الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
مسألة وفادة الجن على الرسول ﷺ
تاريخ النشر: ٢٣ / جمادى الآخرة / ١٤٣٥
التحميل: 3641
مرات الإستماع: 12785

بسم الله الرحمن الرحيم

المسألة الثانية هي فيما يتعلق بوفادة الجن على النبي ﷺ، في سورة الأحقاف الله -تبارك وتعالى- قال: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ  [سورة الأحقاف:29].

وفي سورة الجن: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ [سورة الجن:1] هل كان ذلك -يعني ما في سورة الأحقاف، وما في سورة الجن- يتحدث عن واقعة واحدة حصلت: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ [سورة الأحقاف:29]، قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ؟

فهل الآيات تتحدث عن واقعة معينة واحدة، أو أن كل سورة تتحدث عن واقعة غير الواقعة التي تذكرها السورة الأخرى؟

وفادة الجن على النبي ﷺ: بعض أهل العلم قال: إن ذلك حصل بمكة وبالمدينة، وذكروا ست مرات، من مجموع المرويات، في بعضها أنه لم يشعر بها أحد من أصحابه، ما علموا بذلك، لكنهم طلبوا النبي ﷺ فلم يجدوه، حتى أخبرهم بعد ذلك.

والثانية: أن ذلك كان في الحجون.

والثالثة: كان بأعلى مكة في الجبال، وأنه حضرها ابن مسعود .

والرابعة: أن ذلك كان في المدينة في البقيع، وأن ابن مسعود حضر.

والخامسة: أن ذلك كان خارج المدينة مع الزبير.

والسادسة: أن ذلك كان في بعض أسفاره، مع بلال -رضي الله عن الجميع.

وسيأتي المزيد في ذلك.

لكن أيضًا: لماذا وفدوا على النبي ﷺ؟

في مكة أول ما جاءوا، يقولون: كان سبب مجيئهم ما سبق من إرسال الشهب: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا [سورة الجن:8] فطلبوا علة ذلك، جاء هذا في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "فانطلق الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله ﷺ بنخلة، وهو عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن تسمعوا له، فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، وهنالك رجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ۝ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ [سورة الجن:1، 2] الآية، وأنزل الله على نبيه ﷺ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ[1] [سورة الجن:1] هذا في نخلة، هذا مصرح بأن سورة الجن تخبر عن استماع الجن للنبي ﷺ في نخلة.

أيضًا جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال الجن لقومهم: لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [سورة الجن:19] قال: لما رأوه يصلي وأصحابه يصلون بصلاته، فيسجدون بسجوده، قال: تعجبوا من طواعية أصحابه له، قالوا لقومهم: كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا.

وذكرنا: أن هذا أحد المعاني في الآية، هذه عند الترمذي، وصححها الألباني[2]، وهذا حينما كان يصلي يمكن أن يكون أيضًا في نخلة.

وروى ابن إسحاق وابن سعد كذلك: أن ذلك كان في ذي القعدة سنة 10 من المبعث، لما خرج النبي ﷺ إلى الطائف ثم رجع منها، وفيه: أن الجن رأوه يصلي بأصحابه صلاة الفجر.

الصلاة المفروضة معلوم أنها شرعت ليلة المعراج، وأن ذلك كان على الراجح قبل الهجرة بسنتين أو ثلاث، فتكون هذه الواقعة بعد الإسراء بالنبي ﷺ.

يقولون -أيضًا: العلة الثانية لمجيئهم: أن ذلك كان لقصد الإسلام، ولاستماع القرآن، والرجوع إلى قومهم منذرين، كما أخبر الله -تبارك وتعالى، يعني: أول مرة جاءوا ليتعرفوا على سبب الرجم بالشهب.

والثاني: أنهم جاءوا يتعرفون على الإسلام.

فأما مجيئهم في المدينة: فللسؤال عن الأحكام، سألوا النبي ﷺ عن الطعام، ويقولون: إن وفد جن نينوى لقوا النبي ﷺ بنخلة، وإن وفد جن نَصِيبين كان ذلك بمكة أيضًا، قبل الهجرة.

هذه الروايات منها ما يدل على أن الصحابة لم يشعروا بذلك، وإنما أخبرهم بعده، يدل على هذا حديث ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه قال: فقلنا: يا رسول الله، فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: أتاني داعي الجن، فذهبت معهم، فقرأت عليهم القرآن، قال: فانطلقَ بنا فأرانا آثارهم، وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد، قال الشعبي: وكانوا من جن الجزيرة -الجزيرة التي بين العراق والشام، إلى آخره[3].

رواية أخرى: عن علقمة قال: قلت لعبد الله بن مسعود: من كان منكم مع رسول الله ﷺ ليلة الجن؟ فقال: ما كان معه منا أحد"[4] هذه عند أبي داود، وصححها الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله.

رواية ثالثة: من حديث أبي هريرة وفيه: وإنه أتاني وفد جن نَصيبين، ونعم الجن، فسألوني الزاد[5] هذه عند البخاري.

