بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى:
وروى ابن جرير عن قتادة في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ الآية [سورة المائدة:101] قال: فحدثنا أن أنس بن مالك حدثه أن رسول الله ﷺ سألوه حتى أحفوه بالمسألة، فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر فقال: لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بيّنته لكم فأشفق أصحاب رسول الله ﷺ أن يكون بين يدي أمر قد حضر، فجعلت لا ألتفت يميناً ولا شمالاً إلا وجدت كلاً لافاً رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجل كان يلاحي فيدعى إلى غير أبيه، فقال: يا نبي الله من أبي؟ قال: أبوك حذافة قال: ثم قام عمر أو قال: فأنشأ عمر فقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد ﷺ رسولاً -عائذاً بالله- أو قال: أعوذ بالله من شر الفتن، قال: وقال رسول الله ﷺ: لم أرَ في الخير والشر كاليوم قط، صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط [أخرجاه من طريق سعيد][1].
ثم روى البخاري عن ابن عباس -ا- قال: كان قوم يسألون رسول الله ﷺ استهزاءً فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [سورة المائدة:101] حتى فرغ من الآية كلها، تفرد به البخاري[2].
وروى الإمام أحمد عن علي قال: لما نزلت هذه الآية: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [سورة آل عمران:97] قالوا: يا رسول الله، أفي كل عام؟ فسكت فقالوا: أفي كل عام؟ فسكت، قال: ثم قالوا: أفي كل عام؟ فقال: لا، ولو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ الآية [سورة المائدة:101] وكذا رواه الترمذي وابن ماجه[3].
وظاهر الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته، فالأولى الإعراض عنها وتركها.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه الأسباب التي أوردها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في نزول هذه الآية، سواء كان ذلك بسبب أنهم أحفوا النبي ﷺ في المسألة، أو أنه سأله بعضهم عن بعض الأمور تكلفاً كالذي سأل: أفي كل عام يا رسول الله؟ أو الذي يسأل يقول: من أبي؟ وإذا ضلت دابته قال: أين دابتي؟ فكل هذا من سبب النزول، يعني وقع منهم ذلك جميعاً فنزلت الآية، فيحتمل أن تكون هذه الأمور مجتمعة هي سبب النزول وأن الآية نزلت مرة واحدة تأديباً لهم وتعليماً عن كيفية السؤال، ولا نحتاج في مثل هذا أن نرجح بين هذه المرويات؛ لأنها صحيحة، وإنما يقال: إن الآية نزلت بعدها جميعاً، والله أعلم، وقد عرفنا من قبل أن النازل قد يكون واحداً، وأن سبب النزول يكون متعدداً، والعكس أيضاً، فهذا من الأول، والله أعلم.
هذا كما ذكرنا سابقاً من أن هذه الكراهة وهذا الذم وهذا النهي يدخل فيه جملة أمور منها أن يسأل عن أشياء وقت التنزيل فتكون سبباً لفرض أحكام جديدة لم يفرضها الله وقد يكون سبباً لتحريم أمور لم يحرمها الله أو ذكر قيود لم ترد في خطاب مطلق فيشق ذلك على الناس.
وقوله: وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ [سورة المائدة:101] هذا في الشرعيات، وقلنا في الأمور القدرية: أن يسأل عن أمر فيكون الجواب مما يسوءه، مثل الذي قال: من أبي؟ فقد يذكر له غير أبيه الذي عرف به؛ فيكون ذلك سبباً لفضيحة تلازمه.
هذا المعنى في قوله: عَفَا اللّهُ عَنْهَا أي عن مسألتكم قبل ذلك فبعد هذا لا تسألوا، هكذا فسره ابن كثير وهو اختيار ابن جرير أيضاً.
وهناك معنىً آخر لقوله: عَفَا اللّهُ عَنْهَا أي هذه المسائل، فالله ما تركها نسياناً وإنما تركها توسعة وعفواً، كما روي: وما سكت عنه فهو عفو[4] فيكون عَفَا اللّهُ عَنْهَا بهذا المعنى: أي أن الله لم يفرضها عليكم ولم يكلفكم بها، ولم يتركها غفلة وذهولاً عنها، فلا حاجة للتنقير والاستقصاء كما فعل بنو إسرائيل لما قال لهم موسى : إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً [سورة البقرة:67] حيث سألوا عن سنها ثم سألوا عن لونها ثم سألوا عن عملها حتى ضيقوا على أنفسهم، ولو أنهم أجابوا من دون هذا التنقير فإن أيَّ بقرة ذبحوها كانت تجزئهم، وأظن -والله أعلم- أن هذا المعنى هو الأقرب المتبادر في تفسير قوله: عَفَا اللّهُ عَنْهَا أي لم يكلفكم بها فلا تنقروا عنها، لئلا يكون ذلك سبباً للتضييق عليكم، وهذا قال به طائفة من السلف فمن بعدهم، والله أعلم.
وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [سورة المائدة:101] والمراد لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها، فلعله قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق، وقد ورد في الحديث: أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرَّم فحرم من أجل مسألته[5].
وفي الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم[6].
وفي الحديث الصحيح أيضاً: إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها[7].
هذا الحديث قد لا يصح من جهة الإسناد، وإن كان المعنى تدل عليه مثل هذه الآية، وهكذا -والله أعلم- يمكن أن تفسر الآية بمثل ما ورد فيه: وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها.
ولا يقال: إن التعقيب في الآية بقوله: وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [سورة المائدة:101] يقتضي بالضرورة أن يكون قرينة دالة على أن المراد عَفَا اللّهُ عَنْهَا [سورة المائدة:101] أي عن سؤالكم، وإنما يمكن أن يقال: إن قوله: وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [سورة المائدة:101] يشمل هذا وهذا، فهو يقول لهم: لا تسألوا عن أشياء قد تركها الله وأعرض عنها ولم يفرضها عليكم، فلما كان فعلهم هذا فيه إساءة وتكلف ناسب بعده أن يقول: وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [سورة المائدة:101] أي لم يعاجلكم في العقوبة على هذا السؤال والتنقير.
وأما قوله: عَفَا اللّهُ عَنْهَا [سورة المائدة:101] فهو راجع إلى هذه المسائل أو الأشياء التي سكت عنها وليس راجعاً إلى السؤال على المعنى الآخر، والله أعلم.
ويدخل في هذا الأشياء التي طلبوها كالمائدة هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء [سورة المائدة:112] ويدخل فيه ما سأله قوم صالح -عليه الصلاة والسلام- حيث طلبوا آية فأخرج الله تلك الناقة فكفروا وعقروها، وهكذا يدخل فيه جميع السؤالات والأمور التي طلبها المكذبون، سواء كان ذلك على سبيل الآيات والبينات لنبوة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أو ما كان ذلك من قبيل التنقير والسؤال عن أمور على وجه التكلف لم يفرضها الله عليهم كسؤال بني إسرائيل عن أوصاف البقرة، ويدخل فيه أيضاً صور كثيرة أشرت إلى بعضها في مناسبة سابقة، وكتبت أوراقاً تجمع أشياء من هذا الموضوع، وكلام أهل العلم فيه كما سيأتي.
السؤال عن الأمور التي لم تقع:
إن السؤال حينما يكون عن أمر يحتاج الإنسان إلى معرفته فإن ذلك السؤال يكون محموداً، وأما السؤال المتكلف الذي يكون التنقير فيه عن أمور مفترضة غير واقعة ولا قريبة الوقوع فإن ذلك يعد مذموماً؛ لأنه سؤال عما لا يعني السائل، ومن هنا كان النبي ﷺ ينهى عن قيل وقال وكثرة السؤال، وفي حديث أبي هريرة مرفوعا: ذروني ما تركتكم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم[8] وهذا يدل بظاهره على أن الإكثار من الأسئلة مذموم، وقد قال البخاري -رحمه الله: باب ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه، وقوله تعالى: لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [سورة المائدة:101] ومن هنا كان الصحابة يتهيبون سؤال رسول الله ﷺ ويفرحون بقدوم الأعرابي على رسول الله ﷺ ليسأله فيسمعون الجواب، كما ثبت أنهم سألوا النبي ﷺ عن أمور متنوعة قبل وقوعها، ومن هنا وقع الخلاف بين العلماء في توجيه ما ورد من ذم كثرة السؤال، ويمكن تلخيص مذاهبهم في ذلك فيما يلي:
- ذهب جماعة من العلماء إلى أن ذلك محمول على ما كان على سبيل التكلف والتعنت فيما لا حاجة بالسائل إليه، وما لا خير له فيه من التكاليف الشاقة، بخلاف من سأل بضرورة عن مسألة وقعت له، والله يقول: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [سورة النحل:43].
- ذهب طائفة من العلماء إلى أن ذلك مختص بزمن نزول الوحي خشية أن ينزل بسبب ذلك تحريم أمر أو إيجاب آخر فتلحقهم بسبب ذلك مشقة وكلفة، وهذا المعنى قد ارتفع بعد وفاة النبي ﷺ وقد استقرت الأحكام فزال الأمر الذي من أجله نهي عن السؤال، ولهذه العلة قال النبي ﷺ: إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم من أجل مسألته[9]، وفي رواية عند مسلم: رجل سأل عن شيء ونقر عنه[10] وكما في حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول ﷺ: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك إلى آخره[11].
