تفسير التسهيل لابن جُزي
معاني اللغات (الغريب)
(18- ب) حرف الخاء من قوله: أخدان إلى نهاية حرف الدال
قال -رحمه الله تعالى-: أخدان: جمع خِدن، وهو: الخليل.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فابن فارس -رحمه الله- أرجع هذه المادة إلى أصل واحد، وهو: المصاحبة، يقال: رجل خُدَنَة يعني: كثير الأخدان، له أخدان كثير، والخِدْن يقال: للصديق الذي يكون معك ظاهراً وباطناً في كل أمر، يقال: فلان خِدْن فلان، ويُطلق الخِدن على: المذكر والمؤنث، يقال: الرجل خِدنُ المرأة، والمرأة خِدنُ الرجل.
والمخادنة في القرآن التي جاءت يُراد بها المصاحبة غير الشرعية، العلاقة غير الشرعية التي يسميها من لا خلاق لهم بالصداقة، يعني: يتخذها صديقة، يستحل منها ما يستحل الرجل من امرأته، فالله -تبارك وتعالى- يقول: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ النساء: 25، وهكذا في قوله: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ المائدة: 5، لاحظ: استُعملت في حق الرجل، وفي حق المرأة، فلا يتخذها صاحبة من غير عقد نكاح، فيستحل منها ما حرم الله -تبارك وتعالى.
قال -رحمه الله تعالى-: خَرَاج وخَرْج أي: أجرة أو عطية.
في هذه النسخة الثانية: خرجاً بالتنوين.
ابن فارس أرجع ذلك إلى أصلين ويقول: قد يمكن الجمع بينهما، لاحظ هنا يقول: إلا أنا سلكنا الطريق الواضح، يعني: من غير تكلف في محاولة الجمع بينهما، فهذا يرجع إلى الاجتهاد، وكما ذكرنا في موضع سابق من كلامه: أن ذلك قد يُعرف بلطافة الذهن، وحُسن الاستخراج، يعني: في القدرة على الجمع بين المعاني، فهنا يقول: جعلناها على أصلين؛ سلوكاً للطريق الواضح.
فالأول: النفاذ عن الشيء، يقال: خرج يعني: نفذ عن كذا، أو نفذ منه، وكذلك أيضاً يقال: الخُراج بالجسد، كأنه شيء ناتئ، شيء خارج عن سمت الجسد، والخَراج والخَرْج يقال: للإتاوة، يعني: مال يخرجه المُعطي، كأنه نفذ عن يده، ويقال: فلان خِرِّيج فلان، يعني: إذا كان يتعلم منه، كأنه هو الذي أخرجه من حد الجهل، خرِّيج الجامعة، تخرج في الجامعة، وهم يقولون: من الأخطاء الشائعة أن يقال: تخرج من الجامعة، يقولون: الصحيح: تخرج في الجامعة، تخرج فيها، يعني: تعلم فيها حتى خرج عن حد الجهل، ويقال: ناقة مُخترِجة إذا خرجت على خلقة الجمل، يعني: هيئتها هيئة جمل، فالله فاوت في الخلق بين المذكر والمؤنث، بين الذكر والأنثى، حتى في النباتات، يعني: ذكور المرعى، وذكور العُشب، وذكور النبات إلى آخره، مختلف، فيقولون: هو: ما غلُظ منه، ذكور البقول: ما غلُظ منها، يقولون: مثل الأقحوان، والخُزامى، ونحو ذلك، هذه من ذكور البقول التي تخرج في البرية، قال الله -تبارك وتعالى-: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى آل عمران: 36، وفي النخيل أيضاً، فتلاحظ الآن في هذا الحي، في أرصفته، ونواحيه النخيل، تجد بعض النخيل ذات كَرَب عريض، وعُسُب عريضة، متميزة جدًّا، ولها جذع في غاية الغِلَظ، والضخامة، هذه الفحول من النخل، أما الإناث فتجد أنها تتميز، وهكذا في الإبل، والغنم، والبقر، وسائر أنواع الحيوان من الوعول، والظباء، والدجاج، وكل شيء يتميز الذكر عن الأنثى فيه، وهؤلاء الذين يريدون أن يجعلوا الذكر والأنثى سواء، ويسمونه باسم واحد، ماذا يسمونه من لا خلاق لهم؟ الهُجنة التي يعبرون بها؟ جَنْدر، يعني: لا ذكر ولا أنثى، هذا المخلوق اسمه: جَنْدر، يصدق على الذكر والأنثى، فهنا: الناقة إذا كانت على هيئة الجمل، على غير المعتاد يقال: مُخترِجة، والخَروج: الناقة تخرج من الإبل لكي تبرك في ناحية لوحدها، فهذا الأول: النفاذ عن الشيء.
والثاني: يقال: لاختلاف لونين، فالخَرَج: لونان من سواد وبياض، والخرجاء يقولون: الشاة تبيضّ رجلاها إلى خاصرتها، ومنه: أرض مُخرَّجة، إذا كان نبتها في مكان دون مكان، أرض مُخترَجة.
