هذه هي الآية الرابعة من الفاتحة:نصفها للرب، ونصفها للعبد، كما في حديث أبي هريرة الذي مضى من قول الله -تبارك وتعالى- في الحديث القُدسي: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، وفيه: فإذا قال العبد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، قال الله: هذا وبيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل[1].
فهذه الفاتحة سبع آيات -كما عرفنا- فثلاث قبلها من الشق الأول المتعلق بالرب تبارك وتعالى، وثلاث بعد هذه الآية هي من الشق المُتعلق بالعبد، وهذه بينهما، نصفها للرب ونصفها للعبد، فقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، هذه للرب، وقوله: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، هذه للعبد، وهذه الآية في الواقع كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هي تفصيل لقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[2].
وقد عرفنا هناك أن "أل" للاستغراق فهو لاستغراق جميع المحامد لله ؛ وذلك لا يكون إلا من كان كاملًا من كل وجه، ومن كان كذلك فهو المُستحق للعبادة وحده، هو المُستحق أن يُعبد دون ما سواه، فهذا يدل على أنه لا معبود إلا الله؛ ولهذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، فإياك نعبد إشارة إلى عبادته بما اقتضته إلهيته من المحبة والخوف والرجاء، ونحو ذلك، تشريع الأمر والنهي، وإياك نستعين فإن ذلك أيضًا إشارة إلى ما اقتضته ربوبيته وتقدست أسماؤه، التوكل والتفويض وما إلى ذلك؛ لأنه هو الذي يكفي عبده وبيده النفع والضُر، وتقديم المفعول هنا: إِيَّاكَ على الفعل نَعْبُدُ، و نَسْتَعِينُ في كل منهما قُدم المفعول، هذا يدل على الاهتمام إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وأيضًا الاهتمام لو أنه قال لو جاء بالكلام من غير تقديم لما حقه التأخير لقال: نعبدك نستعين بك، يعني: نحن بك، لكن لما قدم إياك؛ فإنه يدل على الاهتمام، فالله -تبارك وتعالى- هو المُستعان به، وهو المعبود في هذا أيضًا في هذا التقديم؛ لئلا يتقدم شيء على ذكر الله تبارك وتعالى، لئلا يتقدم ذكر العبد والعبادة على المعبود، لو قال نعبد هنا، قدم العبادة نعبد أي نحن، نعبد الله، فصار المعبود قد أُخر ذكره في اللفظ، لكن إذا قدم ما يتعلق به، فقال: "إياك"، ثم أخر الفعل والفاعل، فهذا تقديم لما هو أولى كقوله: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ [الزمر:64]، أغير الله، فقدم ذكر المعبود على الفعل أعبد، يعني: أنا فالفاعل ضمير مُستتر، قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا [الأنعام:164]، أغير الله، قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ [الزمر:64]، قل أفغير الله، فهذا كله لئلا يتقدم ذكر الاستعانة والُمستعين على المُستعان به.
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51]، وعلى الله أصل الكلام، هكذا فليتوكل المؤمنون على الله، قال: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، وهذا على كل حال أيضًا يُشعر بالحصر والاختصاص؛ لأن تقديم ما حقه التأخير يُفيد الحصر أو الاختصاص، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، فهذا يعني لا نعبد غيرك، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، أي: لا نستعين بغيرك، لو قال نعبدك فهذا يحتمل نعبدك، ونعبد غيرك، نستعين بك، نستعين بك وبغير، لكن إذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، فهذا يدل على الحصر، وهذا معنى لا إله إلا الله، وهذا ظاهر فدل على نفي العبادة لغير الله تبارك وتعالى، نفاها عن غيره إياك نعبُد بهذا الحصر، كما نفى الاستعانة أيضًا بغيره في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، فتكون العبادة لله واحده، والاستعانة لله وحده، ويكون هذا الكلام بقوة لا نعبد إلا إياك مثل كلمة التوحيد، لا إله إلا الله، لا نعبد إلا إياك، لا نستعين إلا بك.
وأيضًا لاحظوا هنا أنه كرر الضمير إياك نعبُد وإياك نستعين، ما قال: إياك نعبد ونستعين، وإنما كرره مرة أخرى للاهتمام، وأيضًا هذا أفصح.
وكذلك أيضًا لدلالة على تعلق هذه الأمور بكل من الفعلين، يعني: لو قال: إياك نعبد ونستعين، فهذا دون قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، فكل فعل على سبيل الاستقلال يُفرد به الله تبارك وتعالى، وهذا ظاهر، وكذلك أيضًا لو أنك قلت لمُعظم من الناس إياك، لو أنك قلت له إياك أُحب وأعظم وأُجل فليس ذلك كقولك إياك أعظم وإياك أُحب وإياك أُجل فجعلت كل واحد من هذه على سبيل الاستقلال وأبرزته بهذه الجُملة دون الاكتفاء بمجرد العطف.
إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5]، العبادة في أصلها بمعنى كمال الذُل مع الخضوع مع الإجلال والتعظيم والمحبة، هذه هي العبادة، الطريق المُعبد يعني المُذلل، ولذلك تجدون أن أهل العلم يُعرفونها بهذا التعريف تارة ويقولون العبادة هذا التعريف يصدق عليها من حيث هي، فالعبادة مصدر، وتارة يعرفونها يقولون: هي اسم جامع لكل ما يُحب الله من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، فهل نحتاج إلى ترجيح بين التعريفين؟
الجواب: لا، فهذا صحيح، وهذا صحيح، هذا باعتبار، وهذا باعتبار، فإذا نظرت إلى معنى العبادة من حيث هي فهي كمال الذل، مع كمال الخضوع والتعظيم مع المحبة، وإذا نظرت إلى العبادة باعتبار مُتعلقها يعني ما تصدق عليه، فالصلاة عبادة، والزكاة عبادة، والصيام عبادة، والاعتكاف عبادة، وكل ذلك وغيره مما شرعه الله -تبارك وتعالى- شرائع الإسلام المُتعددة، هذه كلها عبادات قلبية، وعبادات باللسان والجوارح، الإيمان بضع وستون[3]، وفي الرواية الأخرى: بضع وسبعون شُعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شُعبة من الإيمان[4].
فالعبادة اسم جامع، هنا أُطلقت العبادة يعني المصدر على المفعول يعني المُتعبد به، ما هو المُتعبد به؟ هو كل ما شرعه الله ، فهي بهذا المعنى بهذا الاعتبار اسم جامع لكل ما يُحبه الله ويرضاه، فإذا وجدت هذا التعريف في موضع وهذا التعريف في موضع ليس هذا من الاختلاف وتقول ما هو الأرجح لعبادة تعريفان، لا لا، كل ذلك صحيح، هذا باعتبار وهذا باعتبار، القراءة مثلًا مصدر تارة يُراد بها المعنى المصدري وهي نفس الفعل الذي يصدر من المُكلف أو من القارئ القراءة التلاوة الكتابة نفس الفعل وتارة يُراد بها معنى المفعول المكتوب، فلاحظوا الآن هذه الآن فعلى هذا كتابة وفي الوقت نفسه نقول هذه كتابة، ما الفرق بين الأول والثاني؟ الأول الكتابة مصدر أطلقناها بالمعنى المصدري، الكتابة الذي هو الفعل مثل ما نقول الوحي، الوحي بالمعنى المصدري هو عملية الإيحاء، ويقال الوحي هذا وحي للمُوحى به يعني القرآن اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، نقول: هذا وحي، يعني: موحى الموحى به، وهكذا، فحينما نقول العبادة بالمعنى المصدري فهي كمال الذُل والخضوع والتعظيم مع المحبة لله ، وإذا أردنا به ما يُتعبد به فذلك اسم جامع لكل ما يُحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، ولهذا يقال للعبد عبد لماذا؟ لذُله وخضوعه واستكانته لربه وتقدست أسماءه، فهو مُنقاد الانقياد الكامل من كل وجه ومن ثم فإنه لا يسعه التوقف ولا الاعتراض؛ لأنه عبد، والعبد لابد أن يخضع ويُطيع لسيده ومولاه، ومن هنا يقال: طريق مُعبد مُذلل، بعير مُعبد يعني مُذلل، وهكذا.
فمعنى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5]، على هذا يعني نخصك بالعبادة دون غيرك، نُخصك بماذا؟ نخُصك بغاية الذُل والتعظيم والخضوع محبة لك وإجلالًا وخوفًا ورجاء، والمقصود أننا إذا أردنا بالعبادة فعل العبادة فهي التذلل والخضوع، وإذا أردنا بها نفس العبادات فهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه كما مضى، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].
