السبت 28 / جمادى الأولى / 1446 - 30 / نوفمبر 2024
سورة الزلزلة كاملة
تاريخ النشر: ١٩ / ذو الحجة / ١٤٣٤
التحميل: 5978
مرات الإستماع: 6798

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لي ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.

قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله:

تفسير سورة: إذا زلزلت، وهي مكية.

روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: أتى رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: أقرئني يا رسول الله، قال له: اقرأ ثلاثًا من ذوات ألف لام راء فقال له الرجل: كبر سني، واشتد قلبي، وغلظ لساني، قال: فاقرأ من ذوات حم فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى، فَقَالَ: اقْرَأْ ثَلَاثًا مِنَ الْمُسَبِّحَاتِ فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَلَكِنْ أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ سُورَةً جَامِعَةً، فَأَقْرَأَهُ: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا [سورة الزلزلة:1] حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهَا قَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بالحق نبيًّا لَا أَزْيَدُ عَلَيْهَا أَبَدًا، ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجْلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ، أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ، ثُمَّ قَالَ: عَلَيَّ بِهِ فَجَاءَهُ، فَقَالَ لَهُ: أُمِرْتُ بِيَوْمِ الْأَضْحَى جَعَلَهُ اللَّهُ عِيدًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أَجِدْ إِلَّا مَنِيحَةَ أُنْثَى فَأُضَحِّي بِهَا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّكَ تَأْخُذُ من شعرك، وتقلم أظافرك، وَتَقُصُّ شَارِبَكَ، وَتَحْلِقُ عَانَتَكَ، فَذَاكَ تَمَامُ أُضْحِيَتِكَ عِنْدَ اللَّهِ -عز وجل[1]، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ والنسائي.

هذا الحديث فيه ضعف في إسناده، وبعض أهل العلم حسنه، وبهذا الاعتبار أدخله المختصِر لهذا التفسير.

هذه السورة سورة إذا زلزلت، ابن كثير -رحمه الله- يقول: "هي مكية" وهذا ليس محل اتفاق، هذا مروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وقال به جماعة، وهو مروي أيضًا عن ابن مسعود وعطاء ومجاهد والضحاك، وهذا الذي اقتصر عليه أيضًا البغوي والواحدي، وهو الذي رجحه ابن عاشور.

لكن أيضًا يروى عن ابن عباس أنها: مدنية، وبهذا قال أيضًا قتادة ومقاتل.

هذه السورة تتحدث عن الأرض وعن شأنها وأهلها عند قيام الساعة، حيث يحصل لها من الزلزلة، وتحدث أخبارها، وما يكون عليه الناس بعد أن تلقي ما في بطنها من الأموات، وغير ذلك، فيصدرون مصادر شتى، ويجازون على أعمالهم.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها ۝ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ۝ وَقالَ الْإِنْسانُ مَا لَها ۝ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها ۝ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها ۝ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ ۝ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة:1- 8].

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها أَيْ: تَحَرَّكَتْ مِنْ أَسْفَلِهَا.

وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها يَعْنِي أَلْقَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْمَوْتَى، قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ.

وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [سورة الْحَج:1].

وَكَقَوْلِهِ: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ۝ وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ [سورة الِانْشِقَاقِ:3، 4].

وروى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: تلقي الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ الْأُسْطُوَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَتَلْتُ، وَيَجِيءُ الْقَاطِعُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَطَعْتُ رَحِمِي، وَيَجِيءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قُطِعَتْ يَدِي، ثُمَّ يَدَعُونَهُ فَلَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا[2].

قوله -تبارك وتعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا، قال عن ابن عباس -رضي الله عنهما: "تحركت من أسفلها".

[سورة الزلزلة: هذه المواد التي تتكرر فيها الحروف: الجلجلة، الصلصلة، الزلزلة، ونحو ذلك.

هذا يدل على تكرر، فإنّ تكرر الحروف يدل على تكرر في المضمون، فحينما تتزلزل الأرض معنى ذلك: أنها تتحرك وتضطرب.

فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة: يهوي.

الصلصلة: صوت يتكرر، صوت كصوت السلسلة، يقال له: "صلصلة".

لاحظ: تكرر الحروف: الصاد واللام، صَلْصَلَ، زَلْزَلَ، جَلْجَلَ، وما إلى ذلك.

فهذا يدل على تكرر، فهذه الحركة المتكررة الشديدة هي الزلزلة، وهي معروفة.

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا هذه الزلزلة التي أخبر الله -تبارك وتعالى- عنها ذهب بعض أهل العلم إلى أنها في النفخة إبان قيام الساعة، تحصل زلزلة واضطراب للأرض، حمله مجاهد -وهو ظاهر كلام ابن جرير- على أن ذلك عند النفخة الأولى، حيث تتغير أحوال هذا العالم العلوي والسفلي، وتحصل هذه الزلزلة.

وقد مضى الكلام على قوله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ۝ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ.

وباعتبار: أن الراجفة هي النفخة الأولى، والرادفة الثانية.

وإِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا أكد هذه الزلزلة بالمصدر، فدل ذلك على أنها زلزلة حقيقية، وليست معنوية، يعني ليست مثلاً من قبيل الخوف الكثير الذي يحصل في نفوس الناس، فهذا زلزلة، يقال: حصل للناس زلزلة، الخبر زلزل النفوس، لكن هنا زلزلة حقيقية، وليست بمعنى الخوف العظيم الذي يقع مثلاً في نفوس الناس، هذا واقع، لكن التأكيد بالمصدر ينفي احتمال المجاز.

هذه قاعدة: التأكيد بالمصدر ينفي احتمال المجاز.

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا زلزلت زلزلة حقيقية، وأضاف هذا إلى الأرض زِلْزَالَهَا من قبيل إضافة المصدر إلى فاعله.

وهنا قال الله -تبارك وتعالى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا هذا يكون بعد النفخة الثانية، حيث يقوم الناس من قبورهم.

ويحتمل أن تكون الأولى وهي قوله: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا هي النفخة الثانية، فيحصل بعد ذلك من بعث الموتى، فتخرج الأرض أثقالها.

وهذه الأثقال هنا ابن كثير قال: "ألقت ما فيها من الموتى" قاله غير واحد من السلف، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، وبه قال ابن عباس ومجاهد: أنها الموتى.

ولا يبعد أن يكون هذا من قبيل التفسير ببعض المعنى، يعني أن ذلك لا يقتصر على الموتى، بل تخرج ما في جوفها من الأموات، ومن الدفائن، فتخرج كنوزها.

وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ما في جوفها من الأموات والخزائن، أو الكنوز والدفائن، ونحو ذلك.

هذه الأثقال: بعض أهل اللغة ومنهم ابن جرير -رحمه الله- يقولون: إذا كان الميت في بطن الأرض فهو ثقل لها، وإذا كان فوقها وهو حي -يعني الإنسان- فهو ثقل عليها.

والجن والإنس يقال لهم: الثقلان.

وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا فلا شك أن الموتى أول ما يتبادر من ذلك.

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ۝ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا لاحظ هنا: أظهر في مقام الإضمار، يعني لم يقل: إذا زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت أثقالها، لو قال ذلك لكان واضحًا، فهذا الذي يسمونه: "الإظهار في موضع الإضمار" وهذا لا يكون إلا لنكتة؛ كأن يكون هذا مثلاً أفخم، أو للعناية بهذا المذكور، أو نحو ذلك، ولزيادة التقرير أنها تخرجهم فعلاً.

وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا، وعند ذلك يحصل التساؤل: وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا .

فقوله: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ۝ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ۝ وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا أين الجواب؟

يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا يعني إذا زلزلت هذا الزلزال، وأخرجت الأثقال عندئذ تحدث أخبارها.