هنا قال: الخَراج: الأجرة أو العطية، هذا هل هو باعتبار الأصل الثاني عند ابن فارس: اختلاف اللونين؟ لا، هو يرجع إلى الأصل الأول: النفاذ عن الشيء، يقال: خرج من مقره، يعني: برز منه، والمكان يقال له: مخرج، فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ القصص: 79كأنه برز، وانفصل عن مقره، ومكانه، ونفذ منه، وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ البقرة: 149، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا الطلاق: 2، ينفذ منه، يعني: يخلص مما هو فيه من الضيق والشدة، وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ البقرة: 72يعني: مُبديه، ومُظهره من كوامن نفوسكم، اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ البقرة: 257يعني: ينفذون من الظلمة، ومن الجهل، ومن الضلال، إلى النور، وهكذا الخَرْج: ما يُخرج في مقابل العمل إثابة له، فهذا يقال له ذلك: الخَرْج والخَراج، فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا الكهف: 94بمعنى: الأجرة، فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ المؤمنون: 72يعني: ثوابه، الثواب على العمل، فهذا قريب من معنى العطية، أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ المؤمنون: 72يعني: أم تسألهم ثواباً، أو أجرة، أو نحو ذلك، فهذا كله يرجع إلى الأصل الأول الذي ذكره ابن فارس.
قال -رحمه الله تعالى-: حرف الدال.
دِين: له خمسة معانٍ: الملة، والعادة، والجزاء، والحساب، والقهر.
دِين: له خمسة معانٍ: الملة، والعادة، والجزاء، والحساب، والقهر.
ابن فارس يُرجع هذا إلى أصل واحد، وهناك فروع ترجع إلى هذا الأصل، يقول: هو: جنس من الانقياد والذل، لاحظ: الربط بين المعاني التي سيذكرها، ويعتبرها من قبيل الفروع التي ترجع إلى هذا الأصل: الانقياد والذل، فالدِّين: الطاعة، والانقياد، والذل لله رب العالمين، المدينة: ترجع إلى هذا الأصل، بأي اعتبار؟ سُميت بذلك؛ لأنه تقام فيها طاعة ذوي الأمر، مدينة، يعني: يكون فيها نظام، ويكون فيها قانون يحكم الناس، ويدينون به، ويخضعون له، مدينة، ويقال: الدَّيْن مثلاً، الدَّيْن بأي اعتبار؟ باعتبار أنه ذُل بالنهار، وغم بالليل، العبد يقال له: مَدِين، باعتبار: أنه كأنه أذله العمل، والآن يستعملون كلمة: دائن ومَدِين، فالدائن هو صاحب الحظ، والحق، والمَدِين من عليه ذلك، كأنه قد أذله ذلك، بهذا الاعتبار، فهذا كله عند ابن فارس يرجع إلى هذا المعنى.
والمعاني التي ذكرها ابن جُزي هذه الخمسة عند ابن فارس ترجع إلى شيء واحد، ترجع إلى هذا الأصل، فالدِّين: يقول: الملة، والعادة، والجزاء، والحساب، والقهر، لاحظ الآن: إذا قلنا: الدَّيْن: ما ثبت في الذمة، وله أجل، ولا يسقط إلا بأداء، أو إبراء، هذا الدَّيْن، فهو: إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى البقرة: 282يعني: تعاملتم بالدَّيْن، إِذَا تَدَايَنتُمْ، وتقول: دان يدين دِيناً، يعني: تعبد، وتألّه، وأطاع، وانقاد، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ التوبة: 29يعني: ينقادون، ويتعبدون، فهذا يرجع إلى الذل، والانقياد، ولاحظ أيضاً: يقال: دانه يدينه بمعنى: جازاه، وقضى عليه، ويقال: مَدِين، والجمع: مَدِينون، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ الصافات: 53يعني: لمقضيٌّ علينا بالبعث، ومجازون؟، فهذا الحساب الذي ذكره، أو الجزاء، والواقع: أن ذلك كله يرجع إلى معنى واحد، فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ الواقعة: 86يعني: غير مقضي عليكم بالبعث، أو غير مُستعبدين، أو غير مسلوبي الحرية في أمركم، فالدِّين يأتي بمعنى: الطاعة، والانقياد، قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي الزمر: 14يعني: طاعتي، وتألُّهي، والجزاء: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ الفاتحة: 4يوم الجزاء، والحساب أيضاً، يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ النور: 25يعني: جزاءهم، فهنا بمعنى: الجزاء، ففي بعض المواضع تجد أن المعنى واضح، قد لا يحتمل إلا الجزاء، وفي بعضها يحتمل هذا وغيره، وهكذا يأتي بمعنى الشريعة: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ آل عمران: 83يعني: شرعه، وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ البينة: 5كذلك أيضاً، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ البقرة: 132يعني: الشريعة، أو الطاعة، والانقياد لله تعالى، وعبادته، إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي يونس: 104شريعتي، وعبادتي، وهكذا.
وفي قوله -تبارك وتعالى-: مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ يوسف: 76، ما معنى الدين هنا فِي دِينِ الْمَلِكِ؟ يمكن أن يكون: في طاعته، أو في حكمه، يعني: لو طبق عليه القانون المعمول به في مصر، ولم يكن ذلك بشريعة يعقوب، فإن الحكم عندهم خلاف ذلك، أن هذا السارق يُعاقب بعقوبة معينة، ويدفع غرامة معينة، ثم بعد ذلك يذهب، لكن في شريعة يعقوب -عليه الصلاة والسلام- قالوا: يسترقّه المسروق منه، صاحب المال الذي سُرق، فيسترقّ هذا السارق عنده، بعضهم يقول: سنة، وبعضهم يقول غير ذلك، فأخذه بهذا الاعتبار، على شريعة يعقوب لما قال: فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ يوسف: 74-75، فلا يؤخذ به غيره؛ لذلك حينما جاءوا إليه، وقالوا: فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ يوسف: 78، قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ يوسف: 79، فكان في شريعة يعقوب أنه يؤخذ هو نفسه، فأنطقهم الله -تبارك وتعالى-، فأجرى عليهم الحكم في شريعة يعقوب، وليس في القانون المصري.
