الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
‏ [3] من قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} الآية:29 إلى قوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الآية:34‏
تاريخ النشر: ٠٧ / ذو القعدة / ١٤٣٢
التحميل: 5123
مرات الإستماع: 4989

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين.

يقول الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ۝ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سورة لقمان:29، 30].

يخبر تعالى أنه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ بمعنى: يأخذ منه في النهار، فيطولُ ذاك ويقصر هذا، وهذا يكون زمن الصيف، يطول النهار إلى الغاية، ثم يشرع في النقص فيطول الليل ويقصر النهار، وهذا يكون في زمن الشتاء، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قيل: إلى غاية محدودة، وقيل: إلى يوم القيامة، وكلا المعنيين صحيح، ويستشهد للقول الأول بحديث أبي ذر الذي في الصحيحين: أن رسول الله ﷺ قال: يا أبا ذر، أتدري أين تذهب هذه الشمس؟، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب فتسجد تحت العرش، ثم تستأذن ربَّها فيوشك أن يقال لها: ارجعي من حيث جئت[1].

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: الشمس بمنزلة الساقية، تجري بالنهار في السماء في فلكها، فإذا غربت جرت بالليل في فلكها تحت الأرض حتى تطلع من مشرقها، قال: وكذلك القمر، إسناده صحيح.

وقوله: وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، كقوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ [سورة الحج:70]، ومعنى هذا: أنه تعالى الخالق العالم بجميع الأشياء، كقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [سورة الطلاق:12] الآية.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، قوله: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ، قال: بمعني يأخذ منه في النهار فيطول ذاك ويقصر هذا، يعني ما يحصل من التفاوت على مدار العام، فيزداد الليل طولاً والنهار قصراً إلى حد الاعتدال، ثم بعد ذلك ينعكس، وأن هذا آية من آيات الله تعالى حيث يجريها هذا الإجراء، ويوجد بينها هذا التفاوت، فهذا دليل على قدرته ، وذلك أنه سيرها وسخرها وفق نظام دقيق، وإذا نظرت إلى مثل هذا التفاوت تجد أنه يسير على أجزاء لربما دقيقة في اليوم الواحد أو أقل من ذلك.

ومن أهل العلم من فسر إيلاج الليل في النهار -كما سبق في مناسبات سابقة- بأن المراد: أن الله -تبارك وتعالى- يدخل الليل على النهار، ويدخل النهار على الليل، فالليل يغشى النهار بظلامه، والنهار ينفلق من الليل فينشق عمود الصبح حتى ينفجر ثم بعد ذلك يتسع حتى يبلغ مداه، ثم بعد ذلك يبدأ بالانكماش والانقباض والضعف والذبول، حتى يتلاشى فيغشاه الليل بظلامه، إلى غير ذلك من الأقاويل التي سبقت في معنى إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل، وكل ذلك دليل على قدرته -تبارك وتعالى.

وهذا القول الذي اختاره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هو الذي عليه كثير من أهل العلم، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير -رحم الله الجميع.

وقوله: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حقيقة التسخير هي جعل المسخَّر بحيث يُنتفع به سواء كان مذللاً تحت تصرف من سُخر له أو لم يكن كذلك، فالشمس والقمر غير منقادتين لنا، لا نستطيع أن نتصرف بهما، لكن الله سخرهما لنا، وذلك أنه ذللهما وصرفهما بحيث ينتفع بذلك الناس، وأما النوع الثاني من التسخير فهو بحيث يكون المسخَّر تحت تصرف الإنسان، كما في بهيمة الأنعام، فكل ذلك مسخر سخره الله -تبارك وتعالى- لينتفع به الناس.

كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، هنا ذكر معنيين: الغاية المحدودة، هذا الأول، يعني إلى وقت الطلوع والأفول، إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وهذا المعنى إذا نظرت إليه تجد أنه واقع، فالنهار يبتدئ من طلوع الشمس إلى غروبها، والليل يبدأ من الغروب إلى الطلوع، واليوم يبدأ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والليل يبدأ من غروب الشمس إلى طلوع الفجر.

