بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى:
وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة أن رسول الله ﷺ قال في حجة الوداع: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حُرُم، ثلاث متواليات ذو القعدة، وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان[1].
وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت، والمراد باستدارته وقوع تاسع ذي الحجة في الوقت الذي حلت فيه الشمس برج الحمل حيث يستوي الليل والنهار.
قوله: "والمراد باستدارته وقوع تاسع ذي الحجة في الوقت الذي حلت فيه الشمس برج الحمل حيث يستوي الليل والنهار" هذا على أحد الأقوال في تفسير استدارة الزمان، وهو أن المراد به أن ذا الحجة وقع في وقت الاعتدال.
قوله: السنة اثنا عشر شهرًا أي: السنة العربية الهلالية، وذكر الطبري في سبب ذلك عن أبي مالك: كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرًا، ومن وجه آخر كانوا يجعلون السنة اثني عشر شهرًا وخمسة وعشرين يومًا، فتدور الأيام والشهور كذلك.
ثلاث متواليات وفيه إشارة إلى إبطال ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من تأخير بعض الأشهر الحرم، فقيل: كانوا يجعلون المحرم صفرًا، ويجعلون صفرًا المحرم؛ لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا يتعاطون فيها القتال، فلذلك قال: متواليات.
وكانوا في الجاهلية على أنحاء، منهم من يسمي المحرم صفرًا فيحل فيه القتال، ويحرم القتال في صفر ويسميه المحرم، ومنهم من كان يجعل ذلك سنة هكذا وسنة هكذا، ومنهم من يجعله سنتين هكذا وسنتين هكذا، ومنهم من يؤخر صفرًا إلى ربيع الأول وربيعًا إلى ما يليه، وهكذا إلى أن يصير شوال ذا القعدة، وذو القعدة ذا الحجة ثم يعود فيعيد العدد على الأصل.
قوله: ورجب مضر أضافه إليهم؛ لأنهم كانوا متمسكين بتعظيمه بخلاف غيرهم، فيقال: إن ربيعة كانوا يجعلون بدله رمضان، وكان من العرب من يجعل في رجب وشعبان ما ذكر في المحرم وصفر فيحلون رجبًا ويحرمون شعبان، ووصفه بكونه بين جمادى وشعبان تأكيدًا.
وكان أهل الجاهلية قد نسئوا بعض الأشهر الحرم أي: أخروها، فيحلون شهرًا حرامًا ويحرمون مكانه آخر بدله، فمعنى الحديث أن الأشهر رجعت إلى ما كانت عليه وبطل النسيء.
وقال الخطابي: كانوا يخالفون بين أشهر السنة بالتحليل والتحريم والتقديم والتأخير؛ لأسباب تعرض لهم، منها استعجال الحرب، فيستحلون الشهر الحرام ثم يحرمون بدله شهرًا غيره، فتتحول في ذلك شهور السنة وتتبدل، فإذا أتى على ذلك عدة من السنين استدار الزمان وعاد الأمر إلى أصله، فاتفق وقوع حجة النبي ﷺ عند ذلك.
قال المفسر -رحمه الله تعالى: وقوله تعالى: وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ [سورة المائدة:2] يعني لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام؛ فإن فيه تعظيمًا لشعائر الله، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام، وليُعلم أنها هدي إلى الكعبة فيجتنبها من يريدها بسوء، وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها، فإن من دعا إلى هدْىٍ كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا؛ ولهذا لما حَج رسول الله ﷺ بات بذي الحليفة -وهو وادي العَقيق- فلما أصبح طاف على نسائه وكن تسعًا، ثم اغتسل وتطيب وصلَّى ركعتين، ثم أشعر هديه وقلده، وأهلَّ بالحج والعمرة، وكان هديه إبلا كثيرة تنيفُ على الستين من أحسن الأشكال والألوان، كما قال تعالى: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [سورة الحـج:32].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فالحافظ ابن كثير هنا فسر قوله: وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ [سورة المائدة:2] بمعنى لا تتركوا ذلك، يعني سوق الهدي وتقليده القلائد التي يعرف بها أنه مقدم إلى الكعبة، وهذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- تحتمله الآية إلا أنه خلاف المتبادر، فهذه الجملة متصلة بما قبلها، فالله يقول: لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ [سورة المائدة:2] فقوله: وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ ليس المقصود به لا تتركوا الشهر الحرام وإنما المقصود -والله تعالى أعلم- لا تحلوا هذه الأمور، بمعنى لا يقع منكم إخلال بشيء من شعائر الله ولا الشهر الحرام بالقتال فيه ابتداءً، ولا الهدي بأن تمنعوها من الوصول إلى بيت الله الحرام ممن ساقها أو تتعدوا عليها بأي لون من ألوان الاعتداء مما يتنافى مع حرمتها.
