بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ [سورة المائدة:103- 104].
روى البخاري عن سعيد بن المسيب قال: البحيرة التي يمنع درُّها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يُحمل عليها شيء.
قال: وقال أبو هريرة قال رسول الله ﷺ: رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السوائب والوصيلة الناقة البكر تُبكَّر في أول نتاج الإبل ثم تثني بعد بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر[1].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فذكرنا في الدرس السابق أن المحتاج إليه هو معرفة أصل المعنى في مثل هذه الأشياء، وذكرنا أنها كانت اعتقادات في الجاهلية يحرِّمون فيها بعض ما أحل الله لهم تشهياً من عند أنفسهم أو من وحي الشيطان، وتفصيل ذلك قد اختلف الناقلون فيه ولا ضرورة إلى معرفته على وجه الدقة، لكن يكفي تصور المعنى في الجملة.
قوله: "البحيرة التي يمنع درُّها للطواغيت" البحيرة، فعيلة بمعنى مفعولة، فهي بمعنى مبحورة، والبحر المراد به شق الأذن، يقال: بحر الأذن: أي شقَّها، فهؤلاء كانوا يشقون أذن البهيمة إيذاناً بأن هذه متروكة ليست كغيرها من الدواب أو البهائم، فربما خليت بلا راع -كما يقول بعضهم- أي تترك فلا تُصدُّ ولا تُردُّ ولا تُذاد عن ماء ولا مرعىً ولا غيره وإنما يتركونها هكذا.
ومن تركها أيضاً أن يجعلوا درّها للطواغيت فلا ينتفعون بلبن ولا يسلئون منها زبداً ولا يأقطون أقطاً، ولا غير ذلك، فالمقصود أنهم لا ينتفعون بشيء منها بل تجد كثيراً من الروايات التي تذكر بعض التفاصيل في ماذا يصنع بهذه البحيرة -في كثير من هذه الروايات- أنهم يشقون الأذن علامة على ذلك، ويعتقدون فيها هذه الاعتقادات الفاسدة.
ثم قال: "والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم" السائبة من التسييب وهو الترك، فكانوا يسيبونها بحيث لا يحمل عليها ولا تركب ولا تذبح فينتفع بها وإنما سائبة ترعى وترد الماء لا يتعرض لها أحد بحال من الأحوال وسواء فعلوا ذلك في الناقة أو البعير أو غيرها على سبيل النذر كأن يكون الإنسان مسافراً فينذر بقوله: إذا وصلتُ فعليَّ نذر أن أُسيِّب هذه الناقة أو يقول: عليَّ نذر أن أسيَّب هذا البعير إذا وصلت سالماً فيسيبه، ثم يضع له علامة يُعرف بها حتى لا يتعرض له أحد فيُترك لا ينتفع به أحد، فأهل الجاهلية كانوا يسيبونها للطواغيت.
والوصيلة: من الوصل، أي وصل الشيء بالشيء، وهذا الوصل المراد به في الآية تختلف تفاصيل الروايات فيه، فهذه الرواية التي ذكرها هنا من أن الناقة تصل بين أنثيين، يعني تلد أنثى وهي أنفس المولودين، بمعنى أنه بالنسبة للبهائم الأنفس فيها هي الأنثى؛ لأنها محل التكاثر فهي الأحسن عندهم بخلاف الذكر فإنه وحده، فالحاصل إذا جاءت بأنثى ثم أنثى مباشرة، يقولون: وصلت أنثى بأنثى فهذه وصيلة فيتركونها فكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر.
والحام من الحماية، والمعنى هنا أنه قد حمى ظهره، وهذا الذي حمى ظهره هو البعير، حيث يجعلون له حداً محدوداً من الضراب فإذا أنتج مثلاً عشرة بطون فإنهم يقولون: حمى ظهره، يعني أدى ما عليه وقام بإنجاز جيد فبعد ذلك لا يتعرض له أحد، ويضعون له علامة ويقولون هذا حام لا أحد يركبه ولا أحد يحمل عليه ولا يذبح، وهذا أصل هذا المعنى، لكن كم مرة يحتاج من الضراب حتى يحمي ظهره؟ هذه القضية تختلف الروايات في تفصيلها ولا سبيل إلى معرفتها؛ لأن المنقول عنهم اختلفت الروايات فيه، ونحن لا يمكن أن نعرف هذا بطريقة الترجيح، فالمعنى اللغوي وحده لا يكفي في معرفة ذلك، والله أعلم.