فالشاهد أن الله جعل لذلك غاية، الشمس والقمر سخرهما كل يجري إلى أجل مسمى، إلى وقت الطلوع والأفول –الغروب، وهكذا النجوم جعلها الله  كذلك أيضاً لها مطالع ومغارب، وبعضهم يقول: إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني: إلى يوم القيامة، فيخسف بالشمس والقمر، وتتحول هذه الأجرام العلوية إلى شيء آخر، وتتبدل وتتغير ويطرأ عليها ما يحولها بقدرة الله وإرادته.

وهذا المعنى الثاني: إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني: إلى يوم القيامة، يعني أنها تسير وفق نظام دقيق لا يتبدل ولا يتغير إلى أن يأذن الله -تبارك وتعالى، إلى الوقت الذي حدده ليكون ذلك نهاية هذه الحياة الدنيا، إلى يوم القيامة، هذا المعنى الثاني، وهو اختيار أبي جعفر بن جرير -رحمه الله، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- وهذا من محاسن هذا التفسير أنه جمع بين المعنيين، وهذا هو اللائق بالمفسر ألا يترك القارئ مع الأقوال يسردها له، ثم بعد ذلك يحيره، فمن الأقوال ما يكون من قبيل اختلاف التضاد، كهذا، ولكنه يمكن أن يجتمع؛ لأن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.

فهنا كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، والله لم يحدد هذا أو هذا، فمن وقت الطلوع إلى وقت الأفول، هذا إلى أجل مسمى حدده الله ، وكون ذلك يسير على نظام دقيق لا يتبدل ولا يتحول إلا يوم القيامة إذا خسف الشمس والقمر فإن هذا أيضاً أجل مسمى، أجل لتحولها، والأول أجل إلى مدى الليل والنهار، وذكر شاهد القول الأول الذي هو الطلوع والأفول، والأصل أن الآية إذا احتملت معنيين، ووجد ما يدل على كل واحد -يعني على صحته- فإنها تحمل على ذلك جميعاً، وابن جرير -رحمه الله- كثيراً ما ينبه على هذا المعنى وأنه ليس أحد المعنيين بأولى من الآخر؛ لأن الله لم يقيد ذلك ولم يحدد واحداً منهما، يعني بمعنى أن القول: إن هذا هو المعنى، فيه نوع تحكم، والله تعالى أعلم.

قال: وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، فالخبير هو العالم بالخفيات، الذي يعلم خفايا الأمور وبواطن ذلك، لا يخفى عليه خافية، وأن اللطيف هو الذي يعلم دقائق الأشياء.

قال: ومعنى هذا أن الله تعالى الخالق العالم بجميع الأشياء، كقوله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [سورة الطلاق:12].

قال: وقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ أي: إنما يُظهر لكم آياته لتستدلوا بها على أنه الحق، أي: الموجود الحق، الإله الحق، وأن كل ما سواه باطل، فإنه الغني عما سواه، وكل شيء فقير إليه.

هذا المعنى، لتعلموا بأن الله هو الحق، يعني هو الإله الحق، وأن ما يُدعى من دونه هو الباطل، فالذي يصرف هذه المخلوقات هذا التصريف ويدبرها وحده دونما سواه هو الذي يستحق العبادة وحده، وهذا كما هو معلوم من الاستدلال بالربوبية على الإلهية؛ لأنها تستلزمها، وإذا كان هو الخالق وحده والمتصرف وحده إلى آخره فينبغي أن تكون الألوهية والعبادة له وحده دونما سواه ، فهذا هو المراد، وهو الذي ذكره ابن جرير -رحمه الله، أن الله هو الإله الحق، هو المعبود الحق الذي يستحق العبادة وحده.

