الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
(2- ب) من الفائدة الخامسة عشر إلى نهاية السورة
تاريخ النشر: ٢١ / ذو القعدة / ١٤٣٦
التحميل: 2219
مرات الإستماع: 1988

قوله: الفائدة الخامسة عشرة: الصِّرَاطَ في اللغة الطريق المحسوس الذي يمشى، ثم استعير للطريق الذي يكون الإنسان عليها من الخير أو الشر، ومعنى الْمُسْتَقِيمَ: القويم الذي لا عوج فيه، فـ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ: الإسلام، وقيل: القرآن، والمعنيان متقاربان؛ لأن القرآن تضمن شرائع الإسلام، وكلاهما مروي عن النبي ﷺ وقرئ (الصراط) بالصاد والسين، وبين الصاد والزاي، وقد قيل: إنه قرئ بزاي خالصة، والأصل فيه السين وإنما أبدلوا منها صادًا لموافقة الطاء في الاستعلاء والإطباق، وأما الزاي فلموافقة الطاء في الجهر.

قوله بأن: "الصراط في اللغة الطريق المحسوس الذي يُمشى عليه، ثم اُستعير للطريق الذي يكون عليه الإنسان من الخير أو الشر"، هذا كما ذكرنا في الكلام على الغريب بأن كثيرًا من تلك الألفاظ هي تكون في أمور حسية، وأمور معنوية، فالصراط يقال للطريق المحسوس، ويقال أيضًا للطريق المعنوي.

يقول: "ومعنى المستقيم القويم الذي لا اعوجاج فيه فالصراط المستقيم الإسلام، وقيل: القرآن والمعنيان متقاربان"، هذا من قبيل اختلاف التنوع.

يقول: "لأن القرآن تضمن شرائع الإسلام، وكلاهما مروي عن النبي ﷺ".

تفسير الصراط المستقيم بالإسلام عن النبي ﷺ هو الحديث المشهور حديث النواس: ضرب الله مثلا صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصراط سوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: أيها الناس، ادخلوا الصراط جميعًا، ولا تتعرجوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد يفتح شيئًا من تلك الأبواب، قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، والصراط الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي من فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم[1] ، والحديث صحيح ومشهور.

أما تفسيره بالقرآن، فهذا جاء من حديث علي ، أنه سمع النبي ﷺ يقول: ألا إنها ستكون فتنة. فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم ...[2]، ففسره بالصراط المستقيم، لكن الحديث لا يصح.

أما من جهة المعنى فلا شك أن الصراط المستقيم، يعني: اتباع القرآن، فالقرآن يشرح الصراط المستقيم، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123]، فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38]، فهداه هو القرآن، وما يشرحه من سنة رسول الله ﷺ، فهذا من اختلاف التنوع، لا يُحتاج معه إلى الترجيح بين الأقوال، فإذا عُبر عنه كما مضى في شرح مقدمة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فذكر ذلك مثالًا على اختلاف التنوع.

يقول: "وقُرئ بالصاد والسين، وبين الصاد والزاي"، إلى آخر ما ذكر في القراءة، و"أل" هذه التي دخلت على الصراط للعهد، العهد الذهني، الصراط المعهود الذي وصفه الله -تبارك وتعالى- بين معالمه وحددها بيانًا لا يلتبس بغيره، اهْدِنَا الصِّرَاطَ [الفاتحة:6]، المعلوم المعهود، وذلك أن "أل" إذا دخلت على موصوف اقتضت أنه أحق بتلك الصفة من غيره، فهذا مقام طلب ودعاء، فيحتاج إلى تحديد، تحديد المطلوب، فجيء به مُعرفًا الصراط، وأما مجيئهم مُنكرًا فهذا في مقام الإخبار وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [الفتح:2]، وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:87]، إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:161]، فهذا في مقام الإخبار يأتي مُنكرًا، مقام الطلب والسؤال يأتي مُعرفًا، فكأن الله -تبارك وتعالى- حينما عرف بهذا الصراط أنه مستقيم في مقام الإخبار، فسأل العبد أن يهديه ربه -تبارك وتعالى- إليه، فجاء به مُعرفًا اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وهذه القراءة التي أشار إليها المؤلف بالسين هي قراءة ابن كثير قراءة متواترة في جميع القرآن، والتي تكون بين السين والزاي بالإشمام، فهذه قراءة حمزة، والجمهور من القراء بالصاد، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، الصراط هو الطريق المسلوك والسبيل الواضح، يقولون: بأنه مأخوذ من الاصتراط، والاصتراط ما المقصود به؟

ابتلاع الشيء، فكأنه يبتلع المارة الطريق كأنه يبتلع المارة من يمشي عليه، ولاحظ بأن الصراط إنما يقال للطريق المستقيم ولا يقال للمعوج، وبهذا الاعتبار، فإن ذكر هذا الوصف بعده القيد بالاستقامة الصراط المستقيم تكون المستقيم من قبيل الصفة الكاشفة، يعني: التي لا تُقيد الموصوف، فإذا قلت رجل ذكر هو الرجل لا يكون إلا ذكرًا، وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [الأنعام:38]، هو الطائر لا يطير إلا بجناحين، فهذه صفة كاشفة تفيد التأكيد، وقال بفيه، وكتب بيده، ومشى برجله، هذه صفة كاشفة تفيد التوكيد بخلاف الصفة المُقيدة، تقول: رجل مؤمن، رجل طويل، امرأة صالحة، لكن حينما تقول امرأة أُنثى هي المرأة لا تكون إلا أُنثى، فهذه يسمونها صفة كاشفة، فإذا قيل بأن أصلًا لفظة الصراط لا تقال إلا على ما كان موصوفًا بالاستقامة؛ فإنه المستقيم هي زيادة توكيد، يقولون: المستقيم هو أقرب خط يصل بين نقطتين، يعني: المُعتدل المستوي لا اعوجاج فيه ولا الالتواء، الطريق الواضح، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام:153].

