الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
[1] من أول السورة إلى قوله تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} الآية:11
تاريخ النشر: ١٠ / جمادى الآخرة / ١٤٣٥
التحميل: 7675
مرات الإستماع: 5094

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعد.

قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ۝ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ۝ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ۝ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ۝ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ۝ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ۝ وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا [سورة الجن:1-7].

يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ ﷺ أَنْ يُخْبَرَ قَوْمَهُ: أَنَّ الْجِنَّ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ فَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ وَانْقَادُوا لَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ۝ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أَيْ: إِلَى السَّدَادِ وَالنَّجَاحِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا وَهَذَا الْمَقَامُ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [سورة الأحْقاف:29] وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِا هَاهُنَا.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه السورة من السور النازلة بمكة في قول الجميع، يعني بالاتفاق، كما ذكر ذلك القرطبي وغيره.

والموضوع الذي تتحدث عنه هذه السورة في الجملة هو ما يتصل بخبر الجن، واستماعهم القرآن، وما كان من مردود ذلك عليهم، وما في ثنايا ذلك مما ذكره الله -تبارك وتعالى- عن دعوة القرآن، وما للمستجيبين والمعرضين عما جاء به.

قوله -تبارك وتعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا هذا إخبار من الله -تبارك وتعالى- عما جرى من استماع الجن وما قالوه حينما استمعوا هذا القرآن، وعما وقع من إيمانهم، ودعوتهم لقومهم.

واستماع الجن للقرآن هذه الآية مخبرة عنه، بمعنى أن ذلك ليس بكون النبي ﷺ اجتمع بالجن قصدًا، وقرأ عليهم القرآن، وإنما استمعوا قراءته.

والظاهر -والله تعالى أعلم- أن هذا الذي وقع كان في مكة، وقع من استماعهم للنبي ﷺ، وهو يقرأ في صلاته، حينما كان ذاهبًا إلى الطائف، إلى عكاظ، يدعو إلى الله، وإلى توحيده، فما كان يشعر باستماع الجن حتى أعلمه الله -تبارك وتعالى- بذلك، كما يدل عليه سبب النزول، وهذا كما قال الله -تبارك وتعالى- في سورة الأحقاف، وهي أيضًا مكية: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ.

فهذا وذاك -والله تعالى أعلم- كأنه في واقعة واحدة، فهو إخبار عما حصل من استماعهم، وإن كان استماع الجن للنبي ﷺ وقع في وقائع متعددة، وقد يقال: إن بعض هذه الوقائع كان بمكة، وإن بعضها كان في المدينة، وإن من هذه الوقائع ما اجتمع النبي ﷺ فيها مع الجن وهو يعلم بذلك، أي ما اجتمع بهم قصدًا، ويدل على هذا ما جاء في حديث جابر قال: خرج رسول الله ﷺ على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا، فقال: لقد قرأتهاعلى الجن ليلة الجن، فكانوا أحسن مردودًا منكم، كنت كلما أتيت على قوله: فبأي آلاء ربكما تكذبان قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد[1].

فهذا قد سمعه منهم النبي ﷺ حينما كان يقرأ عليهم، فهذه قراءة كانت مقصودة، واجتماع مقصود، وأخبر النبي ﷺ عن الجن أنهم سألوه فيما يتصل بالطعام لهم ولدوابهم، وكذلك أيضًا جاء في بعض هذه الأحاديث -كما سيأتي إن شاء الله- أن النبي ﷺ كان معه بعض أصحابه، بصرف النظر هل استمعوا وحضروا أو أنهم كانوا دون مجلسه -عليه الصلاة والسلام،  أو أنه كما في بعض الأحاديث أن النبي ﷺ أراهم آثار ذلك، أراهم نيرانهم، يعني بعد أن اجتمع بهم.

فهذه وقائع متعددة، أوصلها بعض أهل العلم إلى ست في مكة والمدينة، ويأتي -إن شاء الله تعالى- الكلام على هذا، فأترك ذلك لكلام مستقل -إن شاء الله.

وقوله -تبارك وتعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ هذا يدل على أن النبي ﷺ لم يكن يشعر بهم، وإنما علم ذلك بالوحي.

نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ النفر اسم للجماعة ما بين الثلاثة إلى العشرة.

فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا عَجَبًا يعني في فصاحته، وبيانه وبلاغته، ومواعظه وبركته، وما إلى ذلك، هذه أقوال للسلف في تفسير هذا الموضع.

قُرْآنًا عَجَبًا عجبًا: أي كل هذه الأمور المتقدمة، وعَجَبًا مصدر وصف به القرآن للمبالغة، أو على حذف مضاف، أي قرآنًا ذا عجب، لما فيه من العجائب فيما ذكر، أو أنه مصدر بمعنى اسم الفاعل: قُرْآنًا عَجَبًا أي مُعجِبًا.

ولكن كأن ما قبله أوضح -والله أعلم.

يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أي: السداد والنجاح، يقول: وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ.

وَقَوْلُهُ: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: جَدُّ رَبِّنَا أَيْ: فِعْلُهُ وَأَمْرُهُ وَقُدْرَتُهُ.

وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَدُّ اللَّهِ: آلَاؤُهُ وَقُدْرَتُهُ وَنِعْمَتُهُ عَلَى خَلْقِهِ.

وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ: جَلَالُ رَبِّنَا.

وَقَالَ قَتَادَةُ: تَعَالَى جَلَالُهُ وَعَظَمَتُهُ وَأَمْرُهُ.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: تَعَالَى أَمْرُ رَبِّنَا.

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَمُجَاهِدٍ أَيْضًا وَابْنِ جُرَيْجٍ: تَعَالَى ذِكْرُهُ.

قوله: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا هذا من قول الجن، فهم قالوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ۝ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا.

وكان من مقولهم: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا هكذا بفتح الهمزة: وَأَنَّهُ في قراءة حمزة والكسائي وابن عامر وحفص: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا وهكذا قرءوا فيما بعدها مما هو معطوف عليها: وَأَنَّهُ، وَأَنَّهُ وذلك أحد عشر موضعًا، إلى قوله: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [سورة الجن:19].

وقرأ الباقون بكسر الهمزة: وإِنَّهُ في هذه المواضع، إلا في قوله: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ [سورة الجن:18] فهذا اتفقوا على الفتح فيه: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ.

فقراءة الفتح في هذه المواضع يمكن أن يكون ذلك -والله تعالى أعلم- باعتبار: أنه معطوف على محل الجار والمجرور في قوله: فَآمَنَّا بِهِ الإيمان -كما بينا- بمعنى الإقرار والتصديق الانقيادي، يعني: أذعنا وأقررنا وصدقنا: أنه تعالى جد ربنا.  

فيكون وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا في جملة ما آمنوا به، وحصل لهم الإيمان به: أنه تعالى جده -تبارك وتعالى- عن أن يكون قد اتخذ: صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا.

أما من قرأ بالكسر فيمكن أن يكون ذلك عطفًا على قولهم: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا مكسورة الهمزة، فيكون ذلك عائدًا عليها.

فَقَالُوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا "وقالوا: إنه" والهمزة تكون مكسورة بعد القول قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وهكذا، والله تعالى أعلم.

هذا من كلامهم، مما هو محكي عنهم في قوله: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا.

على تفاصيل في بعض القراءات، أو بعض الروايات في بعض المواضع.

وهذا يختلف باعتبار: أنه من كلام الجن، أو أنه من كلام الله، في بعض هذه المواضع، ولعله يأتي إيضاح بعض ذلك في موضعه -إن شاء الله تعالى.

الجمهور يقرءون: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بالفتح، باعتبار أنه معطوف على قوله: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ.

وفي القراءة الأخرى، قراءة نافع وابن عامر، وهي رواية أيضًا عن عاصم: بالكسر في هذا الموضع، عطفًا على: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، -كما سبق، ويأتي مزيد من الإيضاح -إن شاء الله تعالى- في مواضع أخرى.

يعني مثلاً في قوله: أَنَّهُ اسْتَمَعَ هذا متفق على الفتح فيه، وكذلك: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ [سورة الجن:18]، وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ.

كما اتفقوا على الكسر في قوله: قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ [سورة الجن:21].

