السبت 28 / جمادى الأولى / 1446 - 30 / نوفمبر 2024
سورة الضحى كاملة
تاريخ النشر: ١٥ / ذو القعدة / ١٤٣٤
التحميل: 8620
مرات الإستماع: 7449

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسورة الضحى هي من السور النازلة بمكة، والموضوع الذي تدور عليه هذه السورة يمكن أن يُجمل بموضوع واحد وهو الألطاف والمنن والعطايا التي حبا الله بها نبيه ﷺ، هذا في الجملة .

قال -رحمه الله: تفسير سورة الضحى وهي مكية.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ۝ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ۝ وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى ۝ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ۝ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ۝ وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى ۝ وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى ۝ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ۝ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ۝ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحدِّثْ [سورة الضحى:1-11].

روى الإمام أحمد عن جُنْدُب قال: اشتكى النبي ﷺ فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتت امرأة فقالت: يا محمد، ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل الله : وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ۝ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى[1].

رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن جرير عن جُنْدُب هو ابن عبد الله البَجلي، ثم العَلقي به.

هذه الرواية المخرجة في الصحيحين هي سبب النزول، أن النبي ﷺ انقطع عنه الوحي مدة ثم بعد ذلك جاءت هذه المرأة من المشركين، وقالت: ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل الله، هذا كان سبب النزول، والوحي حصل له انقطاع وفتور بعدما نزل أوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [سورة العلق:1] ثم حصلت فترة انقطاع فأنزل الله سورة المدثر، فهي أول سورة بعد انقطاع الوحي، وهذا أيضًا فتور آخر، انقطاع آخر دون الأول.

وقد جاء في بعض الروايات لكنها لا تصح أن ذلك كان بسبب جرو كان في بيت رسول الله ﷺ، كلب صغير قد مات تحت السرير، لكن الرواية في هذا لا تصح، وهي أن النبي ﷺ قال: ما بال جبريل لا يأتيني؟ فلما كنست الخادم أو الجارية الدار، وأهوت بالمكنسة تحت السرير وجدت هذا الكلب وأخرجته، فنزل الوحي على رسول الله ﷺ، هذا لا يصح، وجاء في بعض الروايات أن هذا بسبب قول المشركين: وَدَّعَه ربُّه وقلاه، فأنزل الله: وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى وهذه الرواية فيها ضعف، ولكن هذه التي في الصحيحين أن ذلك بسبب قول هذه المرأة فهذا هو سبب النزول.

وفي رواية عن الأسود بن قيس: سمع جندبًا قال: أبطأ جبريل على رسول الله ﷺ، فقال المشركون: وَدَّع محمدًا ربُّه، فأنزل الله: وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ۝ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى[2].

وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى قال العوفي عن ابن عباس: "لمّا نزل على رسول الله ﷺ القرآن أبطأ عنه جبريل أيامًا، فتغير بذلك، فقال المشركون: وَدَّعَه ربُّه وقلاه، فأنزل الله: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى".

وهذا قسم منه تعالى بالضحى وما جعل فيه من الضياء.

الضحى هو الوقت المعروف في أول النهار بعد ارتفاع الشمس، وكما سبق عند قوله -تبارك وتعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [سورة الشمس:1] أن الضحى له أول وأوسط وأعلى، يعني الضحى الأكبر، والضحى الأوسط، وأول الضحى، فيكون ذلك من ارتفاع الشمس إلى ما قبل الزوال كل هذا وقت للضحى.

هنا الظاهر المتبادر أن المراد هذا الوقت، والقسم لا يكون إلا بمعظم، فهذا يدل على شرفه، وهو أجلى أوقات النهار، وأعظمها خيرًا وبركة، يعني أول النهار، فهو أكثر بركة من آخره.