وَقَوْلُهُ : وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا أَيْ: اسْتَنْكَرَ أَمْرَهَا بَعْدَمَا كَانَتْ قَارَّةً سَاكِنَةً ثَابِتَةً وَهُوَ مُسْتَقِرٌّ عَلَى ظَهْرِهَا، أَيْ: تَقَلَّبَتِ الْحَالُ فَصَارَتْ مُتَحَرِّكَةً مُضْطَرِبَةً قَدْ جَاءَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ -تعالى- ما قد أعده لَهَا مِنَ الزِّلْزَالِ الَّذِي لَا مَحِيدَ لَهَا عَنْهُ، ثُمَّ أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَحِينَئِذٍ اسْتَنْكَرَ النَّاسُ أَمْرَهَا، وَتَبَدَّلَتِ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ، وَبَرَزُوا لله الواحد القهار.

وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا أَيْ: تُحَدِّثُ بِمَا عَمِلَ الْعَامِلُونَ عَلَى ظَهْرِهَا.

روى الْإِمَامُ أَحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيّ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هَذِهِ الْآيَةَ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنَّ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ وَأَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا، أَنْ تَقُولَ: عَمِلَ كَذَا وَكَذَا، يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ"[3].

قوله -تبارك وتعالى: يَوْمَئِذٍفي ذلك الحين: تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا.

هذا التحديث جاء مفسرًا بهذا الحديث: أنها تتكلم، وتشهد، وهذا على ظاهره حقيقة، تقول: عمل كذا وكذا، يوم كذا وكذا، مشى إلى كذا، قارف كذا.

تشهد الأرض كما تشهد عليهم الجوارح.

هذا الحديث لو صح فهو نص في تفسير هذه الآية، ولا يلتفت معه إلى غيره، لكن الحديث لا يخلو من ضعف، وبعض أهل العلم حسنه.

وظاهر الآية يدل على هذا، والأصل حمل الكلام على ظاهره: أنها تحدث حقيقة، وما المانع من هذا والله -تبارك وتعالى- أخبر بقوله: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ؟ [سورة الإسراء:44].

فهذا التسبيح على ظاهره كما مضى الكلام على هذا في أوائل المسبحات، وفي غيرها أن تسبيح هذه المخلوقات حقيقي، وأن الله يجعل لها من الإدراك ما يصلح لمثلها، فتكون مسبحة لله ، وقد جاء في الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، إني لأعرفهالآن[4].

والجذع حنَّ إليه ﷺ، فعن أنس بن مالك : أن رسول الله ﷺ، كان يخطب إلى جذع نخلة، فلما اتخذ المنبر -تحول إلى المنبر- حن الجذع حتى أتاه رسول الله ﷺ، فاحتضنه فسكن، فقال رسول الله ﷺ: لو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة[5].

هذا جذع، وفي صحيح مسلم من حديث جابر قال: "سرنا مع رسول الله ﷺ حتى نزلنا وادياً أفْيح واسعاً، فذهب رسولُ الله ﷺ يقضي حاجته فلم ير شيئاً يستَتِرُ به، فإذا شجرتان بشاطئ الوادي، فانطلق رسولُ الله ﷺ إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: انقادي عليَّ بإذن الله فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائدَه، حتى أتى الشجرة الأخرى، فأخذ بغصنٍ من أغصانها، فقال: انقادي عليَّ بإذن الله، فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمَنْصف -الوسط- مما بينهما، قال: التئما عليّ بإذن الله فالتأمتا، فجلست أحدث نفسي فحانت مني لفتةٌ، فإذا برسول الله ﷺ مقبلاً، وإذا بالشجرتين قد افترقتا، فقامت كل واحدةٍ منهما على ساقٍ"[6].

وأخبر النبي ﷺ عن نطق الحجر والشجر في آخر الزمان في القتال مع اليهود: يا مسلم، هذا يهودي ورائي تعال فاقتله[7].