قال: أي: الموجود الحق، الإله الحق، وأن كل ما سواه باطل فإنه الغني عما سواه، وكل شيء فقير إليه؛ لأن كل ما في السماوات والأرض الجميع خلقه وعبيده، لا يقدر أحد منهم على تحريك ذَرّة إلا بإذنه، ولو اجتمع كل أهل الأرض على أن يخلقوا ذباباً لعجزوا عن ذلك؛ ولهذا قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أي: العلي: الذي لا أعلى منه، الكبير: الذي هو أكبر من كل شيء، فكل شيء خاضع حقير بالنسبة إليه.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ۝ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ [سورة لقمان:31، 32].

يخبر تعالى أنه هو الذي سَخَّر البحر لتجري فيه الفلك بأمره، أي: بلطفه وتسخيره؛ فإنه لولا ما جعل في الماء من قوة يحمل بها السفن لمَا جرت؛ ولهذا قال: لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ أي: من قدرته، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أي: صبار في الضراء، شكور في الرخاء.

إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، هذا الذي ينتفع بهذه الآيات -من إجراء الله الفلك في البحر، وما يحصل في هذه الأفلاك من جريها كما سبق على هذا النظام الدقيق وما أشبه ذلك- الذي يتفكر، قال: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [سورة البقرة:164]. 

وقال في آية آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ [سورة آل عمران:190]، ثم ذكر أوصافهم، هنا ذكر الصبار الشكور، وهناك قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر[2]، انظر إلى حال هؤلاء الآن، في آية آل عمران: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا هؤلاء من؟ هم أولو الألباب الذين ينتفعون بهذه الآيات، وأولو الألباب هم أصحاب العقول لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ في آية البقرة، فـالَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ هؤلاء هم من ذكر هنا لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، ومن لا يكون بهذه المثابة فإنه يأكل من نعم الله، ويتقلب فيها، ولا يرفع لهذه الأمور، لا يرفع بها رأساً، والله المستعان.

كأن المعنى في النهاية: لآياتٍ لكل ذي عقل، لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ؛ لأن الذي يصبر ويشكر هو صاحب العقل، وهذا المعنى ذكره ابن جرير -رحمه الله، وهذا معنى شريف يحتاج أن الإنسان مع نفسه يقف معه وينظر في هذه الآيات الثلاث وما شاكلها ثم يعرض حاله عليها، ومن ثم يحصل له الانتفاع، ويكون له قلب حي يقظ وقّاد، ينتفع بالآيات التي يشاهدها والعبر التي تمر به، ولا يكون سادراً في غفلته، والله المستعان.

قال -رحمه الله: ثم قال تعالى: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ أي: كالجبال والغمام.

الظلل: كل شيء أظلك فهو ظله، مَوْجٌ كَالظُّلَلِ بعضهم يقول: في ظلامه الذي يغطي لشدته وعظمه وتتابعه، وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [سورة لقمان:32].

قال: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، كما قال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ [سورة الإسراء:67]، وقال تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ... الآية [سورة العنكبوت:65].

هو قوله: ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ مع قوله هنا: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ إذا ضل من يدعون من دونه يكون هؤلاء في حال من الإخلاص والتجرد مع الانقطاع عن الالتفات إلى المخلوقين بالكلية، ومن هنا يستجاب الدعاء، دعوة المضطر ولو كان كافراً؛ لأنه ينخلع من جميع علائقه فيكون مخلصاً لله ، يكون بغاية التجرد.

ثم قال تعالى: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ قال مجاهد: أي كافر، كأنه فسر المقتصد هاهنا بالجاحد.

فقط اقتصر عليه، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، قال كما قال تعالى: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ، يعني: كأنه فسر هذا بهذا، فالمقتصد صار بمعنى الجاحد لنعمة الله الكافر به، يعني رجع إلى حاله الأول من الكفر والإعراض، ونَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ [سورة الزمر:8]، هذه حال هؤلاء الكفار، في وقت الشدة يخلصون، وفي وقت الرخاء يشركون، فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ لكن هذا التفسير ليس محل اتفاق.