وبعضهم يقول: المراد بالضحى هنا ليس الوقت المعروف الذي يكون في أول النهار كهذا الوقت الذي نحن فيه الآن، فإنه قد ابتدأ الضحى، وإنما المقصود كل النهار، وأنه عبر عن النهار بالضحى، يعني كأنه عبر عنه بجزء من أجزائه هو من أجلاها وأوضحها، عبر عن النهار بجزء هو من أوضح وأجلى أجزاء النهار، قالوا: ويدل على هذا أنه قابله بالليل وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى فالذي يقابل الليل ليس الضحى وإنما النهار، قالوا: هذه قرينة تدل على هذا المراد، وأن العرب تقول: ضَحَى فلان يعني إذا تعرض للشمس، وظهر وبدا لها، في قوله -تبارك وتعالى- لآدم ﷺ: وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى [سورة طه:119] يعني لا تكون ضاحيًا، وإنما يَضْحى الإنسان حينما يتعرض للشمس فيتأذى بشدتها وحرها، يعني لا تصيبك الشمس.

فابن جرير -رحمه الله- اختار هذا المعنى أن المقصود بالضحى النهار بهذا الاعتبار على طريقة العرب في التعبير بمثل هذا، والأمر الثاني: هو أنه قابله بالليل، وكثير من المفسرين يقولون: المراد بالضحى هو الوقت المعروف وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى فأقسم الله بالضحى وأقسم بالليل إذا سجى، هنا قال: بالضحى وما جعل فيه من الضياء، فابن كثير حمله هنا على الوقت المعروف، فيكون بذلك قد خالف ابن جرير.

وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى أي: سكن فأظلم وادلَهَمّ، قاله مجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، وغيرهم، وذلك دليل ظاهر على قدرة خالق هذا وهذا، كما قال: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ۝ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، وقال تعالى: فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [سورة الأنعام:96].

قوله -تبارك وتعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىهنا قال: أي: سكن فأظلم وادلهم، قاله مجاهد وقتادة والضحاك، يقول: سكن واستوى، وهذا أشهر معانيه، وبهذا قال آخرون أيضًا غير من ذَكر كعكرمة -رحمه الله، واختاره ابن جرير -رحم الله الجميع.

وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى من قولهم: "بحر ساجٍ" البحر الساجي يعني الساكن، لا تتلاطم أمواجه، هادئ، وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى يعني إذا سكن، كما يقول ابن جرير: سكن بأهله، وثبت بظلامه، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، وجاء عن ابن عباس في رواية في إسنادها ضعف وبذلك قال الحسن: يعني أقبل وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى يعني أقبل، فهو حينما يسكن بظلامه يكون قد أقبل، لكنه جاء عنه من رواية علي بن أبي طلحة أنه قال: ذهب، فيكون كقوله: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [سورة المدثر:33].

لكن المشهور أن سجى بمعنى سكن، ومن فسره بأقبل فإن ذلك من مقتضياته، يعني هو حينما يسكن بظلامه، حينما يعم الظلام، حينما تحصل هدأة الليل وسكونه فإن ذلك يكون إذا أقبل الليل، فهذه معانٍ متلازمة، ويكون بهذا الاعتبار معنى سجى أرخى سدوله، سكن بظلامه، عم بظلامه، سكن بأهله، والمقصود عموم الظلام وما يحصل من ذلك وبسببه من هدأة الليل، تهدأ فيه النفوس، تهدأ فيه الحركة.

وقوله: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ أي: ما تركك.

وهذا جواب القسم وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ۝ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ما ودعك أي: ما تركك، ما قطعك قطع المودع كما قالت هذه المرأة، وَمَا قَلَى أي: وما أبغضك، قلاه يعني أبغضه، وهنا مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى هنا ما قال: وما قلاك، مراعاة للفاصلة، أواخر الآيات.

وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ۝ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى بعض أصحاب كتب التفسير التي تُعني بالجوانب البلاغية يذكرون هنا أمرًا من اللطائف التي قد تصح وقد لا تصح، يقولون: هذا من باب الأدب في الخطاب، ما وجه إليه مثل هذه العبارة: قلاك، وإنما قال: "قلى"، كقوله -تبارك وتعالى- تأديبًا مثلاً: لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا [سورة البقرة:104]، وقول إبراهيم ﷺ: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [سورة الشعراء:80] "مرضت" فنسب المرض إلى نفسه، ونسب الشفاء إلى الله ، إلى غير هذا من أمثلة.

فبعضهم يذكر هذا من هذا القبيل مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى يعني وما قلاك، أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا [سورة الكهف:79] نسب العيب إلى نفسه، وهناك في الجدار قال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا [سورة الكهف:82] أراد ربك فهنا نفع، إيصال النفع لهم، فنسبه إلى الله ، والعيب قال: فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا ما قال: فأراد ربك أن يعيبها.

وَمَا قَلَىأي: وما أبغضك، وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولَى.

هذا أيضًا جواب قسم محذوف، "وللآخرة" كأنه يقول: واللهِ للآخرة خير لك من الأولى.

أي: والدار الآخرة خير لك من هذه الدار، ولهذا كان رسول الله ﷺ أزهد الناس في الدنيا، وأعظمهم لها اطِّراحًا، كما هو معلوم بالضرورة من سيرته، ولما خُيِّرَ في آخر عمره بين الخلد في الدنيا إلى آخرها ثم الجنة، وبين الصيرورة إلى الله اختار ما عند الله على هذه الدنيا الدنية.

روى الإمام أحمد عن عبد الله -هو ابن مسعود- قال: اضطجع رسول الله ﷺ على حصير، فأثر في جنبه، فلما استيقظ جعلت أمسح جنبه وقلت: يا رسول الله، ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئا؟ فقال رسول الله ﷺ: ما لي وللدنيا؟! ما أنا والدنيا؟! إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظَلٍّ تحت شجرة، ثم راح وتركها[3]، ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث المسعودي به، وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقوله: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أي: في الدار الآخرة يعطيه حتى يرضيه في أمته، وفيما أعدَّه له من الكرامة، ومن جملته نهر الكوثر الذي حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، وطينه مسك أذفر كما سيأتي.

أذفر يعني شديد الرائحة الذكية، وقوله -تبارك وتعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى بعضهم يقول: اللام هذه في "لسوف" هي لام الابتداء دخلت على الخبر لتأكيد مضمون الجملة، والمبتدأ محذوف تقديره: ولأنت سوف يعطيك ربك فترضى، وبعضهم يقول: هي -كالتي قبلها- للقسم، وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى ووالله لسوف يعطيك ربك فترضى.

روى الإمام أبو عمر الأوزاعي عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: "عُرض على رسول الله ما هو مفتوح على أمته من بعده كنزًا كنزًا، فسُر بذلك، فأنزل الله: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى فأعطاه في الجنة ألف ألف قصر، في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم"[4]، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من طريقه، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس: ومثلُ هذا ما يقال إلا عن توقيف.

ثم قال تعالى يعدد نعَمه على عبده ورسوله محمد -صلوات الله وسلامه عليه: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وذلك أن أباه تُوفّي وهو حَملٌ في بطن أمه، ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب وله من العمر ست سنين، ثم كان في كفالة جده عبد المطلب، إلى أن توفي وله من العمر ثمان سنين، فكفله عمه أبو طالب، ثم لم يزل يحوطه وينصره ويَرفع من قَدره وَيُوقّره، ويكفّ عنه أذى قومه بعد أن ابتعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره، هذا وأبو طالب على دين قومه من عبادة الأوثان، وكل ذلك بقدر الله وحُسن تدبيره، إلى أن تُوفي أبو طالب قبل الهجرة بقليل، فأقدم عليه سفهاء قريش وجُهالهم، فاختار الله له الهجرة من بين أظهرهم إلى بلد الأنصار من الأوس والخزرج، كما أجرى الله سُنَّته على الوجه الأتم والأكمل، فلما وصل إليهم آوَوه ونَصَرُوه وحاطوه وقاتلوا بين يديه -رضي الله عنهم أجمعين، وكل هذا من حفظ الله له وكلاءته وعنايته به.