العون منك، يعني: نخُصك، وليس فقط نطلب العون منك لما مضى من أن تقديم المعمول يدل على الحصر، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، نخُصك بطلب العون منك في جميع أمورنا الدينية والدنيوية في كل الأحيان والأوقات والأحوال نعتمد عليك بجلب النفع ودفع الضُر مع كمال الثقة، فهذا مع إعلان العجز؛ لأن العبد حينما يقول: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، هو بذلك يُعلن عجزه وضعفه وفقره إلى عون ربه تبارك وتعالى، ويبرأ من حوله وقوته، فليس ثمة قُدرات خارقة عند الإنسان، ليس هناك عِملاق في داخله يحتاج إلى إطلاق، ثم بعد ذلك يُغير وجه الكون، بل هو ضعيف عاجز يحتاج إلى عون الله له في كل شأن من شؤونه، ولذلك كان لا حول ولا قوة إلا بالله، ونقولها مع المؤذن حينما يقول: "حي على الصلاة، حي على الفلاح" نُرددها في اليوم والليلة كل ذلك من أجل أن نستشعر هذا المعنى، استشعار العجز والضعف أمام الله، وأمام قُدرته، بخلاف من يدعي غير هذا من إظهار الإنسان في صورة من القوة والتمكن، وأنه يستطيع أن يُحقق بذاته وقُدراته بعيدًا عن ربه وعن عونه، وفي الحديث: اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين[5].
وبهذا تتحقق الاستعانة والتوكل على الله تبارك وتعالى، وهذا حال ينشأ للعبد كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله- فيستقر في قلبه حينما يستيقن أن الله -تبارك وتعالى- هو وحده المتفرد بالتدبير والخلق والضُر والنفع والعطاء والمنع، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن ولو شاءه الناس جميعًا، فهذا يوجب له الاعتماد على الله -تبارك وتعالى- والاطمئنان إليه، وصدق اللجأ إلى ربه ومليكه وخالقه ويثق بكفايته حينما يتوكل عليه فيكون كما يقول ابن القيم مع الفارق: كالطفل مع أبويه. ما حال الطفل مع أبويه في رغبته ورهبته؟ فهو ناظر إليهما يلتجأ إليهما في كل ما ينوبه، فحال العبد أشد وأبلغ من هذا في قوة صلته بالله والافتقار إليه، هذه المعاني لو أنها تحققت في نفس الإنسان لتغيرت أحوالنا وصار العبد في حال من الرغبة والرهبة والرضا والتسليم لله وتقدست أسماؤه، ولحصل له مطلوبه من كفاية الله ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، فهنا إِيَّاكَ نَعْبُدُ: أي نطلب العون منك على العبادة وعلى جميع أمورنا.
قال: "وفي هذا بطلان على قول القدرية والجبرية وأن الحق بين ذلك". القدرية يقولون: بأن العبد يخلق فعله. يعني أنه مستقل وهذا يصلح لهؤلاء الذين يبرزون قدرات الإنسان بصورة يبالغون فيها بعيدًا عن القدر فتجد في كلامهم ما هو ظاهر في هذا؛ لأن هذه الأشياء في الأصل مترجمة ومأخوذة من غير المسلمين فيقولون: بأن الإنسان إذا كان عنده التصميم والعزم والإرادة فلا بد أن يتحقق المراد. ويضربون لهذا أمثلة في كتاباتهم ترجمة لمن أعادوا المحاولة مرة وثانية وعاشرة وعشرات المرات حتى تحقق المراد، فيرون أنه بذلك يستطيع أن يصل إلى مطلوبه أيًا كان هذا المطلوب ولا يذكرون القدر مع أنه في الواقع لا يمكن أن يحصل ذلك إلا بتقدير الله وأنه لن يحصّل الإنسان بجده واجتهاده وسعيه الحثيث لن يحصّل رزقًا لم يكتبه الله له.
وقول الجبرية عكس هذا يقولون: الإنسان لا إرادة له ولا مشيئة بل هو كالريشة في مهب الريح. فالله -تبارك وتعالى- قد أجبره على الفعل فهو يفعل المعصية وهو مجبر ويفعل الطاعة وهو مجبر ونحو ذلك. والواقع خلاف هذا، فالإنسان له إرادة ومشيئة ولكن، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]، فقدرته وإرادته ومشيئة لا تخرج عن مشيئة الله العامة وهذا هو الوسط الذي هو مذهب أهل السنة والجماعة.
هذا الجواب عن هذا السؤال يذكره كثير من المفسرين، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، يقولون: أي: ثبتنا، والواقع أن هذا أحد المعاني الداخلة تحته، وإلا فإن سؤال الهداية يتضمن ذلك ويتضمن غيره من أنواع الهدايات الكثيرة، فالهداية -كما نعلم- نوعان: هداية إرشاد، وهداية توفيق، فقوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، هذا طلب للهدايتين، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، بمعنى دُلنا وأرشدنا، فهداية الإرشاد كقوله تبارك وتعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ [طه:128]، يهدي لهم، يعني: تبين لهم، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا [الأنعام:97]، يعني: تسترشدوا بها، وتستدلوا بها، فهذه هداية إرشاد، فهداية الإرشاد: الله -تبارك وتعالى- هدى عباده، بمعنى أرشدهم إلى محابه، ومراضيه، وعبادته، فهذه هداية عامة.