بعضهم يقول: مقتصد فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، أي: مقتصد في القول مضمر للكفر، فالقرينة هنا وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ [سورة لقمان:32]، فقول مجاهد: إنه الكافر، أو قول من قال: إنه مقتصد بالقول مضمر للكفر، يعني لا يزال يتكلم بكلام لكنه يضمر الكفر فهو جاحد، يعني لماذا قال مجاهد: إنه جاحد؟ باعتبار أن الله قال: وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا فهذا تعقيب عليه، وبالإضافة إلى الآيات الأخرى كقوله: إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ.

وبعضهم يقول: إن المقتصد فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ أي: مؤمن، طيب ومنهم كافر، قالوا: فذكر أشرف الحالين، أشرف النوعين، هذا الذي يسمونه الاكتفاء، يذكر أشرف النوعين مثلاً، سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [سورة النحل:81] أي: والبرد، فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى [سورة الأعلى:9] على قول من قال: إن نفعت وإن لم تنفع، لكن ذكر أشرف الاحتمالين، أشرف الحالين، فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ يعني: وغير مقتصد، فالمقتصد يكون المؤمن الموحد، ومنهم من لا يكون كذلك، هذا إذا نجاهم يكونون على حالين، فيكون فيه حذف.

هذا كله من تفسير القرآن بالقرآن، لكن كما ترون ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ [سورة فاطر:32] يعني: في العمل، مقتصد في العمل، مقتصر على الواجبات ويترك المحرمات، فهذا احتمال.

حاصل ما قال: فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ يعني: في العمل، يعني الذي يقتصر على الواجبات ويترك المحرمات، كما في الآية السابقة فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ، فيكون ذلك على سبيل الذم باعتبار أنه بعدما شاهد هذا كله كان ينبغي بعد أن أنجاه الله أن يشمر في الطاعة، والتقرب إلى الله ، فكونه يرجع إلى هذه الحال من الفتور، يقتصر على الواجبات ويترك المحرمات فقط، بعدما رأى هذه الأهوال، وما أنعم الله عليه من النجاة أن هذا يستحق الذم بهذا الاعتبار، فالحاصل أن هذا احتمال.

ولكن من يقول: إن المقصود الجاحد، كقول مجاهد -وهو مَن هو في التفسير- فإن الآيات التي وردت في مثل هذا يذكر الله حالهم فيها من رجوعهم إلى الإشراك، وفي الآية قرينة تدل على هذا المعنى، وهي قوله: وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا، ولكن هذا أيضاً لا يقطع بأنه هو المراد، هو أيضاً احتمال؛ لأنه يمكن أن يكون كونه مقتصداً يعني مؤمناً، أو متوسطاً في العمل، ومنهم من لا يكون كذلك، وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ.

قال: وقوله تعالى: وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ فالختار: هو الغَدَّار، قاله مجاهد، والحسن، وقتادة، ومالك عن زيد بن أسلم، وهو الذي كلما عاهد نقض عهده، والخَتْر: أتَم الغدر وأبلغه.

يعني بعضهم يفسر الختر بالغدر، وبعضهم يفسره بأسوأ الغدر، هكذا يقول بعض أهل اللغة وبعض المفسرين ومنهم ابن جرير: إنه غدر خاص، أسوأ الغدر يقال له: ختر، وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا؛ لأنهم كانوا يقولون: لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ۝ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [سورة يونس:22، 23]، فرجعوا إلى حالهم الأول، فهذا يعتبر غدراً، نكثوا ما وعدوا به من التوبة والاستقامة والتوحيد والإيمان، والله المستعان.

قال: وقوله: كَفُورٍ أي: جحود للنعم لا يشكرها، بل يتناساها ولا يذكرها.