وقوله: وَلاَ الْهَدْيَ الهدي أعم من القلائد؛ لأن الهدي قد يكون بالذي يساق إلى الكعبة من البهائم أعني الأصناف الثلاثة أو الأربعة عند التفصيل، وقد يكون بغيرها مما يساق إلى الكعبة، ولست أعني ما يفعله المتمتع أو القارن فإن هذا يجب عليه أن ينحر من الإبل أو يذبح من البقر أو الغنم، وإنما أقصد الهدي عند الإطلاق مما يمكن أن يهديه الإنسان إلى الكعبة، كهذه الأنعام أو كسوة للكعبة أو طعامًا للحجاج إلا أن ذلك لا يجزئ القارن والمفرد، فلا أحد يفهم بحال من الأحوال أن القارن والمفرد يمكن أن يقدم كعكة أو يقدم كسوة للكعبة أو نحو ذلك فيجزئه في قرانه أو تمتعه، فهذا لا يقول به أحد، لكن عموم الهدي يتمثل في من أراد أن يقدم للكعبة طيبًا أو يقدم لها شيئًا كالكسوة أو نحو ذلك فهذا من جملة الهدي، فالمقصود أن الهدي عند الإطلاق أوسع مما ذكر بعده أعني القلائد.
وقوله: وَلاَ الْقَلآئِدَ القلائد هي ما تقلده هذه الهدايا من بهيمة الأنعام مما يعلق في رقابها إما من لحاء شجر الحرم إن كان ذلك في الحرم، وبما يقلدونه في رقابها من النعل أو قطع الجلود أو نحو ذلك مما يعرف به أنها مقدمة للبيت الحرام.
وقد تطلق القلائد على البهائم والدواب المقلدة عمومًا، وهذا أمر واضح لا إشكال فيه، وقد كانوا يضعون ذلك من أجل أن تعرف وربما أشعروها أيضًا كما ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وهذا يكون في الإبل خاصة وذلك بشق سنامها طولًا بمعنى أنه يجرح لكن لا يكون ذلك بليغًا يضر البهيمة وإنما يكون على الجلد فقط فإذا سال الدم مسحوا به على الوبر ومن أجل أن تعرف أنها من قبيل الهدي.
وقال مقاتل بن حيان: وقوله: وَلاَ الْقَلآئِدَ [سورة المائدة:2] فلا تستحلوها، وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم قلَّدوا أنفسهم بالشّعْر والوَبَر، وتقلد مشركوا الحرم من لَحاء شجر الحرم فيأمنون به [رواه ابن أبي حاتم].
ثم روى عن ابن عباس -ا- قال: نسخ من هذه السورة آيتان: آية القلائد، وقوله: فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [سورة المائدة:42].
النسخ بالنسبة للقلائد هو باعتبار أن هؤلاء المشركين لا يجوز لهم أن يأتوا إلى البيت الحرام أصلًا، فإذا فسر بهذا الاعتبار فيقال: إن هذا قد نسخ، لكن ذلك يمكن أن يكون مخصوصًا، لكن يبقى أن هذه الأمور لها حرمتها ولا يجوز لأحد أن يتعدى عليها بحال من الأحوال، أعني الهدي والقلائد، ونحو ذلك.
وقوله تعالى: وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا [سورة المائدة:2] أي: ولا تستحلوا قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام الذي من دخله كان آمنًا وكذا من قصده طالبًا فضل الله وراغبًا في رضوانه فلا تصدوه ولا تمنعوه ولا تهيجوه.
قال مجاهد وعطاء وأبو العالية ومطرِّف بن عبد الله وعبد الله بن عُبَيد بن عُمير، والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وقتادة وغير واحد في قوله: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ [سورة المائدة:2] يعني بذلك التجارة، وهذا كما تقدم في قوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ [سورة البقرة:198].
قوله: وَرِضْوَانًا قال ابن عباس -ا: يترضَّون الله بحجهم.
وقد ذكر عكرمة والسدي وابن جريج أن هذه الآية نزلت في الحُطم بن هند البكري، كان قد أغار على سَرْح المدينة، فلما كان من العام المقبل اعتمر إلى البيت فأراد بعض الصحابة أن يعترضوا عليه في طريقه إلى البيت فأنزل الله : وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا [سورة المائدة:2].
على كل حال هذه الرواية لا تصح، لكن يوجد من الروايات ما يشبه هذا مما قد يصح ويكون سببًا لنزول هذه الآية، وأنها نزلت بسبب ما همّ به بعض المسلمين من الإغارة على بعض المشركين أو بعض ما يقدمونه للبيت الحرام، فالله نهاهم عن هذا، وذلك بأن يمكنوا من المجيء إلى البيت، وعرفنا أنهم إنما منعوا من ذلك لما نزل صدر سورة براءة وبعث بها النبي ﷺ مع علي فما حج في السنة العاشرة مع النبي ﷺ أحد من المشركين.
قوله: "والصحيح الذي يثبت على السبر" يعني يثبت عند الاختبار، وهذا هو أرجح الأقوال في هذه المسألة، أي أن الأمر بعد الحظر يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، لا يقال: إنه للوجوب، ولا يقال: للاستحباب وإنما يرجع الحكم فيه إلى حاله الأول.
