السبت 28 / جمادى الأولى / 1446 - 30 / نوفمبر 2024
[6] من قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} الآية:74 إلى آخر السورة
تاريخ النشر: ٠٦ / رجب / ١٤٣٤
التحميل: 5401
مرات الإستماع: 5333

بسم الله الرحمن الرحيم

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ۝ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ۝ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ۝ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ۝ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ۝ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ۝ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [سورة الزخرف:74-80].

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله النبي الأمين، نبينا محمد، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، وبعد.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا ولوالدينا وللحاضرين، يقول ابن كثير -رحمه الله:

لما ذكر تعالى حال السعداء ثنّى بذكر الأشقياء، فقال: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ۝ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ أي: ساعة واحدة وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ أي: آيسون من كل خير، وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ أي: بأعمالهم السيئة بعد قيام الحجج عليهم وإرسال الرسل إليهم، فكذبوا وعصوا، فجوزوا بذلك جزاء وفاقًا، وما ربك بظلام للعبيد.

وَنَادَوْا يَا مَالِكُ وهو: خازن النار.

روى البخاري حدثنا حجاج بن مِنْهال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقرأ على المنبر: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ أي: ليقبض أرواحنا فيريحنا مما نحن فيه، فإنهم كما قال تعالى: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [سورة فاطر:36]، وقال: وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى ۝ الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ۝ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى [سورة الأعلى:11-13]، فلما سألوا أن يموتوا أجابهم مالك قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ أي: لا خروج لكم منها ولا محيد لكم عنها.

ثم ذكر سبب شقوتهم وهو مخالفتهم للحق، ومعاندتهم له فقال: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ أي: بيناه لكم ووضحناه وفسرناه، وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ أي: ولكن كانت سجاياكم لا تقبله ولا تقبل عليه، وإنما تنقاد للباطل وتعظمه، وتصد عن الحق وتأباه، وتبغض أهله، فعودوا على أنفسكم بالملامة، واندموا حيث لا تنفعكم الندامة.

ثم قال تعالى: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ قال مجاهد: أرادوا كيد شر فكدناهم.

وهذا الذي قاله مجاهد كما قال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [سورة النمل:50]، وذلك لأن المشركين كانوا يتحيلون في رد الحق بالباطل بحيل ومكر يسلكونه، فكادهم الله، ورد وبال ذلك عليهم؛ ولهذا قال: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ أي: سرهم وعلانيتهم، بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ أي: نحن نعلم ما هم عليه، والملائكة أيضًا يكتبون أعمالهم، صغيرها وكبيرها.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ۝ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ قال: أي: ساعة واحدة، الفتور معناه الضعف، هذا في أصله، والمراد لا يُفَتَّرُ أي: لا يخفف عنهم.

وقوله -تبارك وتعالى: وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ مضى الكلام على هذا، وعرفنا معنى الإبلاس، قال هنا: آيسون من كل خير، فالمبلس هو الذي حصل له اليأس من النجاة، وصار قانطًا فاستسلم للعذاب فغلب عليه الوجوم والسكوت، يعني المبلس الذي حصل له يأس، وقع في جريرة ذنبه، وانقطع رجاؤه من الخلاص فسكن واستسلم لمصيره والعذاب الذي ينتظره، فالإبلاس فيه هذا وهذا، أي يأس يحصل معه السكوت لانقطاع الرجاء هذا هو الإبلاس.

وبعضهم يفسره ببعض معناه، يعني بعضهم يقول: ساكتون، وبعضهم يقول: آيسون، فهذا تفسير ببعض المعنى، وإلا فإن المعنى يشمل هذا وهذا، أي سكوت مع يأس، ليس كل ساكت يقال له: مبلس، وليس كل يائس يقال: مبلس، السكوت الذي ينقطع معه الرجاء، انقطاع الرجاء الذي يعقبه أو يحصل معه السكوت والاستسلام للمصير هذا هو الإبلاس.

وقوله: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ هم يتمنون أن يخفف عنهم من العذاب الذي لا يفتر، ولهذا تارة يطلبون من خزنة جهنم أن يدعوا الله لهم أن يخفف عنهم بعض العذاب، ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ [سورة غافر:49]، فهم يتمنون تخفيف العذاب، وتارة يطلبون منهم الموت وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ يتمنون الموت

كفى بك داءً أن ترى الموتَ شافيًا وحسبُ المنايا أنْ يكنّ أمانيا

فإنه لا يطلب الموت ويتمنى الموت من كان في حال مرضية -نسأل الله العافية.