هذا عام في نعم الله وما يحصل للإنسان من الشدائد، ثم ينجيه الله ، فيحصل له المرض، فيدعو الله ، إذا أصابه الضر دعا ربه -تبارك وتعالى- بضراعة، ثم إذا رفع علته رجع وغفل ونسي ما كان يدعو إليه من قبل، فالمؤمن لا يكون بهذه المثابة، والغفلة غالبة، ولو نظر الإنسان في حاله وما مر به لربما ينسى كثيراً من الشدائد التي دعا الله فرفعها عنه ولربما لا يتذكر كثيراً من هذا، يغفل عنه.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [سورة لقمان:33].

يقول تعالى منذراً للناس يوم المعاد وآمراً لهم بتقواه والخوف منه، والخشية من يوم القيامة حيث قال: لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ أي: لو أراد أن يفديه بنفسه لما قبل منه، وكذلك الولد لو أراد فداء والده بنفسه لم يقبل منه.

ثم عاد بالموعظة عليهم بقوله: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا أي: لا تلهينكم بالطمأنينة فيها عن الدار الآخرة، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ يعني: الشيطان، قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، فإنه يغر ابن آدم ويَعده ويمنيه، وليس من ذلك شيء بل كما قال تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا.

قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ هنا يقول: أي لو أراد أن يفديه بنفسه لما قبل منه، وكذلك الولد لو أراد أن يفديه لا يجزي، كما قال الله : وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [سورة البقرة:47]، فنفى هذه الأمور جميعاً، لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ يعني: لا يوجد من يخلصه بالقوة، ولا يقبل منه فداء –عدل، لا يقبل منه فداء، ولا يقبل فيه وساطة وشفاعة؛ لأن الإنسان إنما يتخلص إما بشفاعة، وإما بمقابل، وإما أن يخلص بالقوة، فكل هذه الأمور الثلاثة منتفية.

فهنا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ هذا في الفداء، لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ، هو كما قال الله -تبارك وتعالى- هنا فيحتمل ما ذكره الحافظ ابن كثير، وكل هذا -والله أعلم- داخل فيه، لو أراد أن يفديه بنفسه لما قبل منه، والواقع أيضاً أنه لا يُقدم على ذلك، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ۝ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ۝ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [سورة عبس:34-36]، يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ، والإنسان في الدنيا إن كان له أولاد فإنهم إذا اعتلوا فإنه يتمنى لو كان ذلك فيه، وأنه لم يحصل لهم هذا الألم، هذا أمر مشاهد، أما في الآخرة فيتمنى لو أنه يقدم هؤلاء الأولاد فداء له لينجو، فهو لا ينفع غيره بقليل ولا كثير، يريد الخلاص لنفسه في ذلك اليوم.

ثم إن قوله -تبارك وتعالى: فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ قال: يعني الشيطان، هذا بالفتح (الغَرور)؛ لأنه يغر كثيراً، والغُرور مصدر من غر، فكل ما غر الإنسان فهو داخل في هذا، وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ، والشيطان غَرور يغر الإنسان، وما ألهاك عن عبادة الله وصرفك عنها وأشغلك عن طاعته فهو من الغَرور، داخل في هذا، ولكن كما قال الله عن الشيطان: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا [سورة النساء:120]، يعدهم أماني ووعوداً كاذبة تغرهم، ولا حقيقة لها.

قال: قال وهب بن منبه: قال عزير : لما رأيت بلاء قومي اشتد حزني وكثر همي، وأرق نومي، فضرعت إلى ربي وصليت وصمت، فأنا في ذلك أتضرع أبكي إذ أتاني الملك فقلت له: أخبرني هل تشفع أرواح الصديقين للظلمة، أو الآباء لأبنائهم؟ قال: إن القيامة فيها فصل القضاء وملك ظاهر، ليس فيه رخصة، لا يتكلم فيه أحد إلا بإذن الرحمن، ولا يؤخذ فيه والد عن ولده، ولا ولد عن والده، ولا أخ عن أخيه، ولا عبد عن سيده، ولا يهتم أحد بغيره ولا يحزن لحزنه، ولا أحد يرحمه، كل مشفق على نفسه، ولا يؤخذ إنسان عن إنسان، كل يهم همه ويبكي عَوله، ويحمل وزره، ولا يحمل وزره معه غيره، رواه ابن أبي حاتم.