وكما قال الله : قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ [الحجر:41]، وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ [النحل:9]، قصد السبيل قصد هنا صفة أُضيفت إلى الموصوف قصد السبيل، قصد يعني: الطريق المُعتدل الذي لا اعوجاج فيه، السبيل القاصد، يعني: المستقيم المُعتدل قصد السبيل، فالله هو الذي يهدي إليه وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ [النحل:9].

يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: "ولا تكون الطريق صراطا حتى تتضمن خمسة أمور: الاستقامة، والإيصال إلى المقصود، والقرب، وسعته للمارين عليه، وتعينه طريقا للمقصود، ولا يخفى تضمن الصراط المستقيم لهذه الأمور الخمسة.

فوصفه بالاستقامة يتضمن قربه؛ لأن الخط المستقيم هو أقرب خط فاصل بين نقطتين، وكلما تعوج طال وبعد، واستقامته تتضمن إيصاله إلى المقصود، ونصبه لجميع من يمر عليه يستلزم سعته، وإضافته إلى المنعم عليهم ووصفه بمخالفة صراط أهل الغضب والضلال يستلزم تعينه طريقا"[3].

ولا يقال: بأن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق كما يقول بعض الصوفية، فهو على كل حال الطريق التي رسمها الله لعباده من أجل سلوكها الإيمان والعمل الصالح، والدين الصحيح، فيكون ذلك بما جاء مُفصلًا في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وهو يتضمن العلم والعمل مع الإخلاص والمتابعة فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110].

"الفائدة السادسة عشر: الذين أنعمت عليهم، قال ابن عباس: هم النبيئون والصديقون والشهداء والصالحون، وقيل: المؤمنون، وقيل: الصحابة، وقيل: قوم موسى وعيسى قبل أن يُغيروا، والأول أرجح لعمومه ولقوله: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]".

هذه الرواية عن ابن عباس -ا- هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، وإن لم تصح من جهة الإسناد، إلا أن المعنى صحيح دل عليه القرآن، فالصراط المستقيم، قال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، فهذا أيضًا وصف آخر له يُميزه، وهؤلاء الذين أنعم الله عليهم هم من ذكر الله ، وخير ما يُفسر به القرآن القرآن، فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، فهذا تفسير للمُنعم عليهم.

فقوله هنا: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، الصراط هنا بدل كل من صراط المستقيم، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ؛ لأنه لا يوجد غير هذا أصلًا، فهو بدل كل من كل، أو أنه عطف بيان، والفرق بين البدل وعطف البيان هما متقاربان غاية المقاربة، لكن يقولون: إذا كان الثاني أوضح من الأول، فهذا عطف بيان، عطف عليه ما هو أبين وأوضح، يمثلون لهذا يقولون: قال أبو حفص عمر، فعمر عطف بيان؛ لأنه أشهر من الكُنية من أبي حفص، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7]، فإذا قلت أن هذا أوضح في صفته فيكون عطف بيان، وإذا قلت بأنه يُكافئه فهذا بدل منه، يعني: كأنه يقول: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، وهذا يدل على التوكيد والإيضاح والبيان، ففسره بذلك كله، وحينما يقول بأنه صراط الذين أنعم عليهم هذا آكد وأبين وأوضح في استقامته، فهؤلاء المُنعم عليهم من النبيين ونحو ذلك كانوا على الاستقامة الكاملة.

ولاحظ أنه هنا جاء به مُنكرًا، وفي الموضع الأول مُعرفًا، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، لكنه تعرف هنا بالإضافة، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، وهذا على كل حال يدل إفراده على أنه الصراط واحد وأحد الطريق إلى الله واحد، وأن الحق واحد، فالحق لا يتعدد وغاية ما هُنالك أنه في باب العلم، قد يُعبر عن الشيء بعبارات، أو يُفسر بما يقاربه، أو بجزئه، أو بالمثال، ويرجع ذلك إلى شيء واحد، هذا الذي نُسميه باختلاف التنوع.

ولكن الاختلاف الحقيقي اختلاف التضاد، هذا يقول: هذا حلال وهذا حرام، الحق عند الله واحد، لكن اختلاف التنوع سواء كان ذلك في عبارة أهل العلم، أو كان ذلك في عبارات الشارع، مثل صيغ التشهد، وصيغ الأذان الثابتة، ونحو ذلك، فإذا جاء بهذا، أو هذا أو هذا، فلا إشكال في ذلك.

وكذلك في الأعمال الأمور العملية، مثلًا: صفات صلاة الخوف ونحو هذا، على الوجه الذي جاء عن النبي ﷺ بصفات متعددة، فكل هذا مشروع، وكذلك في صلاة الجنازة، وعدد التكبيرات، فيكون ذلك من قبيل اختلاف التنوع، ولا يحتاج إلى ترجيح، ليس من قبيل اختلاف التضاد.

لكن الاختلاف الحقيقي: اختلاف التضاد هنا لا مجال الحق عند الله واحد، فإذا اجتهد العالم فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد، والمُقلد العامي إذا سأل من يثق بدينه وعلمه من غير أن يكون طالبًا لما يوافق هواه، فيسأل من يعتقد أن جوابه يتفق مع رغباته؛ فإن الذمة لا تبرأ بهذا، لكن إذا سأل وتحرى من يثق بدينه وعلمه، فأجابه ولو أخطأ المُجيب، فإن هذا الإنسان معذور؛ لأنه فعل ما وجب عليه فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، والحمد لله.

لكن الإشكال هو أن ينظر إلى القولين -أعني العامي- ويأخذ ما يوافق هواه، ويقول أفتى به عالم، أو يقول هذه المسألة خلافية، فيحتج بالخلاف، ويأخذ ما يُريد، فهنا يقال الحق عند الله واحد، فيجب التحري، ولذلك قال الشاطبي -رحمه الله-: بأنه إذا اتفق له قولان، يعني: العامي وقف على قولين، ولم يترجح عنده أحد القائلين، يعني: بعلم، أو ورع، كلاهما سواء، فإنه ينظر إلى هواه فيُخالف الهوى؛ لأن الشريعة إنما جاءت لإخراج المُكلف من داعية هواه[4].