فتتكلم هذه الأشياء، فما المانع أن الأرض تحدث أخبارها؟

وبهذا نعرف ضعف قول من فسره بأن ذلك بلسان الحال، وليس بلسان المقال، فبعضهم يقول: إن إخراج هذه الأثقال هو تحديث منها بأخبارها، تخرج ما في جوفها، ولكن هذا خلاف الظاهر المتبادر، فهي تتحدث، وجوارح الإنسان تشهد، وتتحدث بما عمل عليها، والله -تبارك وتعالى- قد وكل بابن آدم من الملائكة من يحفظون عليه ما يصدر عنه: مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [سورة ق:18].

والله فوق ذلك يراه ويشاهده، لا يخفى عليه شيء من حاله.

فإذا كان الإنسان بهذه المثابة مأسورًا مكشوفًا ظاهر الحال باديَ العورة والضعف في حالاته كلها، فكيف يعصي الله إذا كان في خلوة حيث لا يراه الناس؟!

هذه الأرض ستشهد، وهذه الأنامل ستشهد، والأرجل ستشهد، والأعين ستشهد، والأذن ستشهد، والأرض تتكلم، والملك يكتب هذه الأشياء التي يفعلها ويتصرفها، يكتبها والناس لا يدرون بأسماء مجهولة، الملك يدون كل ما يكتب.

ومن العبر حينما ينظر الإنسان في رسائل "الواتس آب" ويستعرض الرسائل الماضية، ماذا قال، وماذا رد عليه فلان، وماذا قال لفلان، وماذا حاور فلانًا، وماذا.

رسائل نتحاور بها، مع أهلنا، مع من حولنا، يجد سلسلة طويلة مكتوبة بالدقائق وبالثواني، فهذا نموذج مصغر لسجل الأعمال، أشياء ينساها الإنسان، وحينما يستعرض في الدقيقة والثانية، قال كذا، وقلت كذا، سأل عن كذا، وأجبته بكذا، ذكر الطرفة الفلانية، ضحك فلان، أجاب فلان، تندر فلان، كل هذا مكتوب وبالثواني.

نموذج يذكرنا بصحيفة الأعمال التي كتب فيها كل الأشياء التي عملناها، والأقوال التي قلناها، فإذا أراد الإنسان أن يتكلم أو يكتب أو يعمل فليتذكر أن ذلك يدون عليه، وسيخرج له في صحيفة، كل هذا اللغو موجود فيها، كل هذه المقارفات موجودة فيها.

وعند ذلك ينبغي أن لا يقول الإنسان، ولا يفعل، ولا يكتب إلا ما يسره حينما ينظر في صحيفته، وطوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا[8] كما جاء في الحديث.

فبدلاً من هذا اللغو الكثير، والكلام في الباطل، والوقيعة في الأعراض، يشتغل الإنسان بالاستغفار: أستغفر الله، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، لا إله إلا الله، لا حول ولا قوة إلا بالله.

ويترك الاشتغال بالقيل والقال: فلان فعل، وفلان ترك، وفلان سوى، فلان فيه، وفلان ما فيه، وما إلى ذلك من الباطل الذي لا ينفعه ولا يرفعه، بل لا تبرأ ذمته به، والله المستعان.

هذه آية نقرؤها كثيرًا، ونسمعها ونرددها، ولكن أين الواعظ في النفوس، وما يؤثره ذلك في سلوكنا وأعمالنا؟

فهذا التحديث: تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا تحديث حقيقي على ظاهره، وعلى هذا مشى جماعة من السلف فمن بعدهم، وهو منقول عن ابن مسعود -رضي الله عنه- ومجاهد والثوري وابن زيد.

وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَاأَيْ: تُحَدِّثُ بِمَا عَمِلَ الْعَامِلُونَ عَلَى ظَهْرِهَا.

روى الْإِمَامُ أَحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيّ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هَذِهِ الْآيَةَ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنَّ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ وَأَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا، أَنْ تَقُولَ: عَمِلَ كَذَا وَكَذَا، يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ".

