الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
[2] من قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} الآية:2 إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ...} الآية:9.
تاريخ النشر: ١١ / جمادى الآخرة / ١٤٣٥
التحميل: 6939
مرات الإستماع: 10684

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ [سورة الإنسان:2] أي: أخلاط، والمشج والمشيج: الشيء الخَليط بعضه في بعض.

قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- في قوله تعالى: مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ يعني: ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا، ثم ينتقل بعدُ من طور إلى طور، وحال إلى حال، ولون إلى لون، وهكذا قال عكرمة، ومجاهد، والحسن، والربيع بن أنس: الأمشاج: هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا القول الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هو الذي عليه عامة أهل العلم من السلف فمن بعدهم، أن الأمشاج هي الأخلاط، بمعنى: أنه خليط من ماء الرجل ومن ماء المرأة، وهذا الذي دلت عليه الأدلة من كتاب الله ومن سنة رسوله ﷺ فيما يظهر.

وبعض أهل العلم يقول: إن الأمشاج جمع، وبعضهم يقول: إنه مفرد، ومنهم من يقول: إن هذه الأمشاج بمعنى أن ماء الرجل أبيض مع حمرة، فيه شيء من الحمرة، وماء المرأة أصفر، وبعضهم يقول: أصفر ولربما خالطه شيء من الاخضرار.

فالمشهور أن ماء الرجل أبيض وأن ماء المرأة أصفر خلافاً لما يزعمه الأطباء قديماً وحديثاً -إلا من رحم الله حيث يقولون: إن المرأة أصلاً لا علاقة لمائها -إن وجد- بتكوين الإنسان وخلقه، لكن الله أخبر أنه يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [سورة الطارق:7]، صلب الرجل وترائب المرأة وهي عظام الصدر، والنبي ﷺ لما سئل: هل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال: نعم، إذا رأت الماء، فضحكت أم سلمة، فقالت: أتحتلم المرأة؟ فقال النبي ﷺ: فبمَ شَبَه الولد؟[1] وكذلك قول النبي ﷺ: إذا علا ماءُ الرجل ماءَ المرأة، وكذا قال: إذا علا ماءُ المرأة ماء الرجل[2]، فيما ينزع إليه الشبه، ومتى يكون المولود ذكراً ومتى يكون أنثى، كل هذا بيّنه النبي ﷺ، فهذه الأمشاج بمعنى الأخلاط، خلقه الله من هذه الأخلاط.

وقال: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ، والمقصود بذلك ما تناسل من ولد آدم ﷺ، وهذا لا شك فيه، والآية الأولى لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا [سورة الإنسان:1] كثير من السلف قالوا: إن المراد بها آدم ﷺ.

وقوله: نَبْتَلِيهِ أي: نختبره، كقوله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا [سورة الملك:2]، فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا أي: جعلنا له سمعا وبصرًا يتمكن بهما من الطاعة والمعصية.

أي أن الله أعطاه السمع والبصر ليتحقق بذلك مقصوده من تكليف هذا الإنسان وابتلائه بهذا التكليف وبغيره، ثم بعد ذلك ينقسم الناس إلى فريقين أهل الجنة وأهل السعير، وبعض أهل العلم يقولون: إن قوله: نَبْتَلِيهِ محمول على معنى آخر غير هذا، وهو ما يحصل في خلقه من نقله من طور إلى طور، ولكن هذا غير ظاهر؛ لأن الابتلاء معناه الاختبار والامتحان، هذا أصله.

وقوله -جل وعلا: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ [سورة الإنسان:3] أي: بيناه له ووضحناه وبصرناه به، كقوله -جل وعلا: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [سورة فصلت:17]، وكقوله -جل وعلا: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [سورة البلد:10].

يعني أن الله أعطاه السمع والبصر وهما آلتا الاكتساب للعلوم والمعارف بحيث إنه بذلك يستطيع أن يتعلم وأن يعرف عن الله ، وأرسل إليه الرسل، فابتلاه بذلك كله، ثم لما بين له طريق الحق من طريق الباطل صار من الناس من يختار طريق الباطل، ومنهم من يختار طريق الحق والهدى، كما قال الله إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [سورة الإنسان:3]، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ هديناه: بيّنا له طريق الحق وطريق الباطل، فالهداية هنا هي هداية إرشاد وبيان، وليست هداية توفيق وإلهام.

 وكقوله -جل وعلا: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ أي: بينا له طريق الخير وطريق الشر، وهذا قول عكرمة، وعطية، وابن زيد، ومجاهد -في المشهور عنه- والجمهور.

خلافاً لمن يقول: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ أي: طريق الخروج من بطن أمه.

وقوله: إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا تقديره: فهو في ذلك إما شقي وإما سعيد، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: كل الناس يَغْدو، فبائع نفسه فمُوبقها أو مُعْتقها[3].

إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالا وَسَعِيرًا ۝ إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ۝ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ۝ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ۝ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ۝ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ۝ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ۝ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ۝ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [سورة الإنسان:4-12].

يخبر تعالى عما أرصده للكافرين من خلقه به من السلاسل والأغلال والسعير، وهو اللهب والحريق في نار جهنم، كما قال تعالى: إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ ۝ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [سورة غافر:71، 72].

إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا والسلاسل معروفة، وهذه يقيدون بها، بسلسلة ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [سورة الحاقة:32]، فيُسلك بهذه السلسلة ويقيد بها ويسحب بها في النار، وهذا التقييد -كما ذكر طائفة من أهل العلم- ليس من أجل حفظه ألا يفر، فإنه لا يستطيع الفرار أصلاً، وإنما ذلك لمزيد عذابهم، وإهانتهم، وإذلالهم، والأغلال تتصل بالأعناق فتغل الأيدي، وتشد إلى العنق، وتربط أعناقهم فيقادون بهذه السلاسل، والسعير هو اللهب الشديد المضطرم، شديد الحرارة، شديد التوقد، يقال له: سعير.

ولما ذكر ما أعده لهؤلاء الأشقياء من السعير قال بعده:إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا وقد عُلم ما في الكافور من التبريد والرائحة الطيبة.

إِنَّ الأبْرَارَ بعض أهل العلم يقولون: ما ذكر هنا بعده إنما هو للأبرار، ويجعلون ما سيذكر بعد ذلك للمقربين، فيفرقون بين هذا وهذا، ومشى طوائف من السلف -رضي الله تعالى عنهم- وتبعهم في ذلك مَن تبعهم من المفسرين على أن ذلك الجزاء كله لهؤلاء العباد المخلصين ممن يوصفون بأنهم من الأبرار، ومن المقربين، أي أنهم طائفة واحدة.

إِنَّ الأبْرَارَ وهم أهل البر والصدق والديانة والصلاح والإخلاص، يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا، الكأس معروف، وهو الإناء الذي يشرب به، ولا يقال له ذلك إلا إذا كان ممتلئاً بالشراب، فإذا كان فارغاً فإنه لا يقال له ذلك، يعني أن الكأس يطلق على مجموع الأمرين، يطلق على هذا الوعاء إذا كان فيه الشراب، مثل الإنسان يطلق على مجموع الروح والجسد، فإذا كان روحاً مجردة من غير جسد هذا لا يقال له: إنسان، وإذا كان جثة وفارقته الروح فإنه يقال له: جثة، ولا يقال: إنسان، فهو مجموع الأمرين.

فالمقصود هنا أن الله قال: إنهم يشربون من هذه الكأس كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا، وهذه الكأس المراد بها الخمر، وهذا هو الغالب في إطلاقها، حتى قال بعض السلف: كل كأس في القرآن فهو الخمر، وهذا قاله الضحاك، وهذا ما يسمى بالكليات في التفسير، وليس الكليات في القرآن.

يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْس قال الضحاك: كل كأس في القرآن فهو الخمر، وهذا يحتاج إلى تتبع واستقراء، وكثيراً ما يطلق الكأس -حتى في كلام العرب- ويراد بها الخمر، كما قال بعض المُجّان:

وكأسٍ شربتُ على لذة وأخرى تداويتُ منها بها

يقول: ورُبّ كأسٍ شربت على لذة، شربها ليتلذذ بها، والأخرى شربها من أجل أن يتداوى منها بها؛ لأن الكأس الأولى التي يشربها يصيبه منها الإدمان، فيحتاج أن يشرب مرة بعد مرة، ويصيبه منها الصداع، ويصيبه منها ألوان الأدواء في البطن، فيقول: الأولى شربتها على لذة، والثانية كما قال الآخر:

وداونِي بالتي كانت هي الداءُ ...
وقد عُلم ما في الكافور من التبريد والرائحة الطيبة مع ما يضاف إلى ذلك من اللذاذة في الجنة.

بعض السلف يقولون: الكافور هنا عين، إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا، يقولون: الكافور هو عين في الجنة يقال لها: الكافور، وبعضهم يقول: المقصود بذلك طيب الرائحة، أنها طيبة الرائحة، فالله قال: كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا، فينبغي أن يقال: إن ذلك على ظاهره ولكن كافور الجنة ليس ككافور الدنيا.

والمقصود: أن الناس في الدنيا لربما مزجوا الخمرة بشيء من الكافور لتحقيق معنيين اثنين: الأول: هو الرائحة؛ لأن رائحة الخمر كريهة، كما أن طعمها كريه، كما أن لونها كريه، فالأمور الثلاثة جميعاً: اللون والطعم والرائحة التي من أجل واحدٍ منها -على الأقل- يُستلذ الشراب، فإذا اجتمعت كان ذلك غاية اللذة، كلها منتفية عن خمر الدنيا، فلونها غير جيد، فهي تضرب إلى السواد أو إلى الحمرة، وربما كان فيها صفرة مع كدرة، ورائحتها بشعة، وإذا أريقت في مكان فإن هذا المكان لربما ظل أسابيع، إذا كانت كميات كبيرة براميل من التي لربما يتلفها أهل الحسبة يبقى ذلك المحل أو الشارع أو الزقاق يبقى في غاية النتن، مدة طويلة، أسابيع.

ثم إن طعمها يكون في غاية البشاعة فيما وصفه أهل العلم، طعمها كريه، ويعقب ذلك الصداع، وألم البطن –المغص، ولذلك تجد كثيراً من هؤلاء الشُّرّاب يتقيئون -أكرمكم الله- بعد شربها، ولربما لعق قيئه؛ لأنه سكران كما هو مشاهد، ويفعلون أقذر من هذا، ذاك الذي توضأ ببوله فجعل يتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه ويقول: الحمد لله الذي جعل الصلاة نوراً والماء طهوراً.