فالله -تبارك وتعالى- هادٍ بهذا الاعتبار، قد بين لعباده كل ما يحتاجون إليه، ومن ذلك قوله -تبارك وتعالى- في هذا المعنى هداية الإرشاد: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17]، هذه ليست هداية توفيق لو كانت هداية توفيق لآمنوا، ولكنها هداية إرشاد، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3]، يعني: دللناه وأرشدناه، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10]، إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى [الليل:12]، فهذا كله في الهداية العامة بهذا المعنى، والرُسل هداة بهذا الاعتبار، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا [مريم:43]، وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات:19]، قول موسى لفرعون: أهديك، يعني: الإرشاد والبيان، وهكذا في أتباع الرسل -عليهم السلام-: وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:38].
أما النوع الثاني: التي هي هداية التوفيق، فهذه التي لا يملكها إلا الله -- فالرُسل -عليهم السلام- يُرشدون ويُبينون الحق، ولكن الموفق والهادي هو الله وقد جاءت هذه الهداية في مثل قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]، هنا نفى عنه الهداية، وهناك أثبتها، فتلك التي أثبتها هي هداية الإرشاد، وهذه التي نفها هي هداية التوفيق، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، يعني: يوفق، لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة:272]، التوفيق للهدى، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272]، ولاحظ اجتماع هاتين الهدايتين في قوله -تبارك وتعالى-: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:7]، الهُدى هنا يشمل الإرشاد ويشمل التوفيق.
وهكذا في قولنا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، يشمل الهدايتين، وفعل الهداية إذا عُدي بحرف؛ فإنه يُفهم يتعين معناه، ويتخصص بحسب هذه التعدية، وهذا أمر معلوم في لغة العرب بأن الأفعال تُفهم معانيها على ضوء ما تتعدى به، وهذه قاعدة من قواعد التفسير: "تُفهم معاني الأفعال على ضوء ما تتعدى به"، كما ذكرنا في نظر فإذا عُدي بنفسه فهو بمعنى الانتظار، وإذا عُدي بإلى فهو النظر بالأبصار، وإذا عُدي بفي نظر في كذا نظرت في أمرك، فهو بمعنى التفكر والاعتبار.
فالهداية إذا عُدي هذا الفعل هدى إلى كذا، فهذا يتضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة، وإذا عُدي باللام، هداه لكذا، اهتديت لكذا، فهذا يتضمن الاختصاص والتعيين، فإذا عُدي بنفسه مثل هذا الموضع: اهْدِنَا الصِّرَاطَ [الفاتحة:6]، ما قال إلى الصراط، وما قال في الصراط، فهذا يشمل جميع ما سبق الهداية إلى الغاية .
وكذلك ما يكون مُعدًا باللام مما يتضمن الاختصاص والتعيين، يعني: بين لنا، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، ودلنا وأرشدنا إلى الصراط المستقيم، وألهمنا، ووفقنا، وثبتنا عليه، فيدخل بهذه الهداية المذكورة بهذا الاعتبار هداية الإرشاد، وهداية التوفيق، اهدنا إليه، واهدنا له يدخل أنواع الهدايات، فهداية الإرشاد يدخل فيها هداية العلم والبيان للحق، فقد لا يصل إلى الإنسان الدليل، أو العلم، أو الحق، فيكون جاهلًا به.
وكذلك أيضًا قد يختلف الناس فيحتاج العبد إلى هداية لمعرفة الحق الذي اختلفوا فيه اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا يختلفون، اهدني لما اخُتلف فيه من الحق بإذنك[6].
فالعبد بحاجة إلى هذه الهداية، فكيف يقال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، بمعنى ثبتنا فقط؟ ثم أيضًا العبد في كل حين، وفي كل لحظة بحاجة إلى هداية لمعرفة مُراد الله منه، ما هو واجب الوقت، فيحتاج إلى هذه الهداية أن يهديه الله تبارك وتعالى.