وقوله تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: "أَوْحَى لَهَا، وَأَوْحَى إِلَيْهَا، وَوَحَى لَهَا، وَوَحَى إِلَيْهَا وَاحِدٌ".

وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوْحَى لَهَا أَيْ: أَوْحَى إِلَيْهَا.

وَالظَّاهِرُ: أَنَّ هَذَا مُضَمَّنٌ بِمَعْنَى: أَذِنَ لَهَا.

وَقَالَ شَبِيبُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا قَالَ: قَالَ لَهَا رَبُّهَا: قُولِي، فَقَالَتْ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَوْحَى لَهَا أَيْ: أَمَرَهَا.

وَقَالَ القرظي: أمرها أن تنشق عنهم.

قوله -تبارك وتعالى: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ الأرض أَخْبَارَهَا هذا الذي ذكره الحافظ ابن كثير-رحمه الله- من أن المعنى: تحدث بما عمل العاملون على ظهرها.

هذا هو ظاهر القرآن، ظاهر الآية، وهو الذي عليه عامة المفسرين، فالجمهور من السلف فمن بعدهم فسروه بهذا.

وهذا الحديث الذي أورده ابن كثير-رحمه الله- حديث أبي هريرة : أتدرون ما أخبارها؟ ثم فسر ذلك بقوله: أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها إلى آخره.

هذا لو صح لكان نصًّا في تفسير الآية لا يعدل عنه إلى غيره، والحديث لا يخلو من ضعف.

وهذا هو ظاهر الآية، مع أن بعضهم يقول: إن ذلك ليس بالنطق، وإنما يكون ذلك بمقتضى الحال، وهذا بعيد.

يعني بعضهم يقول: إن فعلها بأن تخرج ما في بطنها من الأموات والدفائن: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ۝ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ففعلها هذا الذي هو إخراج هذه الأثقال من الموتى والدفائن، وما إلى ذلك هو تحديث منها بأخبارها.

ولكنه خلاف الظاهر، ولا حاجة إليه.

وهذا المعنى الذي ذكره ابن كثير قال به جماعة كابن مسعود ومجاهد والثوري وابن زيد، وغير هؤلاء.

قال: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ۝ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ يمكن أن يكون متعلقًا بـتُحَدِّثُ، تحدث بأن ربك أوحى لها.

وما سبق من المعنى الذي ذكره ابن كثير: هي تحدث بما عُمل عليها، وليست تحدث بـبِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا.

ولهذا قال بعضهم: إن "الباء" هذه سببية، تحدث بسبب، تحدث بما عمل عليها بسبب أن ربك أوحى لها.

وبعضهم يقول -كالفراء: تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بوحي الله وإذنه لها.

هنا -كما سبق- فيما ذكره ابن كثير -رحمه الله- قال: والظاهر أن هذا مضمن بمعنى: أذِن لها.

هذا باعتبار التعدية بـ"اللام" أَوْحَى لَهَا فالفعل: "أوحى" يتعدى بالحرف، فيتعدى بـ"إلى" تقول: أوحى الله إلى نبيه ﷺ.

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ [سورة الجن:1] فيعدى بـ"إلى".

وهنا عدي بـ"اللام": أَوْحَى لَهَا أوحى له.

وذكر قول البخاري: "أوحى لها، وأوحى إليها..." إلى آخره.

البخاري في تراجم الأبواب يذكر هذه المعاني، وعامة ذلك -أو كثير منه- الواقع أنه من كلام أبي عبيدة معمر بن المثنى.

فهنا يقول: "أوحى لها، وأوحى إليها، ووَحى لها، ووَحى إليها، واحد".

فلا إشكال أن يعدى بـ"اللام" أو يعدى بـ"إلى".

وابن كثير -رحمه الله- يقول هنا: إن هذا مضمن بمعنى: أذن لها، باعتبار أن: "أذن" يعدى بـ"اللام"، أذنت له، وأوحيت إليه.