نعم بآيات كثيرة، فقوله تعالى: إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [سورة الجمعة:9] هذا أمر، وقال لهم: وَذَرُوا الْبَيْعَ [سورة الجمعة:9] ثم قال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ [سورة الجمعة:10] فهذا الانتشار والابتغاء من فضل الله ما حكمه؟
ابن حزم يقول: واجب لكن هذا غير صحيح، وإنما الصحيح أن هذا يرجع إلى حكمه قبل الحظر، فما هو حكم البيع والشراء قبل النهي عنه بعد نداء الجمعة الثاني؟ حكمه قبل النهي كان مباحًا، فلما قال: فَانتَشِرُوا فهذا للإباحة، مع أن من السلف كابن عباس ومعهم طائفة قالوا: إن قوله: وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ [سورة الجمعة:10] يعني بعيادة المريض وطلب العلم وصلة الرحم ونحو ذلك مما يطلب به ما عند الله ولكن الأقرب والأرجح -والله أعلم- حمل الآية على العموم، أي ابتغوا من فضل الله بالتجارة والبيع والشراء وما إلى ذلك.
وفي قوله تعالى –أيضًا- في تحريم مباشرة النساء في ليالي الصوم قال: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ [سورة البقرة:187] هذا أمر، فهل مباشرة المرأة ليلة الصوم واجبة؟ ليست واجبة، وإنما يعود الحكم فيه إلى حاله الأول، فالمباشرة مباحة، فكانوا قد نهوا عن هذا في أول الأمر، ثم قال الله : عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ [سورة البقرة:187] فهذا الأمر يرجع إلى حكمه الأول قبل الحظر وهو الإباحة.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ [سورة البقرة:222] فهل يجب وطء الزوجة بعد الطهر من الحيض؟ الجواب: لا، لكن لما حرمه عليهم في حال الحيض، ثم أمرهم به بعد ذلك يرجع الحكم إلى حاله الأول، وهو أن الوطء مباح.
هذا معنى كلام ابن كثير: أن من قال بأنه للوجوب، ينتقض عليه بآيات كثيرة، وعلى مقتضى قول ابن حزم: أنه يجب وطء الزوجة بعد الانتهاء من الحيض ويجب وطؤها ليلة الصوم، وهذا القول فيه إشكال كبير، والله تعالى أعلم.
أي أن من قال: إنه للإباحة بإطلاق يرد عليه بآيات أخرى، وذلك أن الآيات التي مرت قبل قليل تدل على الإباحة، لكن ليست قاعدة أنه يرجع إلى الإباحة، لذلك يقال: يرجع الحكم إلى حالته الأولى، ففي مثل قوله تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ [سورة التوبة:5] هذا الأمر بعد الحظر هل يقال: إنه للإباحة في هذه الآية بناءً على أن قتالهم أصلًا كان واجبًا؟
الجواب: هو أن أنه إذا انسلخت الأشهر الحرم فيرجع الحكم إلى حاله الأول وهو الوجوب، فلا يقال إن الأمر في قوله: فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ [سورة التوبة:5] هنا للإباحة، والله أعلم.
هذا على قراءة الجمهور وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ولكن على قراءة أبي عمرو وابن كثير: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ إَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) –بكسر همزة إن- وهذه الآية استشكلها بعض أهل العلم -على هذه القراءة- فقال: إن هذا قد مضى أصلًا -أي الصد عام الحديبية، وهذه الآية نازلة بعد الحديبية.
والواقع أنه لا إشكال في هذا، وإنما يحمل على أن الله يعلمهم الأدب الواجب مع قوم وإن حصلت منهم إساءة أو يُتوقع منهم الإساءة في المستقبل، أي إن صدوكم عن المسجد الحرام فلا يحملنكم ذلك على ترك العدل فيهم، والاعتداء عليهم، فالآية توجه بهذه الطريقة، ولا إشكال، والله أعلم.
هذا أيضًا فيه ضعف ولا يصح من جهة الإسناد، والله أعلم، وعلى كل حال كما هو واضح: روى ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم، فهذا من قبيل المرسل.
والشنآن هو: البغض، قاله ابن عباس --ا- وغيره.
وقوله: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [سورة المائدة:2] يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر، وترك المنكرات وهو التقوى، وينهاهم عن التناصر على الباطل والتعاون على المآثم والمحارم.
يقول –رحمه الله: "يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر، وترك المنكرات وهو التقوى" البر والتقوى والإثم والعدوان يمكن أن يقال: إنها من الألفاظ التي إذا اجتمعت افترقت وإذا افترقت اجتمعت مثل الإيمان والإسلام، ومعنى إذا اجتمعت افترقت بمعنى إذا ذكر البر والتقوى معًا، فالبر له معنى، والتقوى لها معنى، وإذا ذكر أحدهما بمفرده دخل في معناه الآخر.
والحافظ ابن كثير -رحمه الله- ذكر هنا أن البر هو فعل الطاعة، والتقوى ترك المنكرات أو أن البر هو فعل الطاعات وترك المنكرات، والتقوى هي ترك المنكرات بأن تجعل بينك وبينها وقاية بترك ما حرم عليك.