وفي قوله -تبارك وتعالى-: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ البقرة: 256بمعنى: الطاعة، والانقياد، والدخول في الإسلام، فهذه المعاني جميعاً يمكن أن تجتمع، ويكون ذلك بمعنى الانقياد، والذل، فإذا دان لله فقد انقاد له، وإن كان عليه دَيْن لغيره فهو ذليل لهذا الدائن، وكذلك أيضاً يوم الدِّين، ويوم الجزاء، والحساب، هو الذي ينقاد الناس فيه لرب العالمين، ويذلون، ويخضعون، ولا يدعي أحد الملك، ولا غير ذلك، فهم في غاية الخضوع، كل ذلك يرجع إلى هذا المعنى، والله تعالى أعلم.
قال -رحمه الله تعالى-: أدنى: له معنيان: أقرب فهو: من الدنوّ، وأقل فهو: من الدنيّ الحقير.
هذه المادة يُرجعها ابن فارس إلى أصل واحد، يقاس بعضه على بعض، وهو: المقاربة، هذه المادة -الدال والنون والحرف المعتل- ترجع إلى معنى: المقاربة، من ذلك: الدنيّ يعني: القريب، من دنا يدنو، والدنيا بأي اعتبار قيل لها ذلك؟ قيل: لدنوها، والنسبة إليها يقال: دنياوي، فلان دنياوي، والدنيّ من الرجال: الضعيف الدُّون، يعني: أن مرتبته مُنحطة، قريبة من السفل، يعني: كأنه قريب المأخذ والمنزلة، والدنيء -بالهمز- كذلك أيضاً، والدنيّة والدنايا: النقيصة والنقائص، فهذه أشياء مُنسفلة هابطة دنيّة؛ ولذلك يقال: ابتعد عن الدنايا، والمدنسات، ونحو ذلك.
فعلى كل حال: هذا الدنوّ يقال في: الزمان، والمكان، والمنزلة، وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ الرحمن: 54أي: قريب، يناله القائم، والجالس، والمضطجع، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ الحاقة: 23قريبة، ما يحتاج إلى أن يصعد على شيء، ويتسلق حتى يصل إلى الثمرة، أو يتناول ذلك بشيء كآلة، بل بيده، وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا الإنسان: 14هنا الظلال ما المقصود بها؟ يعني: مُرخاة، أي: سدول الظلال عليها، قد ضُمنت دانية معنى مرخاة، وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا الإنسان: 14بمعنى: مُرخاة؛ ولذلك عُديت بعلى، وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ما قال: دانية منهم ظلالها، بل قال: وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ يعني: مُرخاة عليهم هذه الظلال، فهم في ظل، لا يضحون للشمس فيها، وهكذا حينما يقال: أدنى، أفعل تفضيل، بمعنى: أكثر دنوًّا، يعني: أقرب، وأيضاً يقال: أدنى، بمعنى: أقل، لاحظ: تقول: دار فلان أدنى إليّ من دار فلان، يعني: أقرب، لكن في قوله -تبارك وتعالى-: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ البقرة: 61يعني: الذي هو أقل، وفي قوله تعالى: وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا البقرة: 282يعني: وأقرب أن لا ترتابوا، يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى الأعراف: 169، يحتمل يمكن أن يكون معنى عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى يعني: الأقل، وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا، ويحتمل أن يكون معنى الأدنى: الأقرب، يعني: أن نظر الواحد منهم لا يجاوز أنفه، فالمنقود مقدم عنده على النسيئة، أي: العِدة في الآخرة في الجزاء، فهو يقول: هات المتع القريبة الفانية، وأمّا ما وُعِدنا به فإن ذلك نسيئة، فهو يقدم العاجل على الآجل، بهذا الاعتبار، يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى الأعراف: 169، يحتمل: الأقل أو الأقرب، وأما الدنيا فهي مؤنث الأدنى، فهي صفة لهذه الحياة التي تسبق الآخرة، هي ليست باسم لها، وإنما هي صفة، الدنيا أصلها الحياة الدنيا، فيُحذف الموصوف، ويقال: الدنيا، بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا الأعلى: 16، فهذه إما لدنوها، وانحطاط مرتبتها، أو للدنوّ بمعنى: القرب، يعني: أنها عاجلة قريبة عن الآخرة، فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا البقرة: 85، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى النجم: 8، هنا بمعنى: القرب، إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا الأنفال: 42، في بدر، عدوة الوادي، ناحية الوادي، شاطئ الوادي، الدنيا يعني القريبة إلى المدينة، وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى الأنفال: 42الناحية الثانية تجاه مكة، السماء الدنيا بأي اعتبار؟ باعتبار القرب، أي: قريبة منا، إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا الصافات: 6بمعنى: القريبة، والله أعلم.