قوله: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا اليتيم معروف هو من مات أبوه وهو دون البلوغ في بني آدم، أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى يعني فآواك، فهنا ما قال: فآواك؛ لمراعاة الفواصل، وبعضهم يقول: من أجل أن يعم ذلك النبي ﷺ وغيره، هكذا قال بعض أهل العلم، قالوا: فإن الله آواه وآوى به أيضًا.

وقوله: وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى كقوله: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [سورة الشورى:52] الآية.

لاحظ الآن وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى هنا فسره بهذه الآية: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ، فقوله -تبارك وتعالى: وَوَجَدَكَ ضَالا أصل الضلال وحقيقته في كلام العرب: الذهاب عن حقيقة الشيء، ومن ذلك قول أبناء يعقوب له ﷺ: تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ [سورة يوسف:95]، هم لا يقصدون الضلال في الدين وإلا لكانوا كافرين في ذلك حينما يوجهون هذا إلى نبي من أنبياء الله -عليهم الصلاة والسلام، ولكن قصدوا الذهاب عن حقيقة ما جرى ليوسف -عليه الصلاة والسلام، يعني نحن نقول لك: أكله الذئب وأنت تقول: اطلبوا يوسف، تحسسوا، ابحثوا عنه إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ [سورة يوسف:94]، فلا زلت تُرجِّي مجيئه وأنه حي وقد يرجع، هنا الضلال أي الذهاب عن حقيقة ما جرى ليوسف -عليه الصلاة والسلام.

فلهذا: وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى، يعني ذاهبًا عن حقيقة الوحي والنبوة لا تدري ما الكتاب والوحي، وليس ذلك يعني أن النبي ﷺ كان على دين قومه، وهذه مسألة معروفة فيها كلام لأهل العلم في الأنبياء هل كانوا على دين قومهم أو لا؟

والعلماء يتكلمون على هذه المسألة في مواضع: من ذلك في الكلام على المناظرة التي جرت بين إبراهيم ﷺ وقومه من عبدة الكواكب حينما رأى كوكبًا فقال: هَذَا رَبِّي [سورة الأنعام:76]، والراجح أنه قال ذلك مناظرًا لا ناظرًا، يعني قال ذلك على سبيل التنزل في المناظرة فقط لا أنه كان يعتقد ربوبية الكوكب، وإن قال بهذا بعض أهل العلم، إلا أن الراجح أنه قاله مناظرًا لا ناظرًا، من باب التنزل ليلزمهم في نهاية المطاف.

وكذلك في قول المشركين لأنبيائهم -عليهم الصلاة والسلام: لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [سورة إبراهيم:13] "لتعودن" فالذين قالوا: إنهم كانوا على دين قومهم قالوا: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا أي: أنهم كانوا عليها فيرجعون إليها ثانية.

والجواب عن هذا: أن العود في كلام العرب يأتي بمعنى الرجوع إلى الشيء ثانيًا، يعني مثل أن تقول: حتى يعود اللبن في الضرع، فاللبن كان في الضرع، وتقول: عاد فلان إلى عادته، إلى سيرته، يعني السابقة التي كان عليها، وقد يأتي بمعنى مطلق الصيرورة مثل أن تقول: عاد الصبي شيخًا، وهو لم يكن كذلك، وعاد الطين خزفًا، وهو لم يكن كذلك، وعاد الماء ثلجًا، وهو لم يكن كذلك، يعني صار، وتقول مثلاً: عاد الثوب قميصًا، الثوب القماش يعني صار قميصًا بعدما قُص وفصل وخيط، فهذا المعنى الآخر للعود.