وبعضهم يقول: البر هو فعل الواجبات والمندوبات، والتقوى هي فعل الواجبات، وهذا لا يظهر كل الظهور والله تعالى أعلم، والذي ذكره الحافظ ابن كثير أقرب من هذا وأحسن، وبعضهم يقول: البر هو رضا الناس، والتقوى هي رضا الله -تبارك وتعالى- وهذا أيضًا لا يخلو من إشكال.
ومثل الحافظ ابن القيم -رحمه الله- يرى أن البر هو بلوغ الكمال المطلوب، أي تكميل النفس بتكميل العبودية لله -تبارك وتعالى، فيكون ذلك بفعل ما يكمل النفوس من طاعة الله وترك ما حرم –جل وعلا، فيدخل في ذلك أجزاء الإيمان الظاهرة والباطنة.
وأما التقوى فهي العمل بطاعة الله أمرًا ونهيًا، إيمانًا واحتسابًا، فالتقوى داخلة في معنى البر بالاعتبار السابق، والبر داخل في التقوى بهذا الاعتبار أيضًا، لكن عند الاجتماع يخص هذا بهذا، وهذا بهذا عند ابن القيم -رحمه الله- بمعنى أن البر يكون مقصودًا لذاته، أي تكميل النفس بطاعة مولاها، والتقوى تكون وسيلة إلى ذلك، وذلك بفعل ما أمر واجتناب ما نهى، وإذا ذكر أحدهما دخل في معناه الآخر.
وبالنسبة للإثم والعدوان فمن أحسن الفروقات التي تذكر فيهما هو ما ذكره ابن القيم -رحمه الله- أن الإثم ما كان محرم الجنس مثل الخمر ولحم الخنزير والميسر، وما أشبه هذا، والعدوان ما كان محرمًا من جهة القدر والزيادة، وإلا فهما -كما سبق- من قبيل ما ذكرنا من أنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا.
وعلى كل حال فالإثم يطلق على الذنب ويطلق على أثر الذنب وهو المؤاخذة، يقال: من فعل كذا يأثم، ويأثم من شرب الخمر، وتقول: الخمر إثم والكذب إثم، ويمكن أن تقول: يستوجب الإثم، فيطلق على الذنب، ويطلق على جزائه وتبعته.
على كل حال الذنب من حيث هو إثم، وإذا كان ذلك مما يتعدى فيمكن أن يقال: هو من قبيل العدوان، وإن كان هذا لا يخلو من إشكال أيضًا، لكن الضابط الذي ذكره ابن القيم أحسن -والله تعالى أعلم- فالعدوان لا يختص بما يتعلق بالعدوان على الناس، وإنما هو أيضًا تعدي القدر والحد الذي حده الله -تبارك وتعالى- وهذا لا شك أنه إثم أيضًا فإنما صار التحريم فيه من جهة التعدي، ولهذا لما أبيحت الميتة مع أن تعاطيها من الإثم إذا كان الإنسان غير مضطر، فأبيحت للمضطر فإذا تجاوز الحد الذي أبيح له منها فإنه يكون بذلك متعديًا.
وقد روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا قيل: يا رسول الله هذا نصرته مظلومًا فكيف أنصره إذا كان ظالمًا؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم، فذاك نصره انفرد به البخاري من حديث هشيم به نحوه[2].
وروى أحمد عن رجل من أصحاب النبي -ﷺ ورضي عنه- قال: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرًا من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم[3].
وفي الصحيح: من دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا[4].
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة المائدة:3].
يخبر تعالى عباده خبرًا متضمنًا النهي عن تعاطي هذه المحرمات من الميتة وهي ما مات من الحيوانات حتف أنفه من غير ذكاة ولا اصطياد؛ وما ذاك إلا لما فيها من المضرة؛ لما فيها من الدم المحتقن، فهي ضارة للدين وللبدن فلهذا حرمها الله .
ويستثني من الميتة السمك فإنه حلال سواء مات بتذكية أو غيرها؛ لما رواه مالك في موطئه وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ سئل عن ماء البحر، فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته[5] وهكذا الجراد لما سيأتي من الحديث.
قوله: "لما سيأتي من الحديث" يعني حديث: أحلت لنا ميتتان[6].
وقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [سورة المائدة:3] "أل" هذه هي المعرِّفة للجنس، ويكون ذلك للعموم وهو من العام المخصوص الذي خص بهذا الحديث، وهذا من تخصيص السنة للقرآن.
المقصود بالدم المسفوح هو الدم الذي يخرج من أوداج الذبيحة إذا ذبحت، أما الدم الذي يكون في العروق مع اللحم فإن ذلك لا إشكال فيه، ويدل على ذلك حديث عائشة -ا- فالحمرة التي تعلو القِدر مثلًا إذا وضع فيه اللحم هذا لا إشكال فيه؛ وهو أصلًا مما يصعب التحرز منه، ولسنا مأمورين بغسل اللحم قبل طهيه، لذلك لا بد أن يخالطه شيء من الدم.
