تفسير التسهيل لابن جُزي
معاني اللغات (الغريب)
(25- أ) حرف النون من: نسْخ إلى قوله: نُطفة
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وعلمنا الحكمة والقرآن، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله، وصحابته الطيبين الطاهرين، اللهم اغفر لنا، ولوالدينا، ولشيخنا، والحاضرين، والمستمعين، أما بعد:
فيقول الإمام ابن جُزي الكلبي -رحمه الله تعالى-: نسْخ: له معنيان: الكتابة، ومنه: نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ الجاثية: 29، والإزالة، ومنه: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا البقرة: 106.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد مضى الكلام على معنى: النسخ في الكلام على المقدمات، وابن فارس يقول: إن هذه المادة ترجع إلى أصل واحد، إلا أنه مختلف في قياسه، وذكر أن قوماً يقولون: إن قياسه رفع شيء وإثبات غيره مكانه، وقال آخرون: تحويل شيء إلى شيء، وكل شيء خلف شيئاً فقد انتسخه، وانتسخت الشمسُ الظِّل، والشيبُ الشباب، وتناسُخ الورثة: أن يموت ورثة وأصل الإرث قائم لم يُقسم، أي: التناسخ في الفرائض، ومنه: تناسخ الأزمنة والقرون، هذا ما ذكره ابن فارس، أنه يرجع إلى أصل واحد، لكن هل هو: رفع شيء وإثبات شيء مكانه، أو أنه تحويل شيء إلى شيء، يعني: الميراث يتحول من المورِّث إلى الوارث، فيتحول، والشمس تنسخ الظل فترفعه، أو أن هذا الظل يتحول إلى ناحية أخرى، يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ النحل: 48، ينتقل من ناحية إلى ناحية، وهذا الشيب ينسخ الشباب، فيتحول من حال الشباب إلى حال الضعف، فبعضهم يفسره بهذا التحول، أو أن ذلك يرجع إلى الرفع والإزالة، والواقع أن النسخ -والله أعلم- منه هذا وهذا، منه: ما يكون من قبيل الرفع، ومنه ما يكون من قبيل التحول، والأمر مقارب، فبينهما مقاربة كما سيأتي في ربطه بمعناه الشرعي؛ ولذلك فإن بعضهم يقول: إن النسخ يأتي لمعانٍ في اللغة، ومن المعاني المشهورة جدًّا التي يكاد أن يذكرها جميع من يتكلم على النسخ: الرفع والإزالة والإبطال، ومنه يقولون: نسخت الريح الأثر، فهنا إزالة وليس فيه تحول، إبطال، يُمحَى بالكلية، نسخت الريح الأثر، ومن ذلك قوله -تبارك وتعالى-: فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ الحج: 52، هنا بمعنى: الإزالة والإبطال، وليس معناه: التحول والانتقال، فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ الحج: 52، يُبطله، ويأتي بمعنى: النقل، هذا الذي عُبر عنه بالتحول في كلام ابن فارس -رحمه الله-، فهذا النقل إذا أردنا أن ندمج أو نجمل المعاني، فإن هذا المعنى يدخل تحته صورتان في النقل في اللغة، يدخل تحته صورتان، بدلاً من أن نكثِّر المعاني فنقول: النسخ يأتي لأربعة معانٍ، أو أكثر، فهذا النقل تارة يكون مع بقاء الأصل، فحينما تقول: نسخت الكتاب، هذه نسخة طبق الأصل، معناها: أنك نقلت ما فيه مع بقاء الأصل، فالأصل ثابت باقٍ لم يتحول، ولم يُبطَل، هنا لا تحويل، ولا إبطال، هو فيه نوع تحويل، لكن مع بقاء الأصل، ليس فيه إبطال، فهذا مع بقاء الأصل، وقوله -تبارك وتعالى-: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ الجاثية: 29، اختلف في معناه، هل المراد بذلك: كتابة الملائكة للأعمال، فالنسخ يقال: للكتابة، أو أن ذلك بمعنى: النقل من الصحف التي دونتها الملائكة في أعمال الناس من الحسنات والسيئات، فيُنقل ذلك إلى غيره؟، ومن ثَمّ فإن النسخ يقال: لمعنى النقل مع بقاء الأصل، ويقال أيضاً: للنقل مع زوال الأصل، فالكتابة يقال لها: نسخ، والكتاب يقال له: نسخة، أي: الكتاب المنقول عنه، وكذلك المنقول إليه، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَفِي نُسْخَتِهَا الأعراف: 154، يعني: التوراة، هُدًى وَرَحْمَةٌ الأعراف: 154، فقال: وَفِي نُسْخَتِهَا فهل معنى ذلك أن المقصود بذلك مثلاً أصلها الذي هو في اللوح المحفوظ، أو ما كُتب فيها وهو موافق لما في اللوح المحفوظ، أو موافق لما أُملي على موسى -عليه الصلاة والسلام-؟، مع أن التوراة نزلت كتاباً مقروءاً، ولم تنزل كما نزل القرآن على قلب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم.