وفي البلاد التي يوجد فيها حانات تبيع الخمور، وهي الأماكن التي تفتح عادة؛ لأن الأسواق تقفل في عامة البلاد في الساعة الخامسة تقريباً أو عند المغرب، لا تكاد تجد أحداً يمشي ولا تفتح إلا محلات الخمور، ولا ترى إلا هؤلاء الشياطين يجوبون الشوارع على أقدامهم، ولربما يركبون، ويرفعون أصواتهم بغاية البشاعة، ولربما رأيت أحدهم وهو يضرب رأسه بزجاج المحلات، في الأسواق المقفلة ولا يدري ماذا يصنع.

وفي تلك البلاد التي يقولون عنها: إنها متطورة متمدنة يعطون هؤلاء أصحاب الحانات، يعطونهم بدلاً مما يلقونه من الأذى والخطر والقذر؛ لأن هؤلاء الذين يسكرون عندهم يتقيئون أيضا عندهم، ولربما أخرج الواحد منهم سلاحاً أو سكيناً أو نحو ذلك وقتل آخر في أوضاع مزرية.

فالحاصل أن الله خاطب بهذا القرآن العرب، والعرب في بلاد حارة، وليس عندهم وسائل تبريد كما هو الآن، فإذا ذكر لهم الظل والبرودة فإن ذلك يلمس أعماق نفوسهم؛ لشدة حاجتهم إلى مثل هذا، فإذا كان الإنسان في مكان حار، وفي شمس في أيام الصيف في الحج فإنه يبحث عن شيء بارد وعن مكان بارد، وكذلك يبحث عن الشيء الذي يشربه.

الآن الناس لا يشعرون بشيء من هذا أو بكثير منه لتوفر ما يحتاجون إليه، لكن قديماً حينما كان يعز عليه أن يجد قالب الثلج إلا من مكان بعيد في الحج، ولا يصل إلى مكانه إلا وقد ذاب ثلاثة أرباع هذا، وبقيمة مرتفعة، يذهب من الصباح ولا يرجع إلا الظهر وهو يبحث عن قالب من الثلج، يَمْتر مِنى من أولها إلى آخرها يبحث عنه، فإذا وجده كأنه ظفر بشيء هائل يأتي به إلى من معه، ولا يصل إلا وقد ذاب أكثره.

ففي ذلك الحين كان الناس يعرفون قيمة الماء البارد فضلاً عن الأشياء الأخرى التي يشربونها، حيث لم تكن موجودة، وكل شيء قد تغير الآن، فالناس لا يشعرون بهذا، ولذلك ذكر الله في نعيم الجنة، قال: وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ [سورة الواقعة:29]، الطلح فسر بالموز، وفسر بشجر الطلح المعروف في بلاد العرب، وهو من شجر العِضاه، شجر له شوك، ترونه في الحجاز مثلاً، هذه الأشجار المليئة بالشوك يستظل الناس بها، وإذا جاءوا يحتاجون إلى تنظيف المكان؛ لأن لها من الأشواك الصلبة الشيء الكثير المتهايل يسقط تحتها، فإذا قيل لهم: طلح، ومنضود يعني قد خُضب شوكه -قطع شوكه- فهذه أحلام بالنسبة إليهم، أين يوجد هذا الشجر الذي يستظل به وليس له شوك؟! لا يوجد في تصورهم، وهكذا إذا ذكر البرودة.

ولذلك تجد في أشعار العرب يذكرون ما تمزج به الخمر، ويذكرون ما يبرد الشراب سواء كان الخمر أو الماء أو غيره، كما في قصيدة كعب بن زهير:

صافٍ بأبطحَ أضحى وهو مشمولُ ...

هنا الآن يصف، خيال الشاعر يسرح به فذهب يصف الماء في مكان مستوٍ، صافٍ بأبطح، أضحى في الضحى لم تشتد عليه حرارة الشمس، وهو مشمول أي تأتيه رياح من الشمال فتبرده، هذا إذا سمعه العرب داخوا، إلى عهد قريب كان آباؤنا يشربون الكدر، يشربون من البئر ويعلوها ألوان الجعلان والحشرات وكأنها نُقاعة الحناء، ومن يسبق إلى هذا الشراب إلى هذا البئر يحصل القتال عليه، إلى عهد قريب قبل خمسين سنة، قتال على الماء من يصل، وتعرفون قصة يا للمهاجرين ويا للأنصار، لما سبق إلى الماء مولى لعمر يقال له: الجهجاه من غفار، ومولى لعبد الله بن أبيّ من جهينة، فازدحموا على الماء، فلطم الجهجاه الرجل الجهني صكه على وجهه، على الماء! فهذا قال: يا للأنصار وهذا قال: يا للمهاجرين، على الماء!

وإلى عهد قريب كان الناس يتقاتلون على الماء ويشقون القرب، ويحصل بسبب ذلك من القتال والشِّجاج والأشياء التي يعرفها من عاصرها، ولا زالوا أحياء، وكانوا يضعون الرداء أو الثوب أو العمامة أو كذا دون الفم من أجل أن يشرب، هذه صفّاية الآن، يضعها ثم يشرب، وهي ما مدى نظافتها أصلاً؟!