والاحتمالان في قول النبي ﷺ: لن تقوم الساعة حتى تعود جزيرة العرب مروجًا وأنهاراً[5]، يحتمل أنها كانت قبل ذلك كذلك فترجع، أو أنها تصير إلى هذا وإن لم تكن عليه في السابق.

فهنا الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- هل كانوا على دين قومهم وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى، أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا؟ الأقرب -والله أعلم- أن الأنبياء لم يكونوا على دين قومهم، لم يكونوا على الشرك، وإنما كانوا على الفطرة، وعلى أصل التوحيد، لكن التفاصيل التي جاءت عن طريق الوحي ما كانوا على علم بها حتى أوحى الله إليهم.

وقوله: وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى أي: كنت فقيرًا ذا عيال، فأغناك الله عمن سواه، فجمع له بين مقامي الفقير الصابر والغني الشاكر -صلوات الله وسلامه عليه.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ليس الغِنى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس[6].

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: قد أفلح من أسلم، ورُزق كفافًا، وقنّعه الله بما آتاه[7].

الآن هذه الفاء للتفريع على ما قبلها، فلما ذكر له هذه المنن الثلاث فرّع على ذلك هذه التوجيهات والأوامر والأحكام، فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ يعني كنت يتيمًا وذقت مرارة اليتم فلا تقهر اليتيم، لا تقهره، لا تدفعه عن حقه، ولا تنهره، فإن اليتم وذل اليتم يكفيه، يعني هو مَهِيض الجناح، كسير القلب، يحتاج إلى رعاية، يحتاج إلى مواساة، ولهذا جاء في الشرع الحث على حفظ مال اليتيم، والتحذير الشديد من أكل ماله؛ وذلك أنه ضعيف لا يستطيع أن يدفع عن حقه، فلا يُستغل لضعفه، وهكذا إذا أردت أن يرق قلبك كما قال النبي ﷺ فامسح رأس اليتيم[8].

فمسح رأس اليتيم هذا له معنى في الشرع، وهو مطلوب، كل هذا من أجل أن يشعر بالأمان، فإذا مُسح رأسه هدأت نفسه وسكنت، فهو في قلق وخوف وترقب يتخوف غوائل الناس، ويترقب منهم أنواع المكاره، فإذا مُسح رأسه سكنت نفسه، وهدأت واطمأنت، هذا الفعل اليسير البسيط تجد أن الشارع علق فيه هذا الحكم الكبير، إذا أردت أن يرق قلبك فامسح رأس اليتيم، وأطعمه من طعامك أو كما قال -عليه الصلاة والسلام.

فهنا فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ يكفيه ما هو فيه من الذل والمسكنة والضعف والكسر الذي في قلبه، يكفيه عن الزيادة على ذلك من القهر، فإن هذا القهر يجرحه ويؤذيه ويضعضع نفسه ويهدم ما تبقى فيها، فمثل هذا يحتاج إلى رعاية وأمان، والله المستعان.

ثم قال: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ أي: كما كنت يتيمًا فآواك الله فلا تقهر اليتيم، أي: لا تذله وتنهره وتُهنه، ولكن أحسِنْ إليه، وتلطف به.

قال قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم.

وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ أي: وكما كنت ضالا فهداك الله فلا تنهر السائل في العلم المسترشِد.

السائل يحتمل معنيين: السائل الذي يسأل عن العلم، وهنا ابن كثير ذكر هذا المعنى بأي اعتبار؟

هنا كل واحدة تقابل واحدة مما سبق من الأوصاف الثلاثة التي امتن الله بها على النبي ﷺ، فهنا الله -تبارك وتعالى- قال له: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، إذًا فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى فهذا الضال يحتاج إلى العلم والتبصير فيكون ذلك بالسؤال والتعليم.