ثم أيضًا هذه الأعمال على كثرتها وسعة شرائع الإسلام، بحيث إن العبد لو بقي العُمر وهو يعمل في باب من الأبواب لاستغرق ذلك عمره كله، فهو بحاجة إلى هداية للأفضل من الأعمال، يعني: غير الواجبات؛ لأنه ما تقرب العبد إلى الله -تبارك وتعالى- بشيء أحب إليه مما افترضه عليه، لكن في غير الواجبات هذا ميدان واسع، وهذه تجارة مع الله ، والأعمار قصيرة، فيحتاج العبد إلى معرفة الأفضل، وهذا يحتاج إلى هداية، ما هو الأفضل إن اشتغل بهذا، أو اشتغل بهذا؟
فهناك أعمال قد تكون هي الأفضل من حيث هي، ولكن الأفضل لهذا المعين قد يكون هو المفضول، وهذا يحتاج إلى فقه، وقد يقضي الإنسان دهرًا في عمل مفضول، ويغفل عن الفاضل، فيفوته خير كثير، فهو بحاجة إلى هداية اهْدِنَا الصِّرَاطَ [الفاتحة:6]، فهذا كله داخل في هداية الإرشاد، كثير من الناس قد يُحرم هذا النوع من الهداية من أصله، فلا يُهدى إلى الإسلام، وهذا السؤال الذي يرد الله هدانا للإسلام، فلما نسأل الهداية؟
هو ليست فقط هذه، هذه واحدة الهداية إلى الإسلام، وكم من مليارات من البشر لا يعرفون الله، ولا يعرفون صراطه المستقيم، ولا يعبدونه، ولا يوحدونه، حرموا هذه الهداية من أصلها، لكن من وفق إليها وأُرشد إليها اجتمع له الهدايتان يبقى في تفاصيلها يحتاج إلى هداية، فالإنسان قد لا يوفق، ولا تنهض همته إلى طلب العلم، ولا يرفع بذلك رأسًا، فيحتاج إلى هداية للعلم، وقد تنهض همته، ولكنه قد لا يوفق للصواب، وقد يوفق للصواب، ولكنه لا يوفق للهداية الأخرى التي هي هداية التوفيق بالعمل بما علم، فهذه هداية أخرى أن يقُدره الله عليه، وأن يجعله مُريدًا له، وأن يجعله فاعلًا له، بعض الناس لا تسمو همته للعمل أصلًا، يعلم أن لديه معلومات، يعلم أن الصلاة واجبة، وأن الحج واجب على الفور، ولكن لا تنهض همته، فلا يريد هذا العمل، فهذا حُرم هذه الهداية، يعني: حصلت له هداية الإرشاد، ولكنه لم تحصل له هداية التوفيق، فيحتاج العبد إلى هذه الهداية أن يجعله الله مُريدًا لهذا، وفاعلًا له.
وكذلك أيضًا أن يُثبته عليه، فقد يستقيم مدة، ثم بعد ذلك يتراجع، وكذلك أيضًا أن يصرف عنه الصوارف والعوائق، والموانع التي تحول بينه وبين لزوم الحق.
وكذلك أيضًا أن يهديه في الصراط إلى أمور كثيرة مما يتصل بالقلب واللسان والجوارح، من الناس من يعمل ويُطيع، ونحو ذلك، لكن يبقى له التفات إلى نفسه، وإلى عمله، وإلى عبادته، وطاعته، أو علمه، أو ما أشبه ذلك، وهذه أمور قد تُبطل هذا العمل، وقد يكون علمه وبالًا عليه بهذا الاعتبار، هذه كله من الهدايات الداخلة تحته إلى الممات، أن يُثبت عند الموت.
وهناك هدايات لا تدخل هنا في قولنا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]؛ لأنه قال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، فهو الصراط الذي رسمه الله لعباده من أجل سلوكه، لكن هناك هدايات أخرى، وإن لم تكن داخلة في هذا من سورة الفاتحة، هناك هدايات بعد الموت، عند سؤال الملكين أن يُهدى للجواب.
وكذلك أيضًا أن يُهدى عند الحساب، بينه وبينه تُرجمان، وكذلك هو بحاجة إلى هداية إلى الصراط الذي يُنصب على جسر جنهم، وبحاجة إلى أن يُهدى على الصراط فلا تزل قدمه، وبحاجة إلى أن يُهدى إلى باب الجنة، وبحاجة إلى أن يُهدى إلى منزله في الجنة، لاحظ إلى أن يصل منزله، وهو بحاجة إلى هداية الله ، فالعبد لا غنى له بحال من الأحوال؛ ولذلك نقرأ الفاتحة في كل ركعة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، فإذا قام ذلك في قلب العبد؛ فإنه يستشعر حاجته الماسة إلى الهداية، فلا يُعرض عن الموعظة، والذكر ومجالس الذكر، وما يكون فيه نفعه، ولا يؤخر العمل والطاعة، وإنما يكون مُبادرًا فيجتمع للعبد بهذا هداية العلم، وهداية العمل، فيكون قد عرف الحق، وعمل به، وبقدر ما يتحقق له من ذلك يكون كماله، وبهذا يتفاضل الناس في الدنيا والآخرة، وأكمل الناس في ذلك هم الأنبياء -عليهم السلام- ويتفاوت من دونهم، فمنهم من يكون كماله في الجانب الأول هداية العلم، ولكنه في الجانب الآخر ضعيف.
والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]، وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم:76]، وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى [محمد:17]، فكل هذا العبد بحاجة إليه، وحاجته إلى هذا أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب.
وابن جرير الطبري -رحمه الله- ذكر في معنى هذه الآية: "أن في مسألته الهداية هنا، فهذا يشمل التوفيق للثبات على العمل بطاعته، وإصابة الحق والصواب فيما أمره به ونهاه، فيما يستقبل من عمره"[7].
هذه العبارة القصيرة التي قالها ابن جرير جمع فيها بين النوعين: هداية الإرشاد، وهداية التوفيق، وقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- أن من فسر الهداية هنا اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، بدوام الهداية، يعني: الثبات، فإن هذا كلام من لا يعرف حقيقة الأسباب، وما أمر الله به، وذكر شيئًا مما ذكرته آنفًا بأن الهداية في حقيقتها أن يفعل العبد في وقت ما أُمر به في ذلك الوقت من علم، وعمل، ولا يفعل ما نُهي عنه يقول، وهذا يحتاج في كل وقت إلى أن يعلم، ويعمل ما أُمر به في ذلك الوقت، وما نُهي عنه، وإلى أن يحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور، وكراهة جازمة في ترك المحظور.
فهذا العلم المُفصل، والإرادة المُفصلة لا يتصور أن تحصل للعبد في وقت واحد، بل كل وقت يحتاج إلى أن يجعل الله في قلبه من العلوم والإرادات ما يهتدي به في ذلك إلى الصراط المستقيم، يقول: نعم حصل له هدى مُجمل بأن القرآن حق، والرسول حق، ودين الإسلام حق، فهذا حق، لكن هذا المُجمل لا يغنيه إن لم يحصل له الهدى المُفصل في كل ما يأتيه ويذره من الجُزئيات التي يحار فيها أكثر عقول الخلق، ويغلب الهوى والشهوات، أكثر العقول لغلبة ذلك عليهم.
والحافظ ابن القيم -رحمه الله- في عدد من كتبه ذكر أشياء من هذا كثير حاصلها ما ذكرته، وأن الفلاح لا يتحقق إلا بهاتين الهدايتين، هداية التوفيق، وهداية الإرشاد، هداية التوفيق بأن يُلهمه الله ذلك، ويكون فاعلًا له، وما إلى ذلك، مما ذكرناه.
وهكذا الحافظ ابن كثير -رحمه الله- ذكر نحوًا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحم الله الجميع-، وكذلك الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-.
لاحظ هذه الأمور التي ذكرها مُنبهًا على وجه تقديمها على غيرها، فهنا قدم الحمد والثناء على الدعاء هذا من آداب الدعاء، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:2-6]، فالمشروع أن يُقدم الثناء على الله -تبارك وتعالى- أولًا قبل السؤال والدعاء؛ فإن ذلك أدعى للإجابة.
ولهذا قالوا: بأن ذكر الرحمة هنا بين الربوبية والمُلك، يعني: يقولون: كان المُتبادر أن يقال: الحمد لله هنا ذكر الإلهية، رب العالمين ذكر الربوبية بعدها رب العالمين، مالك يوم الدين فيذكر الملك؛ لأن الرب هو السيد المتصرف في خلقه، المُدبر لهم، وهذا معنى المُلك، فهو التصرف المُطلق والتدبير، لكنه جاء بالرحمن الرحيم بينهما، فهذا يدل على أن ربوبيته وملكه مبنيان على الرحمة، فرحمة الله سبقت غضبه، ولذلك انظروا إلى كثرة جنايات الخلق مع كثرة عطائه وإنعامه وحِلمه تبارك وتعالى، يُرسل إليهم الرسل ويُنزل عليهم الكتب، ويُغدق عليهم ألوان النِعم، فملكه وربوبيته مبناهما على الرحمة.
يقول: "وكذلك قدم إِيَّاكَ نَعْبُدُ على إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ؛ لأن تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة"، الحاجة هي الاستعانة فما الطريق إلى تحقيق المطالب التي أعلاها دخول الجنة ورضا المعبود والنظر إلى وجهه الكريم؟ هو تحقيق العبودية، تحقيق العبودية يحصل به سعادة الدارين، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف:96]، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة:66]، فلا يُنال ما عند الله -تبارك وتعالى- إلا بعبادته.