فالمقصود أن هذه الأشياء البرودة مع اللذة في الشراب والنكهة الطيبة -الرائحة الطيبة- هي غاية المنى، فالله يخاطبهم بهذه الأمور التي يعرفون قيمتها، ولهذا ذكر لهم الإبل حيث أرشدهم إلى النظر إليها كيف خلقت، مع أنه يوجد من الحيوانات الهائلة الكبيرة مثل الفيل وهو أعظم من الجمل، لكنه لا يوجد في بلاد العرب، وحينما ذكر لهم ألوان الفواكه امتن عليهم بأشجار الأعناب والنخيل ولم يذكر لهم ألوان الفواكه الأخرى الموجودة في العالم طيبة الطعم، اللذيذة؛ لأنها غير موجودة أصلاً في بلاد العرب، فالقرآن خاطب الأميين بما يعهدون، و يدرك هذا مَن حُرمه.

قال الحسن: بردُ الكافور في طِيب الزنجبيل؛ ولهذا قال: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [سورة الإنسان:6] أي: هذا الذي مُزج لهؤلاء الأبرار من الكافور هو عين يشرب بها المقربون من عباد الله صرفاً بلا مزج ويَرْوَوْن بها.

ابن كثير مشى على أن ثمّة فرقاً بين نعيم الأبرار وبين نعيم المقربين، جعل القضية منقسمة، فالأبرار دون المقربين على قول ابن كثير، بمعنى أن الأبرار يُمزج لهم من هذا الكافور مع هذا الشراب، والآخرون وهم المقربون -وهم أعلى درجة- يشربون صرفاً من غير مزج، قال: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ ثم قال: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا، قال: وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا ۝ عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا [سورة الإنسان:17، 18].

ابن كثير يريد أن يقول: إن قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا أي: أن الأبرار يخلط لهم من ماء هذه العين مع شرابهم فقط، وهناك آخرون غير هؤلاء يشربون شيئاً آخر، قال: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ فجعل عباد الله هنا أخص من الأبرار وهم المقربون، فهم يشربون من هذه العين التي يقال لها: الكافور، يشربون من عين الكافور، عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا هذه العين التي يمزج منها شراب أهل الأبرار هي عين يشرب بها من فوقهم وأعلى منهم مرتبة وهم المقربون، يشربون منها صرفاً من غير مزج، هذا على قول ابن كثير.

والذي مشى عليه كثير من المفسرين ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- أن ذلك كله في طائفة واحدة، فالله يفسر هذه العين التي يشرب بها هؤلاء الأبرار إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ۝ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا، فعباد الله هنا هم الأبرار على قول كثير من المفسرين.

ولهذا ضَمّن يشرب معنى يروى حتى عداه بالباء، ونصب عَيْنًا على التمييز.

قول ابن كثير -رحمه الله: ولهذا ضمن يشرب معنى يَروى، حمله على هذا أن يشرب تتعدى بالباء وتتعدى بـ"من"، وتتعدى بنفسها –يشربها، فهنا يَشْرَبُ بِهَا، العين يُشرب منها، العين -عين الماء- يُشرب منها ولا يُشرب بها، ولكن قال الله يَشْرَبُ بِهَا، في مثل هذه المقامات يقول العلماء: هذا من باب التضمين، والتضمين يقصدون به إما تضمين الفعل أو ما يقوم مقامه، أو تضمين الحرف، وكثير من النحاة -ومشى عليه جماعة من المفسرين، وأهل اللغة- يقولون بمثل هذه المقامات: بتضمين الحرف معنى الحرف، أي أن حروف الجر تتناوب كما هو معروف، فـ "من" تأتي بمعنى "الباء".

فالآن يَشْرَبُ بِهَا يقولون: أي يشرب منها، فالباء مضمنة معنى "من" واستراحوا بهذا، يقولون: "الباء" يَشْرَبُ بِهَا بمعنى "من"، هذا تضمين الحرف معنى الحرف، يستعمل الحرف ويراد به معنى حرف آخر من حروف الجر، والذين يقولون بتضمين الفعل لا الحرف مكان الفعل لا شك أن قولهم أوفى في المعنى وأوجه وأدق، لذلك نجد أن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وابن القيم يجرون على هذه الطريقة، وابن القيم ينسبها لحذاق النحاة وفقهاء أهل اللغة؛ لأن ذلك يكثر المعاني.

فإذا قلت هنا مثلاً: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا بدلاً مما تقول: الباء بمعنى "من"، تقول: لا، الباء في محلها لكن الفعل يشرب ضمن معنى فعل آخر يصلح أن يستعمل معه الباء، يعدى بالباء في هذا المقام، فماذا يقال؟ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا أي: عيناً يرتوي بها، أو عيناً يلتذ بها، فيشرب مضمن معنى فعل آخر وهو يلتذ ويرتوي، فالإنسان قد يشرب ولا يحصل له الري، أو ما يحصل له الالتذاذ، فأفادنا هذا التضمين هنا تكثير المعاني في التفسير، فصار هذا الفعل يدل على الشرب -يشرب- ويدل على الالتذاذ والارتواء، هذا إذا قلنا بتضمين الفعل مكان الفعل، وهذا له نظائر كثيرة جداً، كثيرة إذا أردنا أن نتواضع في العدد نقول: بالعشرات، فيمر بكم في كثير من كتب التفسير يقول: وهذا من باب التضمين، هذا هو المقصود.