قال الله تعالى: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ يرِدُ سؤال أن هؤلاء جميعًا كانوا كارهين للحق، وهنا قال: وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ فبعض أهل العلم يقول: ولكن أكثركم أي: الجميع، أي: كلكم، والعرب تعبر بالكثرة وتريد بها الكل، "ولكن أكثر الناس" هذا يرد أحيانًا ويراد به الكل، ويحتمل معانيَ أخرى.

يعني بعضهم يقول: هو على ظاهره وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ، هؤلاء هم الكبراء والقادة والرؤساء، وأما البقية فهم تبع لهم يقلدونهم، ويأتمرون بأمرهم، ويسيرون خلفهم، فالذين كرهوا الحق هم الكبراء الذين خافوا على رئاساتهم، وأما الأتباع فهم خلفهم يسيرون، هكذا قال بعض أهل العلم، ويحتمل هذا.

أما قوله -تبارك وتعالى: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ نقل عن مجاهد: أرادوا كيد شر فكدناهم، "أم" هنا قبل الإبرام أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ "أم" هذه هي المنقطعة بمعنى بل والهمزة أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا، الإبرام ما معناه؟ الإبرام هو الإتقان، أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا يعني بل أحكموا كيدًا للنبي ﷺ وللحق الذي جاءهم به، فَإِنَّا مُبْرِمُونَ.

ولهذا فسرها ابن كثير -رحمه الله- بالآية الأخرى: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا، إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ۝ وَأَكِيدُ كَيْدًا [سورة الطارق: 16]، أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا أي: كيدًا أحكموا، تقول: أبرم هذا الأمر يعني أحكمه وأتقنه يعني خطط له بإتقان، فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ۝ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ يعني حينما يخططون ويبرمون في كيدهم للحق فالله -تبارك وتعالى- يقول: أَمْ يَحْسَبُونَ و"أم" هذه أيضًا منقطعة بمعنى بل والهمزة، فالله -تبارك وتعالى- عالم بما يقع من هؤلاء الأعداء من الكيد للحق بجميع صنوفه، ما يكون منه في السر، وما يكون منه في العلانية، والله -تبارك وتعالى- كفيل بإبطاله وإزهاقه، وذلك أن كيدهم في ضلال، وأنهم لا يضرون إلا أنفسهم بهذا الكيد.

قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ۝ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ۝ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ۝ وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ۝ وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۝ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ۝ وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ۝ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [سورة الزخرف:81-89].

يقول تعالى: قُلْ يا محمد، إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ أي: لو فرض هذا لعبدته على ذلك؛ لأني عبد من عبيده، مطيع لجميع ما يأمرني به، ليس عندي استكبار ولا إباء عن عبادته، فلو فرض هذا لكان هذا، ولكن هذا ممتنع في حقه تعالى، والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضا، كما قال تعالى: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [سورة الزمر:4].

ولهذا قال: سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ.

قوله -تبارك وتعالى: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ابن كثير -رحمه الله- هنا فسره بأنا أول العابدين لهذا الولد؛ لأن الولد إنما هو بضعة من الوالد، فلو كان للرحمن ولد -تعالى وتقدس عن ذلك علوًّا كبيرًا- لكان هذا الولد إلهًا، فيقول: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ثم يذكر هذه القاعدة وهي: أن الشرط لا يقتضي الوقوع بل ولا الإمكان، علق على شرط لا يقتضي وقوعه بل ولا إمكانه، فما محمل ذلك عند من فسره بهذا كما يقول ابن كثير -رحمه الله- وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير أيضًا؟

محمل هذا أنه على سبيل التنزل وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [سورة سبأ:24] من باب التنزل يقول لهم ذلك، وإلا فإن هذا الأمر من قبيل المحال، وهذه القاعدة في غاية الأهمية، التعليق على الشرط لا يقتضي الوقوع ولا الإمكان إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ لاسيما التعبير بـ"إنْ" بدلاً من "إذا"، وفرق بينهما تقول: إن حصل كذا أعطيتك كذا؛ لأن هذا الأمر في غاية البعد، إن حصل، لكن إذا قلت: "إذا" فهذا أقرب في الحصول.