والحام: فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضى ضرابه وَدَعوه للطواغيت وأعفوه عن الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامي، وكذا رواه مسلم والنسائي.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ قال: إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإني رأيته يجر أمعاءه في النار[2] تفرد به أحمد من هذا الوجه.
عمرو هذا هو ابن لحي بن قمعة أحد رؤساء خزاعة الذين ولوا البيت بعد جرهم، وكان أول من غير دين إبراهيم الخليل فأدخل الأصنام إلى الحجاز ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها والتقرب بها، وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها، كما ذكره الله تعالى في سورة الأنعام عند قوله تعالى: وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا [سورة الأنعام:136] إلى آخر الآيات في ذلك.
فأما البحيرة فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: هي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، نظروا إلى الخامس فإن كان ذكراً ذبحوه فأكله الرجال دون النساء وإن كان أنثى جدعوا آذانها فقالوا: هذه بحيرة، وذكر السدي وغيره قريباً من هذا.
وأما السائبة فقال مجاهد: هي من الغنم نحو ما فسر من البحيرة إلا أنها ما ولدت من ولد كان بينها وبينه ستة أولاد كانت على هيئتها، فإذا ولدت السابع ذكراً أو أنثى أو ذكرين ذبحوه فأكله رجالهم دون نسائهم.
وقال محمد بن إسحاق: السائبة هي الناقة إذا ولدت عشر إناث من الولد ليس بينهن ذكر، سيبت فلم تركب ولم يجزَّ وبرها، ولم يحلب لبنها إلا لضيف.
وقال أبو روق: السائبة كان الرجل إذا خرج فقضيت حاجته سيب من ماله ناقة أو غيرها فجعلها للطواغيت فما ولدت من شيء كان لها.
وقال السدي: كان الرجل منهم إذا قضيت حاجته أو عوفي من مرض أو كثر ماله سيب شيئاً من ماله للأوثان، فمن عرض له من الناس عوقب بعقوبة في الدنيا.
وأما الوصيلة فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: هي الشاة إذا نتجت سبعة أبطن، نظروا إلى السابع فإن كان ذكراً أو أنثى وهو ميت اشترك فيه الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى استحيوها، وإن كان ذكراً وأنثى في بطن واحد استحيوهما وقالوا: وصلته أخته فحرمته علينا، رواه ابن أبي حاتم.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب: وَلاَ وَصِيلَةٍ [سورة المائدة:103] قال: فالوصيلة من الإبل، كانت الناقة تبتكر بالأنثى ثم ثنت بأنثى فسموها الوصيلة، ويقولون: وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر، فكانوا يجدعونها لطواغيتهم، وكذا روي عن الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- تعالى.
وقال محمد بن إسحاق: الوصيلة من الغنم إذا ولدت عشر إناث في خمسة أبطن توأمين توأمين في كل بطن، سميت الوصيلة وتركت، فما ولدت بعد ذلك من ذكر أو أنثى جعلت للذكور دون الإناث، وإن كان ميتة اشتركوا فيها.
وأما الحام فقال العوفي عن ابن عباس -ا- قال: كان الرجل إذا لقح فحله عشراً قيل: حام فاتركوه. وكذا قال أبو روق وقتادة.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: وأما الحام فالفحل من الإبل إذا ولد لولده قالوا: حمى هذا ظهره، فلا يحملون عليه شيئاً ولا يجزون له وبراً ولا يمنعونه من حِمى رعي، ومن حوض يشرب منه وإن كان الحوض لغير صاحبه.
وقال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: أما الحام فمن الإبل كان يضرب في الإبل فإذا انقضى ضرابه جعلوا عليه ريش الطواويس وسيبوه، وقد قيل غير ذلك في تفسير هذه الآية.