وأما قوله -تبارك وتعالى: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا فما المراد به؟ كما قال هنا عن ابن عباس -رضي الله عنهما: أي فعله وأمره وقدرته.

وكذلك ما ذكر من الروايات: من آلائه ونعمه على خلقه، أو من ذكر جلاله.

كل هذه المعاني متقاربة، فإن الجَد هو: أبو الأب، أو أبو الأم، في أحد معنييه.

وهذا غير مراد هنا، ولا يعتقده الجن، خلافًا لمن زعم من المفسرين أن الجن قالوا ذلك جهلاً منهم، هذا غير مراد إطلاقًا، وإنما أرادوا المعنى الآخر، فإن الجَد في كلام العرب يفسر بالحظ والعظمة والجلال، وما أشبه ذلك من المعاني، وهذا تفسير له بمعنى واحد، يعني إذا وجدت من يقول: الجد هو الحظ: وتعالى جدك[2]، مثلاً، ولا ينفع ذا الجد[3] يعني: الحظ.

فالمقصود: أن عظمة الله -تبارك وتعالى- وجلاله تقتضي تنزهه عن الصاحبة والولد؛ لأنه كما يقول ابن جرير -رحمه الله: إنما يفتقر إلى الصاحبة والولد من كان ضعيفًا، وذلك أن ضعفه يقتضي قضاء الوطر، وما يقضي به وطره من الصاحبة، وما ينتج عن ذلك من  الولد، فهو نتيجة لقضاء هذا الوطر، هذا ضعف وحاجة، وكذلك أيضًا الولد، فإنه يحتاج إليه ليكون امتدادًا لوجوده، وليكون معينًا له، وليتجمل به في المجالس، ونحو ذلك، فإن مقتضى غنى الله -تبارك وتعالى- وعظمته أن لا يكون له صاحبة ولا ولد.

والمقصود: أن الجد يأتي بهذا المعنى: العظمة والجلالة، تقول: جَدّ في عيني، ومنه قول أنس : "كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد في أعيننا"[4].

"جد" يعني عظم، صار عظيمًا؛ لأن هاتين السورتين تضمنتا كثيرًا من شرائع الإسلام، والأحكام جملة وتفصيلاً.

وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا يعني ارتفعت عظمة ربنا وجلاله، كما يقوله بعض السلف؛ كعكرمة ومجاهد.

وهكذا قول من قال: غناه، يعني أنه مستغنٍ عن الصاحبة والولد، فهو العظيم الأعظم، وهو أجلّ من أن يفتقر إلى شيء من ذلك، كما يقوله الحسن البصري.

فالحظ يقال له: جد، ويقال: للعظمة، فلا يلتبس، فهو يرجع إلى شيء واحد، بالاعتبار الذي ذكرته آنفًا، وقد مضى الكلام في شرح الأذكار على دعاء الاستفتاح: ولا ينفع ذا الجد منك الجد[5] كما يقول أبو عبيد والخليل بن أحمد، يعني: صاحب الحظ لا ينفعه حظه عندك، أو يعني الغِنى، لا ينفع صاحب الغنى غناه.

فهذا الحظ هو الغِنى، حظه من الدنيا، حظه من هذا المتاع والحطام، فسره أبو عبيد والخليل بالغنى: ولا ينفع ذا الجد[6]، يعني الغني، لا ينفع صاحب الغنى غناه.

وما ذكرته هناك من المعاني المذكورة كل ذلك يرجع إلى هذا في مجمله، وابن جرير -رحمه الله- يفسره بنحو من هذا، يقول: تعالت عظمتك، يعني وقدرتك وسلطانك، وذكر هذا الاعتبار الذي أشرت إليه: أنه إنما يحتاج للولد لهذا الضعف والفقر، مع أن من أهل العلم من فسر قوله ﷺ: ولا ينفع ذا الجد[7] بمعنى آخر، لكن الذي عليه عامة أهل العلم هو ما ذكرت، فجدُّه -تبارك وتعالى- مفسر بهذا، فمن قال: آلاؤه ونعمه كالضحاك فكل هذا قريب.

وهكذا من قال: ملكه وسلطانه، كما يقوله بعض أصحاب المعاني، كأبي عبيدة والأخفش، وهكذا من قال: جده أي: أمره، فيمكن أن تجمع هذه العبارات، وقول من قال: إنها قدرته، يعني أن الله أعظم وأجل من أن يتخذ صاحبة ولا ولدًا؛ لأنه الغنيُّ الذي له الغِنى المطلق، فشأنه وأمره أعظم من ذلك، فهو غير مفتقر إلى شيء من هذا، هكذا يمكن أن يعبر عن هذا المعنى، والله تعالى أعلم.

وما بعده مبين لذلك: مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا فهذا بيان لتعاليه، تعالى جده ، وتقدست أسماؤه، تعالى جلاله، وتعالت عظمته عن اتخاذ الصاحبة والولد، فهو الغنيُّ الغِنى المطلق.

وَقَوْلُهُ: مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا أَيْ: تَعَالَى عَنِ اتِّخَاذِ الصَّاحِبَةِ وَالْأَوْلَادِ، أَيْ: قالت الْجِنُّ: تنزه الرب  حِينَ أَسْلَمُوا وَآمَنُوا بِالْقُرْآنِ- عَنِ اتِّخَاذِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ، ثُمَّ قَالُوا: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: سَفِيهُنَا يَعْنُونَ إِبْلِيسَ شَطَطًا قَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ: شَطَطًا أَيْ: جَوْرًا.

وَقَالَ ابن زيد: أي ظُلْمًا كَبِيرًا.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: سَفِيهُنَا اسْمَ جِنْسٍ لِكُلِّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ لِلَّهِ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا، وَلِهَذَا قَالُوا: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا أَيْ: قَبْلَ إِسْلَامِهِ: عَلَى اللَّهِ شَطَطًا أَيْ: باطلا وزورًا، ولهذا قالوا: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَيْ: مَا حَسِبْنَا أَنَّ الإنس والجن يتمالئون على الكذب على الله تعالى فِي نِسْبَةِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعْنَا هَذَا الْقُرْآنَ، وَآمَنَّا بِهِ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يكذبون على الله في ذلك.

قوله -تبارك وتعالى- عن قول الجن: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا المراد بهذا السفيه الذي أشاروا إليه: هنا قول مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي، قال: يعني إبليس، وهذا القول قال به آخرون من السلف أيضًا، كابن جريج، وهو اختيار كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير -رحمه الله.

ولكن المعنى -والله تعالى أعلم- أعم من هذا، فإن السفيه هنا مفرد مضاف، وهو للعموم، يعني: يقول سفهاؤنا على الله شططًا، فهو بمعنى الجمع، ولهذا فسره بعض أهل العلم بمشركيهم وعصاتهم، ولا يختص ذلك بإبليس، وإنما يقول بذلك إبليس وأتباع إبليس -والله أعلم، وكأن هذا أقرب، لكن في الأصل: هل اقتصر على تفسيره بإبليس فقط كما هنا في المختصر؟

هذا يدل على أن ابن كثير -رحمه الله- اختار هذا القول، وكذلك ابن جرير.

شَطَطًا قال: أي: جورًا، عن السدي عن أبي مالك.

وقال ابن زيد: أي: ظلمًا كبيرًا.

وذَكر هنا: ويحتمل أن يكون المراد بقوله: سَفِيهُنَا اسم جنس.

هذا لو قال: وأنه كان يقول السفيه مثلاً، فتكون "أل" عهدية، لكن: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا فيمكن هذا أن يكون هو الأكمل في السفه، لكن يقال: إنه يدخل في ذلك دخولاً أوليًّا، لكن تخصيص المعنى به!، يقول: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا قالوا: لهذا قالوا: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا أي: قبل إسلامه، كيف يأتي هذا إذا كان المراد إبليس؟

لكن هذا باعتبار الاحتمال الذي ذكره، قال: ويحتمل أن يكون المراد بقولهم: سَفِيهُنَا اسم جنس لكل من زعم أن لله صاحبة أو ولدًا، ولهذا قالوا: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا.

كَانَ في الماضي، أي قبل اسلامه: يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا أي: باطلاً وزرواً.