والعلماء -رحمهم الله- في هذا لهم أقوال متعددة، لأن بعضهم يقول: إن المعنى إن كان للرحمن ولد كما تزعمون فأنا أول العابدين لله ، هذا قال به جمع من العلماء من السلف فمن بعدهم، فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ يعني لربي وخالقي ، فأنا أول من عبد الله وحده دونما سواه، وهذا الذي اختاره ابن قتيبة -رحمه الله، وهذا المعنى أيضًا محتمل مع أن ما ذكره ابن جرير وابن كثير كأنه هو المتبادر إلى الأذهان.

وبعضهم يقول: إنّ "إنْ" هذه نافية وليست شرطية أصلاً، إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ ثم ينتهي الكلام هنا، يعني ما كان للرحمن ولد

إنْ هو مستوليًا على أحدٍ إلا على أضعفِ المجانين

يعني ما هو بمستول على أحد، "إنْ" تأتي نافية فيقولون: إن المعنى هكذا إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ ما كان للرحمن ولد، ثم يبدأ كلام جديد: فأنا أول العابدين لله.

وهذا وإن كان صحيحًا من جهة اللغة إلا أنه خلاف المتبادر، والقرآن الأصل أن يفسر بالظاهر المتبادر إلا لدليل، وعلى قول ابن كثير وقبله ابن جرير يقولون: هذا أبلغ بالنفي، يعني مثل هذا التعليق على شرط إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ يعني كما تقول لمن خالفك: إن كان ما تقول حقًّا فأنا سأكون أول من يوافقك ويتبعك عليه، بمعنى أنك في غاية الوثوق من أن هذا الأمر لا صحة له ولا أساس، وكما سبق أنه يكون على سبيل التنزل.

وبعضهم يفسره بمعنى آخر تمامًا يقول: إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ يقول: معنى العابدين يعني الآنفين، وهذا المعنى صحيح في اللغة؛ لأنه يأتي بمعنى الأنفة، لكنه قليل في الاستعمال، والأصل أن يفسر القرآن بالغالب المشهور لا بالمعنى المغمور، معنى هذا الكلام: إن كان للرحمن ولد فأنا أول من يأنف من عبادة هذا الولد ويستنكف من ذلك، يعني أصل المعنى صحيح في اللغة، جمع من أهل اللغة ومن أصحاب المعاني قالوا بهذا، فسروه بالأنفة، ولكن كما سبق قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ فبقي أن الأشهر في تفسير الآية قول من قال كابن كثير وابن جرير: فأنا أول العابدين لهذا الولد، على سبيل التنزل، أن التعليق على شرط لا يقتضي الوقوع بل ولا الإمكان، والقول الثاني: فأنا أول العابدين لله، والأقوال الباقية فيها بُعد، والله أعلم.

يقول: ولهذا قال تعالى: سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ هذا يحتمل أنه من تمام كلام الرسول ﷺ كما علمه ربه -تبارك وتعالى- قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ۝ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ

ويحتمل أن يكون من كلام الله ، يعني ينتهي كلام الرسول -عليه الصلاة والسلام- عند فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ، ثم قال الله منزهًا نفسه: سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ فيكون من قبيل الموصول لفظًا المفصول معنى.

أي: تعالى وتقدس وتنزه خالق الأشياء عن أن يكون له ولد، فإنه فرد أحد صمد، لا نظير له ولا كفء له، فلا ولد له.

وقوله: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا أي: في جهلهم وضلالهم وَيَلْعَبُوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ وهو يوم القيامة، أي: فسوف يعلمون كيف يكون مصيرهم، ومآلهم، وحالهم في ذلك اليوم.

وبعضهم يقول: إن اليوم الذي كانوا يوعدون المقصود به العذاب في الدنيا، ولكن ما ذكره ابن كثير -رحمه الله- كأنه هو الأقرب، والله تعالى أعلم.

وقوله: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ أي: هو إله من في السماء، وإله من في الأرض، يعبده أهلهما، وكلهم خاضعون له، أذلاء بين يديه، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ

وهذه الآية كقوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [سورة الأنعام:3] أي: هو المدعو الله في السموات والأرض.

وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا أي: هو خالقهما ومالكهما والمتصرف فيهما، بلا مدافعة ولا ممانعة، فسبحانه وتعالى عن الولد، وتبارك: أي استقر له السلامة من العيوب والنقائص؛ لأنه الرب العلي العظيم، المالك للأشياء، الذي بيده أزمّة الأمور نقضًا وإبرامًا، وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي: لا يجليها لوقتها إلا هو، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي: فيجازي كلًّا بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.

قوله -تبارك وتعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ هنا يقول: هو إله من في السماء، وإله من في الأرض فيعبده أهلهما بمعنى أنه هو المألوه في السماء والمألوه في الأرض، يألهه أهل السماء ويألهه أهل الأرض، والألوهة هي العُبودة، يعني العبادة لله -تبارك وتعالى، ويكون الجار والمجرور في الموضعين "في السماء" "وفي الأرض" كله يتعلق بقوله: "إله" يعني في السماء إله وفي الأرض إله، يألهه أهل السماء يعني يعبده أهل السماء، ويألهه أهل الأرض هذا المعنى الذي ذكره ابن كثير وابن جرير -رحمهما الله تعالى.

أو أن المقصود أنه المستحق للعبادة في السماء والأرض، وبعضهم يقول: إن قوله: "إله" في الموضعين مرفوع على أنه خبر، يعني وهو الذي في السماء هو إله، وفي الأرض هو إله، يعني أنه يُدعى الإله، أو أنه مألوه في السماء وفي الأرض، أنه خبر لمبتدأ محذوف كما يقوله أبو علي الفارسي، فالمعنى واضح، "وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله" ليس معناه أن الله -تعالى وتقدس- حالٌّ في الأرض، وإنما هو مألوه في الأرض، يدعوه أهل الأرض بذلك، يألهونه يعني يعبدونه.

ثم قال تعالى: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي: من الأصنام والأوثان الشَّفَاعَةَ أي: لا يقدرون على الشفاعة لهم، إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ هذا استثناء منقطع، أي: لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له.

قوله -تبارك وتعالى: وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ يقول: هذا استثناء منقطع أي: لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له.

والاستثناء المنقطع معناه أن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، فمعنى ذلك أن النفي هنا على حاله يعني على العموم؛ لأن ذات النفي لما دخلت على الفعل أفاد ذلك العموم، لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة، فيكون على عمومه، لا يُستثنى منه شيء، فهؤلاء من المعبودات الباطلة من دون الله -تبارك وتعالى- لا تملك الشفاعة، لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم فإنه تنفع شفاعته عنده.

وتحديد الاستثناء أنه متصل أو منقطع باعتبار المراد بالمنفي هنا أو المراد بمن نفيت عنه الشفاعة من هو، فإذا قيل: إن المقصود بذلك الآلهة الباطلة التي يدعونها من دون الله -تبارك وتعالى- يكون الاستثناء منقطعًا كما قال ابن كثير -رحمه الله، فهم يدعون الأصنام الأوثان فهذه لا تملك الشفاعة، فيكون الاستثناء منقطعًا، ويحتمل أن يكون الاستثناء متصلاً وذلك بأحد اعتبارين:

الأول: أن يكون المراد بقوله: وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ على سبيل العموم، عموم ما يعبد من دون الله ، واستثنى من هؤلاء إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ الملائكة، عزير، المسيح -عليهما الصلاة والسلام، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله؛ لأن ظاهره العموم وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ يعني كل ما يدعى من دون الله لا يملك الشفاعة، إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فهؤلاء الذين يُدعون من دون الله منهم الملائكة، ومنهم المسيح -عليه الصلاة والسلام، فيكون الاستثناء متصلاً إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ يعني استثني من هؤلاء المدعوين من كان بهذه الصفة، هذا اختيار ابن جرير -رحمه الله.