فهنا أيضًا في ذكر الاستعانة بعد العبادة مع أن الاستعانة من العبادة فإن العبادة كما ذكرنا تشمل الأعمال القلبية وأعمال الجوارح وأقوال اللسان، فمن الأعمال القلبية: الاستعانة بالله فهي عبادة له فأفردت بالذكر فهذا من باب ذكر الخاص بعد العام وهو يدل على أهميته وآكديته.
وتقديم العبادة تقديم للغاية على الوسيلة؛ لأن العبادة هي الغاية، وما هو الطريق إلى تحقيق العبادة؟ إنما يكون بالاستعانة؛ لأن قلنا: معنى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ نستعين بك على المطالب الدينية والمطالب الدنيوية، فهذه الاستعانة هي وسيلة فقُدمت الغاية.
ولو نظرنا أيضًا إلى الأشرف منهما فإن العبادة التي هي الغاية أشرف من الوسيلة فقُدم الأهم، ثم إن العبادة والاستعانة بينهما ملازمة فلا تتحقق العبادة إلا بعون الله -تبارك وتعالى- ولا يحصل العون من الله -تبارك وتعالى- للعبد إلا بعبادته وطلب العون منه، وبهذا يتحقق الإيمان الصحيح والتوكل على الله تبارك وتعالى، ويخرج العبد من حوله وقوته ويكون قلبه متوجهًا إلى ربه ويعمل بجوارحه بطاعته وبهذا تحصل سعادته ونجاته، ثم أيضًا لاحظ أن العبادة تتعلق بحق الرب وقلنا: إن الشق الأول هو المتعلق بحق الرب وأن هذه الآية جاءت بالوساطة. فهي كما قال الله في الحديث القدسي: هذه بيني وبين عبدي، فـ إِيَّاكَ نَعْبُدُ: هذا متعلق بالشق الذي قبله فكان المناسب أن يُقدم؛ لتكون المتعلقات بحق الرب متتابعة دون أن يفصل بينها شيء من حق العبد، فلو قال: إياك نستعين وإياك نعبد. لدخل حق أو ما يتعلق بالعبد بما يتصل بالرب تبارك وتعالى.
ثم أيضًا لاحظ الترتيب في الأسماء الحسنى المذكورة في أول هذه السورة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فالعبادة متعلقة بإلهيته وإلهيته هي الصفة المضمنة بهذا الاسم الكريم (الله) فإنه مضمن معنى صفة الإلهية؛ لأن التأله هو التعبد، تألهه القلوب محبة وتعظيمًا وخوفًا ورجاء، فأول ما ذُكر هو هذا الاسم الكريم الذي تذكر سائر الأسماء الحسنى بعده فذكر هنا العبادة قبل الاستعانة فـ إِيَّاكَ نَعْبُدُ متعلق بهذا الاسم الكريم (الله)، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ متعلق بالربوبية؛ لأن الإعانة من معاني الربوبية، فالرب ذُكر بعد لفظ الجلالة (الله) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فجاءت الاستعانة بعد ذلك، كذلك أيضًا مما يمكن أن يقال بأن العبادة المطلقة تتضمن الاستعانة من غير عكس فقُدم الأشمل والأعم، فلو قُدمت الاستعانة لم يكن ذلك المعنى متحققًا ومناسبًا في الترتيب، فكل من حقق العبودية لله لا بد أن يكون محققًا للاستعانة دون عكس، العبودية الحقة وإلا فالعبد قد يستعين، لكن قد يستعين على المعاصي والشهوات ونحو هذا كما هو معلوم، بل قد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله-: أن بعض المجرمين من قطاع الطرق ونحو ذلك أن عندهم من التوكل ما لا يوجد عند بعض العُباد. فتجد أنه يركب الأخطار متوكلًا على الله لكن فيما يسخطه الله ، وأيضًا الاستعانة: طلب من الله كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله- والعبادة: طلب له.
التقرب إليه فما كان له يكون أشرف وأكمل ولا تكون إلا من المخلص، وأما الاستعانة فتكون من المخلص ومن غيره فقُدمت العبادة، وكذلك أيضًا العبادة حق لله على عباده، وهذا شكر منهم على نعمه وإفضاله، فإن شكر المنعم يقتضي أن يعبد وحده، ولذلك كان الشرك أعظم الظلم، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] باعتبار أنه صرف للعبادة في غير من خلق ومن يستحق ومن أنعم ومن أعطى وتفضل، فإلى غير ذلك من الوجوه والمعاني التي يذكرها أهل العلم، والمقصود أن العبد بقدر تحقيقه للعبودية يحصل له من عون الله ، فهذه العبادة محفوفة بإعانتين: إعانة قبلها، وإعانة أيضًا بعدها على عبودية أخرى.