رواية رابعة: في قوله: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [سورة الأحقاف:29] عن الزبير قال: بنخلة ورسول الله ﷺ يصلي العشاء الآخرة: كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا[6] [سورة الجن:19] هذا أخرجه الإمام أحمد، ويقول الشيخ شعيب الأرنؤوط: "حسن لغيره".

يعني: آية الأحقاف أنه كان بنخلة.

يقولون: المرة الثانية التي جاء بها الجن: كانت بالحجون بمكة؛ فعن ابن مسعود أن النبي ﷺ قال: "بت الليلة اقرأ على الجن، وذكر أن ذلك كان بالحجون"[7]، هذا عند الإمام أحمد وابن حبان، وأبي يعلى، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني.

يعني هذا موضع آخر غير نخلة.

فالحجون الجبل المعروف بمكة، يعرف الآن بطلعة الحجون.

أيضًا رواية أخرى: عن جابر قال: خرج رسول الله ﷺ على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال: لقد قرأتها على الجن ليلة الجن، فكانوا أحسن مردودًا منكم، كنت كلما أتيت على قوله: فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ قالوا: لا بشيء[8]. إلى آخره.

فهذا عن جابر -رضي الله تعالى عنه- عند الترمذي، وحسنه الشيخ ناصر الدين الألباني، قرأ عليهم سورة الرحمن.

هناك في نخلة استمعوا له دون أن يشعر، فأخبره الله بذلك: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ [سورة الأحقاف:29].

وفي سورة الجن: أُمر أن يخبر بذلك: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ.

المرة الثالثة: ما جاء من حديث مسروق: لما سئل من آذن النبيَّ ﷺ بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ فذكر عن ابن مسعود : أنه آذنتْه بهم شجرة[9]، وهذا في صحيح مسلم.

يعني: أخبرته شجرة.

الثالثة: أن ذلك كان بأعلى مكة في الجبال، وأنه حضرها ابن مسعود كما جاء عنه: أنه قال: سألت الجنُّ رسول الله ﷺ في آخر ليلة لقيهم في بعض شعاب مكة، وسألوه الزاد، إلى آخره.

هذه عند البيهقي والطحاوي في شرح معاني الآثار.

كذلك جاء عن ابن مسعود في قدوم وفد الجن على النبي ﷺ.

وكذلك في ذكر أنهم سألوه الطعام، إلى آخره.

هذه عند أبي داود، وصححها الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله.

وجاء أيضًا عن ابن مسعود : أن النبي ﷺ صلى العشاء، فأقام ببطحاء مكة، فخَطّ عليه -يعني على ابن مسعود- خطًّا، يقول: فإذا أنا برجال إلى آخره، وَصَفهم، وجعل النبي ﷺ يقرأ عليهم.

يعني ابن مسعود بقي ناحية، والنبي ﷺ قرأ على الجن.

وجاء عنه أيضًا في رواية أخرى، لكنها لا تصح.

وجاء في رواية رابعة عنه: أن النبي ﷺ اجتهد ليلة الجن، حتى خرج من البيوت، وهو بمكة، ثم خط، فقال: اجلس ونهاه عن أن يخاف، فقال ابن مسعود: من هؤلاء الذين سمعتهم يكلمونك؟ قال: وفد جن الجزيرة[10].

يعني هنا النبي ﷺ كان قد وعدهم.

فهذه عند الإمام أحمد، وقال الأرنؤوط: "إسناده صحيح على شرط مسلم".

وجاء عن ابن مسعود أيضًا رواية: أن النبي ﷺ خرج قبل الهجرة إلى نواحي مكة، قال فخط لي خطًّا، وقال: لا تحدثن شيئا حتى آتيك.

الشاهد أنه قال: فتقدم شيئًا ثم جلس، فإذا رجال سود.. إلى آخره، وكانوا كما قال تعالى: كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [سورة الجن:19] قال: ثم إنهم تفرقوا عنه، وبعد ذلك سألوه الزاد، هذه أخرجها أبو نعيم[11].

والرابعة: أن ذلك وقع بالمدينة في بقيع الغرقد، وأن ابن مسعود حضر ذلك، كما جاء عنه أنه قال: خرج رسول الله ﷺ وفي يده عسيب نخل، فعرض به على صدري، فقال: انطلق أنت معي حيث انطلقت، قال: فانطلقنا حتى أتينا بقيع الغرقد، فخط بعصاه، إلى أن قال: ثم قال: اجلس فيها ولا تبرح حتى آتيك، ثم انطلق يمشي، وأنا انظر إليه.. إلى آخره، وأنه قال له في النهاية في سياق طويل: أولئك وفد جن نصيبين[12].

وفي رواية أخرى: أنهم تشاجروا في قتيل بينهم، فقضى بينهم بالحق، وأنهم سألوه الزاد، إلى آخره، هذه عند أبي نعيم في دلائل النبوة.

وهناك روايات أخرى في هذا.