الروايات في هذا كثيرة الاختلاف في التفاصيل، لكن يتبيّن أن أصل هذا المعنى أنها طقوس وأوضاع كانت عندهم في البهائم، وأما التفاصيل فهي نظم جاهلية وأوضاع بعيدة عن شرع الله وربما يكون عندهم خلاف في التفصيل متى يحمي ظهره ومتى لا يحمي، ومتى تكون الوصيلة ومتى لا تكون، وهذا يحتاج إلى فقه وأناس يتفرغون لدراسة هذه الأشياء ومتابعة تاريخ ميلاد للبهيمة حتى يُعرف كم أنجبت من الذكور وكم من الإناث، وهذا البعير كم صار له من الضراب لمعرفة متى يحمي ظهره أو ما يحمي ظهره، فإذا اشتراه الإنسان لا بد أن يأخذ معه شهادة بذلك حتى لا يغلط، وهذا كله من أمور الجاهلية.
ومن يقرأ في مثل كتاب المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام يجد فيه أشياء مضحكة من تشريعات في هذا أو في طقوس الحج وأوضاع الحج وأوضاع الحرام عندهم، ومتى يروح إذا ذهب إلى بعض المتنسك عندهم من الأصنام والأوثان، ومحلات الذبح والقرابين قبل الحج ما الأحكام التي تترتب عليه؟ وإذا ذهب بعد الحج ما الأحكام التي تترتب عليه؟ وإذا كان من الحمس فلا يسلئون ولا يأقطون ولا يزبدون، وإذا كان من غير الحمس إذا دخل حدود الحرم لا بد أن يريق الطعام الذي عنده فلا يدخل إلى أرض الحرم ومعه منه شيء، وإذا جاء يطوف ألقى ثيابه وطاف وهو عار -والمرأة تطوف بالليل- إلا إن كان عنده ثوب جديد أو له صاحب من الحمس، بهذين الشرطين، فإذا كان عنده واحد من الحمس أو عنده ثوب جديد لبسه وطاف فيه لكن لا بد أن يلقيه في نهاية الطواف بمعنى أن العري هذا أمر لا بد منه ويدوسون هذا الثوب الملقي وليس لأحد أخذه ويسمونه اللقا لا يجوز أخذه ولا الانتفاع به حتى يبلى ويتمزق، ولذلك تجد الطواف كله ثياباً مرمية.
وهكذا تجد أوضاعاً وأموراً عجيبة منها أن قبيلة عك لا بد أن يقف أمامها اثنان من الأرقاء -أي غلامان أسودان أمام الموكب الذاهب إلى الحج- ويرددون: نحن غرابا عك، عك إليك عانية عبادك اليمانية... الخ.
فمن قرأ الأوضاع العجيبة وكيف مسألة الدخول إلي البيت والاستظلال لمن أحرم وكيف أنه لا بد أن يتسور الداخل إلى البيت سيشعر بنعمة العقل ونعمة الإسلام الذي وهبه الله إياه فيحمد الله على ذلك.
وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي حاتم من طريق أبي إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص الجشمي عن أبيه مالك بن نضلة قال: أتيت النبيَّ ﷺ في خلقان من الثياب، فقال لي: هل لك من مال؟ فقلت: نعم، قال: من أي المال؟ قال: فقلت: من كل المال من الإبل والغنم والخيل والرقيق، قال: فإذا آتاك الله مالاً فليُرَ عليك ثم قال: تنتج إبلك وافية آذانها؟ قال: قلت: نعم وهل تنتج الإبل إلا كذلك؟ قال: فلعلك تأخذ الموسى فتقطع آذان طائفة منها، وتقول: هذه بُحير، وتشق آذان طائفة منها وتقول: هذه حرم؟ قلت: نعم، قال: فلا تفعل، إن كل ما آتاك الله لك حل
ثم قال: مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ أما البحيرة فهي التي يجدعون آذانها فلا تنتفع امرأته ولا بناته ولا أحد من أهل بيته بصوفها ولا أوبارها ولا أشعارها ولا ألبانها، فإذا ماتت اشتركوا فيها، وأما السائبة فهي التي يسيبون لآلهتهم ويذهبون إلى آلهتهم فيسيبونها.
وأما الوصيلة: فالشاة تلد ستة أبطن فإذا ولد السابع جدعت وقطع قرنها فيقولون: قد وصلت فلا يذبحونها، ولا تضرب ولا تمنع مهما وردت على حوض"[3] هكذا يذكر تفسير ذلك مدرجاً في الحديث، وقد رُوي وجه آخر عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عوف بن مالك من قوله وهو أشبه، وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة عن أبي الزعراء عمرو بن عمرو عن عمه أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة عن أبيه به، وليس فيه تفسير هذه والله أعلم.