المقصود أن هذا لا إشكال فيه وإنما الدم النجس هو الدم الخارج، وكذلك لستَ مأمورًا بغسل الرقبة أيضًا فإن مثل هذا لم يرد الأمر به، وإنما الدم الخارج المنفصل عنها هو الذي لا يجوز تعاطيه؛ لأنه نجس، وقد كانوا في الجاهلية يأكلون مثل هذا الدم وربما طبخوه مع شيء من الوبر في أيام القحط والمجاعة، وربما عمدوا إلى البعير وقطعوا عرقًا من عروقه وهو حي وتلقوا الدم ثم وضعوا معه شيء من الوبر وطبخوه إذا أصابهم القحط والجوع، وكذلك إذا كانوا في أسفارهم ولم يجدوا شيئًا يأكلونه فإنهم كانوا يفعلون هذا، فنهاهم الله عن ذلك وحرمه عليهم، أما ما يعْلق أو يبقى من أثر في رقبة الذبيحة أو نحو ذلك فلسنا مأمورين بغسله.
كقوله: أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا [سورة الأنعام:145] قاله ابن عباس -ا- وسعيد بن جبير.
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -ا- أنه سئل عن الطحال فقال: كلوه، فقالوا: إنه دم، فقال: "إنما حرم عليكم الدم المسفوح".
وقد روى أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي عن ابن عمر -ا- مرفوعًا قال: قال رسول الله ﷺ أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال[7] وكذا رواه أحمد بن حنبل وابن ماجه والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف.
وقوله: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ يعني إنسيَّه ووحشيَّه، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم، ولا يحتاج إلى تحذلق الظاهرية في جمودهم هاهنا وتعسفهم في الاحتجاج بقوله: فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا [سورة الأنعام:145] يعنون قوله تعالى: إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [سورة الأنعام:145] أعادوا الضمير فيما فهموه على الخنزير حتى يعم جميع أجزائه، وهذا بعيد من حيث اللغة؛ فإنه لا يعود الضمير إلا إلى المضاف دون المضاف إليه.
يقول: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ اللحم في الأصل يطلق على اللحم بنوعيه الأبيض -الذي يسمى بالشحم- والأحمر، قال الله : أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فهو يشمل هذا وهذا، ولا يحتاج إلى دليل آخر للتدليل على أن بقية أجزاء الخنزير لا يجوز أكلها، فاللحم يشمل هذا وهذا في كلام العرب، إلا أن الظاهرية لم يتفطنوا لهذا المعنى، فقالوا: إن قوله تعالى: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ قد يفهم منه أنه اللحم الأحمر.
فالشحم هل يجوز أكله؟! قالوا: لا يجوز أكله، والدليل قوله تعالى: فَإِنَّهُ رِجْسٌ فالضمير يعود على الخنزير فحكم عليه أنه رجس، والرجس هو النجس فهو نجس بجميع أجزائه والنجاسات لا يجوز تعاطيها، فهذا يدل على أن الشحم أيضًا حرام، وعلى هذا لو بقينا مع قوله: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فإن هذا عندهم يدل على تحريم اللحم الأحمر وأما الشحم فهو غير داخل في الآية، إلا أن ابن كثير يرد عليهم ويقول: هذا الكلام غير صحيح؛ لأن الأصل أن الضمير إذا عاد إلى متضايفين قبله فإنه يرجع في الواقع إلى المضاف وليس إلى المضاف إليه؛ لأن المضاف هو المُتحدث عنه، فالله تعالى يتحدث عن لحم الخنزير لا عن الخنزير فمن الخطأ أن يقال: إن قوله: فَإِنَّهُ رِجْسٌ أي الخنزير، وإنما الضمير يعود إلى لحم الخنزير، فالآية يؤخذ منها تحريم لحم الخنزير وشحمه من قوله: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ وليس من قوله: فَإِنَّهُ رِجْسٌ باعتبار أن ذلك يعم جميع أجزاء الخنزير.
ثم إن قوله: فَإِنَّهُ رِجْسٌ هذا تعليل، والرجس هو النجس، فيكون ذلك دليلًا على تحريم جميع أجزاء الخنزير فيقال: إن جلد الخنزير نجس؛ فالنجاسة تنتقل مع الرطوبة، وهكذا فضلات الخنزير وعصب الخنزير كل ذلك نجس.
والأظهر أن اللحم يعم جميع الأجزاء كما هو المفهوم من لغة العرب ومن العرف المطِّرد.
وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الخصيب الأسلمي قال: قال رسول الله ﷺ: من لعب بالنردَشير فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه[8].
ذكر هنا لحم الخنزير ودمه، وهذا يدل على أن الخنزير نجس يُتنزه منه.
فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به، وفيه دلالة على شمول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره.
وفي الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا، هو حرام[9] وفي صحيح البخاري من حديث أبي سفيان أنه قال لهرقل ملك الروم: نهانا عن الميتة والدم.
في الحديث قال: "فإنها تطلى بها السفن" يعني أن ذلك من أجل أن لا تتشرب أخشابُ السفن الماءَ.