النسخ له معنيان مشهوران: الأول: بمعنى: الإزالة والإبطال، والثاني: بمعنى: النقل، سواء مع بقاء الأصل، أو مع زواله، فالمواريث حينما تنتقل، ويحصل التناسخ، هنا يكون ذلك انتقالا لهذه المواريث، فهنا في مسألة التناسخ في المواريث مع بقاء الأصل لم يُقسم، وكذا عقيدة تناسخ الأرواح، وهي: عقيدة باطلة فاسدة، فيها نقل باعتقادهم المزعوم، ولكن مع عدم بقاء الأصل، يزعمون أن الروح تنتقل بحسب حال الإنسان، فإن كان خيِّرًا تنتقل إلى جسد ومسلاخ طيب، وإن كان سيئاً فإنها تنتقل إلى جسد سيئ، فتُنعَّم أو تُعذب بحسب ذلك، هذا في عقيدتهم الفاسدة، هذا انتقال مع عدم بقاء للأصل، إذا كان كذلك فنسخ القرآن: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا البقرة: 106، ما معناه؟، هنا فيه معنى: الرفع، وذلك بأن الحكم السابق حينما يُرفع فذلك يكون إبطالاً له، وكذلك حينما يُرفع اللفظ فهذا نسخ اللفظ، أو نسخ الحكم، أو نسخ اللفظ والحكم، فهذا كله فيه معنى: الرفع، فهذا هو: المعنى المشهور، وهو الذي على ألسن الأصوليين، وحينما يفرقون بينه وبين أنواع البيان من: تقييد المطلق، وتخصيص العام، وبيان المجمل، ونحو ذلك، يقولون: هذا كله من البيان، والنسخ: رفع، وما يطلبونه في النسخ مما لا حاجة إليه، كأن يكون الناسخ بدرجة من الثبوت مساوية للمنسوخ أو أقوى منه، يقولون: الآحاد لا ينسخ المتواتر مثلاً، هذا غير صحيح، لكنهم يزعمون هذا بناء على عقائدهم الكلامية، فمثل هذا يقولونه بأي اعتبار؟ يقولونه باعتبار: الرفع، يقولون: الرفع لابد فيه أن يكون الرافع أقوى، أما البيان فيكون المُبيِّن دون المُبيَّن من ناحية الثبوت، فالآحاد يُبيِّن المتواتر، ما عندهم مشكلة في هذا، هكذا يقولون، وهذا الكلام غير دقيق، لكن هو الذي يجري على ألسنتهم، وهو ذائع في استعمالهم، فيقصدون بالنسخ معنى: الرفع، لكن معنى: النقل موجود، من أي جهة؟، من جهة: أن المكلف ينقل مِن إلى، نُقل المكلف من حكم إلى حكمٍ آخر، هذا في النسخ الذي في مثل قوله -تبارك وتعالى-: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا البقرة: 106، أمّا الذي بمعنى الإبطال فذلك قوله -تبارك وتعالى-: فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ الحج: 52، فهذا معنى آخر، يعني: هنا بمعنى الإبطال، وأمّا إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ الجاثية: 29، فهنا بمعنى: الكتابة، يحتمل أن يكون ذلك باعتبار النقل، ويحتمل أنه من غير نقل، والله أعلم.
ابن جُزي فسره هنا: بالكتابة؛ لأنه كما قلت: هو يذكر المعاني المباشرة، نستنسخ يعني: نكتب، قال: والإزالة والإبطال، وما ذكر النقل، مع أنه معنى مشهور، لكن كأنه مشى على المشهور من تفسير النسخ بمعنى: الإزالة والرفع؛ ولذلك يعرفونه بالتعريفات المشهورة التي يذكرون فيها معنى الرفع: رفع حكم شرعي بخطاب شرعي متأخر، أو يقولون: بخطاب شرعي متراخٍ عنه، فهذا معنى الرفع، وأما التراخي فمن أجل أن يخرج التخصيص والتقييد، ويمكن أن يكون التخصيص أيضاً والتقييد مفارقاً للنسخ باعتبار أنه نوع من البيان أيضاً، والله أعلم.