قوله: ويبكي عوله: يعني يرفع صوته بالبكاء، يعني يبكي أشد ما يستطيع، وهذا من الأخبار الإسرائيلية، والنبي ﷺ قال: وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج[3]، والله المستعان.

إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [سورة لقمان:34].

هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها، فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها؛ فعلمُ وقت الساعة لا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب، لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ، وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله، ولكن إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك ومَنْ يشاء الله من خلقه.

هنا قوله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ قال: هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها، هذه الصيغة إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ فيها ما يدل على الحصر، وهو تقديم ما حقه التأخير "عنده"، ما قال: إن علم الساعة عند الله، لو قال: إن علم الساعة عند الله، يحتمل أن يكون عند الله وعند غيره، لكن حينما يقول: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، معناها ليس عند غيره، فتقديم ما حقه التأخير يشعر بهذا، فيفيد هذا، مثل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] هذا يفيد الحصر؛ لأنا لا نعبد غيرك، لو قال: نعبدك، فهنا يحتمل، وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا [سورة يونس:85] يعني: لا على غيره، فهذا يشعر بالحصر.

والنبي ﷺ لما ذكر مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله ذكر الخمس، فالله مختص بها، فعلم الساعة يعني علم الوقوع، متى تقع، وقت الوقوع، قال: وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ هنا يقول: وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله، يعني متى ينزل، ولكن إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك، ومن يشاء الله من خلقه، من يشاء من خلقه: من يُطلعهم عليه، يعني إذا أطلع الله نبيناً مثلاً على هذا أنهم سيمطرون وأنهم سيغاثون، ونحو ذلك، كما أطلع الله يوسف ﷺ: ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ [سورة يوسف:49]، هذا تقدير بالعام، يعني بعد السبع الخصبة ثم بعد ذلك العجاف ثم بعد ذلك عام يغاث الناس فيه، وكذلك يعصرون، وهذا نتيجة لما يحصل لهم من أثر الغيث.

فالشاهد أن المراد متى ينزل المطر، وبعض أهل العلم يقول: وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ يعني: أنه هو وحده القادر على ذلك، دون ما سواه، وهل يشكل على هذا أن ما يسمى بالإمطار أو بالاستمطار الذي يكون الناس سبباً فيه بإرادة الله ؟ ما يشكل على هذا؛ لأنهم نظروا إلى السنة الكونية، السنة الكونية كيف يحصل من الأطوار، فعملوا بمقتضى هذا، ولكنه قد لا ينزل، ولا يعلمون متى ينزل بدقة، ولا يعلمون أين ينزل، والمشاهد أنهم يفعلون ذلك في بلد وينزل في بلد آخر أحياناً، وكل ذلك بإرادة الله -تبارك وتعالى. 

فلو قيل للناس: هذا السحاب الذي ترونه يطوف في السماء، متى ينزل عليكم المطر، متى يحصل لكم الغيث؟ فإنهم لا يعلمون، لا يعلم ذلك إلا الله، هذا العام هل سينزل فيه أمطار، هل هي كثيرة أو قليلة؟ لا أحد يعلم متى ستنزل، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، ولا يكون غيثاً إلا ما يكون فيه الإنبات والنفع، لكن مجرد نزول المطر من السماء الذي لا ينبت شيئاً ولا يحصل به انتفاع، أو لربما يحصل به غرق هذا لا يقال له غيث.