مجموع هذه الروايات -بصرف النظر، يعني لو أخذنا ما صح منها- يدل على أن الجن استمعوا للنبي ﷺ في بعض الأحوال وهو لم يشعر، والذي يظهر -والله أعلم: أن قوله -تبارك وتعالى- في سورة الأحقاف: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ [سورة الأحقاف:29] مع ما جاء في سورة الجن: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ [سورة الجن:1] أن ذلك كان في وقعة واحدة، وأنهم استمعوا للنبي ﷺ ولم يشعر بهم، لكن النبي ﷺ بعد ذلك لقيهم.

ومجموع هذه الروايات يدل على ذلك، وأن ذلك قد حصل أكثر من مرة.

وفي بعضها: أن النبي ﷺ لما صلى الصبح في مسجده في المدينة، فلما انصرف، قال: أيكم يتبعني إلى وفد الجن الليلة؟، إلى آخره، فتبعه الزبير بن العوام -رضي الله عنه-[13]، هذه عند الطبراني.

وكذلك أيضًا: ما جاء أن ذلك كان مع بلال بن الحارث، قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ في بعض أسفاره، وخرج لحاجته، وكان إذا خرج لحاجته يبعد، فأتيته بإداوة من ماء، فانطلق، وسمعت عنده خصومة رجال.. إلى آخره، وأن النبي ﷺ أخبره: أنه اختصم عنده الجن، يعني من المسلمين، والجن من المشركين[14]، هذه عند الطبراني.

بعض هذه الروايات لا يخلو من ضعف كهذه، ولكن -كما سبق- مجموع هذه الروايات الصحيح منها يدل على تعدد القصة، يعني في أن النبي ﷺ لقيهم أكثر من مرة، أما ما جاء في السورتين فالذي يظهر -والله أعلم- أن ذلك كان في واقعة واحدة.

القرطبي-رحمه الله- يقول: قد قيل: إن الجن أتوا رسول الله ﷺ على دفعتين:

الأولى: بمكة، وهي التي ذكرها ابن مسعود.

والثانية: بنخلة، وهي التي ذكرها ابن عباس -رضي الله عنهما.

الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: هذه الطرق كلها تدل على أنه ﷺ ذهب إلى الجن قصدًا، فتلا عليهم القرآن، ودعاهم إلى الله، وشرع الله لهم على لسانه ما هم محتاجون إليه في ذلك الوقت.

الروايات عن ابن مسعود في بعضها: أنه لم يخرج معه أحد، أي مع النبي ﷺ، وفي بعضها: أنه خرج معه، ويحتمل أن ذلك قد تعدد.

الحافظ ابن حجر -رحمه الله- ذكر أن استماع الجن للقرآن كان بمكة قبل الهجرة، وحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- صريح في ذلك، يقول: فيُجمع بين ما نفاه وما أثبته غيره بتعدد وفود الجن على النبي ﷺ، فأما ما وقع في مكة فكان لاستماع القرآن، والرجوع إلى قومهم منذرين، كما وقع في القرآن.

وأما في المدينة فللسؤال عن الأحكام، وذلك في الحديثين المذكورين، ويحتمل أن يكون القدوم الثاني كان أيضًا بمكة، وهو الذي يدل عليه حديث ابن مسعود؛ لأنه في بعض الأحاديث كان ذلك في مكة سألوه الطعام.

وتتبع الروايات في هذا يطول.

  1. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: ودًّا ولا سواعًا ولا يغوثَ ويعوقَ  [سورة نوح: 23]، رقم (4921).
  2. رواه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة الجن، رقم (3323)، وأحمد في المسند، برقم (1435)، وصححه الألباني في  تحريم آلات الطرب (139).
  3. رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن، رقم (450).
  4. رواه أبو داود، كتاب الطهارة، باب الوضوء بالنبيذ، رقم (85)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، رقم (77).
  5. رواه البخاري، كتاب المناقب، باب ذكر الجن، رقم (3860).
  6. رواه أحمد، رقم (1436)، وقال محققو المسند: "حسن لغيره".
  7. رواه أحمد، رقم (3954) وابن حبان، رقم (6318) وأبو يعلى، رقم (5062) وقال محققو المسند: "إسناده ضعيف" وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (3209).
  8. رواه الترمذي، كتاب أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب: ومن سورة الرحمن، رقم (3291)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (2150).
  9. رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن، رقم (450).
  10. تخريج الأحاديث المرفوعة المسندة في كتاب التاريخ الكبير للبخاري، (892)، رقم (486).
  11. رواه الطبراني في الكبير، رقم (9968).
  12. رواه الطبراني في مسند الشاميين، رقم (9968).
  13. رواه ابن أبي عاصم في السنة، رقم (1395)، والطبراني في الكبير، رقم (251)، وقال صاحب مجمع الزوائد: وإسنادهُ حسنٌ (1/ 209) رقم (1038).
  14. رواه الطبراني في الكبير، رقم (1143)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، رقم (2074).

مواد ذات صلة