فهنا قال: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ، فهذا السائل الذي يسأل عن العلم، ويدخل فيه أيضًا المعنى الآخر وهو السائل الذي يسأل المال، يعني الفقير الذي يطلب، وكلاهما بحاجة إلى اللطف؛ لأن هذا الذي يسأل عن العلم هو أيضًا يحتاج إلى رعاية ويحتاج إلى لطف به؛ لأنه يكون في حال من التوجس والترقب لا يدري ماذا سيقال له، فقد يُسخر منه، قد يُستهزأ به، قد يطرد.

يعني من الناس -نسأل الله العافية- من إذا جاءه طالب العلم أو جاءه السائل أو جاء إنسان يريد أن يستفسر أو نحو ذلك زجره زجرًا شديدًا، وعنفه من غير سبب، أنتم تضيعون أوقات العلماء، اذهب أو نحو ذلك من العبارات، وبعض طلبة العلم ألف رسالة مستقلة في الآداب والأخلاق وما إلى ذلك بسبب موقف مع بعض هؤلاء.

فالمقصود أن هذا الإنسان الذي يسأل عن العلم أو نحو ذلك هو بحاجة إلى تلطف، لا أن يقابَل بإساءة وأشياء غير لائقة، يعني أحيانًا هذا يَسأل والسماعة أحيانًا تُضرب وهو يتكلم، وما صدر منه شيء، هو تلكأ في السؤال أو ما عرف ماذا يقصد حينما رد عليه هذا الشيخ أو العالم، يستفهم منه قضية فذاك ما فهم كلمتين، -نسأل الله العافية، فظاظة وغلظة وجفاء وصلف وأخلاق صحراوية.

فالناس يحتاجون إلى شيء من التلطف، وليس بهذه الطريقة -نسأل الله العافية، فالرد على الناس بالإساءة إليهم وجرح مشاعرهم فيصبح الناس إذا أرادوا الاتصال على هذا لا يتصلون أصلاً، وإذا اتصلوا فهم لا يدرون ما سيأتيهم تُغلق السماعة بقوة في وجوههم، أو أنه سيزجرهم ويتكلم بعبارات تجرحهم ويرفع صوته عليهم، أو نحو هذا، كذلك السائل الذي يحتاج للمال يكفيه ذل السؤال والفقر والحاجة، فهو يتوجس حينما يسأل هؤلاء الناس ويطلب منهم ماذا سيقال له؛ ولهذا قال الله قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى [سورة البقرة:263]، فالكلام الطيب الحسن أفضل من العطاء الذي يكون معه أذى يؤذيه بكلام يجرحه فيه، فيدخل في هذا المعنيان وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ السائل عن العلم، والسائل عن المال.

قال ابن إسحاق:وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ أي: فلا تكن جبارًا، ولا متكبرًا، ولا فَحَّاشا، ولا فَظًّا على الضعفاء من عباد الله.

وقال قتادة: يعني رَد المسكين برحمة ولين.

وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ أي: وكما كنت عائلا فقيرًا فأغناك الله فحدث بنعمة الله عليك.

وروى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: لا يشكر الله من لا يشكر الناس[9]، ورواه الترمذي وقال: صحيح.

وروى أبو داود عن جابر عن النبي ﷺ قال: مَن أُبلِي بلاء فذكره فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره[10] تفرد به أبو داود.

آخر تفسير سورة الضحى، ولله الحمد.

قوله تبارك وتعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ الآن هذه النعم التي أنعم الله بها عليه من الإيواء بعد اليتم، والهدى بعد الضلال، والغنى بعد العيلة والفقر، وأعظم من ذلك جميعًا النبوة، قال: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ بعضهم قال: النعمة هنا هي الوحي، أو النبوة حدِّثْ بها: علم الناس، بلغ، وبعضهم يقول: بالدعوة إلى الله -تبارك وتعالى، والنعمة هنا أعم من ذلك كله، والنعم التي يعطاها الإنسان يكون التحديث بها على نوعين:

النوع الأول: المجمل كأن يقول: أنا في نعمة، أنا بخير، أنا بعافية، الله حباني، وأعطاني وهداني وآواني وكفاني ونحو ذلك، فهذا مطلوب من العبد، يجب عليه أن يحدث بنعمة الله -تبارك وتعالى- ولا يكون جاحدًا لها، وذلك إما أن لا يتكلم بهذا أصلا كأن الله لم ينعم عليه قط، أو يكون جاحدًا لذلك بلسانه ومقاله  -نسأل الله العافية.