أوحيت إليه: ليس الوحي الذي يكون من الله للأنبياء، وإنما على حد قول الشاعر:

فأَوحَى إليها الطرْفُ أنى أحبُّها فأثّر ذاك الوحىُ في وجناتِها

أوحى إليها.

والوحي يأتي بمعانٍ، منها: الأمر.

أَوحَى لها القرارَ فاستقرتِ وشدَّها بالراسياتِ الثُّبَّتِ

أوحى لها القرار، يعني أمرها.

ويأتي بمعنى: الإلقاء السريع الخفي، ويأتي بمعنى: الإلهام، ويأتي بمعنى: الإشارة والرمز: آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا [سورة آل عمران:41].

هنا المقصود بالرمز: الوحي، ولهذا قال: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [سورة مريم:11] هذا هو الرمز: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ بمعنى: الإشارة، يعني لا يكلمهم بلسانه، وإنما يشير إليهم، يكلمهم بلغة الإشارة.

بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا بأن تحدث بأخبارها، بمعنى: أمرها.

وقريب من هذا قول ابن كثير: أذن لها.

ولاحظ هنا عن ابن عباس: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا قال: قال لها ربها: قولي، يعني معناه: أمرها.

وأصرح منه عبارة مجاهد: أمرها.

وقال القرظي: أمرها أن تنشق عنهم.

لاحظ: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا هذا كأنه على المعنى الذي ذكرته سابقًا من أن تحديثها بأخبارها إنما هو بفعلها، حيث تنشق عن هؤلاء الأموات.

وهنا قول القرظي: أمرها أن تنشق عنهم، هذا تفسير لـ"تحدث أخبارها": بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا.

أَوْحَى لَهَا أن تحدث.

ولا يفسر -والله تعالى أعلم- بهذا الجزء من المعنى: أنه أمرها أن تنشق عنهم.

نعم، هي انشقت عنهم بأمر الله ، وكذلك أيضًا تحدث أخبارها بما عمل عليها بأمر الله -تبارك وتعالى.

وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا أَيْ: يَرْجِعُونَ عَنْ موقف الْحِسَابِ، أَشْتاتاً أَيْ: أَنْوَاعًا وَأَصْنَافًا مَا بَيْنَ شَقِيٍّ وَسَعِيدٍ، مَأْمُورٍ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَأْمُورٍ بِهِ إِلَى النَّارِ.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَشْتاتاً فِرَقًا.

يَوْمَئِذٍ يعني حينما يكون ذلك اليوم، حينما تنشق الأرض عنهم، ويذهبون للحساب والجزاء، مسرعين: كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [سورة المعارج:43] عندئذ يصدرون مصادر شتى: كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ على أحوال شتى، يصدرون على أنحاء شتى، يصدرون مصادر مختلفة متباينة.

والصدر هو الرجوع، يقابل الورود، تقول: ورد الماء، وصدر عنه: وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ [سورة القصص:23] فإذا رجع عنه يقال له: الصدْر، صَدَر، هذا الرجوع، يصدر الناس: يرجعون، يرجعون من ماذا؟ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ يرجعون من موقف الحساب، ليروا جزاء الأعمال، ليروا ثمرة ما كانوا عليه في الدنيا من الجزاء، إما بالجنة، وإما بالنار: لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ثواب هذه الأعمال، أو الجزاء المترتب عليها، فينطلقون من الحساب؛ هؤلاء إلى الجنة، وهؤلاء إلى النار.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ أي: ليعلموا بِمَا عَمِلُوهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَلِهَذَا قَالَ: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.