وهذا خلاف ما يقوله كثير من الناس الآن، ويظنونه يبحثون عن ما يوافق أهواءهم، ويقولون المسألة خلافية، ويُقدمون أحيانًا لهذا في سؤالهم، هل يوجد خلاف في هذه المسألة؟

ووجود الخلاف لا يسوغ للمُكلف أن يفعل ما يُريد، ولا يصح الاحتجاج بالخلاف، والله ، يقول: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام:153]، فيأتي دائمًا مُفردًا والسُبل مجموعة، اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ [البقرة:257]، الظلمات كثير إِلَى النُّورِ [البقرة:257]، فالنور واحد، وهو الصراط المستقيم، وحديث النواس الذي أشرت إليه قال: ضرب الله مثلًا صراطًا مستقيمًا وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مُفتحة وعلى الأبواب ستور مُرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعًا ولا تعوجوا، وداعٍ يدعوا فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه، هذه الضلالات، قال: فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المُفتحة محارم الله، وذلك الداعي على الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم.

فإذا دعت النفس إلى شيء وخلا الإنسان؛ فإنه يتذكر نظر الله إليه ويحك لا تفتحه إنك إن تفتحه تلجه، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، والإنعام هو إيصال النعمة، وهي الحالة التي يستلذها الإنسان، لين العِيش، والخفض، والدعة، والمال هذا في الأصل إطلاق النعمة على ذلك، وهي جنس يصدق على القليل والكثير، وإذا أُضيفت إلى معرفة دلت على الإنعام المُطلق، ولاحظ هنا أُضيفت صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، أي على عموم النعم الدينية والأخروية، أنعمت أُضيفت إلى تاء الخطاب.

والله  يقول: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ [المائدة:11]، هنا أضافه إلى الاسم الظاهر، أي: نِعم الله عليكم، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، يعني: نِعم الله.

وعلى كل حال، الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، هم الذين وفقوا لسلوك الصراط المستقيم، وفقوا للدين الحق والهدى الكامل هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ [التوبة:33]، وهو العلم النافع والعمل الصالح، الإيمان وطاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ، وهذه أجل الِنعم وأعظمها، وإن كانت النعم تتنوع وتتفاوت، فالأرزاق الدار نِعم، الصحة نعمة، الولد نعمة، الأمن نعمة، وغير ذلك، هذا الهواء، والماء البارد، كل هذه نِعم من الله تبارك وتعالى.

لكن أعظم هذه النِعم هو الهداية إلى الصراط المستقيم، والله  يقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ۝ وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ۝ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:66-68].

هنا قوله: "هم النبيون والصديقون، وقيل المؤمنون، وقيل الصحابة". المعنى: أعم من هذا، وقيل: قوم موسى وعيسى قبل أن يغيروا وهذا لا يصح أن يُفسر به، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، يعني: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، هم قوم موسى وعيسى، يعني: كأنه يقول اسلك بنا سبيل المُهتدين قبلنا، لكن المعنى أعم من ذلك، وهم الأنبياء والصديقون والصالحون والشُهداء، ويدخل في ذلك جميع الأنبياء -عليهم السلام- ومن وصف من أتباعهم عمومًا.

"الفائدة السابعة عشرة: إعراب غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بدل، ويبعد النعت؛ لأن إضافته غير محضة، وهو قد جرى على معرفة، وقرئ بالنصب على الاستثناء أو الحال"

إعراب غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ؛ لأن قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، قال: بدل ويبعد النعت؛ لأن إضافته غير محضة، وهو قد جرى على معرفة، وقرئ بالنصب على الاستثناء أو الحال.

(غير): هنا صفة للاسم الموصول الذين، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فـ (غير) صفة له صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ إما مبينة أو مقيدة، بأي اعتبار؟ باعتبار أنهم جمعوا أنهم حصلوا النعمة المطلقة بلزوم الحق وأيضًا مجانبة ما يخالفه من الضلال.

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ: سلموا من الغضب والضلال، ويحتمل أن يكون بدلًا من الاسم الموصول اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، باعتبار أن المُنعم عليهم هم الذين سَلِموا من الغضب والضلال، ولاحظ أن الأول أوضح في المعنى وأحسن وأكمل من هذا يعني غير صراط المغضوب عليهم والضالين، فكونه صفة أوضح، فيكون بهذا الاعتبار صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ اهْدِنَا الصِّرَاطَ: فوصفه بالاستقامة وأنه طريق المنعم عليهم وأنه مجانب لطريق أهل الضلال، فهذه أوصاف له تحدده وتميزه، والله أعلم.

و(غير) هنا من جهة الإعراب كما أشار المؤلف مضاف، والمغضوب مضاف إليه، وعليهم متعلق بالمغضوب. لاحظ فهذا الوصف لصراط المنعم عليهم بغير المغضوب عليهم ولا الضالين هذا فيه تأكيد كمال صراط المنعم عليهم، وكما ذكرنا في النفي واقتضائه لكمال ضده، فهنا حينما يقول: الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، فهذا يعني أنه طريق أهل الرضا والإنعام والهداية الكاملة، الذين سَلِموا من الغضب ومن الضلال.

لاحظ أنه جيء بالفعل مبنيًا للمجهول، وفي الإنعام جاء مبنيًا للمعلوم، العلماء يقولون: هذا من باب الأدب في الألفاظ.

فالشر لا يُنسب إلى الله -تبارك وتعالى- تأدبًا: والشر ليس إليك[5] مع أن الله خالق الخير والشر، فهنا في الإنعام أضافه إلى الله، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ، وفي الغضب غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، مثل: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]، فأضاف المرض إلى نفسه، وأضاف الشفاء إلى الله.

ومثل قوله تعالى: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79]، فنسب العيب إليه، وفي الجدار قال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا [الكهف:82].