المقصود: الغلو في الكفر، وتجاوز الحد، ففسر الشطط بالجور هنا، كما جاء عن أبي مالك، وفسر: بالكذب أيضًا، كما قال الكلبي.

فهذا تفسير له بالمعنى، يعني ليس ذلك أصل معنى لفظ الشطط في لغة العرب، فإن أصله البعد عن القصد، ومجاوزة الحد، فهذا الذي يقول بأن لله شريكًا، أو أن له صاحبة أو ولدًا يكون قد تجاوز الحد، ويكون كاذبًا في قوله ودعواه، فتفسير من قال بأنه الكذب هو تفسير له بالمعنى، فإن قوله هذا كذب، لكن أصل الكلمة "الشطط" هي بمعنى ما ذكر -والله أعلم- البعد عن القصد والاعتدال بمجاوزة الحد.

وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا قال: ولهذا قالوا.. إلى آخره.

وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا هذا عجيب، ويحتاج إلى وقوف عنده، يقف الإنسان يتأمل ويتدبر في هذا الموضع، يعني أن المعنى كما قال ابن كثير وهو الذي قاله المفسرون: ما حسبنا أن الإنس والجن يتمالئون على الكذب على الله تعالى في نسبة الصاحبة والولد إليه، يعني لما سمعوا القرآن علموا أن ذلك يعني نسبة الصاحبة والولد إلى الله -تبارك وتعالى- أنه كذب، وافتراء على الله، لكن انظر إلى قولهم هذا، وهم صادقون فيه، هؤلاء آمنوا، وذكر الله قولهم.

وكما هو معلوم: أن الحكايات في القرآن إذا لم يأتِ قبلها أو بعدها، أو في أثنائها ما يبطلها فالأصل أنها صحيحة، فهم يقولون هذا، والقرآن أقرهم عليه، يعني أنهم صادقون في قولهم هذا، ما كانوا يظنون أن تتمالأ الجن والإنس في الكذب على الله -تبارك وتعالى- في نسبة الشركاء والأنداد والصاحبة والولد، يعني هذا الإشراك وقع للإنس ووقع للجن، فيقولون: ما كنا نظن، والظن هنا ليس بمعنى اليقين، وإنما بمعنى: غلبة طرف الرجحان، فليس كل ظن في القرآن بمعنى اليقين، فهو يأتي بمعنى: اليقين، ويأتي بمعنى غيره، فهنا يقولون: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ بمعنى أنهم لما رأوا هذا التوافق عند الإنس والجن بهذا الباطل ظنوا أن ذلك حق، وأنهم ما اتفقوا على هذا إلا لأنه حق.

وهذا فيه عبرة: أن كثيرًا من الناس يغترون بالباطل لما يرون من توافق عليه لدى الكثير من الناس، لاسيما من يحسنون الظن بهم، وفيما يذكره أهل العلم من المناظرات: ما وقع مع رجل من النصارى لمّا انقطعت حجته وبان له وظهر أن ما هو عليه من الدين والإشراك، والتثليث، ونسبة الصاحبة والولد إلى الله -تبارك وتعالى- أن هذا باطل، ثم لم يلبث أن كان جوابه أن قال: إنه يعلم، أو إن ذلك بيّن ظاهر، يعني أن هذا القول لا وجه له، لكن يقول: نظرت في أهل ملتنا من أولهم إلى آخرهم على كثرتهم يقولون بذلك ويقررونه، فعلمت أنه حق، يقول: تتابُعهم عليه وتواطؤهم على هذا دليل على أنه حق، هذا الدليل عنده، بعدما بُين له بطلان ذلك، وأقر ببطلانه، فكان هذا هو الجواب، فالاغترار بما عليه هؤلاء من أهل الباطل لربما يوقع الكثيرين بهذا الإصرار على باطلهم، أو الاغترار بحال هؤلاء، كيف يكون هؤلاء على باطل هؤلاء الذين يحسنون بهم الظن؟

لذلك ذكر المعلمي -رحمه الله- في كتابه: "التنكيل" ذكر أشياء في طُرق الهوى إلى النفوس، ذكر أشياء عجيبة، منها ما يتصل بهذا المعنى أنه إذا أذعن وأقر بالحق، وكذا، فيعني هذا أنه ينسب أهل ملته وقومه، ونحو ذلك إلى الباطل، هذا بالإضافة إلى أن هذه الجهود التي بذلت من قِبله ومن قِبل غيره في دعوته إلى ما هو عليه، كل ذلك ذهب هباء منثورًا، فيشق ذلك عليه، فيؤثر البقاء على باطله.

وابن القيم -رحمه الله- تكلم على تقديم الإنس على الجن هنا في قول الجن: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وحاصل كلامه -رحمه الله- أنه يقول: قدموا الإنس كأن ذلك باعتبار أنهم قالوه من باب دفع التهمة؛ لئلا يظن قومهم حينما يخاطبونهم بدعوة التوحيد أنهم إنما مالئوا طائفة من الإنس على هذا فجاءوا إلى قومهم بما لا عهد لهم به، فهم ابتدءوا بالإنس قالوا: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فهم يقولون: الإنس وقعوا في نفس المشكلة، فنحن ننكر على الطائفتين.

وقوله تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا أَيْ: كُنَّا نَرَى أَنَّ لَنَا فَضْلًا عَلَى الْإِنْسِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يعوذون بنا إِذَا نَزَلُوا وَادِيًا أَوْ مَكَانًا مُوحِشًا مِنَ البراري، وغيرها، كما كانت عَادَةُ الْعَرَبِ فِي جَاهِلِيَّتِهَا يَعُوذُونَ بِعَظِيمِ ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنَ الْجَانِّ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِشَيْءٍ يَسُوءُهُمْ، كَمَا كَانَ أَحَدُهُمْ يَدْخُلُ بِلَادَ أَعْدَائِهِ فِي جِوَارِ رَجُلٍ كَبِيرٍ وَذِمَامِهِ وَخفَارَتِهِ، فَلَمَّا رَأَتِ الْجِنُّ أَنَّ الْإِنْسَ يَعُوذُونَ بِهِمْ مِنْ خَوْفِهِمْ منهم زادوهم: رَهَقًا أي: خوفًا وإرهابًا وذعرًا، حتى بقوا أَشَدَّ مِنْهُمْ مَخَافَةً وَأَكْثَرَ تَعَوُّذًا بِهِمْ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ: فَزَادُوهُمْ رَهَقًا أَيْ: إِثْمًا، وَازْدَادَتِ الْجِنُّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ جَرَاءَةً.

وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: فَزَادُوهُمْ رَهَقًا أَيِ: ازْدَادَتِ الْجِنُّ عَلَيْهِمْ جُرْأَةً.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الرَّجُلُ يَخْرُجُ بِأَهْلِهِ فَيَأْتِي الْأَرْضَ فَيَنْزِلُهَا، فَيَقُولُ: أَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِي مِنَ الْجِنِّ أَنْ أُضَرَّ أَنَا فِيهِ أَوْ مَالِي أَوْ وَلَدِي أَوْ ماشيتي.

قال قتادة: فإذا عاذ بهم مِنْ دُونِ اللَّهِ رَهِقَتْهُمُ الْجِنُّ الْأَذَى عِنْدَ ذَلِكَ.

وَروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ الْجِنُّ يَفْرَقُونَ مِنَ الْإِنْسِ كَمَا يَفْرَقُ الْإِنْسُ مِنْهُمْ أَوْ أشد، فكان الْإِنْسُ إِذَا نَزَلُوا وَادِيًا هَرَبَ الْجِنُّ فَيَقُولُ سَيِّدُ الْقَوْمِ: نَعُوذُ بِسَيِّدِ أَهْلِ هَذَا الْوَادِي، فَقَالَ الْجِنُّ: نَرَاهُمْ يَفْرَقُونَ مِنَّا كَمَا نَفْرَقُ مِنْهُمْ، فَدَنَوْا مِنَ الْإِنْسِ فَأَصَابُوهُمْ بِالْخَبَلِ وَالْجُنُونِ، فذلك قول الله: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا أي: إثمًا.

وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: رَهَقًا أَيْ: خَوْفًا.

وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَزَادُوهُمْ رَهَقًا أَيْ: إِثْمًا، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: زَادَ الْكُفَّارَ طُغْيَانًا.

هذه الأقوال التي ذكرها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في مجملها ترجع إلى معنيين، فالله -تبارك وتعالى- يقول عن قول الجن: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا الضمير يرجع إلى من؟

هذه المعاني المذكورة المنقولة عن السلف هي عائدة إلى قولين، وذلك باعتبار مرجع الضمير: فَزَادُوهُمْ من الذي زاد الآخر بهذا الصنيع -بهذه الاستعاذة؟ هل الجن زادوا الإنس رَهَقًا؟ وما المقصود بهذا الرهق الذي وقع لهؤلاء المستعيذين حينما استعاذوا بالجن؟ أو أن المقصود أن الإنس زادوا الجن رهقًا حينما استعاذوا بهم؟ هذا في مرجع الضمير.

وحاصل هذه الأقوال لو نظرت إليها وما ينقل عن السلف من غير هذا مما لم يذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- كل ذلك يرجع إلى هذين المعنيين إلا ما شذ.

المقصود: أن المعنى الأول: أنهم زادوهم رهقًا، يعني زاد رجال الجن مَن تعوذ بهم من رجال الإنس رهقًا، يعني رجال الجن زادوا مَن تعوذ بهم رهقًا، يعني فُسر خوفًا، زادوهم خوفًا، بمعنى أنهم علموا أن الإنس يخافون منهم، فزادوهم خوفًا، وتسلطوا عليهم، لمّا علموا أنهم يحسبون لهم حسابًا، ويخشونهم فعلوا بهم ذلك، زادوهم خوفًا منهم، وتسلطوا عليهم، فهذا أيضًا مع قول من قال: زادوهم كفرًا، باعتبار أن هذه الاستعاذة كفر، فالجن يوقعونهم في هذا كله.

وهذا المعنى قريب، وله وجه، فهؤلاء الذين يستعيذون بغير الله -تبارك وتعالى- لا يزيدهم هذا اللجوء إلا ضعفًا، ولا يحصل لهم مطلوبٌ بحال من الأحوال، والجن حينما علمت ذلك من حال هؤلاء، تسلطوا عليهم، وأخافوهم، فلم تزدهم هذه الاستعاذة إلا خوفًا، فلم يحصل لهم الأمن الذي طلبوه، وكذلك هم في فعلهم هذا حينما يستعيذون بغير الله  فهذا من قبيل الإشراك، حينما يقول قائلهم: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فهذا شرك، وإنما يستعاذ بالله -تبارك وتعالى، فالجن يتسلطون، الشياطين يتسلطون على النفوس بهذا وهذا، وكلما علموا ضعفًا وخوفًا ازداد هذا الرهق.

ولذلك هؤلاء الذين يلجئون إلى الجن والسحرة الذين يتوصلون بهم إلى الجن، ويذهبون إلى الكهنة والعرافين لا يزيدهم ذلك إلا ضعفًا، وما رأيت أحدًا قط ذهب إلى العرافين أو الكهان أو إلى السحرة ممن نزل به بلاء، فأفلح، لم يرجع أحد إلا بخيبة، وازداد عليه بلاؤه وتضاعف، وصار الواحد من هؤلاء يخرج من لون من ألوان هذا البلاء، ويدخل في ألوان أخرى متتابعة، لا تنقضي ولا تنتهي، ويتلاعبون بهم غاية التلاعب، ويدخلونهم في عالم من الأوهام.

وقد سمعت أشياء لولا أني أعرف هذا المتكلم المتحدث معرفة تامة، منذ نعومة أظفاره لقلت: إن هذا من الخيال، يتحدث عن أشياء من أحوال هؤلاء الجن الذين زعموا أنهم جاءوا من أجل حمايته، فأوهموه بأوهام، وأن جسمه مخروق، وأنه عرضة لكل آسر وكاسر ممن يحتفّ به أو يمر به ولو عرضًا من الجن والشياطين، فيدخلون بهذا الجسد، فهو عرضة على الدوام، إذًا لابدّ له من حماية.

ويزعم بعض هؤلاء ولربما جاءوا بزعمهم عن طريق بعض من يذهب إليهم ممن يدعون الرقية، فيقولون: أنت تحتاج إلى حماية، وهؤلاء من المسلمين، فيبقون معه سنوات، ويوهمونه بأشياء، ويرى أنه يخوض معارك وقتالا، وأن بيده سيفًا ضاربًا، وأنه يقتل من المردة والكفار من الجن، ويخوض معارك وهو جالس في المسجد، أو جالس في بيته، أو يأكل أو يشرب، قلبه وعقله في عالم آخر تمامًا، معارك يخوضها، ويوهمونه أنه صار عنده من القُدر والإمكانات والقوة ما لا يوجد عند أحد منهم، وأن هذا من نصر الله وفتحه عليه، فيدخل في عالم.

وهكذا كلما ذهب إلى واحد من هؤلاء المضللين ممن يدعي الرقية، وأنا لا أعني الذين يرقون أنهم كذلك، لكن يوجد من الناس من يتعامل بهذه الأمور، فلا يزيده هذا إلا ضلالاً، حتى إن أحدهم لما تعب وبقي على هذه الحال أكثر من خمس عشرة سنة، وهو يدخل في بلاء، ويخرج إلى بلاء -نسأل الله العافية- فجاء مرة، وقال: أنا أريد أن أسمع شيئًا أقف عنده، قلت له: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ [سورة الفرقان:58] ولا تلتفت إلى شيء سواه، قال: هم معي الآن سبعة، ويسمعون، وإن شئت تحدثوا الآن، يزعمون أنهم يحمونه، أو هو هكذا يتصور، وما حصلت له هذه الحماية أصلاً.

فهؤلاء الشياطين والجن قد يضللون الناس بأمور كثيرة جدًّا، ويوهمونه أنهم من المسلمين، فيتلاعبون به، فهذا الذي يتعلق بغير الله  من هؤلاء الشياطين، ونحو ذلك، لا يزيده ذلك إلا رهقًا، فهذا المعنى على هذا الوجه، وحينما يستعيذ بهم هو يزداد كفرًا، ولذلك كما سبق في بعض المناسبات أن هؤلاء الشياطين لربما يُسقطون الحمل بإذن الله، حتى تلجأ هذه المرأة إلى الذهاب إلى السحرة والكهنة، ونحو ذلك، وتتعاطى ألوانًا من الشرك، كالذبح لغير الله، أو بعقد التمائم، ونحو ذلك التي لربما يزعمون أنها من القرآن.

وقد أريتُ الإخوان -في بعض المناسبات- في دروس التوحيد قديمًا، في حدود سنة 1404هـ أو 1405هـ، حلًّا، جئنا بتمائم، جميع هذه التمائم تقريبًا -جاء بها الإخوان من بيوتهم، من جداتهم- كانت أسماء شياطين، واستعانة بشياطين، وفي تعليق على فتح المجيد بحدود سنة 1423هـ، جئنا بكيس كبير، جاء به أحد الإخوان فيه مئات التمائم، وفتح منها الكثير، كلها أسماء شياطين، فهؤلاء زادوهم رهقًا، حتى إني قلت مرة لأحد هؤلاء وله أخ قد ربط تميمة، قلت له: هذه فيها أسماء الشياطين، وهذا مما يخالف التوحيد، وأعطيته بعض هذه الأوراق التي حُلت من تلك التمائم، وفيها أسماء الشياطين، ورسوم ورموز، قلت من أجل أن يقنع أهله، يقول: ما وقفت عند باب البيت إلا وأخي يصيح ويهرول وينزل جريًا: هات الذي معك، أخرج الذي معك، يعني في هلع، أخوه كان به مس من الجن، فشعر بهذا، وانزعج، وأخوه لم يدخل البيت بعدُ، فجاء إليه يطالبه بإخراجها، أو بإتلافها، وأن لا يدخل بها بيتهم، فزادوهم رهقًا، يتلاعبون بهم.