 الاعتبار الثاني في كونه متصلاً إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ يعني لا يملكون الشفاعة إلا من شهد بالحق، يعني لا يشفعون إلا لمن ارتضى، فيكون الكلام في قوله: وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ في هؤلاء الكرام الذين عُبدوا من دون الله وهم الملائكة وعزير والمسيح، فهم لا يشفعون إلا لمن كان بهذه الصفة إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ يعني لا يشفعون إلا لمن ارتضى، فإن الشفاعة يشترط فيها إذن الله -تبارك وتعالى- للشافع ورضاه أيضًا عن المشفوع له، ولا شك أن الشفاعة جميعًا لله كما قال: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا [سورة الزمر:44] فهو الذي يملكها ولكنه يأذن لمن شاء، فهنا وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ فيمكن أن يبقى هذا النفي على حاله من العموم؛ لأن الذي يملك الشفاعة هو الله، فلا حاجة إذًا لعبادة هؤلاء من أجل أن يكونوا شفعاء عند الله -تبارك وتعالى، هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [سورة يونس:18] هكذا كانوا يعبدونهم ويعللون هذه العبادة، فالذي يملك الشفاعة هو الله فيُتوجه بالعبادة إليه، لكن من شهد بالحق، فيكون الاستثناء منقطعًا أيضًا بهذا الاعتبار، وهذا وجه جيد، والله تعالى أعلم.

وأبعد هذه الاحتمالات هو أن يكون ذلك إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ في المشفوع له، إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [سورة الأنبياء:28] هنا في هذه الآية، وأما حصر هذا العموم بنوع من هؤلاء المدعوين من دون الله كالمسيح والملائكة ونحو ذلك فليس عليه دليل يوجب هذا الحصر، وإنما ظاهر الآية العموم، فهم يعبدون الأوثان. 

وقول من قال: إن ذلك في المعبودات الباطلة فيكون الاستثناء منقطعًا بهذا الاعتبار كما هو ظاهر كلام ابن كثير -رحمه الله- أقرب من القول بأن ذلك في الملائكة والمسيح وعزير؛ لأن هذا الخطاب للمشركين ولم يكونوا يعبدون المسيح -عليه الصلاة والسلام- ولا عزيرًا، بل حتى قريشًا لم يكونوا يعبدون الملائكة، وإنما الذين عبدوا الملائكة هم بعض العرب.

ولو نظرتم في تاريخ العرب وأديان العرب ومعبودات العرب انظر مثلاً كتاب "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" لعلي جواد، عراقي، هذا كتاب كبير في نحو عشرة مجلدات فيه كل شيء عن العرب، كل ما تريد، إن أردت الآلهة المعبودة من دون الله، إن أردت المناسك، إن أردت التلبية، إن أردت المواضع التي يذبحون عندها، إن أردت الطقوس التي كانوا يفعلونها في مناسكهم، إن أردت الأسواق عندهم إلى غير ذلك من أحوالهم المتنوعة، كل ما تريد، هذا من أجمع الكتب في تاريخ العرب.

وهناك كتاب آخر في تاريخ العرب لـ البجاوي ومن معه -ثلاثة مؤلفين، هو كتاب مفيد جيد في أربعة مجلدات، وقبل ذلك كتاب "الأصنام" لابن الكلبي، وهناك كتب أيضًا معاصرة في معبودات العرب قبل الإسلام، كتاب اسمه "الشرك" للميري، هذا أظنه جزائري، كتاب جيد، وتكلم أيضًا عن معبودات العرب، لكن هناك كتب خاصة في معبودات العرب، وكتب في أحوال العرب بالتفصيل، يعني هذا الكتاب الذي ذكرته آنفًا هو أجمعها، وهناك كتاب أيضًا معاصر آخر أظن اسمه "الشرك" أيضًا، و"معبودات العرب قبل الإسلام" غلاف حوالي مائتي صفحة، مفيد، جمع كثيرًا في هذه الجزئية، فالمقصود مثلا أن الذين عبدوا الملائكة من هم في بطون العرب؟ يقول لك: بنو فلان، وبنو فلان، وبنو فلان، لم تكن قريش ممن عبد الملائكة، لكن بعض العرب عبدوهم.

ثم قال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أي: ولئن سألت هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ أي: هم يعترفون أنه الخالق للأشياء جميعها، وحده لا شريك له في ذلك، ومع هذا يعبدون معه غيره ممن لا يملك شيئًا ولا يقدر على شيء، فهم في ذلك في غاية الجهل والسفاهة وسخافة العقل؛ ولهذا قال: فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ.