وقوله تعالى: يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا أي: يتصرفون فيها حيث شاءوا وأين شاءوا من قصورهم ودورهم ومجالسهم ومحالهم.

التفجير بمعنى الإسالة والإجراء، فهي عين طيّعة لهم، يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا بمعنى: أنهم يجرونها كيف شاءوا، ويصرفونها كما أرادوا، ليست كالدنيا إذا نبعت العين اتجهت إلى أدنى مكان منخفض وسالت نحوه، هذه العيون التي في الجنة يجرونها حيث شاءوا فهي طيّعة لهم، إن شاءوا جاءت إليهم في محالهم وقصورهم، حيث شاءوها انقادت لهم، فهي طيّعة منقادة يتصرفون فيها ويجرونها كما أرادوا.

والتفجير هو الإنباع، كما قال تعالى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا [سورة الإسراء:90]، وقال: وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا [سورة الكهف:33].

وقال مجاهد: يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا يقودونها حيث شاءوا، وكذا قال عكرمة، وقتادة، وقال الثوري: يصرفونها حيث شاءوا.

وهذا كله بمعنى واحد، التفجير بمعنى: الإنباع، الإجراء، الإسالة، يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا، المقصود: أنهم يجرونها حيث شاءوا ويتصرفون بها كما أرادوا.

وقوله: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا أي: يتعبدون لله فيما أوجبه عليهم من فعل الطاعات الواجبة بأصل الشرع، وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر.

هذا المعنى الذي مشى عليه ابن كثير -رحمه الله- بناء على أن أصل النذر بمعنى الوجوب أو الإيجاب، فالواجبات على المكلفين منها ما وجب ابتداءً أوجبه الشارع عليه، ومنها ما أوجبه المكلف على نفسه على سبيل التقرب إلى الله ، فهذا هو النذر المعروف، فهنا ابن كثير -رحمه الله- حمل قوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ على الأمرين معاً، ما أوجبه الشارع ابتداءً مثل: الصلاة والزكاة...، يوفون به أي يؤدونه ويأتون به على مراد الله ، وكذلك ما أوجبوه هم على أنفسهم، يعني يأتون بالواجبات، هذا معنى يُوفُونَ بِالنَّذْرِ على قول ابن كثير، وهذا قال به طائفة من السلف -رضي الله تعالى عنهم.

والقول الآخر: هو حمْله على ظاهره المتبادر، وذلك أن لفظة النذر لفظة شرعية لا تفسر بمجرد المعنى اللغوي، والألفاظ الشرعية إنما تحمل على المعاني الشرعية، فإن لم يوجد فالعرفية، فإن لم يوجد فاللغوية، بهذا الترتيب، وهذا معروف في أصول الفقه، وبالتالي فإن قوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ النذر له معنى شرعي أوفِ بنذرك[4]، حينما سئل النبي ﷺ: نذرتُ، مباشرة أجابه بهذا الجواب، فالمقصود أنه له معنى شرعي وهو إيجاب المكلف على نفسه طاعة يتقرب بها إلى الله من غير إيجاب الشارع ابتداءً، هو الذي أوجب هذا على نفسه، لا يجب عليه.

فهنا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ تحمل على ظاهرها المتبادر وعلى المعنى الشرعي، ولا تحمل على المعنى اللغوي ولها معنى شرعي، إنما تحمل ويرجع فيها إلى المعنى اللغوي حيث لا يوجد المعنى الشرعي ولا العرفي، يعني عرف المخاطبين وقت نزول القرآن ليس الآن، فهذه بما أن لها معنى شرعياً إذن تفسر به، فيقال: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ مدحهم على الوفاء بالنذر، ولهذا يقال: الوفاء بالنذر أمر واجب ويمدح عليه الإنسان، مع أن إنشاء النذر أمر مكروه، إنما يستخرج به من البخيل[5].

قال الإمام مالك عن طلحة بن عبد الملك الأيلي عن القاسم بن مالك عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله ﷺ قال: من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يَعصي الله فلا يَعْصِه[6]، رواه البخاري من حديث مالك.

ويتركون المحرمات التي نهاهم عنها خيفة من سوء الحساب يوم المعاد، وهو اليوم الذي شره مستطير، أي: منتشر عام على الناس إلا من رحم الله.

قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما: فاشيًا، وقال قتادة: استطار والله شرّ ذلك اليوم حتى مَلأ السماوات والأرض.

المستطير بمعنى المنتشر، شره مستطير أي شره عام منتشر، لا يمكن أن يتخلص منه إلا من خلصه الله ، ونسب الشر إلى اليوم ولا إشكال في هذا، والمقصود أن اليوم ظرف من الظروف، وإنما تقع فيه هذه الأهوال والأوجال، ولهذا جاء فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا [سورة المزمل:17]، وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ [سورة البقرة:281]، مع أن اليوم ظرف لا يُتقى، ولكن هذا أسلوب عربي معروف، والمقصود اتقوا أوجال يوم، اتقوا أهوال يوم، فهذا اليوم شره مستطير أي الشر الواقع فيه كذلك.

