته.

يعني فهمَ ذلك أن المراد به التكثير، بِمِثْلِهِ أو سَبْعَةُ أَبْحُرٍ باعتبار أن العدد سبعة يقال للتكثير، مثل السبعين، اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ، بهذا الاعتبار. 

وقوله: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ شجرة، الشجرة مفرد أو جمع؟ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ الأقلام جمع، مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ، وحد الشجرة؛ لأن استغراق المفرد أشمل، كما يقوله أهل البلاغة، يعني شجرة، شجرة، وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ، كأنه قال: كل شجرة شجرة، حتى لا يبقى من جنس الشجر شيء، لا تبقى واحدة إلا بُريت قلمًا، بريت أقلامًا، ما تنفذ كلمات الله، المداد: الحبر، ولو كان يمده أبحر كثيرة فإن كلمات الله لا تنفد.

فالكلمات هنا ابن كثير -رحمه الله- لم يوضح المراد بها على سبيل التحديد، قال هنا: وكلماته التامة التي لا يحيط بها أحد، ولهذا بعضهم يقول: إن الكلمات هنا كلماته أي معلوماته، النحاس يقول: العلم وحقائق الأشياء، يعني قبل أن توجد؛ لأن الله عَلِم قبل أن يخلق كما هو معروف في مراتب القدر، المرتبة الأولى مرتبة العلم؛ ولهذا يقيده بعضهم بأنه ما كان في المقدور قبل أن يوجد.

والظاهر -والله تعالى أعلم- أن المراد هنا بالكلمات ما هو أشمل من ذلك، فكلمات الله -تبارك وتعالى- نوعان: الكلمات الكونية التي يحصل بها الإيجاد والإعدام والخلق وما إلى ذلك، وهذه التي قال فيها النبي ﷺ: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق[10]، هذه التي يستعيذ بها الإنسان، لا يجاوزها بر ولا فاجر، مع أنه لو استعاذ بالكلمات الشرعية فهو كلام الله، استعاذة صحيحة، لكن المناسب الكلمات الكونية التي لا تُجاوَز؛ لأن الإنسان يريد الحفظ، ومقاليد الأمور بيد الله ، ونواصي الخلق في قبضته، فيستعيذ بكلماته الكونية، حينما تقول: أعوذ بكلمات الله التامات، فهذه الكلمات هي التي يحصل بها الخلق، والإيجاد والإعدام والرزق، وما إلى ذلك، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [سورة الطلاق:12]، والنوع الثاني من الكلمات هي الكلمات الشرعية، كلامه -تبارك وتعالى- في الكتب المنزلة وما إلى ذلك، هذه كلماته الشرعية. 

فالمقصود أن البحار لو كانت مدادًا حبرًا، وكل ما في الأرض من شجرة بُريت وصارت أقلامًا ما نفدت كلمات الله ، فيدخل في هذا كلماته الكونية التي بها يخلق، ويدخل في هذه الكلمات الشرعية، ولهذا ابن القيم -رحمه الله- يحتج في بعض كتبه على الذين يقولون: إن الكلام معنى واحد في النفس وإنه لا تعاقب فيه ولا انقضاء إلى آخره، يحتج عليهم ويرد عليهم بهذه الآية، فالله -تبارك وتعالى- يتكلم كيف شاء متى شاء، وكلامه يتعلق بمشيئته وإرادته، تكلم في الماضي، ويتكلم متى شاء، وأخبرنا أنه يتكلم في الآخرة، ويقول: أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ، وما إلى ذلك مما يتكلم الله به، فكلماته شرعية وكونية.

وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ، فهذا أمر يخرج عن تصور العقول وعن إحاطتها، فالله أعظم وأجل من ذلك، مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ، وهذا يدل على عظمة المعبود وتقدست أسماؤه، سبحانه ما عبدناه حق عبادته، فهذا هو الله الذي نصلي له ونسجد ونتعبد، ونذكره، ونلجأ إليه فيما أهمنا وفي حال الرغبة، فالمؤمن الذي يعتصم به يكون قد هدي إلى صراط مستقيم، ويكون قد لجأ إلى ركن عظيم، فلا يضعف المؤمن وينقبض قلبه ويشعر بالهزيمة حينما يرى أهل الباطل ينتشون ويتطاولون ويترفعون، فإن أمرهم إلى بوار، وما يضرون بذلك إلى أنفسهم ولا يضرون الله شيئًا، إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ [سورة آل عمران:176]، فهذا هو شأن المؤمن.

وقوله: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي: عزيز قد عَز كلَّ شيء وقهره وغلبه، فلا مانع لما أراد ولا مخالف ولا معقب لحكمه، حَكِيمٌ في خلقه وأمره، وأقواله وأفعاله، وشرعه وجميع شئونه.

وقوله تعالى: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ أي: ما خَلْقُ جميع الناس وبعثهم يوم المعاد بالنسبة إلى قدرته إلا كنسبة خلق نفس واحدة، الجميع هين عليه، وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [سورة القمر:50] أي: لا يأمر بالشيء إلا مرة واحدة، فيكون ذلك الشيء لا يحتاج إلى تكرره وتوكده، فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ۝ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [سورة النازعات:13، 14].

وقوله:مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ الآية.

  1. رواه أحمد في المسند، برقم (20633)، وقال محققوه: إسناده صحيح، والنسائي في السنن الكبرى، برقم (9692)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (1352).
  2. رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، برقم (4213).
  3. رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/ 380)، وضعفه الألباني في مختصر الشمائل المحمدية، برقم (100).
  4. رواه أحمد في المسند، برقم (746)، وقال محققوه: حسن لغيره، والحاكم في المستدرك، برقم (4194)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه الألفاظ، وحسن إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة، (5/ 119)، في كلامه على حديث رقم (2083). 
  5. رواه البخاري، كتاب الهبة وفضلها، باب هبة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها، برقم (2449)، ومسلم، كتاب الهبات، باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض إلا ما وهبه لولده وإن سفل، برقم (1622).
  6. رواه البخاري، كتاب البيوع، باب كراهية السخب في السوق، برقم (2018).
  7. ثبت عن النبي ﷺ من قوله لا نسبة إلى لقمان رواه البيهقي في السنن الكبرى، برقم (18358)، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (919)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2547)، وفي صحيح الجامع، برقم (1708)، ورواه النسائي في السنن الكبرى منسوبًا للقمان ، برقم (10350)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، برقم (3191)، وفي ضعيف الجامع، برقم (1921).
  8. رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، برقم (26213).
  9. رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم (486).
  10. رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره، برقم (2708).

مواد ذات صلة