وكذلك قوله: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3]، قالوا: كلمة قلى لم يُضفها إليه، ما قال وما قلاك، وعلى كل حال هذا فيه إثبات صفة الغضب لله تبارك وتعالى، على ما يليق بجلاله وعظمته، وهؤلاء الذين غضب عليهم -المغضوب عليهم- هم من حصل لهم العدول عن الحق بعد معرفته، وأولى من يصدق عليه هذا الوصف هم اليهود، كما فسره به النبي ﷺ كما في حديث عدي بن حاتم : سألت رسول الله ﷺ عن قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، قال: هم اليهود، وَلا الضَّالِّينَ، قال: هم النصارى[6].

وكذلك جاء في حديث أبي ذر  بنحوه، أنه سأل رسول الله ﷺ عن ذلك، فهو يصدق عن اليهود قطعًا، وهذا تفسير نبوي، وإن كان ذلك يشمل كل من عرف الحق ولم يتبعه، فيكون استحقاقه من هذا الحكم، يعني: الغضب بقدر ما تحقق فيه من الوصف؛ لأن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فبقدر ما يكون عند العبد من الإعراض عن الحق بعد ما عرفه يكون نصيبه من الغضب، واليهود الله -تبارك وتعالى- وصفهم بهذا: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة:61]، وقال أيضًا: فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ [البقرة:90]، ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:112]، قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [المائدة:60]، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [المجادلة:14].

فهؤلاء عرفوا الحق وتركوه، وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109]، الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146].

وفي خبره عمرو بن زيد بن نُفيل الذي أخرجه البخاري عن ابن عمر "أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشأم يسأل عن الدين، ويتبعه، فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينهم، فقال: إني لعلي أن أدين دينكم، فأخبرني، فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، قال زيد ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا، وأنى أستطيعه فهل تدلني على غيره، قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا، قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا، ولا نصرانيا، ولا يعبد إلا الله، فخرج زيد فلقي عالما من النصارى فذكر مثله، فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله، قال: ما أفر إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله، ولا من غضبه شيئا أبدا، وأنى أستطيع فهل تدلني على غيره، قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا، قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، ولا يعبد إلا الله، فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم خرج، فلما برز رفع يديه فقال: اللهم إني أشهد أني على دين إبراهيم"[7]. هذا الحديث مُخرج في الصحيح في البخاري.

على كل حال، قوله: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، يعني: ولا صراط الضالين، فالواو عاطفة، بعضهم يقول: إن لا هذه زائدة إعرابًا كما يقوله البصريون تفيد التوكيد لمعنى النفي المفهوم من غير، وليدل على أن هذا مسلك، وهذا مسلك، فلا يتوهم أحد أن الضالين وصف للمغضوب عليهم.

يعني: لو قال غير المغضوب عليهم ما قال ولا الضالين، لو قال غير المغضوب عليهم والضالين فيكون يحتمل أنه وصف لطائفة واحدة جمعوا بين الغضب والضلال، لكن لما قال: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7].

فدل على أن هؤلاء طائفة، وهؤلاء طائفة أخرى، هذا لا يحتمل أن يكون ذلك يرجع إلى طائفة واحدة، والكوفيون مذهبهم أسهل في النحو كما هو معروف، يقولون: بأن لا هذه بمعنى غير وهي تفيد التوكيد، وقد جاء قراءة غير متواترة قراءة عمر : غير المغضوب عليهم وغير الضالين.

والضالون هؤلاء أهل الجهل والعمى، الذين تركوا الحق لجهلهم حصل لهم الانحراف بسبب جهلهم، فعدلوا عن الصراط المستقيم، وهم النصارى، هذا أولى من يصدق عليه هذا الوصف كما فسره به النبي ﷺ، وهو يصدق على كل من لم يلزم الحق بسبب جهله وعماه.

لكن النصارى في الواقع بعد مبعث النبي ﷺ عرفوا صدقه فجمعوا بهذا بين الضلال والغضب، فهم مغضوب عليهم، وكذلك هم أهل ضلال.

يقول الله تبارك وتعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77]، وتفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى نقل عليه بعض أهل العلم الاتفاق، لكن كما سبق أن المعنى أيضًا يشمل هذا وغيره ممن يُشاكله، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- ذكر أن الضاد والظاء هنا غير المغضوب، يعني: لو قال غير المغظوب عليهم ولا الظالين يقول: بأنه يُتسامح في هذا لقُرب المخرج، فقال: "والصحيح من مذاهب العلماء : أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب مخرجيهما؛ وذلك أن الضاد مخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس، ومخرج الظاء من طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا، ولأن كلا من الحرفين من الحروف المجهورة ومن الحروف الرخوة ومن الحروف المطبقة، فلهذا كله اغتفر استعمال أحدهما مكان الآخر لمن لا يميز ذلك، والله أعلم"[8].

لاحظ هنا: أنه قدم المغضوب عليهم على الضالين، وذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- وجوهًا في هذا التقديم، فقال: أن اليهود متقدمون تاريخيًا على النصارى، فقدموا ما يتعلق بهم، ومنها: أن اليهود كانوا يجاورون المسلمين، والنصارى كانوا أبعد كانوا في الشام، وفي نجران فقُدم، ومنها: أن الغضب أغلظ، يعني: حال اليهود عرفوا الحق، ولم يتبعوه، فهم أشد في جُرمهم، فقُدم ذلك، كذلك أيضًا أنه لما ذكر المُنعم عليهم، فالذي يُقابل الإنعام الغضب، فناسب أن يُذكر الغضب بعد الإنعام، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، فذكر الشيء وما يُقابله[9].

"الفائدة الثامنة عشر: أُسند أنعمت عليهم إلى الله والغضب لما لم يُسمى فاعله، -وفي نُسخة خطية إلى ما لم يُسمى فاعله- على وجه التأدب كقوله: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]، وعليهم الأول في موضع نصب والثاني في موضع رفع".

هذا سبق التنبيه عليه، وهو ما يتعلق بالتأدب في مثل هذا التعبير، وذكرت نظائره.