مثل بعض الناس قد يكون لخوف العين أو نحو هذا، قد تقول المرأة دائمًا: هؤلاء الأولاد دائمًا في أوصاب وعلل، ودائمًا مرضى، ما يكاد هذا الولد يفيق من العلة، من المرض، هو ضعيف، هو مريض، وليس به بأس لكنها تقول هذا خوفًا عليه من العين، فدائمًا تتحدث عند الآخرين بهذا، وقد تتحدث عن دراسته عن كذا فتقول: هذا الولد لا يكاد يفلح في دراسته، دائمًا هو في تعثر، والولد هو الأول فهي تقول هذا خوفًا عليه من العين.

وقد يقول هو هذا عن نفسه يقول: أنا مثلاً لم أستعد لهذا الاختبار، لم أؤدِّ فيه الأداء الجيد، بينما هو لا تراه الشمس لمدة أسابيع قبل الاختبار، وقد حفظه عن ظهر قلب، ويأتي بأعلى درجة، وزملاؤه هؤلاء الذين يرثون له، ويتكلمون في مواساته، ولماذا فعلت هذا بنفسك؟ وإن شاء الله تتجاوز هذا المقرر ما علموا أنه بينهم من البون الشاسع الشيء الكثير، هذا للأسف يحصل ويتكرر كثيرًا لدى بعض الجاحدين لنعم الله -تبارك وتعالى.

وهذا في صور وأشكال كلٌّ بحسب حاله، والله المستعان.

النوع الثاني من التحديث بالنعم: أن يكون على سبيل التفصيل، وهذا ليس بلازم، فهؤلاء الذين يخشون على أنفسهم من العين لا يشترط أنه يتحدث عن التفاصيل، يكفي أن يقول: أنا بخير، أنا بعافية، أحمد الله ، ولا يشترط أن يذكر كل التفاصيل في حياته مما هو فيه من نعمة إذا كان يتخوف الضرر، والله المستعان.

  1. رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي، وأول ما نزل، برقم (4983)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي ﷺ من أذى المشركين والمنافقين، برقم (1797)، وأحمد في المسند، برقم (18804)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  2. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، برقم (4950)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي ﷺ من أذى المشركين والمنافقين، برقم (1797).
  3. رواه الترمذي، في أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، برقم (2377)، وأحمد في المسند، برقم (4208)، وقال محققوه: "صحيح، وهذا إسناد حسن"، والحاكم في المستدرك، برقم (7858)، وقال محققوه: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5668)، وفي السلسلة الصحيحة، برقم (438).
  4. تفسير الطبري (24/ 487).
  5. رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب الترغيب في الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها، برقم (1013).
  6. رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب الغنى غنى النفس، برقم (6446)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ليس الغنى عن كثرة العرض، برقم (1051).
  7. رواه البخاري، كتاب الرقائق، باب الغنى غنى النفس، برقم (6446)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ليس الغنى عن كثرة العرض، برقم (1051).
  8. رواه أحمد في المسند، برقم (7576)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح غير أبي كامل -وهو مظفر بن مدرك الخراساني- فقد روى له أبو داود في "التفرد" والنسائي، وهو ثقة"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (854)، وحسنه في صحيح الجامع، برقم (1410).
  9. رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في شكر المعروف، برقم (4811)، والترمذي، أبواب البر والصلة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك، برقم (1954)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6601)، وفي السلسلة الصحيحة، برقم (416).
  10. رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في شكر المعروف، برقم (4814)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (618).

مواد ذات صلة