وقوله: وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ أي: وقال محمد ﷺ قيله، أي: شكا إلى ربه شكواه من قومه الذين كذبوه، فقال: يا رب، إن هؤلاء قوم لا يؤمنون، كما أخبر تعالى في الآية الأخرى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [سورة الفرقان:30]، وهذا الذي قلناه هو قول ابن مسعود ، ومجاهد، وقتادة، وعليه فسر ابن جرير.

قال البخاري: وقرأ عبد الله -يعني ابن مسعود : وقال الرسول يا رب.

وقال مجاهد في قوله: وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ، قال: يُؤْثِر الله قول محمد ﷺ.

وقال قتادة: هو قول نبيكم ﷺ يشكو قومه إلى ربه .

الآن في قوله -تبارك وتعالى: وَقِيلِهِ يَا رَبِّ في قراءة عاصم وحمزة، وقراءة الجمهور وَقِيلَهَ يَا رَبِّ ابن كثير هنا يقول: أي: وقال محمد ﷺ قيله أي شكا إلى ربه شكواه من قومه الذين كذبوه، وذكر من قال بهذا القول أنه مشى عليه ابن جرير -رحمه الله، "وقيلِه" "وقيلَه" على قراءة الجمهور، بعضهم يقول: إن هذا -يعني "وقيلَه" على قراءة النصب- معطوف على محل الساعة، وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ فإذا وضعت "قيله" مكان "الساعة" يكون وعنده علمُ قيلَه، على المحل وليس على اللفظ؛ لأن اللفظ مضاف إليه مجرور، عِلْمُ السَّاعَةِ علم قيله، على المحل محل الساعة، يعني يعلم الساعةَ ويعلم قيلَه، القيل والقول والقال بمعنى واحد، ولذلك تجد ابن جرير -رحمه الله- يقول مثلاً: وقِيلُ اللهِ ، يعني وقول الله ، وهذا القيل فيه كذا وكذا، يعني وهذا القول، هذه لغة عربية فصيحة مستعملة في القرآن، "وقيلِه" "وقيلَه".

فعلى قراءة الجمهور بعضهم يقول: إن ذلك معطوف على محل الساعة، وعنده علم قيلَه، على المحل المنصوب، وعلم قيلِه؛ لأنه مضاف إليه مجرور، علم الساعةِ، وإلا فالأصل يعلم الساعةَ، فالمحل باعتبار المفعولية، فهذا احتمال، يعني أنه يعلم الساعةَ ويعلم قيلَه، يعني قول النبي ﷺ: "يا رب إن هؤلاء.."، وهذا قال به بعض أصحاب المعاني مثل المبرد، وهو أيضًا اختيار ابن الأنباري، "وقيلَه" لكن لاحظوا البُعد، والذهن لا يذهب إلى هذا، يعلم علمَ الساعة وقيلَه يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون.

وبعضهم يقول: إنه يرجع على هذه القراءة -قراءة الجمهور بالنصب- إلى قوله: "سرهم ونجواهم" في أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ يعني وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون، فهذا أيضًا الذهن لا يتبادر إليه وإن قال به بعض أصحاب المعاني وهم أئمة في اللغة كالفراء والأخفش، وبعضهم يقول: إنه يرجع إلى قوله: يَكْتُبُونَ، بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ يكتبون قيلَه، يعني يكتبون ماذا؟ المفعول محذوف يكتبون أعمالهم مثلاً، يكتبون قولهم، كلامهم، يكتبون ما يصدر عنهم، فيكون هذا يعود إلى المفعول المحذوف، أي يكتبون ما يصدر عنهم وقيلَه، يعني يكتبون أيضًا قيلَه، وهذا فيه بُعد -والله أعلم.

وبعضهم يقول: إنه يعود على مفعول يعلمون قال: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ يعني يعلمون ذلك ويعلمون قيلَه، وهذا بعيد، وبعضهم يقول: إنه مصدر، أي: وقال قيلَه، تقول: قال قولاً وقال قيلاً، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [سورة المزمل:6] يعني قولاً على اعتبار أنه مصدر، أو وقيلَه -هذا كله على النصب- باعتبار مقدر محذوف أي ويعلم قيلَه يا رب، يعني باعتبار أنه ما يتصل بشيء سبق مما ذكر قبله في الآيات، ولكنه معمول لفعل محذوف مقدر، يعلم قيلَه، أو يتعلق بقوله: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وبقيلِه.