فمثل هذه الأشياء الحاجة إليها ماسة في النظر في المعاني، والقدرة على الجمع بين أقوال المفسرين، لا غنى لطالب العلم عنها، لابد له حينما يريد أن يتعامل مع أقوال المفسرين أن يعرف هذه الأشياء، وهناك أشياء أخرى غير هذا ترجع إلى الجمع بين أقوال المفسرين؛ ولذلك في الدراسات العليا يُفترض أن يوجد -وإن شاء الله لعله يوجد في بعض الجامعات في المستقبل- مقرر عملي، وهو في نظري يعدل المقررات الأخرى النظرية؛ لأنهم في الغالب يعيدون فيها ما درسوه في الكلية بصورة أو بأخرى، هذا المقرر العملي يكون بالتطبيقات، والقدرة على الممارسة من الناحية العملية في التعامل مع التفسير، وأقوال المفسرين، والمعاني التي تحتملها الألفاظ، هذا فرع عنها، هذا أحد الفروع الداخلة تحته، يعني: لما يستطيع أن يتعامل مع هذه الألفاظ، وكيف يجمع بينها، وكيف يؤلف بينها، وأن هذه ترجع إلى هذه، وتلاحظون أشياء نستعملها، وألفاظ تُذكر وتردد قد نستبعد أن ترجع إلى هذا الأصل، فإذا بُين وجه الارتباط قد يكون ذلك مما لا يخطر بالبال، فهو يحتاج إلى شيء من التأمل، ولطافة الذهن.
قال -رحمه الله تعالى-: دَأْب: له معنيان: عادة، وجِد، وملازمة، ومنه: سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا يوسف: 47أي: متتابعة للزراعة من قولك: دأبتُ على الشيء: دمتُ عليه.
ابن فارس -رحمه الله- يُرجع هذه المادة إلى أصل واحد، وهو يرجع إلى معنى الملازمة، والدوام، فالدأْب: العادة، والشأن، يقال: دأَبَ الرجل في عمله إذا جد، وهكذا: الدائبان: الليل والنهار، يقال: هذا يعمل عملاً دءوباً، يعني: بلا انقطاع، مستمرًّا بجد، فلان يدأب في عمله، يعني: يجدّ ويجتهد، يعمل بدأب، يعني: بجد، أو بملازمة دون انقطاع.
الله -تبارك وتعالى- يقول: مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ غافر: 31، لاحظ: هذه المعاني التي ذكرها ابن جُزي: العادة، والجد، والملازمة، هذا كله يرجع إلى هذا المعنى، فقوله: مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ إلى آخره، يعني: العادة والشأن، بأي اعتبار قيل لها ذلك؟ أنها شيء كأنه ملازم، يلزمونه، لا يُخلّون به، هذا دأبهم، هذا دأب فلان، يعني: عادته التي لا تنفك، ولا تتغير، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} إبراهيم: 33يعني: مستمريْن بلا توقف، أو مُجدَّيْن بلا كلل، كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ آل عمران: 11يعني: كعادتهم المستمرة، قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا يوسف: 47يعني: دائبِين، أو ذوي دأب، ويحتمل أنه مفعول مطلق لفعل محذوف: تدأبون دأباً، سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا تدأبون دأباً، يعني: تزرعون سنين دأباً، يعني: متواصلة بلا انقطاع، وبجدٍّ تلازمون فيها ذلك، دأباً، وهكذا، فهذا يرجع إلى الملازمة والدوام.
قال -رحمه الله تعالى-: دار السلام: الجنة.
هذه أيضاً يُرجعها ابن فارس إلى أصل واحد، يدل على إحداق الشيء بالشيء من حواليه، أصل المادة أعني: الدار -الدال والواو والراء- فإذا أُضيفت إلى دار السلام، فهي: الجنة، ودار الخلد، ودار المُقامة، ونحو ذلك، لكن أصل كلمة الدار هنا تدل على: إحداق الشيء بالشيء من حواليه، يقال: دارت بهم الدوائر، يعني: الحالات المكروهة أحدقت بهم، وأحاطت بهم، يقال: دار يدور دوراناً، فلان يدور إذا تحول وجال مع التفات، يقول الله: تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ الأحزاب: 19يعني: ينظر ويُجيل عينيه يمنة ويسرة ولا يحرك رأسه، تدور أعينهم، وهكذا حينما تقول: أداره، يعني: جعله دائراً، وتجدون في الفقه، وفي كلام الإمام مالك، والمالكية: المدير -يعني: في المال- أي: المال الذي يُدار في أبواب الزكاة، يعني: في قوله -تبارك وتعالى-: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ البقرة: 282يعني: تجعلونها دائرة، تتداولونها وتتعاطونها من غير تأجيل، تديرونها بينكم، فهي ليست من قبيل الديْن، وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ يونس: 25يعني: الجنة، وأما الدائرة في عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ الفتح: 6فهي هنا بمعنى الهزيمة، والشدة من شدائد الدهر، سُميت بهذا بأي اعتبار؟ إذا أردنا أن نُرجعها إلى الأصل؛ لإحاطتها بمن تنزل به، دائرة، والدار: الموضع الذي يسكن فيه الناس، ويقال أيضاً لمنزل الإنسان: دار، ويقال للناحية بكاملها، يقال: ديار بكر، وديار ربعية، لمنازلهم، وأرضهم، وبلادهم، والدار الآخرة: محل الحياة الآخرة، والدَّيَّار يقال: لساكن الدِّيَار، ساكن الدار يقال له: دَيَّار، وأصله: من يتحرك ويدور، لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا نوح: 26، لا تذر أحداً يعني من ساكني الديار؛ ولهذا بعضهم يقول: إن الدار أصلها: أن صاحبها يدور لحاجاته، وشئونه، ويتفرق في مصالحه، ثم بعد ذلك يرجع إليها، أو أن ذلك باعتبار ما يُحيط بها من حائط، ونحو ذلك، ومنه: صلاة المرأة في دارها، ولو رجعت إلى أصل كلمة الدار في اللغة فستجد أنها لا تستعمل فيما نستعمله نحن اليوم، نحن نستعملها بمعنى أوسع، نستعملها على البيت بكامله، بفنائه وبنائه، لكن في الحديث في صلاة المرأة يراد بها معنى أضيق من هذا.