قال: وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه الله سواه، ولكن إذا أمر بكونه ذكرا أو أنثى، أو شقياً أو سعيداً علم الملائكة الموكلون بذلك، ومَنْ شاء الله من خلقه.

من شاء من خلقه كما حصل التبشير لإبراهيم ﷺ، ولامرأته أيضاً بالولد، وكذلك زكرياً، لكن هنا يزول الاختصاص، فهذا الملك يأتي إلى النطفة، وفي بعض الروايات: "إذا بلغت أربعين"، وفي بعضها: "إذا بلغ أربعة أشهر، فيؤمر بأربع كلمات"، وإذا كانت النطفة بهذه المثابة في الأربعين هل الأطباء يعرفون تحديد الجنين من ذكر أو أنثى مثلاً؟ هم لا يعرفون ذلك، ولكن الملك عرفه، فزال الاختصاص هنا، مع أن قوله: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ تفيد العموم، لا يختص هذا بكونه ذكراً أو أنثى. 

ولاحظ عبارة ابن كثير، قال: وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه الله تعالى سواه، فما الذي في الأرحام؟ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ، مما يكون في الأرحام ما يكون من الأجنة، ومن أحوالها وآجالها وأرزاقها وأعمالها، كل ذلك داخل في علمه، وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ فهو يأمر الملك بأربع كلمات: رزقه، وأجله، وعمله، شقي أم سعيد، هذا من الذي يعلمه، من الذي يعلم رزق هذا الإنسان، وكيف سيكون هل هو غني أو فقير، وعمل هذا الإنسان، وأجل هذا الإنسان متى سيكون؟

هذا بعض علم الله -تبارك وتعالى، هذا فضلاً عن الأمور الأخرى عن شكل هذا الإنسان، وطوله وقصره، ووزنه، وكيف سيكون في كل طور من أطواره، وما يعتريه وما يحصل له وما فيه من الآفات، هذا لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى، وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ، فلا يشكل على هذا كونهم يصورون الجنين ويعرفون هل هو ذكر أو أنثى في مرحلة من مراحل الحمل.

قال: وكذلك لا تدري نفس ماذا تكسب غداً في دنياها وأخراها.

يعني: ماذا تكسب غداً من مال، من رزق، وفي أخراها من الأعمال الصالحة، وماذا تكسب غداً في الحياة الدنيا، وماذا تكسب في الآخرة؛ لأنه كما قال الله : وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [سورة الحشر:18] يعني: الآخرة، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا، في الدنيا من الأعمال والأرزاق وغير ذلك، وماذا تكسب غداً في الآخرة، فكل ذلك يقال له: غد، فالغد يقال لليوم الذي يعقب ليلتك، ويقال أيضاً للمستقبل، لكل ما هو آت يقال له: الغد، لا يدري الإنسان في مستقبله القريب والبعيد ماذا يكسب، فالله هو الذي يعلم ذلك.

وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ في بلدها أو غيره من أي بلاد الله كان، لا علم لأحد بذلك، وهذه شبيهة بقوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ الآية [سورة الأنعام:59]، وقد وردت السنة بتسمية هذه الخمس: مفاتيح الغيب.

ومما يدل على هذا الاختصاص أو الحصر في الآية الأخرى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ.

روى الإمام أحمد عن بريدة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: خمس لا يعلمهن إلا الله : إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[4]، هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجوه.

حديث ابن عمر: وروى الإمام أحمد عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[5]، انفرد بإخراجه البخاري، فرواه في "كتاب الاستسقاء" من صحيحه، ورواه في التفسير من وجه آخر أن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: مفاتيح الغيب خمس، ثم قرأ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ[6] انفرد به أيضاً.