قال: "وعليهم الأول في موضع نصب"، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، فالإنعام واقع عليهم، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، المغضوب هنا مبني للمجهول فيكون الرفع؛ لأنه حُذف الفاعل، نعم الفائدة التاسعة عشر.

"الفائدة التاسعة عشر: المغضوب عليهم اليهود، والضالين النصارى، قاله ابن عباس وابن مسعود وغيرهما، وقد روي ذلك عن النبي ﷺ، وقيل: ذلك عام في كل مغضوب عليه وكل ضال، والأول أرجح لأربعة أوجه: روايته عن النبي ﷺ، وجلالة قائله، وذكر ولا في قوله: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، دليل على تغاير الطائفتين، وأن الغضب صفة اليهود في مواضع من القرآن كقوله: فَبَاءُوا بِغَضَبٍ [البقرة:90]، والضلالة صفة النصارى؛ لاختلاف أقوالهم الفاسدة في عيسى ابن مريم ، ولقول الله فيه وفي نُسخة ولقول الله فيهم: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77]".

قوله هنا: الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ اليهود، و الضَّالِّينَ: النصارى، قاله ابن عباس. هذا ثابت عن ابن عباس -ا-. قال: وابن مسعود. وفي الهامش قال المعلق: أخرجه الطبري بإسناد جيد. هنا يتحدث عن أثر ابن مسعود  وليس عن أثر ابن عباس.

قال: وقد روي ذلك عن النبي ﷺ. هذا من حديث عدي بن حاتم السابق أن النبي ﷺ قال: إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى[10].

وحديث أيضًا أبي ذر لما سأل النبي ﷺ، وكلاهما ثابت صحيح. يقول: وقيل: ذلك عام. وبينا وجه هذا.

قال: والأول أرجح لأربعة أوجه؛ روايته عن النبي ﷺ، وجلالة قائله، وذكر (ولا) في قوله: (ولا الضالين) دليل على تغاير الطائفتين، وأن الغضب صفة اليهود في مواضع من القرآن: يعني هذه أوجه في ترجيح أن المغضوب عليهم هم اليهود، وأن الضالين هم النصارى.

قال: والضلال صفة النصارى؛ لاختلاف أقوالهم الفاسدة في عيسى ابن مريم : وعمومًا هم أهل جهل.

قال: ولقول الله فيهم: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77].

هذه الأوجه ذكرها في ترجيح هذه المعنى المغضوب عليهم هم اليهود، والضالين هم النصارى، وكما سبق أن ذلك لا ينفي هذا الوصف عمن عرف الحق وتركه من أي طائفة كان لكن هؤلاء أحق بذلك، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ: وتفسيره باليهود يكون من قبيل يعني كأنه من قبيل العام المراد به الخصوص، وكذلك: الضَّالِّينَ، لكن حينما يقال: إن هذا هو الأولى بهذا الوصف فهم أحق من يدخل فيه فهو يصدق عليهم فهم مقصودون بذلك ولا ينفي عما عداهم. هذا أفضل، والله تعالى أعلم، ولهذا قالوا: بأن من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عُبّادنا ففيه شبه من النصارى.

الفائدة الموفية عشرين: هذه السورة جمعت معاني القرآن العظيم كله، فكأنها نسخة مختصرة منه، فتأملها بعد تحصيل الباب الثالث من المقدمة الأولى تعلم ذلك، فالإلهيات حاصلة في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، والدار الآخرة في قوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، والعبادات كلها من الاعتقادات والأحكام التي تقتضيها الأوامر والنواهي في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، والشريعة كلها في قوله: الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، والأنبياء وغيرهم في قوله: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، وذكر طوائف الكفار في قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.

هنا قال: فتأملها بعد تحصيل الباب الثالث من المقدمة الأولى: الباب الثالث من المقدمة الأولى في المعاني والعلوم التي تضمنها القرآن، هذه من المهم أن تكون حاضرة في الأذهان، فإذا قرأت في هذا التفسير فإنه سيراعي ذلك فيما يقرره ويذكره، وهذا هنا في سورة الفاتحة يشير إليه، استحضار هذه المقدمات ومراجعتها أمر في غاية الأهمية، وهنا ذكر جملًا تدل على هذا أن الفاتحة مشتملة على معاني القرآن، فمعاني القرآن ترجع إليها، وهذا ذكره جمع من أهل العلم وذلك أنها تتضمن: حمد الله، والثناء عليه، وتمجيده، وفيها توحيده بأقسام التوحيد الثلاثة: توحيد الإلهية، والربوبية، والأسماء والصفات.

وفيها أيضًا الترغيب والترهيب ووعد ووعيد، إثبات البعث والجزاء والعمل يعني: العمل وجزاءه، والعامل وعمله، وإرشاد الخلق إلى حمد الله والثناء عليه كما قلنا: إن هذا تعليم من الله  الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وإرشاد لهم إلى عبادته والاستعانة به إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ في جميع أمورهم الدينية والدنيوية، وإخلاص العمل لله (إياك)، وإعلان البراءة من حولهم وقوتهم، وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم؛ الذي يؤدي لسالكه إلى سعادة الدارين، فيها أقسام الناس الثلاثة: المنعم عليهم وهم الذين هداهم الله  هداية العلم وهداية العمل، وأهل الغضب حصل لهم العلم من غير العمل، وأهل الضلال الذين -نسأل الله العافية- لا علم ولا عمل صحيح.

وفيها إثبات الرسل والرسالات والوحي، فكيف يُحمد الله -تبارك وتعالى- الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟، وكيف يُعبد إِيَّاكَ نَعْبُدُ ؟ إلا بما شرع وكيف نعرف ما شرع؟، ونعرف صراط المستقيم صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، ونحذر من طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين، ونبتعد عن هذا كله إلا من طريق الوحي والرسل -عليهم السلام- فهذا في إثبات الرسل والرسالات والكتب المنزلة، ثم كيف يجازون عن هذا؟، ويحاسبون على الأعمال إلا بعد البيان وإقامة الحجة بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، كما تضمنت هذه السورة كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: الرد على جميع المبطلين، وطوائف البدع، والضلال والإلحاد؛ لأنهم لا يخرجون عن هذين الوصفين: أهل غضب، أو ضلال، فاشتملت على أهم المطالب وتضمنتها فعرفت بالمعبود بهذه الأسماء الثلاثة التي إليها ترجع الأسماء والصفات وتدور عليها (الله) و (الرب) و (الرحمن)[11].