والجمع للدار: دُور، فلابد أن نعرف أصل المادة، يعني: هل هي واوية أو يائية، ولذلك هنا لم نذكر مثلاً: الدير، فهذه تختلف في مادتها، بعض هذه المواد قد يُظن أنها يائية فيُخطئ، فيرجع إلى مادة أخرى، فينقل كلام ابن فارس، أو غير ابن فارس، ويُركب معانيَ وهي غلط، لابد من معرفة أصل المادة، وقد جربت هذا، يعني: تطلب أحياناً من الطلاب أنهم يرجعون إلى مادة، يرجعون إلى أصلها، ومعناها، فتجد كتابات، وتعريفات لهذه المادة، وغير ذلك، مبنية على أنه لم يعرف أصل المادة أصلاً، فصار ينقل كلام أهل اللغة، ونحو ذلك، ويتحدث عن مادة أخرى، وهذا يقع فيه بعض أهل البدع أيضاً في مواضع مما يتصل بالتفسير، وأيضاً الاعتقاد، فيخطئون في المعنى، وينحرفون فيه، ولاحظ: المادة التي بعدها يقال فيها كما سبق، التي هي الدوائر، فقد تكلمت عليها.
قال -رحمه الله تعالى-: دوائر: صروف الدهر، واحدها دائرة، ومنه: دَائِرَةُ السَّوْءِ الفتح: 6.
قلنا: باعتبار أنه يُحيط بمن نزل به، وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ التوبة: 98، وهكذا: يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ المائدة: 52مصيبة، وشدة تنزل تحيط بنا وتحدق بنا.
قال -رحمه الله تعالى-: دعاء: له خمسة معانٍ: الطلب من الله، والعبادة، ومنه: تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الأنعام: 56، والتمني وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ يس: 57، والنداء وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ البقرة: 23، والدعوة إلى الشيء ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ النحل: 125.
هذه المادة: الدعاء، أصل المادة: الدال والعين والواو، ابن فارس يقول: الدال والعين والحرف المعتل أصل واحد، وهو أن تُميل الشيء إليك بصوت، لاحظ: أن تُميل الشيء إليك بصوت، فهو: كلام يكون منك، أن تميله إليك بصوت وكلام، يعني: إمالة وصوت، أن تُميله بصوت.
فالدَّعوة إلى الطعام، وبالكسر: الدِّعوة تكون في النسب، الدَّعوة والدِّعوة.
لاحظ: الآن ابن جُزي يقول: له خمسة معان: الطلب من الله، فالدعاء يأتي بمعنى: النداء والطلب، دعاه يعني: ناداه وطلبه، ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ الروم: 25، وهكذا: فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ الكهف: 52، وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا فاطر: 18، إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا القصص: 25، هذا كله يرجع إلى معنى: الطلب والنداء، أما دعاء الله، فلان دعا ربه فيأتي بمعنى: السؤال، هذا الذي ذكره ابن جُزي قال: الطلب من الله، وأصل ذلك أوسع من هذا، دعاه بمعنى: طلبه أو ناداه، ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ الروم: 25، لكن دعا الله أي: طلب من الله، سأل ربه فهو بمعنى الطلب عموماً، فإذا كان موجهاً إلى الله فذلك كقوله -تبارك وتعالى-: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ آل عمران: 38يعني: سأل، فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ البقرة: 61اسأل، أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ البقرة: 186يعني: إذا سألني، ويأتي بمعنى: العبادة، دعاه أي: عبده، وَأَدْعُو رَبِّي مريم: 48بمعنى: أعبد ربي، وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ يونس: 106يعني: لا تعبد، ويدخل فيه السؤال، فهو أيضاً: عبادة، والعبادة دعاء مسألة، ودعاء عبادة، وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا الجن: 18يعني: لا تعبد، وهكذا، قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الأنعام: 56يعني: تعبدون من دون الله، والفتية في الكهف، أصحاب الكهف قالوا: لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا الكهف: 14يعني: لن نعبد من دونه إلها، ويقال: دعاه بمعنى: استعان واستغاث به، وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ البقرة: 23، لكن هذا كله يرجع إلى معنى: الطلب، فهذا العابد في الواقع هو: طالب، يطلب، فهو بعبادته هذه سواء كانت دعاء مسألة أو دعاء عبادة هو يطلب ما عند الله من الثواب، فلو قيل: إن أصل هذه المادة: الدعاء في جميع صروفها واستعمالاتها ترجع إلى معنى: الطلب، أو نحو ذلك؛ لصح ذلك، فهنا يقال: دعا بالشيء: طلب إحضاره، يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ص: 51يعني: يطلبون حضورها، وكذلك دعا إلى الشيء بمعنى: حث عليه، دعا إليه، أو دعا له، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ فصلت: 33، اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ الأنفال: 24بمعنى: الحث على ذلك، ويقال: دعاه إلى غيره، ولغيره، بمعنى: نسبه، وعزاه، وبهذا فُسر قوله -تبارك وتعالى-: أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا مريم: 91يعني: نسبوا له الولد، ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ الأحزاب: 5، يعني: انسبوهم لآبائهم، يعني: المُتبنَّى كانوا ينسبونه إلى من تبناه، فقال: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ، وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ الأحزاب: 4، أدعياءكم، الدعيّ، يعني: من تنسبونهم إلى أنفسكم، أو يُعزَون إليكم، لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا الأحزاب: 37، ويقال: دعاه كذا، أو بكذا، يعني: سماه، أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى الإسراء: 110، بعضهم فسره أي: تُسموا، بأي اسم: الرحمن، والعزيز، والله؛ ولهذا قال: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ الأعراف: 180، فُسر بمعنى: سمُّوه، وهكذا فسره بعضهم -كما هو معروف- بمعنى: اسألوه بهذه الأسماء بحسب حاجتكم، وهذا لا إشكال فيه، فكله صحيح، والدعوى تقال: لما يدعيه الإنسان، وتكون أيضاً بمعنى: الدعاء، فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا الأعراف: 5أي: ادعاؤهم، ويحتمل أن يكون بمعنى: السؤال، يعني: إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ، ويقال: ادعى الشيء طلبه، واستعجله، وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ الملك: 27يعني: تطلبون، وتستعجلون العذاب، فقد حل بكم، فهذا كله يرجع إلى أصل واحد.