قال -رحمه الله تعالى-:نصْر: بالصاد المهملة: معروف، وبالسين: اسم صنم، وَيَعُوقَ وَنَسْرًا نوح: 23، أو اسم طائر أيضاً
نصْر: بالصاد المهملة: معروف، وبالسين: اسم صنم، وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ، أو اسم طائر أيضاً
.
هذه المادة -النون والصاد والراء- أرجعها ابن فارس إلى أصل واحد، يدل على: إتيان خير وإيتائه، تقول: نصر الله المسلمين، بمعنى: آتاهم الظفر على أعدائهم، وانتصر بمعنى: انتقم، فهو من ذلك، فهذا الإيتاء، إيتاء النصر، أن يمكنهم من عدوهم، وأن يظفرهم بهم.
يقول: وأما معنى الإتيان -إتيان شيء- فيقول: العرب تقول: نصرتُ بلد كذا إذا أتيته، يقول: ولذلك يسمى المطر: نصرًا، ونُصرت الأرض فهي: منصورة، والنصر: العطاء، فهذا الإتيان، إتيان الشيء، فذكر الإيتاء والإتيان، ويمكن -والله أعلم- أن يرجع ذلك جميعاً إلى معنى واحد تحت هذا الأصل، يمكن ذلك، يعني: أن يأتي على مطلوبه، فيحقق ذلك المطلوب، فهذا هو: النصر، يقال: فلان انتصر على نفسه، وانتصر على عدوه، وحقق انتصاراً، يعني: بالظفر، حيث تحقق مراده، أتى على مطلوبه، والإيتاء: أن الله -تبارك وتعالى- يتفضل بالنصر على من شاء من عباده.
وأما النَّسْر فهنا يقول: بالسين صنم، أو اسم طائر، ابن فارس يقول: إن هذه المادة -النون والسين والراء- ترجع إلى أصل صحيح، يدل على: اختلاس واستلاب، نسْر: اختلاس واستلاب، منه: النَّسْر: تناول شيء من الطعام، ونَسَره: كأنه شيء يسير استلبه، يقول: ومنه: النَّسْر، كأنه ينسِر أو ينسُر الشيء -بالضم والكسر للسين-، والمِنسَر يقولون: خيل ما بين المائة إلى المائتين، كأنه إنما جاء لينسِر أو لينسُر شيئاً، يعني: يختطف شيئاً ويستلبه؛ لأن الخيل تستعمل للإغارة، وهذا الطائر كأنه يختطف الفريسة، أو الشيء الذي يأخذه، فيدل على: الاستلاب.
وأما الآيات التي في النصر فكثيرة جدًّا، إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر: 1]، إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ محمد: 7، إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ آل عمران: 160، مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ البقرة: 214، لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ الأنبياء: 43، إلى غير ذلك.
وأما النَّسْر فذلك يقال: للصنم، وهو اسم له، اسم للصنم، لماذا سمي هذا الصنم بذلك؟ هذه أسماء لقوم من الصالحين كانوا في قوم نوح -عليه الصلاة والسلام-، فهي أسماء في الأصل، إذن: هي: أعجمية وليست عربية، ومن ثَمَّ لا حاجة لبيان أصل الاشتقاق، والمعنى الذي ترجع إليه؛ لأنها أعلام أعجمية، معنى ذلك: أنها ليست مشتقة، فلا يقال: إن النَّسر المذكور في معبوداتهم وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ نوح: 23الآية، لا يقال: إن هذا النَّسر يرجع إلى معنى: الخطف، والاستلاب، ونحو ذلك، لكن في القرآن هل جاء النَّسر في غير هذا في كتاب الله -تبارك وتعالى-؟، الجواب: لا، يعني: هل جاء اسم الطائر المعروف مثلاً، أو شيء من الاستعمالات للنَّسر؟ فالجواب أن ذلك لم يأتِ.