وقوله: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ قيل: على حب الله تعالى، وجعلوا الضمير عائدًا إلى الله لدلالة السياق عليه.

لدلالة السياق عليه، والأصل أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هنا هو الطعام، وهذا هو المتبادر، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ليس المتبادر أنهم يفعلون ذلك لمحبتهم لله ، وإن كان هذا أصلاً من لازم فعلهم، أنهم قدموا هؤلاء الفقراء على أنفسهم؛ لأنهم يحبون الله، لأن المتصدقين -هؤلاء المُطعِمين- يحبون الله فقدموا مرضاته، لكن المعنى، عَلَى حُبِّهِ أي: على حب هذا الطعام، وهذا هو الذي يُمدح به.

أن تكون هذه الصدقة كما جاء في الحديث: خير الصدقة جهد المقل[7]، وإذا كانت الحاجة داعية وماسة لهذا فهذا هو حقيقة الإيثار، وأما إذا كانت الأشياء مبذولة ومتوفرة ولا يحتاج إليها الإنسان أو يضطر إليها فإن بذله لها قد لا يكون له أثر عليه، فكلما ازدادت الحاجة كان وقع الإيثار أعظم، وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [سورة الحشر:9]، فهم يقدمون هذا الطعام على حبه، هذا الطعام ليس كثيراً عندهم ملوه وفاض في بيوتهم، وإنما تشتاق نفوسهم إليه، ويحبونه، ومع ذلك يتصدقون به ويطعمونه.

والأظهر أن الضمير عائد على الطعام، أي: ويطعمون الطعام في حال محبتهم وشهوتهم له، قاله مجاهد، ومقاتل، واختاره ابن جرير، كقوله تعالى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [سورة البقرة:177]، وكقوله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:92].

هذا من تفسير القرآن بالقرآن.

وفي الصحيح: أفضل الصدقة أن تَصَدّقَ وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى، وتخشى الفقر[8] أي: في حال محبتك للمال وحرصك عليه وحاجتك إليه.

وهذا يفسر به أيضاً الحديث الآخر لما سئل النبي ﷺ عن أفضل الصدقة وأخبر أن ذلك ما كان عن ظهر غنى، إذا تصدق الإنسان وهو صحيح -ظهر غنى بمعنى: صحيح- شحيح يأمل الغني: أي أنه يتصدق وهو يؤمّل زيادة هذا المال، ومعروف أنه كما في الآية المنسوخة لفظاً: لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثاً[9].

ولهذا قال تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [سورة الإنسان:8] أما المسكين واليتيم فقد تقدم بيانهما وصفتهما.

المسكين إذا أطلق دخل فيه الفقير، إلا إذا ذكر معه فالخلاف معروف، من أهل العلم من يقول: الفقير أشد حاجة؛ لأن الله قال: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [سورة الكهف:79]، قالوا: المساكين عندهم سفينة يشتغلون فيها، لكن ما تكفي لحاجاتهم الضرورية، أما الفقير فما عنده شيء، وبعضهم يقول: المسكين أشد حاجة كما قال الله أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [سورة البلد:16]، فكأنه قد لصق بالتراب، ما عنده شيء، ويحتجون بقول الشاعر:

أمّا الفقيرُ الذي كانت حَلوبتُهُ ...

كانت حلوبته، قالوا: عنده حلوبة عنده معز يحلبها، فهو يجد على الأقل شيئاً يتقوت به، وقد لا يكفيه لكنه أفضل من المعدم تماماً، فإذا ذكر المسكين أو ذكر الفقير منفرداً فيدخل فيه الآخر، كما قيل: إذا اجتمعا افترقا، يعني افترقا في المعنى، إذا اجتمعا لفظاً: الفقراء والمساكين، وإذا افترقا اجتمعا في المعنى، فهنا المسكين يدخل فيه الفقير مِسْكِينًا وَيَتِيمًا، واليتيم هو من الآدميين مَن فقد الأب، فقد أباه في حال الصغر يعني قبل البلوغ، فإذا بلغ فليس بيتيم.

وأما الأسير فقال سعيد بن جبير، والحسن، والضحاك: الأسير من أهل القبلة، وقال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما: كان أسراؤهم يومئذ مشركين.

الأسير هنا الله أطلقه، بعض السلف كسعيد بن المسيب يقول: من أهل القبلة، وبعضهم يقول: هذه الآية نسخت على القول بأن المراد بذلك أهل الإشراك، بحيث إن الأسرى في ذلك الوقت كانوا من المشركين، فيقولون: إنها نسخت بآية السيف، فالأسير ليس له إلا السيف، لا يُطعم، وهذا الكلام غير صحيح، وذلك أن آية السيف لا يصح أنها نسخت هذا القدر من الآيات مائة وأربعاً وعشرين آية، يقول: كل آية فيها عفو وصفح وإعراض وتفويض الأمر إلى الله في معاملة هؤلاء الكفار منسوخة بآية السيف، فهي لم تنسخ، وإنما ذلك على أحوال، فإذا كان الناس في حالة ضعف كانت الأمة في حالة ضعف فهنا العفو والإعراض والصفح، وإذا كانت الأمة في حال القوة والتمكن فهنا يأتي إعمال السيف.