قال -رحمه الله تعالى-: دابة: كل ما يدب على الأرض، فتعم جميع الحيوان.
في الطبعة الأخرى الإماراتية: فيجمع جميع الحيوان، وهنا: تعم.
على كل حال: أصل هذه المادة عند ابن فارس يرجع إلى واحد ينقاس عليه غيره، وهو: حركة على الأرض، أخف من المشي، فالدبيب أخف من المشي، وهذا لا زال مستعملاً إلى اليوم، تقول: فلان يدب دبيباً يعني: يمشي مشية خفيفة، ليست مشية قوية؛ ولذلك يعبر الإنسان الضعيف عن نفسه، يقول: أدبُّ، كيف أنت؟ يقول: أدبُّ، يعني: أدبُّ دبيباً، أمشي مشية خفيفة، فمن ثَمَّ كل ما مشى على الأرض بهذا الاعتبار فهو: دابة، هذا أوسع استعمال، أو أوسع إطلاق للدابة، هناك استعمالات أضيق منه بحسب العرف، تقول: دب: مشى على هيئته، كل ما دب على الأرض؛ ولهذا يقولون: الدابة: اسم لكل حيوان، ذكراً كان أو أنثى، عاقلاً أو غير عاقل، وغُلِّب على غير العاقل، يعني: اسم لكل حيوان باعتبار أنهم يقصدون بالحيوان ما فيه حياة، فيدخل فيه الإنسان بهذا الاعتبار، اسم لكل حيوان، لكنه في العرف يطلق بإطلاق أضيق: لما لا يعقل، وفي عرف أضيق منه يقال: لذوات الأربع فقط، وفي عرف أضيق منه يقال: للحمار، وقد يقال ذلك في بعض الأعراف: للحية، لكنه بهذا الإطلاق الضيق جدًّا: الحمار، أو الحية، أو نحو ذلك، لم يرد في القرآن، لكنه ورد بمعناه الواسع جدًّا: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ الأنفال: 22كل ما يدب على الأرض، فيدخل فيه الإنسان، وغير الإنسان، في قوله -تبارك وتعالى-: وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ البقرة: 164، هذا بأوسع الإطلاقات، للإنسان وغير الإنسان، لكن في قوله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ الأنعام: 38، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ لاحظ: "دابة" نكرة في سياق النفي، وسُبقت بمِن التي تنقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فهذا يشمل جميع الدواب، ولا دابة، لكن هنا لما ذكر: الطائر، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ الأنعام: 38شبههم بهم، قالوا: إلا الطير والإنسان باعتبار السياق، أنه ذكر الطائر والإنسان هنا، فيشمل ما عدا ذلك، إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ، وقوله -تبارك وتعالى-: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا هود: 6، يشمل الجميع، وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ النحل: 61، يشمل الجميع أيضاً.
وأما قوله -تبارك وتعالى-: أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ النمل: 82، فلاحظ: هنا استعمال خاص: ما هذه الدابة؟ هي: مخلوق معين الله أعلم بصفته، يخرج في آخر الزمان، يكون من علامات الساعة الكبرى، تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ النمل: 82، وهنا أيضاً في قوله تعالى: مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ سبأ: 14، ما المقصود بدابة الأرض؟ الأرْضة: دويبة معروفة تأكل الخشب، ونحو ذلك، فهذه هي المقصودة، ومن استعمالات العامة التي كما أذكر لكم في بعض المواضع أنهم يدْعون بهذا، يعني: يقولون: جعله للأرضة، ونحو ذلك، يستعملون مثل هذا، ماذا يقصدون به؟ يقصدون به ما يُفنيه، ويهلكه، أن تأكله هذه الدابة.
قال -رحمه الله تعالى-: دُحور: إبعاد، ومنه: المدحور: المطرود.