وأما النصر فهو كثير -كما سبق-، ويدل على معنى: الإعانة والتأييد، وقد يأتي بمعنى: التنجية أيضاً من المكروه، والتنجية من العدو وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الأنبياء: 77يعني: نجيناه، ويحتمل أنه أظفره بهم، وهكذا: فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا غافر: 29يعني: من يخلصنا وينجينا، فهذا يأتي بمعنى: التنجية، والخلاص، والله يقول: فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا نوح: 25يعني: يخلصونهم وينقذونهم، وهكذا في بعض وجوه الاستعمال، يقال: انتصر من عدوه، يعني: انتقم منه، فهذا بمعنى: الظفر، يرجع إلى معنى: الظفر، فإنه ينتقم منه إذا ظفِر به، وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ الشورى: 41، وهكذا في قول نوح -عليه الصلاة والسلام-: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ القمر: 10، والله يقول: وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ محمد: 4، فُسر: بالانتقام، يعني: انتقم منهم، وفي قوله -تبارك وتعالى-: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ الرحمن: 35يعني: لا تمتنعان، ولا تتحصنان بشيء يقيكم من هذا العذاب الذي أراده الله بكم.
قال -رحمه الله تعالى-: نُشور: خروج الناس من القبور، يقال: أنشرهم الله فنُشروا، والرياح نشرًا؛ لأنها تنشر السحاب.
هذه المادة أرجعها ابن فارس إلى أصل واحد، يدل على: فتح شيء وتشعبه، فالنشر: فتح شيء وتشعبه، تقول: نشرت الخشبة بالمنشار نشراً، لاحظ: الآن هذا المنشار ماذا يفعل في الخشبة؟ المنشار يقطعها، فهذا فيه معنى: الفتح، فتح شيء وتشعبه، وكذلك أيضاً النشر يقال: للريح الطيبة لماذا؟ لأن فيها معنى: الانتشار، واكتسى البازي -الطائر المعروف- ريشاً نشرًا، يعني: منتشراً طويلاً واسعاً، ففيه معنى: الانتشار، ونشرت الكتاب، يعني: فتحته، فتح شيء وتشعبه، فهنا نشرت الكتاب خلاف طويته، وهكذا حينما تقول: نشر الله الموت، وأنشر الله الموت، وهكذا يقال: نشرت الأرض: أصابها الربيع فأنبتت، وهي ناشرة يعني: يكثر فيها النبات وينتشر، ولو أردت أن تفسره بمعنى: الفتح فكأن الأرض تنفتح، وتنفتق عن مسمار النبات، وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ الطارق: 12، أي: الشق، تنشق عن النبات.
والنشر فيه معنى: البسط، سواء كان ذلك في الأمور الحسية، أو الأمور المعنوية، تقول: أنشرتُ الصحيفة، نشر علمه، نشر الله رحمته، يعني: بسطها، وتنشر الملائكة أجنحتها يعني: تبسطها، وهكذا حينما يقال: نشر الميت، بمعنى: الإحياء والبعث، وهكذا يقال: نَشَر النائم إذا استيقظ وتقلب في عمله، كأنه كان ميتاً ثم انبعث باليقظة، ويقال: نشره تنشيراً، بمعنى: بسطه فبالغ في بسطه، وهكذا أيضاً: أنشر الله الأرض: أخرج زرعها، كأنما أحياها بعد موتها، وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا الزخرف: 11، ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ عبس: 22أحياه وبعثه، وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ الدخان: 35يعني: بمبعوثين، يقال: انتشر الناس في الأرض، يعني: تصرفوا في معايشهم، وتقلبوا في الأرض، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ الروم: 20، وهكذا في قوله: فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا الأحزاب: 53يعني: تفرقوا، كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ القمر: 7متفرق، وفي قوله -تبارك وتعالى-: وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا الفرقان: 47يعني: كأنه ظرف للنشور، واليقظة، والاضطراب في الأعمال، فينتشر الناس، يعني: جعل النهار نشورًا للناس، يتفرقون، ويذهبون في مصالحهم، وأعمالهم، يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ الكهف: 16يبسط، وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ التكوير: 10، يمكن أن يكون بمعنى: فُتحت، أو نشرت، وهكذا: وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا المرسلات: 3فسر: بالملائكة تنشر كتب الأعمال يوم القيامة، وفسر: بالرياح تنشر السحاب، وبعضهم قال: الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ينشرون الشرائع.
قال -رحمه الله تعالى-: نُشوز -بالزاي- له معنيان: شر بين الرجل والمرأة، وارتفاع، ومنه: انشُزُوا المجادلة: 11أي: قوموا من المكان.