روى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَطَالَ طِيَلَهَا فِي مَرْجٍ، أَوْ رَوْضَةٍ -طيلها يعني الحبل الذي تربط به بحيث إنها تذهب شوطًا هاهنا، وشوطًا هاهنا، تتحرك تنتقل- فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ فِي الْمَرْجِ وَالرَّوْضَةِ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا، أَوْ شَرَفَيْنِ -استنت يعني ذهبت إلى مكان مرتفع، الشرف المكان المرتفع من الأرض، أو أنها ذهبت طلقًا، أو طلقين، يعني كما يقال: شوطًا، أو شوطين؛ لأن الخيل كما هو معلوم تتحرك وتجري وتدور، لا تكاد تتوقف، فإذا أطال لها هذا الحبل فإن ذلك يكون أجرًا له في كل حركة لها وانتقال، كانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أن تسقى بِهِ كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ، لاحظ النية، كيف صارت حركاتها وخطواتها وأرواثها حسنات؛ لأنه ربطها في سبيل الله، وَهِيَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَجْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا، وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا، وَلَا ظُهُورِهَا، فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا ورياءً وَنِوَاءً فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ نواء يعني معاداة، للتربص بالإسلام وأهله، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْحُمُرِ، فَقَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةَ الْفَاذَّةَ الْجَامِعَةَ: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ رَوَاهُ مُسْلِم[9].

هذا هو الشاهد، وهذا يمكن أن يورد في كل موضع لم يرد فيه ثواب خاص، فقد يسأل عن أعمال ما هو جزاؤها؟ ما أجر من عمل كذا؟ ما أجر من صلى في حجر الكعبة؟ فلم يرد فيه شيء معين، وهكذا في أعمال متنوعة من العبادات القاصرة أو المتعدية، فما أجرها؟

فيقال: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ لم يرد فيه شيء خاص، ولكن ذلك عند الله لا يضيع.

وهذا كما سبق في بعض المناسبات من أن الوزن عند الله -تبارك وتعالى- ليس كما في الدنيا.

الناس في الدنيا يزنون بأدق الموازين، يزنون بموازين الذهب، يزنون بالكيلو، والجرام، وما أشبه ذلك، وبالأوقية، وما دونها، ولكن عند الله -تبارك وتعالى- بمثاقيل الذر، هذا لا وجود له ولا ما يقاربه في الدنيا، ولا يمكن أن تفي موازين الناس مهما دقت بهذا المقدار.

وذكرت -في بعض المناسبات- عن معاوية بن قُرَّة: أنه قد أهدي إليه طعام، فأكل منه في الليل، ثم ترك بعضه، فلما أصبح، وإذا هو قد اسودَّ من كثرة الذر، فوزنه بالذر، ثم نحَّى عنه الذر، فلما وزنه وجده لم يتغير الوزن!

إذا كان هذا السواد من كثرة الذر لم يغير الوزن؛ فكيف بذرة؟

وهكذا أبو العباس الخطاب وزن خمسًا وعشرين ذرة بحبةٍ من خردل، فكانت حبة الخردل أثقل من خمسٍ وعشرين ذرة.

فذرة واحدة ما وزنها؟ ما مقدارها؟

ليس لها وزن يذكر، فالله -تبارك وتعالى- لا يضيع عنده شيء.

ومن هنا: فإن الإنسان لا يحتقر من المعروف شيئًا، وفي المقابل أيضًا لا يستخف بشيء من المعاصي.

وقد جاء في حديث عائشة قالت: قلت للنبي ﷺ: "حسبك من صفية كذا وكذا -قال غير مسدد: تعني قصيرة، فقال: لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته[10].

بإشارة، فكيف بمن يفري أعراض الناس في تويتر، أو في غيره، فلا شغل له إلا ذلك؟!

لسان الحال أو صفته:

فالبُهتُ عندكم رخيصٌ سعرُه حثوًا بلا كيلٍ ولا ميزانِ

لا يترك أحدًا إلا بهته.

فكيف بالذي يتساهل بدماء الناس، ويترخص في هذا؟!

هذا كله عظيم عند الله -تبارك وتعالى.