واستدل أصحاب هذا القول بما ثبت من سؤال الصحابة للنبي ﷺ عن أمور قبل وقوعها، وبما جاء عن الصحابة من أنهم تكلموا في أحكام الحوادث قبل نزلوها، وتبعهم في ذلك التابعون ومن بعدهم من فقهاء الأمصار بل عد الخطيب البغدادي ذلك إجماعاً منهم على أنه جائز لا كراهة فيه ومباح لا محظور فيه، كما حمل الآثار المنقولة عن السلف في الامتناع من الإجابة عن المسائل التي لم تقع على التورع وتوقي القول بالرأي خوفاً من الزلل وهيبة للاجتهاد، ولهم مندوحة عنه حتى تقع النازلة فيجتهدون فيها عند قيام المقتضي فيكون ذلك سبباً مقرباً للإصابة.
- ذهب الحافظ ابن رجب -رحمه الله- مع اعتباره المعنى السابق إلى أن ذلك أيضاً من أجل علة أخرى، وهي أن الله تكفل في كتابه لعباده أن يبيّن لهم ما يحتاجون إليه وهو أعلم بمصالحهم كما قال تعالى: يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ [سورة النساء:176] إلى غير ذلك من النصوص الدالة على هذا المعنى، ومن هنا فلا حاجة للسؤال عما لم يقع، وإنما ينبغي أن تكون الهمة متجهة إلى العمل بما أنزل، مع تدبره وتفهمه لا أن ينصرف المخاطب إلى فرض أمور قد تقع وقد لا تقع، ولهذا كره كثير من السلف، السؤال عن ذلك.
وقد جعل الحافظ ابن القيم -رحمه الله- الكلام على المسائل التي لم تقع على قسمين:
الأول: ما كان فيه نص من كتاب أو سنة أو أثر عن الصحابة فإنه لا يكره الكلام فيه.
الثاني: ما لا نص فيه وهو نوعان:
- ما كان بعيد الوقوع، أو ما كان بعيد الوقوع، أو مما لا يقع أصلاً، فهذا لا يستحب الكلام فيه.
- ما لا يبعد وقوعه، وكان غرض السائل معرفة الحكم فيما لو وقعت، فإنه يستحب في هذه الحالة بيان الحكم، وعلى هذا حمل ابن رجب -رحمه الله- ما ورد من سؤال الصحابة النبي ﷺ عن أمور لم تقع.
- حمل ذلك النووي -رحمه الله- على أن المراد بالذم الإكثار من السؤال والابتداء بالسؤال عما لم يقع؛ لما يترتب على ذلك من المفاسد، إضافة إلى ما سبق من أنه قد يكون سبباً لتحريم شيء أو إيجاب آخر، كأن يكون في الجواب ما يكرهه السائل ويسوءه، وذلك في وقت نزول الوحي كما جاء في سبب نزول قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا [سورة المائدة:101] وذلك أن الصحابة سألوا رسول الله ﷺ وألحفوا في المسألة، فقام على المنبر وذكر الساعة ثم قال: من أحب أن يسألني عن شيء فليسألني عنه، فو الله لا تسألونني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا فقام ابن حذافة وقال: من أبي؟ قال: أبوك حذافة فنزلت الآية[12].
وفي الصحيح من حديث ابن عباس -ا: كان قوم يسألون رسول الله ﷺ استهزاءً، فيقول الرجل من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية[13] ومن تلك المفاسد أنه قد يسترسل في ذلك حتى يقع في المحظور ويداخله الشك والحيرة كما دل عليه حديث أنس في الصحيح مرفوعاً إلى النبي ﷺ قال: لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله؟[14].
مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ [سورة المائدة:103-104].
قبل الشروع في الكلام على تفسير هذه الآيات ينبغي أن نعرف أن مثل هذه الأمور يمكن أن يعرف أصل المعنى فيها، أي أصل معنى البحيرة وأصل معنى السائبة وأصل معنى الوصيلة، ولكن تحديد المراد بذلك على وجه الدقة لا بد فيه من معرفة ما كان عليه العرب في الجاهلية، فإنه لا يتوصل إلى هذا بمجرد معرفة المعاني من اللغة، فهذا مما يطلب فيه معرفة حالٍ واقعة، وهذا الأمر ورد فيه روايات كثيرة وكثير منها صحيح وثابت إلا أن هذه الروايات من حيث مدلولها ومضمونها مختلفة غير متفقة على تفسير هذه الأشياء بمعنىً واحد يتفق عليه هؤلاء الذين فسروها من الصحابة - وأرضاهم- الذين أدركوا ذلك أو أدركوا مَن أدركه.