هو في الواقع يرجع إلى أصل واحد، كما ذكر ابن فارس، وهو: الارتفاع والعلو، النشوز يرجع إلى: الارتفاع والعلو، فالنَّشَز هو: المكان العالي المرتفع، والنشوز: الارتفاع، يقول ابن فارس: ثم استعير، فقيل: نشزت المرأة، يعني: استصعبت على بعلها، وكذلك نشز بعلها إذا جفاها، وإذا أردنا أن نفسر هذا جميعاً بمعنى متحد فإن ذلك جميعاً يرجع إلى: الارتفاع، فحينما تترفع المرأة عن طاعة الزوج فهذا نشوز، إذا ترفعت عن طاعته والانقياد له، إذا امتنعت من طاعته فيقال: ناشز، يأمرها ولا تأتمر، يطلبها فلا تجيب، فيقال: ناشز، وقد تخرج من بيته بغير إرادته، ولا ترجع إليه، فيقال: ناشز، ممتنعة، مترفعة عن طاعته، فهذا يرجع إلى معنى: الارتفاع، وكذلك في قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا المجادلة: 11يعني: قوموا وارتفعوا، انشزوا يعني: لا تطيلوا المكث بمجلس رسول الله ﷺ فتشقوا عليه، وتثقلوا عليه، وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا أي: قوموا، إذا قيل: قوموا إلى صلاة، أو قوموا إلى كذا، كل ذلك يدخل فيه، قوموا، قوموا إلى صلاة أو إلى جهاد أو إلى غير ذلك، قوموا من مجلس رسول الله ﷺ، فلا يحصل له مشقة بسبب طول المُكث، ويقال: نشز من مكانه، يعني: نهض وقام، وهكذا حينما يقال: أنشز الشيءَ يعني: رفعه وأقامه، ويقال: اللبن يُنشز العظم في الحيوان بالرضاع، يعني: يربيه، وينميه، ويرفعه، والله يُنشز العظم، يعني: يرفعه بتركيب أجزائه، وتأليفها، فيعظم حجمه، ويزيد.
إذن: هذا المعنى الذي ذكره ابن جُزي -شر بين الرجل والمرأة- هو يرجع إلى معنى: الارتفاع، ترفعت عن طاعته، وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ النساء: 34يعني: الترفع عن طاعة الزوج، وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا النساء: 128إذا جفاها فإن ذلك يقال له: نشوز، سواء كان ذلك إلى غيرها، أو لم يكن، يعني: إلى غيرها بمعنى: أنه مال إلى غيرها رغبة عنها، كأنه ترفع عنها، وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا البقرة: 259نرفعها ببنائها، وإقامتها.
قال -رحمه الله تعالى-: نُزُل -بضمتين- رَزق، وهو: ما يُطعَم الضيف.
قال: نُزُل: رَزْق -بفتح الراء- وهو: ما يُطعَم الضيف، ابن فارس أرجع هذه المادة إلى معنى: هبوط الشيء، ووقوعه، فالنازلة: الشديدة من شدائد الدهر تنزل، والنُّزُل: ما يُهيَّأ للنزيل؛ ولذلك يقال منذ القدم للأماكن التي ينزل فيها الأضياف، يقال لها: نُزُل، ويقال للبيوت التي يسكنها الناس: منازل، وكذلك أيضاً للمراحل التي تكون في السير، يقال لها: منازل، هذه منزلة بعد منزلة، ونحو ذلك، فهي تأتي بهذا المعنى، تأتي بمعنى: الانحطاط من علو، وهذا كثير في القرآن: وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ الإسراء: 105، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ يوسف: 2، ويقال: نزل العذاب، بمعنى: حل، والمنزل: موضع النزول، والنَّزْلة: المرة من النزول، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى النجم: 13، فالمرة من النزول يقال لها: نَزْلة، وهكذا أيضاً: المُنْزَل: يأتي مصدراً بمعنى: الإنزال، واسماً لمكان النزول، وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا المؤمنون: 29يحتمل أن يكون بمعنى: إنزالاً مباركا، أو في موضع مبارك، أي: مكان النزول مبارك، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ، وأما النُّزُل: فكما سبق ما يُعد للنزيل من طعام وغيره، فهذا معناه، والله -تبارك وتعالى- يقول عن نعيم الجنة: خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ آل عمران: 198، هذا الذي يُهيَّأ لأهل الجنة من ألوان النعيم، فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ السجدة: 19، وقد يقال: للمكروه من المنازل، أو ما يُعطَى للنازل، بعضهم يقول: على سبيل التهكم، كما في قوله: فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ الواقعة: 93، فسماه بالنُّزل؛ ولهذا فإن بعضهم يطلق في تفسيره، فيقول: إن النُّزُل ما يُعطَى للنزيل، يعني: مطلقاً سواء كان إكراما، أم ذمًّا وتهكمًا، لكنه في الغالب يقال نُزُل: لما يُعطى للضيف من الإكرام، ونحو ذلك، لكنه قد يأتي بغير هذا المعنى، وبعضهم يقول: إن ذلك على خلاف الأصل، من باب التهكم، مثل: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ الدخان: 49، وكما يقولون في البشرى، -كما سبق-، فبعضهم يقول: إن البشرى لا تكون إلا في الأمر المحبوب، فإذا قيلت في غيره، كما في: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ الانشقاق: 24، فيكون هذا من باب التهكم، وليس هذا محل اتفاق، والله أعلم.