يقول في موضع آخر: بأنها بُنيت على الإلهية والربوبية والرحمة فـ إِيَّاكَ نَعْبُدُ مبني على الإلهية، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ على الربوبية، وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم صفة الرحمة، فمن -رحمه الله- هداه ووفقه، والحمد يتضمن هذه الأمور الثلاثة: فهو محمود بإلهيته وربوبيته ورحمته. والثناء والمجد كمالان لجده، وتضمنت إثبات المعاد وجزاء العباد بالأعمال: الحسن، والسيء، وتفرد الرب بالحكم بين الخلائق أن هذا الحكم بالعدل مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يوم الجزاء والحساب[12].

وذكر في مواضع أخرى أيضًا القوة النظرية العلمية، والقوة العملية الإرادية للإنسان، وإن السعادة موقوفة على استكمال هاتين القوتين، فاستكمال القوة العلمية إنما يكون بمعرفة الخالق معرفة صحيحة بأسمائه وصفاته، ومعرفة الطريق الموصل إليه، ومعرفة آفات هذه الطريق، ومعرفة النفس وعيوبها، وبهذه المعيار تحصل كمال القوة العلمية، وأن أعلم الناس هو أعرفهم بها، وأن أفقههم هو الذي يدرك ذلك إدراكًا صحيحًا، وأن استكمال القوة العلمية الإرادية لا يحصل إلا بالقيام بوظائف العبودية ومراعاة حق المعبود ، والإخلاص والمتابعة واستحضار المنة وشهود التقصير في حقه فهو على كل حال يستحي من ربه تبارك وتعالى، وهذا لا يتحقق للعبد يعني هذه المعرفة القوة العلمية والقوة العملية إلا بمعونة الله  فالعبد مضطرًا إلى ذلك، وإلى هدايته إلى الصراط المستقيم الذي هدى إليه أولياءه وأن يجنبه الخروج عنه فيقع في حال من الغضب أو الضلال، فلا تتم السعادة إلا بمجموع هذه الأمور التي تضمنتها سورة الفاتحة، فـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ: هذا كله يتضمن الأصل الأول الذي يتعلق بالقوة العلمية، معرفة الرب ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله، وكذلك أيضًا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، هذا يتضمن معرفة الطريق الموصل إليه وهي عبادته وحدته والاستعانة به على عبادته،: يتبين أنه لا سبيل إلى الوصول إليه والسعادة ونيل ما عند إلا بالاستقامة على صراطه المستقيم وهذا لا يتحقق إلا بهداية الرب تبارك وتعالى، كما أنه لا سبيل إلى عبادته إلا بمعونته، فلا سبيل إلى الاستقامة على صراطه إلا بهدايته.

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ: هذا يتضمن طرفي الانحراف عن الصراط المستقيم فساد العلم والاعتقاد وكذلك أيضًا فساد القصد والعمل.

يقول: في أول السورة رحمة وأوسطها هداية وآخرها نعمة، وحظ العبد من النعمة على قدر حظه من الهداية، وحظه منها على قدر حظه من الرحمة فعاد الأمر كله إلى نعمته ورحمته والنعمة والرحمة من لوازم ربوبيته فلا يكون إلا رحيمًا منعمًا وذلك من موجبات إلهيته فهو الإله الحق وإن جحده الجاحدون، فمتى تحقق معاني الفاتحة علمًا ومعرفة وعملًا وحالًا فقد فاز من كماله بأوفر الحظ والنصيب وصارت عبوديته عبودية خاصة[13]، وكذلك ذكر شيئًا من هذه المعاني الحافظ ابن كثير -رحمه الله-.

خاتمة: أمر بالتأمين عند خاتمة الفاتحة للدعاء الذي فيها، وقولك: (آمين) اسم فعل معناه: اللهم استجب، وقيل: هو من أسماء الله. ويجوز فيه مد الهمزة وقصرها، ولا يجوز تشديد الميم. وليؤمن في الصلاة المأموم والفذ والإمام إذا أسرّ، واختلفوا إذا جهر.

يقول: أُمر بالتأمين عند خاتمة الفاتحة للدعاء الذي فيها: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ آمين يعني استجب، فهو اسم فعل بهذا الاعتبار، وأما القول بأنه من أسماء الله فهذا لا يثبت فليس من أسمائه آمين.

يقول: ويجوز فيه مد الهمزة: آمين. ويجوز القصر: أمين. ولا يجوز تشديد الميم: آمّين يعني قاصدين، وهذا قال بعه بعضهم لكنه غير صحيح آمّين يعني قاصدين الله بالعبادة والاستعانة.

قال: وليؤمن في الصلاة المأموم والفذ والإمام إذا أسرّ، واختلفوا إذا جهر: يعني المأموم هل يجهر أو لا؟ تعرفون مذهب أبي حنيفة أنه لا يجهر[14]، ومذهب الجمهور أنه يجهر[15] وهذا هو الصحيح، قد دل على هذا أدلة، وأن المأموم يجهر كما جاء في حديث أبي هريرة  حتى يرتج بها المسجد.

فهذه هي السنة الجهر بالتأمين خلف الإمام ويدل عليه الحديث أيضًا: إذا أمن القارئ فأمنوا، فإن الملائكة تؤمن، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه[16].