ولو علم الإنسان أن حقيقة الحال هي ما ذكر هنا وما تحت هذه الآية من العظة العظيمة لحاسب نفسه حسابًا عسيرًا قبل أن يكتب، وقبل أن يتكلم، وقبل أن يمشي، وقبل أن يأكل، وقبل أن يخالط الناس، وقبل أن يكبر في الصلاة، ما نيته؟ ما قصده؟ ما حاله مع ربه في كل حركة يتحركها؟ فلا ينطلق بصره إلى ريبة، فضلاً عن الحرام الصريح الذي لا شبهة فيه، ولا ينطلق لسانه فيما لا يعنيه، فضلاً عن الخوض الواضح الذي لا عذر فيه في أعراض الناس، وإن تأول لنفسه بتأويلات ساقطة فاسدة، فإن ذلك لا يغني عنه، ولكن الغفلة غالبة، والله المستعان.

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَدِيٍّ مَرْفُوعًا: اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ[11].

وله أيضا في الصَّحِيحِ: لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِطٌ[12].

وفي الصحيح أيضا: يا معشر نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ: لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسنَ شَاةٍ[13]، يَعْنِي ظِلْفَهَا.

وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: رُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِظِلْفٍ مُحَرَّقٍ[14].

 وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا تَصَدَّقَتْ بِعِنَبَةٍ، وَقَالَتْ: كَمْ فِيهَا مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ؟

وَروى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عن عَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الطُّفَيْلِ: أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ: يَا عَائِشَةُ إِيَّاكِ وَمُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللَّهِ طَالِبًا[15]، وَرَوَاهُ النَّسَائِيَّ وَابْنَ مَاجَه.

وروى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ، فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ -يعني طعامهم- فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا، وَأَجَّجُوا نَارًا، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا[16].

آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الزلزلة، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

  1. رواه أحمد، في المسند، رقم (6575)، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب تحزيب القرآن، رقم (1399)، والنسائي، باب كتابة القرآن، باب إِذَا زُلْزِلَتْ، رقم (7973) وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود، رقم (247).
  2. رواه مسلم، كتاب الكسوف، باب الترغيب في الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها، رقم (1013).
  3. رواه الترمذي، كتاب أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، باب منه، رقم (2429) والنسائي، كِتَابُ التَّفْسِيرِ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، سُورَةُ الزَّلْزَلَةِ، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، رقم (11629)، وأحمد في المسند، رقم (8867)، وقال محققو المسند: "إسناده ضعيف" وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، رقم (4834).
  4. رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، رقم (2277).
  5. رواه أحمد في المسند، رقم (2400)، وصححه الألباني في بداية السول في تفضيل الرسول ﷺ (40).
  6. رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر، رقم (3012).
  7. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب قتال اليهود، رقم (2926)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، رقم (2921) وهذا لفظ مسلم.
  8. رواه ابن ماجه، كتاب الأدب، باب الاستغفار، رقم (3818)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم (1618).
  9. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب: الخيل لثلاثة، رقم (2860)، ومسلم، كتاب الكسوف، باب إثم مانع الزكاة، رقم (987).
  10. رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في الغيبة، رقم (4875)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم (2834).
  11. رواه البخاري، كتاب الأدب، باب طيب الكلام، رقم (6023)، ومسلم، كتاب الكسوف، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، رقم (1016).
  12. رواه أحمد في المسند، رقم (20633)، وأصله في مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء، رقم (2626).
  13. رواه البخاري، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، رقم (2566) ومسلم، كتاب الكسوف، باب الحث على الصدقة، ولو بالقليل ولا تمتنع من القليل لاحتقاره، رقم (1030).
  14. رواه النسائي، كِتَابُ الزَّكَاةِ، بَابُ رَدِّ السَّائِلِ، رقم (2565)، وأحمد في المسند، رقم (16648) وقال محققو المسند: "حديث حسن" وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم (3502).
  15. رواه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الذنوب، رقم (4243). وأحمد في المسند، رقم (24415 )، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم (2472).
  16. رواه أحمد في المسند، رقم (3817)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم (2470).

مواد ذات صلة