وكذلك إعانة على النفس؛ لئلا يحصل أدنى التفات وعُجب أو مَن وأذى في الصدقات والإحسان إلى الناس وما أشبه ذلك، الإنسان نفسه تنازعه تطلب حظوظها العاجلة المنقضية، يحتاج إلى إعانة؛ لأن هذه النفس تخلد إلى الراحة، يحتاج إلى إعانة للقيام بمحاب الله وطاعته، فإذا قام بها بدأ هنا يتسلل إليها طلب الحظوظ الدنيوية من الجاه وثناء الناس والمدح وما إلى ذلك، أو ما يقايضهم به مما يطلب عائده منهم على هذا الإحسان ونحو ذلك، فيحتاج إلى أن يُعان على نفسه حتى يلقى الله تبارك وتعالى.
الالتفات في كلام أهل التفسير، وكذلك في البلاغة، يعني: تحويل الكلام، وهذا يشمل صورًا متعددة كالتحويل من تحويل وجه الكلام من الغيبة إلى الخطاب، والعكس.
وكذلك أيضًا يدخل فيه صور أخرى من تلوين الخطاب، قد يُخاطب الواحد، ثم يكون الخطاب للجماعة، والعكس فهذا فيه تنشيط للسامع في الجُملة، يعني: عمومًا أيًا كان الموضع، أو السياق، وفي كل موضع يتلمس العلماء له وجهًا جاء هذا الالتفات من أجل التنبيه عليه.
فهنا يقول: أنه في أول السورة جاء بطريق الغيبة: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ، يعني: هو رب بضمير الغائب، هو رب العالمين، الرحمن هو الرحمن الرحيم، مالك هو مالكِ يوم الدين، كل هذا بالغيبة، ثم قال: إِيَّاكَ، فهذا بمضير المُخاطب يُسمى التفات؛ التفت من الغيبة إلى الخطاب، إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وقد مضى الكلام على الالتفات في القضايا البلاغية.
"وفيه إشارة إلى أن العبد إذا ذكر الله تقرب منه فصار من أهل الحضور"، يعني: يقول كأنه لما ذكره بصفاته وكمالاته، وأثنى عليه بعد أن حمده ومجده بعد ذلك كأنه قد حضر بين يديه فوجه الخطاب إليه مباشرة، وقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ.
عبارة المؤلف هنا يقول: "وفيه إشارة إلى أن العبد إذا ذكر الله تقرب منه فصار من أهل الحضور فناداه"، هذه العبارة قد يستعملها الصوفية، ولكن العبارة التي قد تكون أدق هي من باب التقريب يقال: كأنه لما ذكره بصفاته وكمالاته كأنه حضر بين يديه فوجه الخطاب إليه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، كما قال الله : وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21]، ربهم هذا في بالغيبة، قال: إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً [الإنسان:22]، فخاطبهم بذلك، لما ذكر إنعامه وإكرامه وجه إليهم الخطاب بأن هذا جزاء لهم على أعمالهم الصالحة وعبادتهم وإيمانهم، فهذا من الغيبة إلى الخطاب، عكسه من الخطاب إلى الغيبة، حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس:22]، ما قال وجرينا بكم، وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ [يونس:22].
لاحظ كل هذا بالغيبة، فهذا يكون على كل حال في كل موضع بحسبه مما يُلتمس في ذلك الموضع، وهذه قضايا ليست قطعية، وإنما هي من الأمور البلاغية التي تحتمل هذا غاية ما هُنالك، فهنا في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، كما قلنا كأنه قد اقترب من ربه بعد أثنى عليه فوجه الخطاب، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وبعضهم يقول: بأنه لما ذكر الحقيق بالمدح والثناء، وذكر أوصافه العِظام تعلق المعلوم بموصوف عظيم هو الإله والرب والرحمن والرحيم، والملك والمالك، فوجه الخطاب إليه بعد أن تميزت أوصافه، فقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، يعني: يا من هذه صفاته نتوجه إليك بالعبادة وحدك، وبالاستعانة دون ما سواك.
- أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، وإنه إذا لم يحسن الفاتحة، ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها، رقم: (395).
- مجموع الفتاوى (1/89).
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان، رقم: (9).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، رقم: (35).
- أخرجه أبو داود، أبواب النوم، باب ما يقول إذا أصبح، رقم: (5090)، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب عمل اليوم والليلة، (9/212)، رقم: (10330).
- أخرجه مسلم، كتاب صلاة، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، رقم: (770).
- تفسير الطبري (1/166).