أما القول بأنه لا يجهر باعتبار أن ذلك دعاء بمعنى استجب، وأن الدعاء لا يُشرع فيه الجهر؟ فهذا ليس على إطلاقه، فالجهر في الذكر والدعاء يطلب حيث شُرع، وإنما يكون ذلك باتباع الدليل، فيستحب للقارئ أن يسكت سكتة لطيفة بعد قراءة: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ثم يقول: آمين. سواء كان في الصلاة أم خارج الصلاة، يعني لو قرأ الفاتحة خارج الصلاة فيستحب له أن يقول: آمين. فضلًا عن حال الصلاة، وهي ليست من الفاتحة بالإجماع، ولهذا لم تثبت في المصاحف، وفيها اللغتان على كل حال بالمد آمين على وزن فعيل، وأمين على وزن فعيل والقصر هو الأصل، فإذا قال الناس آمين مدوا الألف فهذا صحيح، وإذا قصروا فهذا أيضًا صحيح، كله صحيح، على كل حال هذه عشرون مسألة في الفاتحة.

وفي الدرس القادم -إن شاء الله تعالى- نشرع في البقرة وستكون طريقة سيرنا بعد هذا الموضع هي التعليق على المواضع التي تحتاج إلى تعليق بشيء من الاختصار، وتوضيح ما يحتاج إلى توضيح من عبارات المؤلف وبيان المعنى الراجح في الآية من غير توسع، ولكن المؤلف هنا في هذه السورة الكريمة وما ذكر أيضًا قبل ذلك في الاستعاذة والبسملة ذكرها على صورة مسائل، وكان لا بد من بيانها ومناقشتها وما عدا هذا لا نحتاج معها -إن شاء الله- إلى ذلك، وستتغير الطريقة في الشرح والتعليق.

أسئلة:

س: هل قول آمين في الصلاة واجبة؟.

جـ: قول آمين في الصلاة مشروع، والنبي ﷺ قال: صلوا كما رأيتموني أصلي، فكان ﷺ يقول: (آمين)، والعلماء -رحمهم الله- يذكرون قاعدة في الأمر المجمل أو المطلق، يقولون: فتفاصيل ما تحته تأخذ حكمه. لكنها ليست على إطلاقها، يعني صلوا كما رأيتموني أصلي، صلى أمامهم النبي ﷺ وبالاتفاق على اختلاف في التفاصيل أن ليس كل ما فعله النبي ﷺ في الصلاة أنه واجب مع أن الأمر للوجوب، قال ﷺ: خذوا عني مناسككم، ليس كل ما فعله النبي ﷺ أمامهم في الحج أنه واجب، ففعل أشياء هي من قبيل الأركان في الحج، أشياء من قبيل الواجبات، وأشياء من قبيل المندوبات مستحبان مع أن القاعدة هكذا، لكن يمكن أن يقال: هذا هو الأصل. وكل قاعدة لها استثناءات، القواعد قضايا كلية بمعنى أغلبية.

س: ما حكم تتبع الرخص؟.

جـ: ذكرنا هذا وأشرت إليه ولي درس خاص في هذا قديمًا، وتتبع الرخص لا يجوز، رخص الفقهاء وليست رخص الشارع، (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)، فهذه رخص الشارع القصر في السفر، الفطر في حال المرض أو السفر، هذا مشروع، لكن رخص الفقهاء يؤخذ من هذا الترخيص في كذا، مسألة اختلف فيها العلماء فهذا قال: بجواز النبيذ. وهذا قال: بجواز المعازف. وهذا قال: بجواز أنواع من المعاملات الربوية. وهذا قال أيضًا في العورة وحدود العورة ... إلى غير ذلك فيجمع كل قول لكل فقيه خالف فيه فيجتمع فيه الشر كله، فيخرج من ربقة التكليف، فيشرب الخمر باعتبار أنه وجد من يقول بأن النبيذ مثلًا حلال، ويسمع المعازف باعتبار أنه وجد من يقول: إن ذلك جائز. ويأكل أنواعًا من الربا باعتبار أن بعض الفقهاء رخص في هذا النوع من المعاملات، وهكذا في كل شأن من شؤونه فيخرج من الدين بالكلية، فلا يجوز تتبع رخص الفقهاء، ولهذا قالوا: من تتبع رخص الفقهاء تزندق.

س: هل هذا القول من أقوال الصوفية: الطريق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق؟.

جـ: نعم الصوفية يقولون هذا، والرد عليه اهْدِنَا الصِّرَاطَ واحد، دائمًا يُذكر على سبيل الإفراد، فالطريق إلى الله واحد وليس بعدد أنفاس الخلائق، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153].

س: هل يصح القول في هذه الآيات الكريمة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ أنها تدل على توضيح الحاجة في الدعاء أي تعلمنا كيف ندعو؟.

جـ: هو تعليم من الله  للدعاء لا إشكال في هذا.

س: هل يصح القول عند الاختلاف في المسائل بأني أفرح حتى لا أخطأ أحد، وهل صحيح لا إنكار في مسائل الخلاف؟.

جـ: كيف لا أخطأ أحد! يعني إذا وجد الخلاف معناه لا يوجد خطأ! إذا كان اختلاف تضاد لا بد أن يكون أحد القولين خطأ والثاني صواب، لكن نسبة الخطأ إلى القول لا تعني نسبة النقص إلى القائل أو الذم والعيب، هو اجتهد فهو بين أجر وأجرين إذا كان أهلًا للاجتهاد، أما القول بأنه لا إنكار في مسائل الخلاف فهذا غير صحيح، والصحيح أن يقال: لا إنكار في مسائل الاجتهاد. المسائل الاجتهادية وليست الخلافية وإلا فالمسائل الخلافية فمعنى ذلك أنه سيسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل مسألة سيقول: فيه خلاف. ليس كل خلاف يُعتبر وإنما لا إنكار في مسائل الاجتهاد، وضابط المسألة الاجتهادية على صور:

  • الصورة الأولى: إما أن تكون المسألة لم يرد فيها دليل أصلًا فاجتهد العلماء فيها.
  • الصورة الثانية: أنه ورد فيها دليل خفي مأخذه مثل: لا يصلين أحدكم العصر إلا في بنى قريظة، ورد دليل لكن ما المقصود؟ هل المقصود الإسراع ويصلونها في وقتها؟ أو المقصود على ظاهره أنه لا يصلي إلا في بني قريظة؟ فاختلف الصحابة  فلم يعب أحد منهم ولم ينكر على الآخر؛ لأنه خفي مأخذه ما هو المقصود، هذه الصورة الثانية للمسائل الاجتهادية.
  • الصورة الثالثة: ورد فيها أدلة لكن متقابلة. فيجتهد العلماء في الجمع بينها أو الترجيح، وهذا مثل القراءة خلف الإمام كما سبق في الجهرية، هل يقرأ أو لا يقرأ؟ هذه مسألة اجتهادية، فإذا جاء إنسان وقال: اجتهادي أدى أني لا أقرأ خلف الإمام. وجاء آخر وقال: لا اجتهادي أدى إلى كذا. فهنا يقال: لا إنكار في مسائل الاجتهاد. مسألة استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة الأدلة التي فيها متقابلة، فهذا محل اجتهاد وإن وردت فيها الأدلة لكنها متقابلة، فهذه الضوابط تكشف لنا عن نوع من المسائل يقال له: المسائل الاجتهادية. وتكلم العلماء على الخلاف إذا قوي فإن هذا يُراعى مراعاة الخلاف، ولهذا يقولون: يفرق في بعض المسائل بين العامي والعالم المجتهد. فالعلماء يكون بينهم المذاكرة ولهذا لما سئل الإمام أحمد -رحمه الله- عن الركبة تبدو، هل الركبة عورة أو لا؟ باعتبار أن العورة من السرة إلى الركبة فإلى للغاية فهل الركبة داخلة فيها؟ هل المغيا داخل في الغاية أو غير داخل في الغاية؟، هذه مسألة أصولية لغوية والعلماء مختلفون فيها. يغسل اليدين إلى المرفقين، هل المرفق داخل أو غير داخل؟ حتى أدار الماء حتى شرع في العضد، الآن أدار الماء على مرفقيه، المرفق داخل في هذا، لكن من الناحية اللغوية والناحية الأصولية يختلف العلماء في هذا، فبعضهم يقول: لو كان ما بعده يدخل فيه لولا الغاية فإن هذا المغيا يدخل في ذلك، وإن كان لا يدخل فيه فإنها لا تكون داخلة فيه. لو قلت مثلًا: لك هذا الفضاء إلى دار فلان. فدار فلان غير داخلة، لكن حينما يقال: لك هذا الفضاء إلى هذا العمود. فالعمود داخل فيه. إذا كان المغيا غير داخل في الغاية فإنها لا تدخل فيه، فدار فلان ليست أصلًا من هذا الفضاء. فإذا قيل: اليد. فاليد تبدأ من أطراف الأصابع إلى المنكب، فإذا قال: إن اليد تُغسل إلى المرفقين. فهذا معناه أن المرفقين يدخلان في اليد. هذا ضابط جيد ذكره بعض الأصوليين والفقهاء لكنه ليس محل اتفاق، هذا في تمييز المغيا متى يدخل ومتى لا يدخل، فالركبة داخلة في العورة أو غير داخلة؟ يحتمل، فهل يُنكر في كشف الركبة أو لا يُنكر؟ فالإمام أحمد -رحمه الله- فرق بين العامي والعالم، فقال: يُنكر على العامي ويُذَاكر العالم. هذا يرجع إلى ما سبق وإلى أمور أخرى، وإلى أمور أخرى يعني كون النبي ﷺ كشف ركبته -عليه الصلاة والسلام-.

س: هل يُنصح بكتاب يُقرأ في التفسير مع حضور الدرس لمن لم يقرأ في التفسير؟.

جـ: أنا أقول هذا الكتاب اقرأ وتأمل قبل أن تأتي، تأمل في العبارات، تأمل في كلامي، استحضر الإشكالات، تصور المسائل والمعاني، فإذا أتيت تكون حاضر الذهن مهيئًا لما يُذكر، لكن إذا جاء الإنسان خالي الذهن فهو بين النظر فيما ذكره المؤلف وما يُذكر معه فيتشتت الذهن، فإذا رجعت راجع الكلام الذي قيل مع التعليق، وبهذا يثبت العلم، فإذا أنهيت سورة راجعها، يعني المقدمات السابقة المفترض أنها تراجع ونحتاج إليها في ثنايا الكتاب كما قلت لكم سواء في المقدمة الأولى في علوم القرآن والمقدمة الثانية في الغريب، فنحتاج إليها. والله أعلم.

 

 

  1. أخرجه أحمد، رقم: (17634) .
  2. أخرجه الترمذي، أبواب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل القرآن، رقم: (2906)، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم: (1788)، والدارمي في سننه، رقم: (3374)، وقال الألباني: ضعيف جدا. مشكاة المصابيح (1/659).
  3. مدارج السالكين (1/33-34).
  4. الموافقات (2/264).
  5. أخرجه مسلم، كتاب صلاة، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، رقم: (771).
  6. صحيح ابن حبان، رقم: (6246)، المعجم الأوسط، رقم: (3813)، الدر المنثور في التفسير بالمأثور (1/42).
  7. أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل، رقم: (3827).
  8. تفسير ابن كثير (1/143).
  9. انظر: بدائع الفوائد (2/33).
  10. أخرجه أحمد، رقم: (19381)، وابن حبان، رقم: (6246)، والطبراني في المعجم الكبير، رقم: (237).
  11. مدارج السالكين (1/81).
  12. المصدر السابق (1/31).
  13. انظر: الفوائد لابن القيم (ص: 18-20).
  14. البحر الرائق شرح كنز الدقائق (1/320)، مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح (ص: 97)، النهر الفائق شرح كنز الدقائق (1/201).
  15. مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله (ص: 72)، المغني لابن قدامة (1/353)، المجموع شرح المهذب (1/67)، تفسير القرطبي (1/127).
  16. أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب التأمين، رقم: (6402)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب التسميع، والتحميد، والتأمين، رقم: (410).

مواد ذات صلة