فالحاصل أن الأسير هنا عام لم يخص به أهل القبلة، والأصل بقاء العام على عمومه إلا لدليل يخصصه، فهم يطعمون الطعام على حبه هؤلاء الفقراء والمساكين والأيتام، ويطعمونه أيضاً الأسرى، فهذا الأسير أنت مأمور بالإحسان إليه ولو كان كافراً، مأمور بالإحسان إليه يعني في حال أسره حتى يقرر في أمره ما يقرر، إما القتل أو الاسترقاق أو الفداء أو يطلق مجاناً –المن، الله يقول: فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء [سورة محمد:4].

ويشهد لهذا أن رسول الله ﷺ أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء.

وقال عكرمة: هم العبيد، واختاره ابن جرير، لعموم الآية للمسلم والمشرك، وهكذا قال سعيد بن جبير.

قول عكرمة هنا: هم العبيد هل يمكن أن يوجه؟ أو نرفضه ويرد ويقال: الأسير معروف في كلام العرب وانتهينا؟ يمكن أن يوجه فيقال: إن هؤلاء بمنزلة الأسير في يدك، النبي ﷺ ألم يقل عن النساء: عوان عندكم[10]، لهذا بعضهم قال: وَأَسِيرًا أي: النساء، والعوان جمع عانٍ وهو الأسير، فكوا العاني يعني فكوا الأسير، فالمرأة أسيرة عند هذا الزوج، فهو مأمور بالإحسان إليها، وكذلك هذا الرقيق العبد هو أسير عند سيده، بمنزلة الأسير عند سيده، فهو مأمور بالإحسان إليه؛ لأنه لا يستطيع أن يتصرف ويذهب ويترك هذا السيد، فهذه الأقوال يمكن أن توجه بهذه الطريقة، وإن كان معنى الأسير معروفاً لكن يؤخذ من ذلك أن هؤلاء الذين لا يجدون حيلة وهم بمنزلة الأسير عندك أنك مأمور بالإحسان إليهم، والله أعلم.

وهكذا قال سعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، وقتادة.

وقد وصى رسول الله ﷺ بالإحسان إلى الأرقّاء في غير ما حديث.

قال عكرمة: هم العبيد، واختاره ابن جرير لعموم الآية للمسلم والمشرك، وهكذا قال سعيد بن جبير، وعطاء، والحسن وقتادة، وقد وصى النبي ﷺ...، هنا عام.

فقول سعيد بن جبير وعطاء والحسن: إنه الأسير الذي هو المشرك، وابن جرير يقول: هي عامة في المسلم والكافر، الأسير يدخل فيه المسلم والكافر، يدخل فيه من أسر في الحرب، ويدخل فيه أيضاً المحبوس، وهو كذلك أيضاً بحاجة إلى الإحسان.

وقد وصى رسول الله ﷺ بالإحسان إلى الأرقاء في غير ما حديث، حتى إنه كان آخر ما أوصى أن جعل يقول: الصلاةَ وما ملكت أيمانكم[11].

قال مجاهد: هو المحبوس، أي: يطعمون لهؤلاء الطعام وهم يشتهونه ويحبونه، قائلين بلسان الحال: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ أي: رجاءَ ثواب الله ورضاه لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا.

وبعض أهل العلم يقولون: ويطعمون الطعام على حبه على حب الإطعام، وهذا من أبعد ما يكون في المعنى، على حب الإطعام، هم يحبون الطعام، وبهذا مُدحوا.

لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً أي: لا نطلب منكم مجازاة تكافئوننا بها ولا أن تشكرونا عند الناس.

لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً الشُّكور هنا يحتمل أن تكون هذه اللفظة مراداً بها الجمع، فالشكر يجمع على الشكران والشكور، ويمكن أن يراد بها المصدر، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن القيم -رحمه الله، مثل القعود على وزن فُعول، شكور وقعود، وركود وركوب وما أشبه ذلك، فهم يقولون: لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً، لا نريد منكم مقابلة ذلك بالهدية أو المال أو غير ذلك من الخدمة، ولا نريد منكم الشكران، سواء كان باللسان أو بغيره، ولهذا كان كثير من السلف من أهل الورع لا يأخذون ممن أحسنوا إليه شيئاً، حتى إن الواحد منهم لربما إذا قيل له: جزاك الله خيراً -إذا تصدق على الفقير- رد عليه بمثلها، بادره بالرد، لكن هو لا يريد منه حتى هذه الكلمة.

لا نريد منكم مقابلة ذلك بالهدية أو المال أو غير ذلك من الخدمة، ولا نريد منكم الشكران، سواء كان باللسان أو بغيره، ولهذا كان كثير من السلف من أهل الورع لا يأخذون ممن أحسنوا إليه شيئاً، حتى إن الواحد منهم لربما إذا قيل له: جزاك الله خيراً -إذا تصدق على الفقير- رد عليه بمثلها، بادره بالرد، لكن هو لا يريد منه حتى هذه الكلمة.

قال مجاهد وسعيد بن جبير: أمَا والله ما قالوه بألسنتهم، ولكن علم الله به من قلوبهم، فأثنى عليهم به ليرغب في ذلك راغب.

بعض السلف كان إذا ذهب يشتري فوجد رجلاً يقول: هذا فلان فاستوصِ به، يغضب ويخرج من المحل، ويقول: إنما نشتري بأموالنا، لا نشتري بديننا، يعني: هو إمام والأمة تنتفع به، فهو لا يريد أن يأخذ مقابلاً على هذا أن الناس يراعونه في البيع والشراء، ويحابونه في ذلك ويكسرون له من الأسعار؛ لأنه فلان.