ابن فارس يُرجعه إلى أصل واحد، وهو: الطرد، والإبعاد، يقول -تبارك وتعالى-: قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا الأعراف: 18يعني: مُبعدًا، جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا الإسراء: 18مُبعدًا، فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا الإسراء: 39، وقال: دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ الصافات: 9يعني: مدحورين، بمعنى: الإبعاد والطرد.
قال -رحمه الله تعالى-: دَعّ -بتشديد العين- يدعُّ، أي: دفع بعنف، ومنه: يَدُعُّ الْيَتِيمَ الماعون: 2، ويُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا الطور: 13.
هذه المادة أصلها: دال وعين وعين، إذا أردت أن تبحث عنها: دال وعين وعين، هذا أصلها، فابن فارس يقول: إن أصلها واحد يدل على: حركة، ودفع، واضطراب، الدَّعّ، ومن ثَمَّ يقال: دعَّه دعًّا يعني: دفعه دفعاً عنيفاً في إرهاق وإزعاج، دَعَّهُ، والدعدعة هي: الحركة، تحريك المكيال، المُد مثلاً، أو الصاع، يحركه من أجل أن يستوي ما بداخله من الحب، أو نحو ذلك، فهذه الدعدعة: تحريك، واضطراب، فهي تحريك المكيال؛ ليستوعب ما في داخله، والدعدعة تقال في اللغة: للجري، أو العدو بالتواء، بحركة يعني: فيها نوع من الجري، يقال لها: دعدعة، الجري الذي يكون فيه التواء، يعني: يجري بطريقة يتحرك ويلتوي فيها، لا يكون مستقيماً في جريه، فذاك يقال له: دعدعة، ومن هنا فقوله -تبارك وتعالى-: فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ الماعون: 2يعني: يدفعه بعنف، وغلظة، يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا الطور: 13يعني: يُدفعون إليها دفعاً عنيفاً، ويُزعَجون إليها بعنف.
قال -رحمه الله تعالى-: درأ: دفع، ومنه: وَيَدْرَءُونَ الرعد: 22.
هذه المادة تكون كما يقول ابن فارس: الدال والراء والحرف المعتل والمهموز، يقول: أما الذي ليس بمهموز فأصلان، يعني: مثل: درى، فأصلان:
أحدهما: قصد الشيء، واعتماده طلباً، من قولهم: ادّرى بنو فلان مكان كذا، يعني: قصدوه للغارة، ادّرى، ادّريت موضع كذا، يعني: قصدته، فهو بمعنى: القصد، والطلب.
والآخر: يكون بمعنى حِدة تكون في الشيء، يعني: يقال: المِدرى؛ لما يُسرح به الشعر، كأنه مُحدد بأسنانه، فالمِدرى: يُسرح به الشعر، ويقال: شاة مدراة، يعني: إذا كانت حادة القرنين، الحِدة، فهذا لم يرد في القرآن، يقول: وأما المهموز فأصل واحد، وهو دفع الشيء، درأته درأ، بمعنى: دفعته، فقوله: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ النور: 8، في اللعان، يعني: يدفع، وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ القصص: 54يعني: يدفعون، وقوله: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا البقرة: 72، يعني ماذا؟ تدافعتم، كل فئة، وكل طائفة تدفع ذلك عن نفسها، وتضيفه إلى غيرها.
إذن غير المهموز يرجع إلى معنى: القصد، قصد الشيء، واعتماده طلباً، عند ابن فارس، هذا الذي يمكن أن يُرجع إليه الدراية، ودرى بمعنى: علم، ونحو ذلك، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى عبس: 3يعني: وما يُعلمك، وما يُشعرك، وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ الأنبياء: 109، إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا الجن: 25يعني: لا أعلم، لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا النساء: 11، يعني: هذا يُرجعه ابن فارس: لا تَدْرُونَ إلى معنى: القصد، لأنه إذا علم الشيء، أو نحو ذلك كأنه توجه إليه بذهنه، وفكره، حتى أدركه، هذا غير المهموز.
وأما المهموز فواضح، أنه بمعنى: الدفع، لاحظ: أن ابن جُزي هنا قال: درأ -جاء بالمهموز-: دفع، ومنه: وَيَدْرَءُونَ الرعد: 22.
قال -رحمه الله تعالى-: مدراراً: من در المطر إذا صب.
عند ابن فارس ترجع هذه المادة -الدال والراء المضاعفة- إلى أصلين:
الأول: تولد شيء عن شيء، يقال: در اللبن، يعني: تتابع، وكثُر، وكذلك أيضاً يقال: درت اللبن: صبت اللبن، درت السحاب يعني: صبت، ومن ذلك يقال في مقام الإعجاب: لله دره! يعني: عمله، كأنه شُبه بالدَّر، فهذا تولد شيء عن شيء.