عند الكلام عن الحج يقال عن الإهلال: إنه رفع الصوت، والمراد به هنا ذكر الأوثان أو المعبودات من دون الله -تبارك وتعالى- عند الذبح، وهذا لا شك أنه شرك أكبر مخرج من الملة، حتى لو قصد بذلك أنها ذبيحة لله وذكر اسم غير الله عند الذبح فقال: بسم المسيح مثلًا، أو بسم النبي ﷺ أو بسم العزى، أو نحو ذلك، هذا شرك أكبر وإن قصد أن الذبح لله.
ومما يدخل في ذلك أيضًا -فيما يحرم- أنه إن قصد بها التقرب إلى غير الله من الطواغيت والأصنام وما أشبه ذلك ولو ذكر اسم الله عليها فإنه لا يجوز أكلها، كالتي تذبح للقبور وإن ذكر اسم الله عليها، ويبقى على كل حال ما نسيت فيه التسمية، فالآية هنا تتحدث عما أهل به لغير الله، فهذا لا شك أنه حرام بالإجماع، أما ما تركت فيه التسمية عمدًا أو سهوًا مما يقصد به التقرب إلى الله أو يقصد به الانتفاع باللحم فالذبح تارة يكون على سبيل القربة، وتارة يكون على سبيل الانتفاع والحاجة وليس من قبيل العبادة.
والمقصود أن لا يذكر اسم سوى اسم الله على الذبيحة، وأما ذكر اسم الله فالراجح أنه واجب وأن التسمية إن تركت عمدًا لم تصح ولا يجوز أكل هذه الذبيحة، وإن تركت نسيانًا وسهوًا فالخلاف في هذا أقوى ولو قيل بأنها لا تؤكل أيضًا لكان ذلك أقرب -والله تعالى أعلم؛ لعموم قوله: وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام:121].
قوله: "قصدًا" لبيان أنهم كانوا في الجاهلية ربما أخذوا الذبيحة وخنقوها ثم أكلوها، وكما يفعل الآن من خنق الذبيحة تحت شعار الرفق بالحيوان أو تصعق أو تغرق في الماء فكل هذا من الميتات التي لا يجوز أكلها.
قوله: "وإما اتفاقًا" بمعنى أنها تحركت في وثاقها فانخنقت فماتت، فما مات بقصد وفعل من الإنسان يقال له: قتل، أو إزهاق الروح بقصد هو القتل، وما حصل فيه زهوق النفس من غير فعل أحد فإنه يقال عنه: مات حتف أنفه، وهذا هو الفرق بين القتل وبين الموت.
مما يذكر في أخبار العرب أنهم ربما ضربوها بالخشب حتى تموت تقربًا لآلهتهم، فالمقصود أن ما ضرب بشيء غير محدد فإنه لا يجوز أكله.
والموقوذة: هي التي تُضرب بحجر أو تصدمها سيارة مثلًا، كأن يتبع الصيد بالسيارة فيصدمه فإذا مات فإنه لا يحل أكله، وكذلك ما يمكن أن يصاد من الطيور بهذه الآلة التي يصيد بها الصغار بالحجر، فمثل هذا لا يجوز أكله فهي موقوذة؛ لأنها تموت بسبب ما يحصل لها من صدم هذا الجسم الذي يضربها إما بخشبة أو بحجر أو بأي شيء ثقيل، فهذه لا يجوز أكلها؛ لأنها موقوذة.
كما قال ابن عباس -ا- وغير واحد: هي التي تضرب بالخشبة حتى تُوقذ بها فتموت، قال قتادة: كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصيّ حتى إذا ماتت أكلوها.
وفي الصحيح أن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، إني أرمي بالمِعراض الصيد فأصيب، قال: إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله[10].
حديث عدي بن حاتم في الصحيحين يقول: "إني أرمي بالمعراض" والمعراض يطلق على السهم الذي لا ريش له، فالسهم إذا كان له ريش في مؤخرته فإن توجهه يكون مستقيمًا فيصيب بحدِّه أي برأسه فيخرق، وإذا كان لا ريش له فيكون توجهه غير مستقيم وإنما ينطلق بقوة الدفع فربما يصيب بعرضه، وبالتالي ربما مع قوة الضربة يقتل الطائر أو الحيوان إذا كان صغيرًا أو نحو ذلك.
ويطلق المعراض أيضًا على الخشبة التي تكون محددة فإذا ضرب بها فقد يصيب بحدها، فإذا أصاب بحدها فلا إشكال، لكن إذا أصاب بعرضها فقتل هذه البهيمة فإنه لا يجوز أكلها؛ لأنها موقوذة.
يقول في الحديث: "إني أرمي بالمِعراض الصيد فأصيب" قال: فإذا رميت بالمعراض فخزق فكله قوله: خزق يعني أصاب بحده فجرح، يقول –عليه الصلاة والسلام: وإن أصابه بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله.
يقول ابن كثير: "ففرَّق بين ما أصابه بالسهم أو بالمزراق ونحوه بحده" يعني ما أصابه بالسهم بحده أو السهم الذي لا ريش له أو بالمزراق الذي هو الرمح القصير، فإذا أصاب بحده جاز أكله، وإذا أصاب بعرضه لم يجز أكله، وهذا إذا مات، أما ما أدرك وفيه الحياة فسيأتي فيه قوله تعالى: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ [سورة المائدة:3].