هنا تنبيه: الرِّزْق -بكسر الراء-: الذي يظهر -والله أعلم- أن الرِّزْق هو: الشيء الذي يُعطى، ويؤخذ، ويُنتفع به، يقال له: رِزق، هذا رزق الله، والرَّزْق -بفتح الراء- هو: الفعل، بمعنى: المصدر، الرَّزْق، فيقال: هل الله يوصف بالرِّزْق بالكسر أو بالرَّزْق بالفتح؟ الرِّزْق هو: ما يُعطيه لعباده من أنواع الهدايات والخيرات، والأمور المحبوبة والمرغوبة في الدنيا والآخرة والدين، يعني: الهدايات رِزق، وأنواع النعم هذه رِزق في الدنيا والآخرة، فهذا رِزق، والرَّزْق هو: الفعل، فنقول: الله يوصف بالرَّزق -بالفتح-، وما يعطيه يقال له: رِزق، هكذا يبدو -والله أعلم-، فحينما نتحدث عن المصدر والفعل نقول: رَزْق، فالنُّزُل نقول: رَزْق، وهو: ما يُطعَم الضيف.
وأما كونه جرى الاصطلاح، أو في العرف أن يقال الرَّزق: لنوع خاص مما يُعطَى من بيت المال، يعني: ليس بمقابل عمل كالأجرة، وإنما جراية تكون لهؤلاء، فهذا يقال له: رَزق، فإن مثل هذا يعد استعمالا عرفيًّا، لكن نحن نتكلم عن أصل المعنى اللغوي، والله أعلم.
قال -رحمه الله تعالى-: نأى: أي: بعُد، ومنه: وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ الأنعام: 26.
نأى: هذه المادة ابن فارس يقول: كلمتان: النُّؤْي والنَّأي، فالنُّؤْي يقول: حفيرة حول الخِباء، يدفع بها ماء المطر عن الخِباء، ما معنى هذا الكلام؟ الخِباء: الخيمة، فهذه حفيرة، يحفر حفرة في جوانبها من الخارج، من أجل أن الماء لا يتسلل إلى داخلها، وإنما يجتمع في هذه الحفيرة، يعني: مثل الحوض حولها، لكنه ليس بعميق، من أجل ماء المطر، كي يندفع عنها، فهذا هو: النُّؤْي: الحفيرة، لكن هذا المعنى -والله تعالى أعلم- لم يرد في القرآن.
وأما النَّأي: فالبُعد، يقول ابن فارس: وربما أخروا الهمزة، فقالوا: ناء، وإنما هو: نأَى، يقال: نأَى عنه، يعني: أعرض، بأي اعتبار؟، ما علاقته بالبُعد؟، لأن شأن المعرض أن يُبعِد، ويقال: نأى بجانبه عنه: أعرض عنه، كأنه أبعد جانبه، وأنآه يعني: أبعده عنه، ونأى بجانبه: تكبر؛ لأن شأن المتكبر الترفع، والابتعاد، وعدم المقاربة، وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ الإسراء: 83، وهكذا في غيره، وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ الأنعام: 26، هنا بمعنى ماذا؟ بمعنى: الإعراض.
قال -رحمه الله تعالى-: نكص: رجع إلى وراء.
هذه المادة يقول ابن فارس: كلمة، يقال: نكص على عاقبيه: إذا أحجم عن الشيء خوفاً وجبناً، ونقل عن ابن دُريد: نكص على عقبيه: رجع عما كان عليه من خير، يعني: أنه لا يقال ذلك إلا في الرجوع عن الخير، وهنا قال: رجع إلى الوراء، والله يقول عن الشيطان: {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} [الأنفال: 48]يعني: رجع القَهْقرى لما رأى جبريل ، أو رأى الملائكة -عليهم السلام-، فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ المؤمنون: 66يعني: الرجوع عن الحق، أو الرجوع عن التدبر في هذه الآيات.