وكما سبق في أثر ابن مسعود -في بعض المناسبات- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الرقى والتمائم والتِّوَلة شرك، قالت -أي امرأة ابن مسعود: قلت: لم تقول هذا والله لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيني، فإذا رقاني سكَنَتْ؟ فقال عبد الله: "إنما ذاك عمل الشيطان كان ينخسها بيده، فإذا رقاها كَفّ عنها"[8] هكذا، فهذا باب واسع، الطريق هو التوكل على الله ، والثقة به، والاعتماد عليه: وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ [سورة الأنعام:17]، فلا يتعلق الإنسان بالمخلوقين، ولا يلتفت إليهم، فيقوى يقينه، فيفر منه الشيطان، إذا لقيه في طريق سلك فجًّا آخر[9]؛ كما وقع لعمر وأرضاه.

وهذا معنى، إذًا قطع الطريق على الشياطين، بحيث لا يلتفت إليهم لا إلى وساوسهم، ولا إلى خواطرهم، حتى الوساوس والخواطر إذا فُتح الباب تلاعبوا به في الطهارة، في صلاته، في طلاقه، في معاملته، في علاقاته، حتى يصير في حال يرثى لها، فلا يُفتح هذا الباب، باب المخاوف وما يلقيه في قلبه من الظنون الكاذبة، كل ذلك ما يحصل به من تعظيم أوليائه في نفوس أهل الإيمان فيخافونهم: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ  [سورة آل عمران:175] يعني يخوفكم من أوليائه، فيضخمهم ويعطيهم هالة كبيرة، فتخافونهم، فهذا كله من عمل الشيطان.

وهذا معنى، والمعنى الآخر عكسه، وهو: أن استعاذة هؤلاء الإنس بهؤلاء الجن زادت الجن طغيانًا وتيهًا، وكبرًا وتعاظمًا، فقالوا: سدنا الإنس والجن، ها هم يخافون منا، فالقول الأول: أن الجن زادوا مَن تعوذ بهم من الإنس رهقًا، هذا قال به جماعة، كما نقله الحافظ ابن كثير، وما لم ينقله: هذا حاصل قول أبي العالية وقتادة والربيع بن أنس وابن زيد وهو اختيار الحافظ ابن القيم -رحمه الله- أن الإنس زادوا الجن الذين استعاذوا بهم تيهًا وكبرًا وتعاظمًا، قالوا: سدنا الإنس والجن.

وعلى القول الآخر: أن الجن زادوا هؤلاء الإنس كفرًا أو خوفًا، فهذا قال به أيضًا جماعة، كمجاهد وقتادة.

من قال: إن المقصود زادوهم كفرًا -يعني زادوا الإنس، فمعنى ذلك بسبب أنهم استعاذوا بغير الله، واعتمدوا على غيره، وتوكلوا على غيره.

وخوفًا: هذا واضح.

والرهق في كلام العرب بمعنى: الإثم والغشيان: وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ [سورة يونس:26] يعني لا يغشاها ذلك.

تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [سورة المعارج:44] يعني تغشاهم ذلة، فهنا الإثم وغشيان المحارم يقال له: الرهق، هذا الذي أيضًا قاله ابن جرير -رحمه الله، وابن جرير -رحمه الله- في هذا الموضع يفسر ذلك: فَزَادُوهُمْ رَهَقًا يعني زاد الجنُّ الإنسَ الذين استعاذوا بهم إثمًا واستحلالاً لمحارم الله -تبارك وتعالى، يعني أن الجن زادوا الإنس، وذكرنا: أن هذا هو الذي اختاره أيضًا ابن القيم -رحمه الله، وهذا ظاهر كلام ابن كثير، ولو قيل: إن الآية تحمل على المعنيين، باعتبار أن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، ويدخل في ذلك ما يتصل باحتمال عود مرجع الضمير، أي: ليس الأقرب على المعنيين، فهذا له وجه، فيكون ذلك واقعًا من الطرفين، والله  أخبر في سورة الأنعام: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ  [سورة الأنعام:128].

وذكرنا هناك وجوه الاستمتاع من الطرفين، الجن يزدادون تيهًا وكبرًا وتعاظمًا، ويحصل لهم انتفاع بما يذبح لهم، وما يقدم من القرابين والنذور، ونحو ذلك، والإنس يحصل لهم بسبب هذا أمور من مصالح متوهمة من وجود ضالة، أو نحو ذلك مما يطلبون به حماية حينما يستعيذون من سفهاء الجن، أو نحو ذلك، لكن الثمن الذي يدفعونه أكبر وأعظم: الدين والإيمان، بالإضافة إلى الرهق الذي يحصل لهم؛ كخوف دائم.

ومن فسره بالخوف فهو معنى صحيح أيضًا: فَزَادُوهُمْ رَهَقًا خوفًا.

هكذا كل من خاف من غير الله، تبقى هذه المخاوف تلاحقه في كل مكان، ولو كان هذا الشيء الذي يخافه صغيرًا، ولو بقي أحد من الناس منفردًا في مكان خالٍ، أو مظلم، أو نحو ذلك، لو سمع صوتًا، ولو كان صوت صبي يتوقع أنه من الجن لم ينم تلك الليلة، ولوقف من رأسه كل شعرة، أليس كذلك؟!

ولو أنه وجد صبيًّا صغيرًا لم يجاوز السنتين من الإنس، هذا ماذا يمكن أن يفعل؟

فهذا الصغير من الجن أضعف من هذا الذي يراه من الإنس، فلو كانت القضية معكوسة أن الجن والشياطين يخافون من صبياننا الصغار ممن لم يبلغوا العامين إذا سمعوا مجرد صياحه، فتنخلع قلوبهم لذلك، لو علمنا بهذا لتسلط سفهاؤنا لو كانوا يستطيعون إليهم سبيلاً، ولتلاعبوا بهم، أليس كذلك؟

فحينما يَعرفون أو يرون أو يشاهدون -لأنهم يروننا ونحن لا نراهم- هذا الخوف منهم، ولو كان من أصغر صغير فيهم، وأضعف ضعيف، تنخلع القلوب من الخوف، فهذا يزيدهم تعاظمًا وتلاعبًا بالإنس، فهذا الذي يجرئهم، فإذا وجدوه ثابت الإيمان، قويَّ اليقين فإن ذلك لا شك أنه يكون سببًا لفَرقهم، وبعدهم عنه، والله المستعان.

الإنسان أحيانًا يخاف من أشياء صغيرة لا أثر لها ولا قيمة، لا تؤثر، أشياء صغيرة، قد يخاف من حشرة لا تؤذي، فتجده في حال من الرعب منها والهلع ويقوم بتصرفات ويغلق الأبواب؛ لئلا تصل إليه، ولو علمتْ هذه الحشرة أن هذا يخاف منها لفعلت به الأفاعيل، لكن هي في حال من الخوف، ما علمت أنها هي المخوفة.

وقوله تعالى: وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا أي: لن يبعث الله بعد هذه المدة رسولاً، قاله الكلبي وابن جرير.

في الاستعاذة بالجن يقول مقاتل: إن أول من استعاذ، يعني استعاذة الإنس بالجن إذا نزلوا واديًا قالوا: "أعوذ بسيد هذه الوادي من سفهاء قومه"، يقول: هم قوم من أهل اليمن، ثم انتقل هذا إلى بعض بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب.

وأخبار العرب في هذا كثيرة منها ما هو من قبيل الأساطير، لكن من أراد أن يرى أو يعرف أحوال العرب في هذا فلينظر مثلا في كتاب: "الأصنام" للكلبي، وكذلك كتاب: "الشرك" للميلي، وكذلك أيضًا: "أصنام ومعبودات العرب في الجاهلية" وكذلك الكتاب الكبير لـ"علي جواد" في نحو أحد عشر مجلداً، أو قريبًا من هذا، بعنوان: "المفصل في أحوال العرب قبل الإسلام" هذا فيه كل ما يتعلق بالعرب، فإذا طالعتَه وجدتَ فيه أحوالهم مع الشياطين والجن، أو المعبودات والأصنام، و كل ما يتصل بالعرب تفصيلاً.

وأما قوله -تبارك وتعالى: وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا أي: لن يبعث الله بعد هذه المدة رسولاً، قاله الكلبي وابن جرير، هذا من قول الجن للإنس: وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ، وبعضهم يقول: معناه: وأن الإنس ظنوا كما ظننتم أيها الجن.