لكن هذا أيضًا لا يخلو من بُعد، إلى غير ذلك من الأقاويل، وكون هذا يبدأ كلامًا جديدًا هو المتبادر -والله تعالى أعلم، وهذا الذي مشى عليه ابن جرير وابن كثير، وهذه القراءة التي نقرأ بها وَقِيلِهِ بالجر كذلك بعضهم يقول: إنه معطوف على لفظ "الساعة"، هناك على المحل وهنا على اللفظ وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وعلم قيلِه، علمُ قول النبي -عليه الصلاة والسلام: يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ، القال والقول والقيل كلها بمعنى واحد، قلت قولاً وقيلاً وقالاً، الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- على هذه القراءة قريب وهو المتبادر -والله تعالى أعلم.

وقوله: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ أي: المشركين، وَقُلْ سَلامٌ أي: لا تجاوبهم بمثل ما يخاطبونك به من الكلام السيئ، ولكن تألفهم واصفح عنهم فعلا وقولا.

نحن عرفنا الصفح وأنه إعطاء صفحة العنق بمعنى لا تقف ولا تعاتب، وإنما الإعراض، بعض المفسرين في مثل هذه المواضع يقولون: منسوخة بآية السيف، وأنه لا صفح ولا عفو، وذلك ليس بصحيح.

 فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، هذا تهديد منه تعالى لهم، ولهذا أحل بهم بأسه الذي لا يرد، وأعلى دينه وكلمته، وشرع بعد ذلك الجهاد والجِلاد، حتى دخل الناس في دين الله أفواجًا، وانتشر الإسلام في المشارق والمغارب، والله أعلم.

آخر تفسير سورة الزخرف.

الآن في قوله: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ هذا إخبار لهم بالسلامة منه لا إلقاء التحية، يعني أنه لا يصل إليهم أذى منه، وإن حصل منهم من المشركين أذى للنبي ﷺ فهو لا يجازيهم بالسوء، لا يجازيهم بالمثل، سلام بمعنى سلمتم منا لا نسافهكم ولا نعاملكم كمعاملتكم لنا فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ يعني هذا فيه تهديد، أعرِضْ عنهم، ولا تقابل الإساءة بالإساءة، كما في قوله -تبارك وتعالى: وَدَعْ أَذَاهُمْ [سورة الأحزاب:48] على أحد المعنيين كما سبق في سورة الأحزاب:

المعنى الأول: لا تلتفت إلى أذاهم فيقعدك ذلك عما أنت بصدده، ولا تكترث بإساءتهم.

والمعنى الثاني: دع أذاهم يعني لا توصل إليهم الأذى، اتركهم لا تقابلهم بالمثل.

تفسير سورة الدخان

وهي مكية.

وفي مسند البزار من رواية أبي الطفيل عامر بن واثلة عن زيد بن حارثة أن رسول الله ﷺ قال لابن صَيَّاد: إني قد خبّأت خبئًا فما هو؟، وخبّأ له رسول الله ﷺ سورة الدخان، فقال: هو الدُّخُّ، فقال: اخسأ، ما شاء الله كان[1]، ثم انصرف.

نعم، يعني أن الكهان كانت تلقي عليهم الشياطينُ الكلمة فيختطفونها، تُلقَى سريعًا فأراد أن يقول: الدخان، فعبر ببعض الكلمة، إما أن هذه عادة الكهان أنهم يعبرون هكذا ببعض الكلمة يجتزئون الكلام، أو أنه لم يدرك ذلك ويعيه حينما تخطفه وتلقفه من الشيطان، فقال: هو الدُّخ، فقال النبي ﷺ: اخسأ فلن تعدو قدرك[2] يعني أنت كاهن، أراد النبي ﷺ أن يختبره، كانوا يظنون أنه يُشك فيه أنه هو المسيح الدجال.

  1. لم أجده في مسند البزار.
  2. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب كيف يعرض الإسلام على الصبي، برقم (3055)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد، برقم (2924).

مواد ذات صلة