يقول: "وهذا مجمع عليه عند الفقهاء" وهو ليس محل إجماع -والله أعلم؛ فمن أهل العلم من يقول: إنه وقيذ مطلقًا لا يجوز أكله بحال من الأحوال، وهذا منقول عن ابن عمر ومالك وأبي حنيفة والثوري والشافعي، أي الذي يصاد بهذه الطريقة، وهذا فيه بعد، ومنهم من أجازه مطلقًا وهذا منقول عن أهل الشام من الصحابة وبعض الصحابة كأبي الدرداء والأوزاعي ومكحول وأمثال هؤلاء كلهم يقولون: إنه يجوز مطلقًا حتى لو أصاب بعرضه، لكن الفاصل في هذا هو الحديث، فإذا أصاب بحده جاز، وإذا أصاب بعرضه لم يجز، والله أعلم.
يعني كأن تقع في بئر أو يحملها ويلقيها على الأرض مثلًا فتموت، وهكذا.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: المتردية التي تسقط من جبل، وقال قتادة: هي التي تتردى في بئر وقال السدي: هي التي تقع من جبل أو تتردى في بئر.
وأما وَالنَّطِيحَةُ فهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها، فهي حرام، وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها، والنطيحة فعيلة بمعنى مفعولة أي: منطوحة.
وقوله: وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ أي ما عدا عليها أسد أو فهد أو نمر أو ذئب أو كلب فأكل بعضها فماتت بذلك فهي حرام.
حتى لو لم يأكل بعضها بأن عدا عليها فخنقها حتى قتلها فإنها لا تحل.
وإن كان قد سال منها الدم ولو من مذبحها فلا تحل بالإجماع، وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة أو البعير أو البقرة أو نحو ذلك، فحرم الله ذلك على المؤمنين.
وقوله: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ [سورة المائدة:3] عائد على ما يمكن عوده عليه مما انعقد سبب موته فأمكن تداركه بذكاة وفيه حياة مستقرة، وذلك إنما يعود على قوله: وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ [سورة المائدة:3].
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- في قوله: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ [سورة المائدة:3] يقول: إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح فكلوه فهو ذكي، وكذا روي عن سعيد بن جبير والحسن البصري والسدي.
وهذا اختيار ابن جرير وهو قول الجمهور من الفقهاء، وبهذا الاعتبار يكون الاستثناء من قبيل الاستثناء المتصل، إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ [سورة المائدة:3] يعني مما أدركتم فيه الحياة من هذه المذكورات، كالتي سقطت في بئر، أو التي سقطت من السطح، أو التي صدمتها السيارة أو التي أصابها حجر أو نحو هذا فأدركتم فيها حياة، أي فيه رمق بأن تتحرك رجل أو يد أو نحو هذا وإن كانت في حال الاحتضار فإنها إذا ذكيت جاز أكلها، وإن كانت قد خرجت نفسها فلا يجوز أكلها، هذا الذي عليه عامة أهل العلم وهم الجمهور.
ومن أهل العلم من يقول: إن الاستثناء في هذه الآية منقطع، أي يقول: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [سورة المائدة:3] ثم ذكر المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وبيَّن أنها محرمة ثم قال: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ أي لكن ما ذكيتم من بهائم الأنعام فهو حلال يعني غير هذه التي ذكرناها.
والمشهور من مذهب الإمام مالك وأحد القولين للشافعي -رحمه الله- أنه يجوز أكل هذه المذكورات في الآية –المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع- إذا وجدت بحال يمكن أن تعيش معها فتكون لها حكم السالمة من البهائم، بمعنى أنه لو نهشها الذئب أو عضها مثلًا أو سقطت لكن أغمي عليها ورشت بالماء وصحت فصارت في حال يمكن أن تعيش فيها فالحكم في هذا بالاتفاق أنه يجوز أكلها، لكن لو بقيت في حال ستموت بعده بأن قرر الأطباء أن هذه البهيمة لا يمكن أن تعيش بهذا الوضع، أو نحن نشاهد أن هذا هو حالها ففي هذه الحال على قول الجمهور إذا ذكيت أكلت، وعلى قول الآخرين لا يجوز أكلها.
وعلى هذا القول الثاني يكون قوله: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ استثناء منقطعًا لا يعود إلى المذكورات قبله، فكأنه يقول: حرام عليكم الميتة وما في حكم الميتة مما قد أشرف على الموت من هذه التي أصابها هذه العوارض، وإنما يباح لكم المذكى من بهيمة الأنعام.