هنا يقول: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا فالمحدَّث عنه هم الإنس: وَأَنَّهُمْ ظَنُّوْا يعني: الإنس، فالجن هنا يتحدثون عن الإنس، يخاطبون الجن، يتحدثون عن الإنس: أنهم ظنوا كما ظننتم، وبعضهم يقول عكس ذلك.

وقوله -تبارك وتعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا هذا يدل على أن الجن يقال لهم: رجال، وبعض أهل العلم كابن القيم يقول: لا يقال ذلك بإطلاق، فإذا قيل: رجال فهم: الإنس، لكن بقيد يقال: رجال من الجن، رجل من الجن.

وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً ۝ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً ۝ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [سورة الجن:8-10].

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْجِنِّ حِينَ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا ﷺ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، وَكَانَ مِنْ حِفْظِهِ لَهُ أَنَّ السَّمَاءَ مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا، وَحُفِظَتْ مِنْ سَائِرِ أَرْجَائِهَا، وَطُرِدَتِ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَقَاعِدِهَا الَّتِي كَانَتْ تَقْعُدُ فِيهَا قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِئَلَّا يَسْتَرِقُوا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، فَيُلْقُوهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْكَهَنَةِ، فَيَلْتَبِسُ الْأَمْرُ وَيَخْتَلِطُ، وَلَا يُدْرَى مَنِ الصَّادِقُ، وَهَذَا مِنْ لطف الله تعالى بِخَلْقِهِ، وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ، وَحِفْظِهِ لِكِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَلِهَذَا قَالَ الْجِنِّ: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا۝ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً أَيْ: مَنْ يَرُومُ أَنْ يَسْتَرِقَ السمع يَجِدْ لَهُ شِهَابًا مُرْصِدًا لَهُ لَا يَتَخَطَّاهُ ولا يتعداه، بل يمحقه اليوم وَيُهْلِكُهُ.

قوله: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء الدنيا، يعني طلبنا خبرها كما هي عادتنا: لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا الشهب: الشهاب الشعلة من النجم يقذف بها الشياطين.

وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا أَيْ: مَا نَدْرِي هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي قَدْ حَدَثَ فِي السَّمَاءِ: لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا وَهَذَا مِنْ أَدَبِهِمْ فِي الْعِبَارَةِ حَيْثُ أَسْنَدُوا الشَّرَّ إِلَى غَيْرِ فَاعِلٍ، وَالْخَيْرَ أَضَافُوهُ إِلَى اللَّهِ .

وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ: وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ[10].

مضى الكلام عليه في شرح الأذكار، وأن ذلك من باب الأدب، فإبراهيم ﷺ قال: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [سورة الشعراء:80] فأضاف المرض إلى نفسه فَهُوَ يَشْفِينِ، وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا، فلما ذكروا الشر جاءوا بالفعل المبني للمجهول، ولما جاءوا بالخير قالوا: أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ومثل هذا في قول الخضر لموسى ﷺ: فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا [سورة الكهف:79] فنسب العيب إلى نفسه، فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ [سورة الكهف:82] فأضاف ذلك إلى الله -تبارك وتعالى.

فهنا هذا من باب الأدب في العبارة، مع أن الله خالق الخير والشر، وقد مضى الكلام على هذا في شرح الأذكار، وأن قوله ﷺ: والشر ليس إليك[11] مع أن الله خالق الخير والشر، لكن الشر لا ينسب إليه هكذا استقلالاً، وإنما هو في مفعولاته، وليس في أفعاله، فأفعاله كلها خير، وصفاته كاملة، وإنما يفعل لحكمة، وإنما يقع الشر في مفعولاته، فهذا المطر الذي يقع فتنهدم به بعض البيوت، وتنقطع بعض السبل، ونحو ذلك هو بالنسبة لهذا الذي وقع لهؤلاء هو شر، لكنه في تقدير الله وفي أفعاله خير وحكمة، ونفع عام، وقل مثل ذلك في بعث النبي ﷺ فهو خير، وإن كان ذلك سببًا لذهاب رئاسات على أقوام، وكذلك أيضًا نفوس مزهقة قتلوا في غزواته ﷺ، ونحو ذلك، مع أن من أهل العلم من يقول: هذا أيضًا خير لهم؛ لأنهم قتلوا وقُطع دابر الكفر الذي يتمادى، ويصدر عنهم، يعني حتى القتل الواقع لهم فيه خير.

وَقَدْ كَانَتِ الْكَوَاكِبُ يُرْمَى بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَيْسَ بِكَثِيرٍ بَلْ فِي الْأَحْيَانِ بَعْدَ الْأَحْيَانِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إذا رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ، فَقَالَ: مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي هَذَا؟ فَقُلْنَا: كُنَّا نَقُولُ: يُولَدُ عَظِيمٌ، يَمُوتُ عَظِيمٌ، فَقَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ إِذَا قَضَى الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ..[12]، وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَوْرَدْنَاهُ فِي سُورَةِ سَبَأٍ بِتَمَامِهِ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى تَطَلُّبِ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ.

سؤال النبي ﷺ: ما كنتم تقولون في هذا؟، يعني في الجاهلية، فكان يرمى بها في الجاهلية، لكن حينما رمي بنجم فاستنار، وهم مع النبي ﷺ، فهذا يدل على أنها وجدت بعد بعثه -عليه الصلاة والسلام، لكنها كانت قليلة مقارنة بما كان الأمر عليه، كثر الرمي بها بعد بعثه ﷺ، لكن كان يرمى بها في الجاهلية؛ لأن النبي ﷺ قال: ما كنتم تقولون؟ يعني في جاهليتكم، فكانت في الجاهلية يرمى بها خلافًا لمن قال: إن ذلك لم يكن، يعني في الجاهلية ما كان يرمى بها.

فكان موجودًا، ولكنه زاد بعد بعثه ﷺ، وقد سأل معمر بن راشد محمد بن شهاب الزهري -رحم الله الجميع- عن هذا: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم، فسأله عن هذه الآية: أفرأيت قوله: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا يعني ما كان ذلك يجدونه قبل مبعثه ﷺ؟ فأجابه بنحو ما سبق: غُلِّظتْ وشُدد أمرها حين بعث ﷺ.

وهكذا ذكر ابن قتيبة -رحمه الله: كان يرمى بها، لكن غُلظ ذلك وشدد، فلم يكن قبل بعثه ﷺ من الحراسة ما كان بعد بعثه، فكانوا يسترقون السمع، ولربما رُجموا بالشهب في الجاهلية، ولكن بعد بعثه ﷺ مُنعوا من ذلك تمامًا، وهذا الذي يظهر -والله تعالى أعلم، إلا ما شاء الله يعني أن النبي ﷺ أخبر عن الكهنة، وأخبر عن صعود الشياطين، وكيف يأتون إلى الكهنة، وكيف أنه يكذب معها مائة كذبة.

فهذا معناه أنهم يلتقطون الكلمة بعد الكلمة مما أراد الله -تبارك وتعالى، والنبي ﷺ لما خبّأ لابن صياد وكان يتهم بالكهانة، خبأ له وسأله، قال: هو الدُّخ[13] يعني تلقف بعض الكلمة، ولم يستتم له ما أراد، والله أعلم.

فَأَخَذُوا يَضْرِبُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقْرَأُ بِأَصْحَابِهِ فِي الصَّلَاةِ، فَعَرَفُوا أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي حُفِظَتْ مِنْ أَجْلِهِ السَّمَاءُ، فَآمَنَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ وَتَمَرَّدَ فِي طُغْيَانِهِ مَنْ بَقِيَ، كَمَا تَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ: إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [سورة الأحقاف:29] الْآيَةَ.

هؤلاء أعقل من عتاة الإنس، عتاة الإنس حينما يرون مثل هذه الظواهر والمظاهر التي تكون في العالم العلوي، أو في العالم السلفي يعزون ذلك إلى أمور طبيعية، وهم أبعد ما يكونون عن تفسيرها بأمور تتصل بمعنى كهذا، إن وقع زلزال، أو وقع طوفان، أو وقع ما وقع، بل لو طبقت السماء على الأرض فسروا هذا بتفسيرات وتعليلات لا تزيدهم إلا طغيانًا وعتوًّا، بل منهم من لا يرضى أبدًا أن تفسر هذه الأشياء بمعانٍ مما يخوف الله به عباده، ونحو ذلك كما جاء في الحديث.