قال -رحمه الله تعالى-: نَفَر نفوراً عن الشيء، ونَفَر ينفُر -بضم المضارع-، ومنه: نفرت الدابة، ونفر ينفِر -بكسر المضارع- نفيراً، أي: أسرع وجدّ، ومنه: انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ التوبة: 38.
هذه المادة أرجعها ابن فارس إلى أصل واحد، وهو: يدل على: تجافٍ وتباعد، ومنه: نَفَر الدابةُ وغيرُه نِفاراً، وذلك: تجافيه وتباعُده، نَفَر الدابةُ نِفاراً: تجافى وبَعُد عن مكانه وموضعه أو مقره، والنَّفْر الذي يقال فيه: نَفَر جلدُه -يعني ورِم- بأي اعتبار؟، أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله- يقول: إنما هو من نِفار الشيء عن الشيء وتجافيه عنه، يعني: أرجعه إلى هذا الأصل؛ لأن الجلد ينفر عن اللحم للداء، يتورم ويرتفع للداء، فيقال: نفر جلدُه، فهذا الداء أدى إلى ذلك، ويوم النَّفْر هو: اليوم الذي ينفر فيه الناس عن مِنى، يوم النفر الأول، ويوم النفر الثاني، طيب والنَفَر؟، النَفَر لا زال الناس يستعملون هذه اللفظة، فيقولون: رأيت نفَراً، يقولون: باعتبار أنهم ينفرون للنصرة، والنفير يقال: للنَّفْر، فيقال: نَفَر ينفِر نفْراً ونفيراً ونفوراً، إذا فزع وأسرع، وغالباً ما يكون للجهاد في القرآن، أي: النفير، يقول الله -تبارك وتعالى-: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا التوبة: 41، إِلَّا تَنفِرُوا التوبة: 39، مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ التوبة: 38، ويقال: نفَرت الدابة تنفِر وتنفُر نفوراً ونِفاراً، يعني: فزعت وتباعدت، وهكذا حينما يقال: نفر من الحق: تباعد عنه وجفاه، بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ الملك: 21، وهكذا أيضاً: استنفرت الدابة، يعني: شردت وفزعت، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ المدثر: 50، إذا نفرت من الفزع، ونحو ذلك، فهي: لا تلوي على شيء، والنفر: رهط الرجل، وعشيرته، وأسرته، فمن شأن هؤلاء أن ينفروا، وينهضوا للقتال معه، والنفر من العدد: ما بين الثلاثة والعشرة، قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ الجن: 1، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا الكهف: 34، وهكذا النفير أيضاً: أنصار الرجل، وعشيرته الذين ينفرون لمعاونته، ونصرته، وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا الإسراء: 6، فهؤلاء ينفرون للنصرة، وينهضون لذلك.
لاحظ: كلام ابن جُزي يقول: نفر نفوراً عن الشيء، ونفر ينفُر -بضم المضارع-، ومنه: نفرت الدابة، ونفر ينفِر -بكسر المضارع- نفيرًا: أتى وأسرع وجدّ، ومنه: انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ التوبة: 38، لكن أصله كما قال ابن فارس: يدل على التباعد، والتجافي، فهذا الذي نفر هو: تجافَى موضعَه، وابتعد عن موطنه، أو مقره، أو نحو ذلك، وهكذا نفرت الدابة، فالذين ينفرون في سبيل الله يكونون قد تباعدوا وتجافوا عن مقارهم، ومنازلهم، والله أعلم، يقول تعالى: فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا النساء: 71.
قال -رحمه الله تعالى-: نبأ: خبر، ومنه اشتُق النبيء بالهمز، وتُرك الهمز تخفيفًا، وقيل: إنه عند من ترك الهمز مشتق من النَّبْوة، وهي: الارتفاع.
هذه المادة عند ابن فارس يقول: إن قياسها: الإتيان من مكان إلى مكان، بأي اعتبار؟، يقال للذي يَنْبأ من أرض إلى أرض: نابئ، يَنْبأ من أرض إلى أرض، ينتقل من مكان إلى مكان، يقال له: نابئ، وسيل نابئ: إذا أتى من بلد إلى بلد، يقول: ومن هذا القياس: النبأ: الخبر؛ لأنه يأتي من مكان إلى مكان، بهذا الاعتبار: يأتي من مكان إلى مكان، ومَن همز النبي؛ فلأنه يُنبئ عن الله -تبارك وتعالى.