فالمقصود أن الاستثناء المنقطع هو الذي لا يكون من جنس المستثنى منه، وعلى كل حال فالقول الأول لا شك أنه هو الأقرب والأرجح، ولا زال الناس إلى عهد قريب جدًا يأكلون هذه الدواب ويأكلون المريضة جدًا التي أوشكت على الموت فأدركوها، وتجدهم يتسارعون إليها قبل أن تموت فيذكونها ويأكلونها، حتى فاضت النِّعم على الناس فصاروا لأدنى شيء يتنزهون عن أكل هذه اللحوم خوفًا من الأمراض، بل يتركونها وهي سالمة خوفًا من أمراض يتوهمونها بسبب أكل اللحوم، وإلا فقد كانوا يأكلون التي أشرفت على الموت بل في أوقات الجوع الشديد كانوا يضطرون ويأكلون الميتات.
وروى ابن جرير عن علي قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة، وهي تحرك يدًا أو رجلًا فكلها.
وهكذا روي عن طاوس، والحسن، وقتادة وعُبَيد بن عُمير، والضحاك وغير واحد أن المذكاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح فهي حلال.
وفي الصحيحين عن رافع بن خَدِيج أنه قال: قلت: يا رسول الله، إنا لاقوا العدو غدًا وليس معنا مُدى، أفنذبح بالقصب؟ فقال: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه، ليس السنَّ والظفر، وسأحدثكم عن ذلك، أما السنُّ فعظم، وأما الظفر فمُدَى الحبشة[11].
المُدَى جمع مُدْية والمُدْية هي السكين، وهذا مما يستدل به على أن متروك التسمية ولو نسيانًا لا يحل وإن ذبح لله قصدًا؛ لأنه ذكر هنا شرطين: الشرط الأول لا بد منه، وهو ما أنهر الدم بقطع الأوداج، ولذلك الذي يقطع في الذبيحة أربعة أشياء: الودجان وهما عرقان محيطان بالعنق، والحلقوم وكذلك القصبة الهوائية والمريء، فإذا قطعت الأوداج حلت الذبيحة، والأكمل في التذكية قطع الأربعة، ويليه قطع ثلاثة، فالحاصل أنه قال: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه، ليس السن والظفر يعني سوى السن والظفر.
بعض أهل العلم يقول في قوله: وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [سورة المائدة:3] إن "على" هنا بمعنى اللام، ومعلوم أن حروف الجر تتناوب، فيكون المعنى وما ذبح للنصب.
والنُّصُب كانوا يذبحون عندها سواء قيل: إنها أصنام أو قيل: إنها أحجار وليست بأصنام فهي من جملة الأوثان التي كانوا يتقربون لها فيذبحون عندها، كما يقول ابن جرير الطبري -رحمه الله: إنها ليست أصنامًا وإنما هي أحجار تجمع ويذبحون عندها تقربًا إليها فهي من جملة الأوثان.
ومن نظر في الكتب التي تذكر تاريخ العرب مثل كتاب المفصل -وهو من أوسعها في نحو أحد عشر مجلدًا- يجد الأماكن التي كانوا يذبحون بها في جاهليتهم، وهكذا من يطلع سيقرأ أخبارًا وأشياء عجيبة جدًا من سخافة العقول -نسأل الله العافية، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
- أخرجه البخاري في كتاب الأضاحي - باب من قال الأضحى يوم النحر (5230) (ج 5 / ص 2110) ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (1679) (ج 3 / ص 1305).
- أخرجه البخاري في كتاب الإكراه – باب يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه (6552) (ج 6 / ص 2550).
- أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ باب 55 (2507) (ج 4 / ص 662) وابن ماجه في كتاب الفتن - باب الصبر على البلاء (4032) (ج 2 / ص 1338) وأحمد (5022) (ج 2 / ص 43) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6651).
- أخرجه مسلم في كتاب العلم - باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة (2674) (ج 4 / ص 2060).
- أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة - باب الوضوء بماء البحر (83) (ج 1 / ص 31) والترمذي في أبواب الطهارة - باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور (69) (ج 1 / ص 100) والنسائي في كتاب الطهارة - باب ماء البحر (59) (ج 1 / ص 50) وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها - باب الوضوء بماء البحر (386) (ج 1 / ص 136) ومالك في كتاب الطهارة – باب الطهور للوضوء (60) (ج 2 / ص 29) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (480).
- سيأتي تخريجه.
- أخرجه ابن ماجه في كتاب الأطعمة - باب الكبد والطحال (3314) (ج 2 / ص 1102) وأحمد (5723) (ج 2 / ص 97) وصححه الألباني في السلسلة الصحية برقم (1118).
- أخرجه مسلم في كتاب الشعر - باب تحريم اللعب بالنردشير (2260) (ج 4 / ص 1770).
- أخرجه البخاري في كتاب البيوع - باب بيع الميتة والأصنام (2121) (ج 2 / ص 779) ومسلم في كتاب المساقاة - باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام (1581) (ج 3 / ص 1207).
- أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها (6962) (ج 6 / ص 2692) ومسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان - باب الصيد بالكلاب المعلمة (1929) (ج 3 / ص 1529).
- أخرجه البخاري في كتاب الشركة - باب قسمة الغنم (2356) (ج 2 / ص 881) ومسلم في كتاب الأضاحي - باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن والظفر وسائر العظام (1968) (ج 3 / ص 1558).