 فإذا فسر الزلزال المدمر بأن هذا وقع بسبب ذنوب بني آدم، ونحو ذلك فإن هذا يكون في غاية الإزعاج بالنسبة إلى هؤلاء، فتأتي الآيات والقوارع والعقوبات، ولا يحصل بسبب ذلك لا توبة ولا رجوع، ولا خوف من الله أبدًا، يقول لي بعض من ذهب إلى بعض البلاد، وحصل في تلك الليلة التي وصل فيها خسوف، ثم حصل زلزال كبير، يقول: بقيت تلك الليلة في المسجد، ولم يأتِ أحد، والناس في الساحات شبه عرايا؛ لأنهم خرجوا في ليلتهم هلعًا، فبقوا في الساحات، حشود من السواح، وعالم من الناس كثير.

يقول: بقيت إلى الفجر لم يأتِ أحد يصلي الخسوف، وأذن الفجر، ولم يأت هؤلاء من الساحات، وهم ينتسبون إلى الإسلام في مجملهم، وما جاء أحد يصلي الفجر، يتسكعون، حشود في تلك الساحات المجاورة؛ لأنه كان في مكان فيه مساحات وأماكن، هو ذهب يبحث عن مخطوطة، وكان هذا أول ما استقبله، لاحظ هؤلاء ما تابوا، ولا رجعوا، ولا أنابوا، حتى صلاة الفجر فضلاً عن صلاة الخسوف، مثل البهائم.

وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَمَّا حَدَثَ هَذَا الْأَمْرُ وَهُوَ كَثْرَةُ الشُّهُبِ فِي السَّمَاءِ وَالرَّمْيُ بِهَا هَالَ ذَلِكَ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ وَانْزَعَجُوا لَهُ وَارْتَاعُوا لِذَلِكَ، وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ لِخَرَابِ الْعَالَمِ، كَمَا قَالَ السُّدِّيُّ: لَمْ تَكُنِ السَّمَاءُ تُحْرَسُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ نَبِيٌّ أَوْ دِينٌ لِلَّهِ ظَاهِرٌ، فَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ قَبْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ قَدِ اتَّخَذَتِ الْمَقَاعِدَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، يَسْتَمِعُونَ مَا يَحْدُثُ فِي السَّمَاءِ مِنْ أَمْرٍ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ نبيًّا رسولا رُجِمُوا لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي فَفَزِعَ لِذَلِكَ أَهْلُ الطَّائِفِ، فَقَالُوا: هَلَكَ أَهْلُ السَّمَاءِ لِمَا رَأَوْا مِنْ شِدَّةِ النَّارِ فِي السَّمَاءِ وَاخْتِلَافِ الشُّهُبِ، فَجَعَلُوا يُعْتِقُونَ أَرِقَّاءَهُمْ وَيُسَيِّبُونَ مَوَاشِيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ عبد يا ليل بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ: وَيْحَكُمْ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الطَّائِفِ أَمْسِكُوا عَنْ أَمْوَالِكُمْ، وَانْظُرُوا إِلَى مَعَالِمِ النُّجُومِ، فَإِنْ رَأَيْتُمُوهَا مُسْتَقِرَّةً فِي أَمْكِنَتِهَا فَلَمْ يَهْلِكْ أَهْلُ السَّمَاءِ، إِنَّمَا هَذَا مِنْ أَجْلِ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ -يَعْنِي مُحَمَّدًا ﷺ، وإن نظرتم فلم تَرَوْهَا فَقَدْ هَلَكَ أَهْلُ السَّمَاءِ.

فَنَظَرُوا فَرَأَوْهَا فكفوا عن أقوالهم وَفَزِعَتِ الشَّيَاطِينُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَأَتَوْا إِبْلِيسَ فَحَدَّثُوهُ بِالَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فَقَالَ: ائْتُونِي مِنْ كُلِّ أَرْضٍ بِقَبْضَةٍ مِنْ تُرَابٍ أَشُمُّهَا، فَأَتَوْهُ فَشَمَّ فَقَالَ: صَاحِبُكُمْ بِمَكَّةَ، فَبَعَثَ سَبْعَةَ نَفَرٍ مِنْ جِنِّ نَصِيبِين فَقَدِمُوا مَكَّةَ فَوَجَدُوا نبي اللَّهِ ﷺ قَائِمًا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَدَنَوْا مِنْهُ حِرْصًا عَلَى الْقُرْآنِ حَتَّى كَادَتْ كَلَاكِلُهُمْ تُصِيبُهُ، -الكلكال أي الصدر أو هذه العظام الفقرتان، يعني دنوا منه جدًّا-ثُمَّ أَسْلَمُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَهُمْ عَلَى رسوله ﷺ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْفَصْلَ مُسْتَقْصًى فِي أَوَّلِ الْبَعْثِ مِنْ كِتَابِ السِّيرَةِ الْمُطَوَّلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً ۝ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً ۝ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً ۝ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً ۝ وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً ۝ وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً ۝ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً [سورة الجن:11- 17].

يقول تعالى مُخْبِرًا عَنِ الْجِنِّ أَنَّهُمْ قَالُوا مُخْبِرِينَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أَيْ: غَيْرُ ذَلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً أَيْ: طَرَائِقَ مُتَعَدِّدَةً مُخْتَلِفَةً، وَآرَاءَ مُتَفَرِّقَةً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً أَيْ: مِنَّا الْمُؤْمِنُ وَمِنَّا الْكَافِرُ.

وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ فُسر: الصَّالِحُونَ بالمسلمين العاملين بطاعة الله -تبارك وتعالى، وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كما يقوله ابن جرير -رحمه الله، والحافظ ابن القيم.

ابن القيم -رحمه الله- ذكر أن هذا يتضمن المراتب الثلاث التي ذكرها الله: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [سورة فاطر:32] فهؤلاء أهل الاستجابة ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا أمة الإجابة التي اصطفاها الله ، وهي أمة محمد ﷺ المستجيبون منهم لدعوته هم على هذه الطبقات الثلاث، مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ فهنا: السابق بالخيرات، والمقتصد، والظالم لنفسه في هذه الجملة، ويبقى الآخرون هم الْقَاسِطُونَ: فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا.

هم يتحدثون عن أحوال الجن:أن فيهم الصالح وغير الصالح: كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً الطرائق جمع طريقة، وهي المذهب الذي يذهب إليه الإنسان، والقِدد يعني الضروب والأجناس المختلفة، كما يقول ابن جرير -رحمه الله- في تفسير هاتين اللفظتين: طَرائِقَ قِدَداً والمقصود جماعات متفرقة، وأصناف مختلفة.

فالقِدَّة هي القطعة من الشيء، تقول: صار القوم قِددًا، يعني تفرقت أحوالهم، يعني طوائف متفرقة، ذوي طرائق قِددًا، أو كانت طرائقنا طرائق قِددًا، أو نحو ذلك، مما يمكن أن يقدَّر.

والمقصود أنهم كانوا أهواء مختلفة وفرقًا شتى، كما يقول ابن جرير -رحمه الله، وابن جرير يفسر الطريقة بالمذهب، وكذلك الحافظ ابن القيم، يعني مذاهب شتى، وأهواء متفرقة، فهم على أديان مختلفة كالإنس، ومذاهب أيضًا وآراء متفرقة متباينة، وأقوال السلف في هذا متقاربة، يعني تجد من السلف من يقول: فيهم نصارى وأهل إسلام ويهود، ونحو ذلك، ومجوس، كما جاء عن سعيد بن المسيب، وهذا تفسير له بما يقربه من المثال، وهكذا قول من قال كمجاهد والحسن: فيهم قدرية ومرجئة، ونحو ذلك، كالرافضة، وهكذا من فسره بتفسير مجمل، قال: أهواء مختلفة وأديان، كالسدي والضحاك، هذا كله يرجع إلى شيء واحد، فهؤلاء الجن كالإنس، فيهم الديانات المختلفة، وفيهم الأهواء، يعني الفرق كالإنس، ففيهم رافضة، وفيهم أشاعرة ومعتزلة وصوفية، وفيهم قدرية، وكل هذه الأهواء موجودة في الجن، فيهم أهل سنة، وغير ذلك، كالإنس تمامًا، والله المستعان.