وقوله تعالى: وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ [سورة المائدة:103] أي: ما شرع الله هذه الأشياء، ولا هي عنده قربة، ولكن المشركين افتروا ذلك وجعلوه شرعاً لهم وقربة يتقربون بها إليه وليس ذلك بحاصل لهم بل هو وبال عليهم.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا [سورة المائدة:104] أي: إذا دعوا إلى دين الله وشرعه وما أوجبه، وترك ما حرمه قالوا: يكفينا ما وجدنا عليه الآباء والأجداد من الطرائق والمسالك، قال الله تعالى: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ [سورة المائدة:104] أي لا يفهمون حقاً ولا يعرفونه، ولا يهتدون إليه فكيف يتبعونهم والحالة هذه؟!، ولا يتبعهم إلا من هو أجهل منهم وأضل سبيلاً.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة المائدة:105].
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم، ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم ومخبراً لهم أنه من أصلح أمره لا يضره فساد من فسد من الناس سواء كان قريباً منه أو بعيداً.
هذا الآية سبق الكلام عليها في الآيات التي يخطئ كثير من الناس في فهمها أعني قوله تعالى: لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [سورة المائدة:105] وقلنا: ليس المراد أن يكون الإنسان مهتدياً في نفسه بمعنى أنه ينشغل بنفسه دون أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ثم يحتج بها لإسقاط التبعة عن نفسه، ويقول: إن الله يقول: لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [سورة المائدة:105] فكل إنسان يتحمل ذنبه وأنا لست معنياً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا غير صحيح إطلاقاً.
قال ابن كثير: "يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم ومخبراً لهم أنه من أصلح أمره لا يضره فساد من فسد من الناس سواء كان قريباً منه أو بعيداً" يكون الإنسان قد أصلح أمره بأن يكون كما عبر بعض السلف: إذا عملتم بطاعة الله لم يضركم عمل غيركم بمعصيته، ويفسره قول الآخرين: المعنى إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر؛ لأن الإنسان لا يكون مهتدياً إلا إذا قام بما أمره الله به، وإلا فإن الله يقول: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ [سورة المائدة:79] فلا يكون مهتدياً بحال من الأحوال ولا يكون عاملاً بطاعة الله -تبارك وتعالى- إذا كان لا يأمر ولا ينهى، فهذا غير مهتدٍ بل هو عاصٍ ومقصر تقصيراً قد يستوجب عليه اللعن والطرد والإبعاد عن رحمة الله -تبارك وتعالى، ولذلك فإن معنى قوله تعالى: لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [سورة المائدة:105] إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فإنه لا يضركم ضلال من ضل، فاعملوا بما أمرتم به وليس عليكم هداية الناس ولن تحاسبوا عنهم،
ويدخل في هذا قول من قال: إن المراد بقوله: لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [سورة المائدة:105] أن الرجل ربما كان مسلماً وأبوه على الكفر وأخوه على الكفر وأمه على الكفر، فإن ذلك لا يضره ولو كان هؤلاء من عتاة الكفار فإن ذلك لا ينقصه من مرتبته ولا يؤثر في عاقبته وأجره عند الله -تبارك وتعالى، فإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- كان أبوه بتلك المثابة وما نقص ذلك في مرتبته، فإذا أنتم بقيتم على طاعة واستقامة وهدى فإن كفر من كفر ولو كان من أقرب الناس لا ينقص من مرتبتكم ولا يذهب بشيءٍ من أجركم، ولا يؤثر في عاقبتكم، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [سورة المدثر:38] وقال –تبارك وتعالى: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [سورة الأنعام:164] فقد يكون الإنسان مهتدياً وأخوه من أبعد الناس فلا يضره ذلك، وهكذا كان أصحاب النبي ﷺ يسلم الرجل ويبقى أهله في كثير من الأحيان على الكفر، فهذا هو معنى الآية، وليس المقصود بذلك أن يبقى الإنسان سلبياً لا يأمر ولا ينهى ويظن أنه بذلك يكون محققاً للنجاة.
كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- يقول: هاهنا ناس يقولون: في المسجد لحىً غوانم -يقال: لحية غانمة، أي: رجُل طيب- يقولون: في المسجد لحىً غوانم يقرءون القرآن ويذكرون الله وليس لهم شأن بغيرهم، يعني لا يأمرون بالمعروف بل تاركين الناس وكافِّين عنهم لا يتدخلون بشئونهم ولا يغيرون عليهم منكراً، يقول ابن عبد الوهاب: أما أنا فأقول: إنهم لحىً فوائن، والفوائن جمع فائن، والفائن في تعبيرهم يعني المرأة السيئة البغي، يقال: فائن أي: تالف وسيئ وفاسد العمل غاية الفساد، يقول الشيخ: أنا ما أقول: إنهم لحى غوانم إنما أقول لحى فوائن؛ لأنهم لا يأمرون ولا ينهون، تجد الواحد جالساً على مصحفه لا يغير شيئاً، فالفساد والشر ينتشر وهو يذهب إلى المسجد ليس له شأن بهذا كله، وهذا لا يجوز.
قوله –عليه الصلاة والسلام: إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله أن يعمهم بعقابه هذا هو الذي مشى عليه أهل العلم، وهذا الذي ذكره ابن جرير في تفسير الآية وكذا غيره من المفسرين كالقرطبي والشنقيطي وغير هؤلاء، وهو معنىً لا ينبغي أن يُختلف فيه، فقوله تعالى: لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [سورة المائدة:105] معناها إذا قمتم بما أمرتم به ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كفر من كفر ومعصية من عصى لا تضركم، حتى لو وقع العذاب فإن الذين يأمرون وينهون ينجيهم الله وأما إذا سكت الناس فإذا نزل العذاب أخذ الساكتين معهم، وفي الحديث: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال -عليه الصلاة والسلام: نعم إذا كثر الخبث[5].
هذه الآية قال جماعة من أهل العلم كمكي بن أبي طالب والنحَّاس والسعد التفتزاني -وهو من علماء اللغة من أهل البلاغة والبيان- وغير هؤلاء، قالوا: هذه أصعب آية في القرآن إعراباً ومعنىً وحكماً، كما ذكر هذا بعض المفسرين غير هؤلاء، وهذه الآية لا شك أنها تحتاج إلى تدبر وتأمل.
قوله تعالى: يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَان أي شهادة اثنين، أو أن يشهد اثنان، وبعضهم يقول: في العبارة حرف مقدر محذوف، أي شهادة ما بينكم، وحذف للعلم به كقوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ [سورة سبأ:33] أي مكرٌ في الليل وَالنَّهَارِ [سورة سبأ:33] أي مكرٌ في النهار.
وفي قوله: شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ المعنى المتبادر للشهادة معروف، ومن أهل العلم من حملها على هذا المعنى، قال: المقصود الشهادة التي تُتحمل وتُؤدى إذا طُلبت لإثبات حق أو لدفع أمر من الأمور، فهذه الشهادة هنا يراد بها المعنى المعروف للشهادة، يقال: شهد على كذا، ويشهد على كذا..
ومن أهل العلم من قال: إن الشهادة في هذه الآية تعني الوصية، وهذا معنىً بعيد؛ إذ لو قيل: إن المراد بها الوصية لاختل المعنى، تأمل: يا أيها الذين آمنوا وصية ما بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية!! نجد أن المعنى يختل ولا ينضبط.
وبعضهم يقول: هي بمعنى الحضور للوصية من الشهود أي ضد الغياب والمعنى إذا حضرتم وصية الميت، فالشهادة بمعنى شهد الوصية أي حضرها يقال: شهد الواقعة يعني حضرها، فالشهادة بمعنى الحضور الذي يقابله الغيبة، وليس المقصود بها الشهادة المعروفة، هكذا قال بعض أهل العلم وهو بعيد أيضاً؛ لأن المسألة ليست مجرد الحضور فهو رتّب على الحضور أمراً آخر بعده.