فلما لم نجد شيئاً يحدد هذه الأمور بحيث يقال: هذا هو المراد بالبحيرة وهذا هو المراد بالوصيلة، وهذا هو المراد بالسائبة فإن غاية ما يمكن أن يقال -والله تعالى أعلم- هو أن يبيّن معنى البحيرة، فنقول: هي من البحر في اللغة، وهو شق الأذن، حيث كانوا يشقون أذن البهيمة لمعنىً عندهم يعتقدونه في الجاهلية، فقد كانوا يتصرفون هذه التصرفات ويشرِّعون من عند أنفسهم أو من وحي الشيطان هذه التشريعات التي يحرمون فيها على أنفسهم ما أحله الله من هذه البهائم والدواب لمعانٍ باطلة، وهذه المعاني الباطلة يحتمل أن تكون ما ذكر في بعض الروايات على وجه التفصيل، أو ما ذكر في غيرها، ومعرفة ذلك على وجه الدقة لا يترتب عليه عمل، وإذا كان لا يترتب عليه عمل فإنه لا يكون من صلب العلم.
وإنما يتجلى المراد بالآية أن هذه من أوضاع الجاهلية ومن تشريعات الشيطان حيث حرَّموا على أنفسهم ما أحله الله وتصرفوا هذا التصرف الذي لا يليق بالعقلاء، ويُكتفى بهذا القدر، ولا بأس أن ينظر في الروايات الواردة في هذا المعنى ولكن الوصول إلى تحديد المقصود بدقة أمر لا يمكن؛ لأن ذلك لا يوصل إليه إلا عن طريق الرواية، والرواية في ذلك قد اختلفت، فيبقى النظر في مثل هذا من فضول العلم، ولهذا نجد كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- أعرض عن ذلك وبيّن أصول المعاني لهذا الأشياء، وقال: يحتمل أن يكون البحيرة ما ذكره فلان، أو ما ذكره فلان، أو ما ذكره فلان، يعني في التوصيف كما ورد في الروايات، لكن الجزم بشيء من هذا لا سبيل إليه، وأقول: مثل هذا لا يترتب عليه عمل ولا يترتب عليه فهم القرآن وإنما يكفي أن نعرف أنها أوضاع جاهلية وأن نعرف أصل معنى البحيرة. وأصل معنى الوصيلة وأصل معنى الحام، وقد يكون تفصيله كما جاء في بعض هذه الروايات أو غير ذلك، والعلم عند الله .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
- أخرجه البخاري في كتاب الدعوات - باب التعوذ من الفتن (6001) (ج 5 / ص 2340) ومسلم في كتاب الفضائل - باب توقيره ﷺ وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه أو لا يتعلق به تكليف وما لا يقع ونحو ذلك (2359) (ج 4 / ص 1832).
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير – باب تفسير سورة المائدة (4346) (ج 4 / ص 1689).
- أخرجه الترمذي في كتاب الحج عن رسول الله ﷺ باب ما جاء كم فرض الحج؟ (814) (ج 3 / ص 178) وأحمد (905) (ج 1 / ص 113) وابن ماجه في كتاب المناسك - باب فرض الحج (2884) (ج 2 / ص 963) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم (2884).
- أخرجه أبو داود في كتاب الأطعمة - باب ما لم يذكر تحريمه (3802) (ج 3 / ص 417) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2256).
- أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة - باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه (6859) (ج 6 / ص 2658).
- أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة - باب الاقتداء بسنن رسول الله ﷺ (6858) (ج 6 / ص 2658) ومسلم في كتاب الحج - باب فرض الحج مرة في العمر (1337) (ج 2 / ص 975).
- أخرجه الطبراني في الكبير (18441) (ج 22 / ص 221) وفي الأوسط (7461) (ج 7 / ص 265) والحاكم (7114) (ج 4 / ص 129) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (1597).
- سبق تخريجه.
- سبق تخريجه.
- صحيح مسلم في كتاب الفضائل - باب توقيره ﷺ وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه أو لا يتعلق به تكليف وما لا يقع ونحو ذلك (2358) (ج 4 / ص 1831).
- سبق تخريجه.
- سبق تخريجه.
- سبق تخريجه.
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها (134) (ج 1 / ص 119).