هذا التفرق إذا كان موجودًا في الإنس فهو في الجن أكثر؛ لأنهم كما قال شيخ الإسلام: هم أهل خفة وظلم، فهذه الخفة والظلم تدفع إلى مزيد من تجاوز الحد والانحراف، ولذلك كان الانحراف فيهم أكثر من الإنس، نظرًا لطبيعتهم، فالنار من طبيعتها الخفة: مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ [سورة الرحمن:15] بخلاف الطين، فهو إلى الرصانة والرزانة أقرب، فإذا وجدت في الإنس هذه الحماقات والطوائف والضلالات والأهواء فالجن من باب أولى.

وَروى أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّجَادُ فِي أَمَالِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ يَقُولُ: تَرَوَّحَ إِلَيْنَا جِنِّيٌّ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيْكُمْ؟ فَقَالَ: الْأُرْز، قَالَ: فَأَتَيْنَاهُمْ بِهِ، فَجَعَلْتُ أَرَى اللُّقَمَ تُرْفَعُ وَلَا أَرَى أَحَدًا، فَقُلْتُ: فِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ الَّتِي فِينَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فقلت: فما الرافضة فيكم؟ قَالَ: شَرُّنَا"[14]، عَرَضْتُ هَذَا الْإِسْنَادَ عَلَى شَيْخِنَا الْحَافِظِ أَبِي الْحَجَّاجِ الْمِزِّيِّ، فَقَالَ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى الْأَعْمَشِ.

"تروَّح إلينا جني" كأنه استروح، وانبسط، فتكلم، وأنس بهم، وصار يأكل ويتحدث.

الأصل أن الجن لا يصدقون، الكذب فيهم أكثر كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله، لذلك هؤلاء الذين يسألونهم دائمًا من الرقاة، ويأخذون ذلك كأنه وحي منزل، هذا غلط، فيقول: أصابك فلان، فعل بك فلان، وأحيانًا يسألهم أسئلة خارجة عن ذلك كله، فيسألون عن قبائلهم، ولربما قال لهم هذا المتكلم: إنه من ملوك الجن، وعرض عليه خدمات، ونحو هذا، وهذا يصدقه في كل ما يقول، والواقع أنهم أهل كذب، ولو عُكست القضية وكان الإنس هم الذين يرون الجن، ويتلاعبون بهم لفعل بهم سفهاؤنا الأفاعيل، وأضافوا إلى أنفسهم من الملك والعظمة، وبدءوا يقولون: ماذا تريد؟ وماذا تتمنى؟

فهؤلاء يصدقونهم بكل ما يقولون، ويسجلون هذا في شريط وينشرونه، وقد لا يكون أصلا هذا الذي يتكلم من الجن.

وكلما أوغل العاقل في الرقية أدرك أنه يدخل في متاهات، وفي أمور لا تزيده إلا حيرة: هل هذا فيه جن أو فيه عين؟ الأعراض تتشابه، أو أنه عنده إشكال أصلاً فيما يتعلق بأمور نفسية أحيانًا، فيظهر عليه من التغيرات، ومن الكلام -إلى آخره- أشياء هائلة لا يتصورها الإنسان.

دخلتُ مرة المسجد هذا بعد صلاة العشاء، فوجدت أحد الإخوان من طلبة العلم -وهو ليس عنده إشكال أن يأتي ويتحدث في هذا المكان، ووجدته حاسرًا في حالة يرثى لها، واقفا هنا، لم يصلِّ، فسألته، فقال: أختي هنا في الخارج مع زوجها، ونحن في حالة لا يعلمها إلا الله، فأجلسته: ما الذي حصل؟ فقال: أختي معها أولادها الصغار، معها ولدان، فأغلقتْ باب السيارة، ونحو ذلك، فضَرب رأس الولد، فأصابها شيء، وشعرت أن شيئًا في جسمها.

يقول: فجلست أرقيها، وأنا لا أعرف الرقية، فجلس يتحدث رجل، يقول: فبقيت طول الليل، من بعد العشاء إلى الفجر، يقول: مواصل وأنا على هذه الحال، وأقرأ وأشرب، ثم أمجُّ الماء عليه، ويتكلم، قلت له: كيف عرفت أن هذا من الشياطين؟ قال: هذا مارد، أخبرنا هو، فقلت له: وما يدريك أن كلامه صحيح؟

قال: هو ذكر لنا معلومات دقيقة عن الأسرة، لا أحد يعرفها، فقلت له: لا تعجب، وأعطيته رقم أحد الناس الذين يعرفون هذه الأشياء، وقلت له: تواصل معه، وكان قد ذهب بها من قبل إلى راقٍ، وكواها بالكهرباء، أو آذاها، وقال: هذا يحتاج إلى جلسات طويلة، هذا مارد، فتواصلَ مع هذا الشخص، وبعد اليوم الثاني، وإذا به يضحك، وبِسَمْتِه، ولابس، قلت له: ما الذي حصل؟ قال: الحمد لله، ذهب هذا كله.

فلاحِظ: كانوا سيدخلون في نفق لا يخرجون منه إلا أن يشاء الله، قال: هذا كله ذهب، قلت له: ما الذي حصل؟ قال: جلس معنا الشخص الراقي، وسألها بعض الأسئلة، فقال لها: أنت تدركين الكلام الذي كنتِ تقولينه؟ قالت: نعم، قال: أصلاً الذي فيه مس -لا مارد ولا غير مارد- لا يدرك، ولا يعي ما قال، فأنت التي كنت تتكلمين، فقالوا: وهذا الصوت صوت رجل؟

قال: أنت تعانين من بعض الأمراض؟ عندك إشكالات في الغدد؟ فقالت: نعم، عندها غدة تعالج عند طبيب، فقال: اتصلوا بالطبيب، قال: أنت أخذتِ الدواء؟ قالت: لا، من اثني عشر يومًا، فاتصلوا على الطبيب، فسألوه عن ترك الدواء، وعن الآثار، قال: يكون الصوت خشنًا جدًّا، ويكون هناك برودة في الأطراف، نفس الأعراض التي فيها، وكانوا يظنون أنه رجل، وكان يقول لهم: الشيخ بيته محصن، اذهبوا بها إلى بيته، هذا المارد يقول لهم هذا، أنت تعقل ما تقول؟ هذا المارد، حريص عليها! ويقول: اذهبوا بها إلى بيت فلان، كيف يدلكم المارد على هذا؟!

المهم، ذهب هذا كله، كل هذه الأوهام ذهبت، وإلا فكان يمكن أن يدخلهم هذا الراقي وغيره -ولا أقصد الجميع- أن يدخلهم في متاهات سنوات، وليست شهورًا ولا أيامًا، والله المستعان.

  1. رواه الترمذي، كتاب أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الرحمن، رقم (3291)، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح، رقم (40).
  2. رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب حُجة من قال لا يجهر بالبسملة، رقم (399).
  3. رواه البخاري، كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، رقم (844)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، رقم (593).
  4. رواه أحمد في المسند، برقم (12215)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  5. رواه البخاري، كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، رقم (844)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، رقم (593).
  6. المصدر السابق.
  7. المصدر السابق.
  8. رواه أبو داود، كتاب الطب، باب في تعليق التمائم، رقم (3883)، وأحمد في المسند، برقم (3615)، وقال محققوه: "صحيح لغيره، وهذا إسناد ضعيف لجهالة ابن أخي زينب، لكنه متابع"، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (4552).
  9. انظر الحديث في البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، رقم (3294)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر ، رقم (2396).
  10. رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، رقم (771).
  11. المصدر السابق.
  12. رواه مسلم، كتاب الآداب، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، رقم (2229).
  13. الحديث رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام، رقم (1354) ومسلم، كتاب في الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد، رقم (2930) (2931).
  14. الأثر أخرجه السخاوي في البلدانيات، ص (176).

مواد ذات صلة