ومن أهل العلم من قال: إن الشهادة المراد بها هنا اليمين، وهذا الذي مشى عليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري، حيث قال: الشهادة بمعنى اليمين؛ لأنه ذكر الأيمان بعدها، وقال: ولا نعلم شهادة يطلب فيها الأيمان؛ فالشاهد يؤدي الشهادة لكن كونه يوقف ويحلف بعد الصلاة فإذن شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ أي يمين، ففسرها بهذا، وهذا وإن كانت تحتمله الآية لكنه أيضاً لا يخلو من إشكال وهو حمل للفظة على غير المعنى المتبادر والقرينة التي ذكرها أنه غير معلوم إلى آخره، لكن يقال: هذا حكم من الأحكام فيكون بهذا الاعتبار إذا حصل الشك والريبة مستثنى، وقد ردَّ الحافظ ابن القيم من ثلاثة عشر وجهاً على قول من قال: إنها اليمين في كتابه الطرق الحكمية[6]، وهي ردود في جملتها قوية وجيدة وتُبيّن ضعف هذا القول، وعلى كل حال فالأقرب -والله أعلم- أن تفسر الشهادة بمعناها المتبادر، فقوله: شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ أي شهادة ما بينكم، أو ليشهد بينكم اثنان ذوا عدل منكم.
والذي فسرها بالوصية قال في قوله: اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ [سورة المائدة:106]: أي وصيان، وهذا بعيد، وهكذا الذي فسرها بالحضور، فقال: أي الذين يحضرون، وهذا أيضاً كما يقول ابن القيم: إخراج للكلام عن فائدته، والله أعلم.
وعلى كل حال فقوله: شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ يقول: أي شهادة اثنين أو أن يشهد اثنان في مثل هذه الحال كأن يكون إنسان مسافراً وحضرته الوفاة وعنده وصية فإن وجد من المسلمين أحداً أشهد منهم اثنين عدلين عليها.
وقوله تعالى: اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ [سورة المائدة:106] يعني من المسلمين، خلافاً لقول من قال: إن المراد قرابة الميت أو عشيرته.
وقوله: أَوْ آخَرَانِ [سورة المائدة:106] أي من غير المسلمين، خلافاً لقول من قال: أي من الغرباء فهذا بعيد، ولم يحدد هنا فيدخل فيه أهل الكتاب وغير أهل الكتاب، وهذا هو الموضع الوحيد الذي تصح فيه شهادتهم، فتقبل شهادتهم هنا للاضطرار حيث مات هذا الرجل في سفر ولم يوجد إلا هؤلاء من غير المسلمين، فيشهدون في الوصية أن الميت أوصى بكذا وكذا، وأدى كذا وكذا، وهذا متاعه وهذا ماله.
وهذه الآية أكثر السلف يقولون: إنها محكمة لم تنسخ ومعمول بها إلى اليوم، وذهب طائفة -ومنهم الأئمة الثلاثة غير الإمام أحمد- إلى أنها منسوخة بالنصوص الأخرى كقوله تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ [سورة الطلاق:2] وما شابه ذلك، والواقع أنه لا تعارض بين عام وخاص، فقوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ [سورة الطلاق:2] إن وجد فإن لم يوجد في السفر فهذه حالة تستثنى، فالأصل أن نُشهد كما قال الله : مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء [سورة البقرة:282] فإن لم يوجد من نرتضيه في مثل هذه الحال خاصة فعندئذ يجوز إشهاد هؤلاء، فالأئمة الثلاثة مشوا على أنها منسوخة، وهذا فيه بعد، ولذلك نقول: الجمهور من السلف فمن بعدهم على أن الآية محكمة والنسخ لا يثبت بالاحتمال، ولا تعارض بين عام وخاص.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير – باب تفسير سورة المائدة (4347) (ج 4 / ص 1690).
- أخرجه أحمد (4258) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1677).
- أخرجه الطبراني في الكبير (16280) وابن حبان في صحيحه (5615) والحاكم في مستدركه (65) وذكره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب مختصراً وصححه برقم (1093).
- أخرجه أحمد (16) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
- أخرجه البخاري في كتاب الفتن - باب قول النبي ﷺ: ويل للعرب من شر قد اقترب (6650) (ج 6 / ص 2589) ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب اقتران الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج (2880) (ج 4 / ص 2207).
- الطرق الحكمية لابن القيم (ص 272 – 274).