وأكثر من هذا كان بعض أهل العلم إذا احتاج ماءً فجاء له بهذا الماء بعض من يأخذ عنه الحديث كان لا يقبل ذلك منه؛ لئلا يكون ذلك في مقابل ما أخذ عنه، هذه درجات عالية في الورع من أمور مباحة، هذه لا يصل إليها عامة الخلق.

فالمقصود أن هذه تكون قاعدة للإنسان في عمله الصالح ودعوته إلى الله ، في تعليمه للعلم، أنه لا ينتظر من الناس أن يقدروه وأن يحترموه، وأن يحسنوا إليه، وأن يوصلوا إليه ألوان المعروف، والهدايا، والعطايا، والهبات وما أشبه ذلك، فيفعل ذلك من أجل الله ، وهذا هو الأدعى أن يستمر الإنسان على عمله، ولذلك تجد من يعمل، قد يكون يعمل في مدرسة، قد يكون في أي مكان آخر ثم لا يجد تقديراً من المدير، من المسئول، من كذا، فينقطع ويضجر، ويقول: هؤلاء لا يقدرون، أنا عملت كثيراً، قدمت كثيراً، وأنا الذي بنيت هذا المشروع، ولم أسمع كلمة شكر، أو يوجه لي خطاب شكر، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا، لا نريد منكم شيئاً، ولا ننتظر منكم شيئاً، إنما نريد ما عند الله، فإذا كنت تريد ما عند الله فلا تحزن.

وكذلك المرأة في بيتها ربما تحزن وتضجر أن هذا الزوج لم يكافئها على عملها، وقيامها على الأولاد، وصبرها على أذاهم، وقيامها على شئون المنزل، تقول: لم أسمع منه كلمة عشرات السنين التي عشت معه، يقال لها: أنت تفعلين هذا من أجل الله فلا عليك، مع أننا نقول: إن هذه الكلمة لها أثر ينبغي للإنسان أن يلاحظ هذا المعنى، لكن نقول للطرف الآخر الذي يضجر وينقطع عن عمله: لا يضرك؛ لأنك تريد ما عند الله ، فإذا جعل الإنسان هذا الأمر بين عينيه وتذكره دائماً فإنه لا ينقطع بإذن الله من عمله الصالح المتعدي إلى الآخرين، اشتغلْ واعمل وأحسن وقدم، اعمل ما تستطيع، وابذل ما تستطيع ولا تنتظر من الآخرين شيئاً، أنت تريد ما عند الله، وهذه هي حقيقة الإخلاص.

  1. رواه البخاري، كتاب الأدب، باب التبسم والضحك، برقم (6091)، ومسلم، كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، برقم (313).
  2. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (2514)، وقال محققوه: "حسن"، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5500).
  3. رواه مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، برقم (223).
  4. رواه البخاري، كتاب الاعتكاف، باب إذا نذر في الجاهلية أن يعتكف ثم أسلم، برقم (2043).
  5. رواه البخاري، كتاب القدر، باب إلقاء النذر العبد إلى القدر، برقم (6608)، وبرقم (6692) في كتاب الأيمان والنذور، باب الوفاء بالنذر، ومسلم، كتاب النذر، باب النهي عن النذر وأنه لا يردّ شيئا، برقم (1639).
  6. رواه أبو داود، كتاب الأيمان والنذور، باب ما جاء في النذر في المعصية، برقم (3289)، والنسائي، كتاب الأيمان والنذور، باب النذر في الطاعة، برقم (3806)، والترمذي، كتاب النذور والأيمان عن ﷺ، باب من نذر أن يطيع الله فليطعه، برقم (1526)، وابن ماجه، كتاب الكفارات، باب النذر في المعصية، برقم (2126)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (479)، وفي إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (8/ 214)، برقم (2589).
  7. رواه أبو داود، كتاب سجود القرآن، باب طول القيام، برقم (1449)، بلفظ: فأي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل، والنسائي، كتاب الزكاة، باب جهد المقل، برقم (2526)، وأحمد في المسند، برقم (15401)، وقال محققوه: "إسناده قوي"، وقال الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (2/ 105) بعد أن ذكر الحديث برقم (566): "هذا إسناد جيد رجاله ثقات على شرط مسلم غير أبي الجهم هذا"، وقال في صحيح أبي داود (5/ 193): "إسناده صحيح على شرط مسلم"، حديث رقم (1303).
  8. رواه البخاري، كتاب الوصايا، باب الصدقة عند الموت، برقم (2748).
  9. رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب ذهاب الصالحين، برقم (6436)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثاً، برقم (1048).
  10. رواه الترمذي، كتاب الرضاع، باب ما جاء في حق المرأة على زوجها، برقم (1163)، وصححه الألباني في إرواء الغليل، برقم (2156).
  11. رواه ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في ذكر مرض رسول الله ﷺ، برقم (1625)، وأحمد في المسند، برقم (12169)، وقال محققوه: "حديث صحيح رجاله ثقات رجال الصحيح، إلا أن سليمان التيمي اختلف عليه وخولف فيه"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (868).

مواد ذات صلة