الثاني: اضطراب في شيء، فالدَّرِير من الدواب يقولون: هو: الشديد العدو، السريع، طيب، والدُّر بأي اعتبار؟ الدُّر: اللؤلؤ الكبار، يقال: إنه سُمي بذلك: لاضطراب يُرى فيه؛ لصفائه، كأنه ماء يضطرب، البريق واللمعان كأنه ماء يضطرب، فقيل له: دُر، والكوكب الدُّري: الثاقب المُضيء، بأي اعتبار؟ يقولون: شُبه بالدُّر، ونُسب إليه؛ لتوهجه، وبياضه، ولمعانه، طبعاً: دُرِّي وكذلك دُرِّيء بالهمز، أمّا بالهمز فيرجع إلى معنى: درأ السابقة، بأي اعتبار؟ على أحد المعاني: كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّء النور: 35، على أحد الأقوال في التفسير: أنه لشدة الاندفاع يزيد التوهج، الآن لو معك شعلة، وتقذفها في الليل، فهي مع اندفاعها الشديد القوي تزداد توهجاً؛ ولذلك النار إذا نفختها ازدادت توهجاً، فإذا أُلقي مع شدة الاندفاع والسرعة يزداد توهجه، يقول: دُريء، وقيل: لأنه يدرأ الظلام بضيائه الشديد، بمعنى: الدفع أيضاً، يدفع الظلام، فهذا يرجع إلى معنى: الدفع، بالهمز على أحد الأقوال، أو بعض الأقوال في التفسير، درأ، ودُرِّيء، وهي قراءة: دُرِّيء ودُرِّي، بمعني: متوهج، مضيء، شديد الإضاءة، ويقال: درت ذات اللبن، يعني: نزل من ضرعها اللبن غزيراً، وهكذا: وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا الأنعام: 6درت عليهم بالمطر الغزير، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا نوح: 11، وهكذا.
قال -رحمه الله تعالى-: داخرين: صاغرين.
هذه أرجعها أيضاً ابن فارس إلى أصل واحد، وهو: الذل، أنها ترجع إلى معنى: الذل، أو ما يدل على الذل كالصَّغار، وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ النمل: 87يعني: ذليلين، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ غافر: 60، الجزاء من جنس العمل، استكبروا عن عبادة الله فيدخلون النار في حال من الذل.
قال -رحمه الله تعالى-: دُكت الأرض: أي: دُقت جبالها حتى استوت مع وجه الأرض
دُكت الأرض: أي: دُقت جبالها حتى استوت مع وجه الأرض
، ومنه: جَعَلَهُ دَكًّا الأعراف: 143أي: مستوياً مع الأرض.
هذه أرجعها ابن فارس إلى أصلين: الدال والكاف -الدَّكّ-:
الأول: يدل على تطامن، وانسطاح، يقول: ومن ذلك: الدكان، وهو معروف، ومن هذا يقال: الأرض الدكاء، يعني: العريضة المستوية، وناقة دكاء: لا سنام لها، وفرس أدك الظهر يعني: عريض الظهر، وربما يدخل فيه ما يقوله الناس اليوم: الدّكّة، فهي: مكان مستوٍ، يقال له: دكة.
الأصل الآخر الذي ذكره ابن فارس يقول: يقرب من باب الإبدال، فكأن الكاف فيه قائمة مقام القاف، يقال: دككت الشيء دككته، يعني: دققته، الدق، يقول: ويجوز أن يكون من الأول، بمعنى: الانسطاح والتطامن، ومن ذلك: دككت الرمل على الميت إذا أهلته عليه، فالرمل دقيق، ولا زال الناس يستعملون هذا إلى اليوم، يقولون عن بعض الأرض الرملية: دَكَاك، يعني: التي فيها الرمل، يقولون: دَكَاك، وأنتم تسمعون هذا، وهو معروف.
فالشاهد: أن هذا يمكن أن يرجع إلى أصل واحد، يعني: كأنه في الأصل الثاني يقول: إن الكاف مُبدلة من القاف، فدككته: دققته، وهذا تجدونه في بعض الألفاظ، يعني: مثلاً لو تبحث في كلمة دخَرَ، لاحظ: هنا لما قال: وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ النمل: 87، قيل: الذل، لكن كلمة: الادخار، لا ذكر لها هنا، مع أنه فيما يتبادر إلى الذهن أن أصلها من ذلك، أي: يرجع إلى أصل واحد، والواقع: أنها ليست كذلك، فهذه يقولون: إن الدال مبدلة من الذال: ذَخَرَ، وهو: ما يبقيه الإنسان؛ يُرجِّي عاقبته، تقول: فلان عنده ذُخر من المال، ذُخر يعني: ما يبقيه؛ لما يرجِّيه في عاقبته في المستقبل، يعني: القريب أو البعيد، يعني: في الآخرة، أو في الدنيا، فلاحظ: حينما تكلمنا عن كلمة: دَخَر: الصغار والذل، ما تكلمنا عن الادخار؛ لأنهم يقولون: أصل الدال: ذال، ذخر، فتجدون الآيات التي تُذكر فيها، أو هذا المعنى يُذكر في الكلام على: ذخر، يعني: الآن مثلاً في قوله -تبارك وتعالى-: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا الأعراف: 143يعني: متفتتاً مُسوًّى، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا الكهف: 98يعني: الذي هو: السد، بمعنى: مسوًّى بالأرض؛ لأن الأرض تتحول إلى شيء آخر، فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا طه: 106، كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا الفجر: 21كُرِّر عليها الدك أي: الدق على المعنى الثاني، والدق والدك هما متلازمان، حتى صارت هباءً، أو سُويت تسوية بعد تسوية، لاحظ: هنا يحتمل أن يكون بمعنى: الدق، أو التسوية.
طيب، نتوقف هنا، على كل حال: نحن أنهينا ما يقرب من مائتي مادة أصلية، يعني: غير المعاني التي يذكرها تحت المادة الواحدة، أنهينا ما يقرب من مائتي مادة أصلية إلى الآن، يعني: عدادها، يعني: هذه المادة رقمها مائة وتسعة وتسعون، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.