على كل حال: النبأ هو: الخبر، لكنه أخص من مطلق الخبر، فالنبأ يقال: للخبر الذي له خطب وشأن، فكل نبأ فهو: خبر، وليس كل خبر نبأ، فالعرب لا تقول: جاءنا نبأ حمار الحجام؛ لأنه ليس له خطب، ولا شأن، لكن يقال: جاءنا نبأ الحرب، جاءنا نبأ الجيش، جاءنا نبأ الخسف، ونحو ذلك من الأمور التي لها خطب وشأن، أما الأمور التي لا قيمة لها فإنهم لا يعبرون عنها بالنبأ، وإنما يقال: خبر، فهذا هو الفرق بين الخبر والنبأ، يقول تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالحَقِّ المائدة: 27، فهذا له خطب وشأن، فالحسد كان مبعث هذه الجريمة الجنائية، أول جريمة جنائية كان مبعثها أو الباعث عليها هو: الحسد، فالعدوان والبغي مبعثه الحسد، وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا الأعراف: 175، فهذا له خطب وشأن، كيف يكون من أهل العلم -نسأل الله العافية-، ثم بعد ذلك يحصل له هذه الانتكاسة؟! يعني: قد يُفهَم أن أحداً من الناس حصل له نوع هداية، ثم انتكس، لكن أبعد منه من يكون على بصر وعلم بالحق وتفاصيله، ثم بعد ذلك ينتكس، فهذا يدل على فساد في طويته، مع أن الانتكاس قبيح من الجميع، إلا أنه من هذا النوع أشد قبحاً.
وأما النبي أو النبيء -كما هي قراءة متواترة بالهمز "نبيء"- فبعضهم بهذا الاعتبار يقول: إنه من النبأ؛ لأنه يُنبئ عن الله، ويُخبر عنه، فيقال: نبّأه بالشيء، يعني: أخبره به، فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ التحريم: 3، يعني: أخبرت به، قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ يوسف: 37يعني: أخبرتكما، قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ التوبة: 94يعني: أخبرنا، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا الكهف: 78، سأخبرك، وهكذا، فهو يقال: للخبر لكن الذي له شأن، والقصة ذات البال، سواء كان ذلك في الماضي، أو الآتي، لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ الأنعام: 67يعني: لكل خبر بأن شيئاً سيقع وقتٌ، أو مكانٌ يقع ويتحقق فيه، وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ المائدة: 27أي: هذا الخبر، تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا الأعراف: 101يعني: من أخبارها، والنبي: بعضهم يقول: أصله بالهمز، لكن سُهلت الهمزة، فهو يُنبئ عن الله.
قال -رحمه الله تعالى-: نُطفة: أي: نقطة من ماء، ومنه: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ فاطر: 11يعني: من المَنيّ
نُطفة: أي: نقطة من ماء، ومنه: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ يعني: من المَنيّ
.
هذه المادة أرجعها ابن فارس إلى أصلين:
الأول: لجنس من الحلي، يعني: يقولون: النَّطَف: اللؤلؤ، وبعضهم يقول: هو: القِرَطة من الحلي، الحلي هذا يقال له: نَطَف، لكن هذا الاستعمال غير موجود في القرآن.
والاستعمال الآخر والمعنى الثاني يقول: هو: نُدُوَّة وبلل، فالنُّدوَّة: الشيء الذي فيه ندى، أو رطوبة، قال: وبلل، يقول: ثم يستعار ويتوسع فيه، هذا في أصل المعنى، فالنطفة هي: الماء الصافي، وليلة نَطوف يعني: مطرت حتى الصباح، والنِّطاف يقال: للعَرَق، ونَطَف الماء بمعنى: سال، فالنطفة تقال: للماء الصافي قلّ أو كثُر؛ ولذلك يقال لماء الإنسان: نطفة، والله -تبارك وتعالى- أخبر عن خلق الإنسان: خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ النحل: 4، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ المؤمنون: 13أي: الرحم، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً المؤمنون: 14، فهذا ماء الإنسان.
هنا قال ابن جُزي: نقطة من ماء، يعني: هذا في اللغة؛ ولهذا يقال: السقف يَنطِف، إذا كان يُندِّي، يتسرب فيه ماء المطر، أو غير المطر، وهكذا تقول: جاء فلان وهو ينطِف من العرق، يفيض العرق عليه، ويتقاطر، ونحو ذلك، فهذا هو: النَّطْف، والنُّطفة، والنِّطاف: العرَق، ولا زال الناس يستعملون هذا، فيقال: فلان يَنطِف، وهذه الخِرقة تنطِف، يعني: فيها بلل، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.