حديث أبي هريرة: روى البخاري عند تفسير هذه الآية عن أبي هريرة : أن رسول الله ﷺ كان يوما بارزا للناس، إذ أتاه رجل يمشي، فقال: يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال: الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، وتؤمن بالبعث الآخر، قال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: الإسلام: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، قال: يا رسول الله، ما الإحسان؟ قال: الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، ولكن سأحدثك عن أشراطها: إذا ولدت الأمَةُ رَبَّتَهَا، فذاك من أشراطها، وإذا كان الحفاة العُرَاة رءوس الناس فذاك من أشراطها، في خمس لا يعلمهن إلا الله، إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ الآية، ثم انصرف الرجل فقال: «ردُّوه عليَّ»، فأخذوا ليردوه، فلم يروا شيئاً، فقال: «هذا جبريل، جاء ليعلم الناس دينهم[7]، ورواه البخاري أيضا في "كتاب الإيمان"، ومسلم من طرق، وقد تكلمنا عليه في أول شرح البخاري، وذكرنا ثَمّ حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في ذلك بطوله، وهو من أفراد مسلم.

وقوله تعالى: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، قال قتادة: أشياء استأثر الله بهن، فلم يُطلع عليهن مَلَكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة، في أي سنة أو في أي شهر، أو ليل أو نهار، وَيُنزلُ الْغَيْثَ، فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث، ليلاً أو نهاراً، وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ، فلا يعلم أحد ما في الأرحام، أذكر أم أنثى، أحمر أو أسود، وما هو، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا، أخير أم شر، ولا تدري يا ابن آدم متى تموت، لعلك الميت غداً، لعلك المصاب غداً، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ أي: ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض، أفي بحر أم بر، أو سهل أو جبل؟

وقد جاء في الحديث: إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة[8].

روى الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير في مسند أسامة بن زيد قال: قال رسول الله ﷺ: ما جعل الله منية عبد بأرض إلا جعل له إليها حاجة[9].

آخر تفسير سورة "لقمان" والحمد لله رب العالمين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

كما قال الله -تبارك وتعالى: لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [سورة آل عمران:154]، الإنسان إنما يموت حيث كتب الله أن يموت، ومن ثَمّ فإن الإنسان لا تذهب نفسه حسرات، ويقول: لو كان كذا، لو لم يسافر، لو لم يذهب، هذه أمور قدرها الله ، نحن نرى الناس يخرجون إلى مضاجعهم، يموتون حيث شاء الله أن يموتوا، في مستشفى، أو يموت في بلد غير البلد الذي كان يرغب أن يموت فيه، وكم من إنسان سكن المدينة ليموت فيها، وكانت منيته خارجها، والناس رجالاً ونساءً لربما يموت الواحد منهم وهو في سفر أو في طريق، كما هو مشاهد، الإنسان لا يدري أين كتب الله موته، فإذا علم الإنسان بمثل هذا فليس ثمة إلا التسليم المطلق لله ، والرضا عنه، وصدق اللجأ إليه، وطلب العون منه، والله المستعان.

  1. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد ﷺ، برقم (159).
  2. رواه ابن حبان في صحيحه، برقم (620)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (68).
  3. رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، برقم (3274).
  4. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (22986)، وقال محققوه: "صحيح لغيره، وهذا إسناد قوي من أجل حسين بن واقد المروزي، فهو صدوق لا بأس به، وباقي رجاله ثقات رجال الصحيح، عبد الله: هو ابن بريدة بن الحُصَيب الأسْلَمي"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2914).
  5. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (5133)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
  6. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الرعد، برقم (4420).
  7. رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي ﷺ عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، برقم (50)، ورواه في كتاب التفسير، باب تفسير سورة آلم غلبت الروم، برقم (4499)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله ، برقم (9).
  8. رواه البخاري في الأدب المفرد، باب إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له بها حاجة، برقم (1282)، والحاكم في المستدرك، برقم (127)، وقال: "هذا حديث صحيح ورواته عن آخرهم ثقات"، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (706)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (1221).
  9. رواه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (461)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5606).

مواد ذات صلة