الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
(002-أ) من قوله تعالى "وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا" إلى قوله "وتركهم في ظلمات لا يبصرون"
تاريخ النشر: ٢٥ / ذو الحجة / ١٤٣٦
التحميل: 2253
مرات الإستماع: 2087

يقول الإمام ابن جُزي الكلبي عند قوله تعالى:

"قَالُوا آمَنَّا [البقرة:14] كذبوا خوفًا من المؤمنين".

قوله: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا [البقرة:14] كذبوا في هذه الدعوى خوفًا من المؤمنين، وأما الخوف من المؤمنين فباعتبار أنهم أرادوا حقن دماءهم، وإحراز أموالهم، هذا وجه ذكر الخوف هنا، لك أن تقول: بأنهم أرادوا بهذا الدعوى أن يدفعوا عن أنفسهم ما يتخوفونه من أهل الإيمان، من قتلهم لكُفرهم قتالهم، ونحو ذلك، فأفعالهم هذه دائرة على الخوف مع ما في مضامينها من الطمع بإحراز الأموال، أو الطمع بالغنيمة، أو نحو ذلك، فهم يدعون الإيمان خوفًا من فوات ذلك، هذا وجه ذكر الخوف.

"خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:14]، هم رؤساء الكفر، وقيل: شياطين الجن، وهو بعيد".

لا يقال: إن الشياطين هنا شياطين الجن؛ لأنهم لا يخلون إليهم، فأولئك يُلازمونهم، ويوسوسون لهم، ولكن المُراد هنا: السادة والكُبراء منهم، أو من أحبار اليهود، ورؤوس المشركين والمنافقين، كما يقوله المحققون من أهل العلم، كابن كثير[1] وغيره، هذا الذي عليه عامة أهل العلم، فمعنى: خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:14] أي: إلى كُبرائهم ممن يأزونهم إلى الكُفر والنفاق، فقالوا: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [آل عمران:72] هؤلاء من المنافقين من اليهود، فالمنافقون منهم من كان من اليهود، ومنهم من كان من المشركين الذين كانوا في مدينة رسول الله ﷺ، ومنهم من كان من الأعراب ممن حولهم، فهذه ثلاث طوائف، بالإضافة إلى من يعتورهم النفاق في بعض الأحوال، فإن النفوس لها من التقلبات في حال الشدة ما لا يخفى؛ ولذلك قال الله : هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167] قد يكون الإنسان في بعض أحواله أقرب إلى الكُفر؛ ولهذا يقولون: نافق فلان.

"وتعدى (خلا) بـ(إلى) لأنه ضُمن معنى: مشوا، أو ذهبوا، أو ركنوا، وقيل: (إلى) بمعنى (مع) أو بمعنى الباء".

التضمين مضى الكلام عليه في التعليق على المصباح المنير، ولرُبما في بعض هذه المجالس في شرح هذا الكتاب، فالتضمين: أن يُضمن الفعل أو ما في معناه معنى فعل آخر، يصح أن يُعدى بهذا الحرف الذي عُدي به هذا الفعل، ويكون التضمين أيضًا في الحروف، معنى ذلك أن الفعل مثل (خلا) هنا قال: إِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:14] يقال: خلا بنفسه، تعدى بالباء، ويقال: خلا مع زيد، تعدى بـ(مع)، لكن خلا إلى فلان، فخلا لا يتعدى بـ(إلى) في الأصل، فإذا عُدي بـ(إلى) فمذهب البصريين الذين يسميهم الحافظ ابن القيم -رحمه الله- فقهاء النحاة[2]، يقولون: بتضمين الفعل معنى فعل آخر يصح أن يُعدى بهذا الحرف، يعني: خلا ضُمن معنى فعل آخر، يمكن أن يُعدى بـ(إلى) فهنا قال: لأنه ضُمن معنى مشوا إلى، يعني: صار ذلك أعمق في المعنى، وأوسع وأوفر، فصار خلا بالإضافة إلى معنى مشى، فهم خلوا بهم، وسعوا إليهم، ومشوا إليهم، أو ذهبوا، أو ركنوا إلى شياطينهم، فصار عندنا خلوة مع هؤلاء الشياطين، إضافة إلى ما دل عليه الحرف المُعدى به: ركون، مثل ما قلنا في قوله تعالى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا [الإنسان:6] فالعين يُشرب منها، فقال: بها، فالعين ليست بكأس، هنا شربت بالكأس، لكن عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا [الإنسان:6] العين يُشرب منها، يُعدى بمن، فلما قال: بها، ضُمن معنى فعل آخر يصح أن يُعدى بالباء، وهو يلتذ، فضُمن يشرب معنى يلتذ، صار عندنا شُرب واللتذاذ، أو يرتوي بها، فصار عندنا شُرب زائد ارتواء، فالمعنى زاد، فالقرآن يُعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فالتعدية بالحرف بحرف لا يتعدى به هذا الفعل، تدل على تضمينه معنى فعل آخر، يصح أن يُعدى بهذا الحرف، فيكون زيادة في المعنى، هذا تضمين الفعل معنى الفعل.

والكوفيون يقولون بتضمين الحرف معنى الحرف، يقولون: حروف الجر تتناوب، وهذا المذهب ليس فيه زيادة في المعنى، وهو أسهل تناولًا بطبيعة الحال، وأسرع في الجواب، فهنا يقول: "وقيل: (إلى) بمعنى (مع)، أو بمعنى الباء" يعني إذا خلو مع شياطينهم، إذا خلوا بشياطينهم، لم يزد المعنى، فالمعنى هو المعنى، فعلى مذهب الكوفيين لا زيادة، وعلى مذهب البصريين يكون ذلك زيادة في المعنى، خلوا إلى شياطينهم، هذا يدل على أنهم يتوجهون إليهم، أو يركنون إليهم مع الخلوة، يعني: أن ذلك لم يقع مصادفة، وإنما هم يقصدونهم بعد هذه الدعاوى التي يُظهرونها لأهل الإيمان.

"وجاء قولهم: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] بجملة اسمية مُبالغةً وتأكيدًا، بخلاف قولهم: آمَنَّا فإنه جاء بالفعل لضعف إيمانهم".

إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] هذه جملة اسمية إِنَّا مَعَكُمْ والجُمل الاسمية تدل على الثبوت، يعني أنهم ثابتون مستمرون باقون على الكُفر، إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] لكن في قولهم لأهل الإيمان: آمَنَّا عبر بالفعل الماضي، والجُملة الفعلية لا تدل الثبوت، فقولهم لأهل الإيمان من حيث المعنى الذي يؤديه أضعف من قولهم لشياطينهم، نحن عرفنا أن الشيطان يُقال لكل عاتٍ مُتمرد، خرج عن نظائره، سواء كان من الإنس، أو الجن، أو الحيوان الكلب الأسود شيطان[3]، فكل عاتٍ متمرد شيطان، فهؤلاء المردة في الكفر هؤلاء شياطين بهذا الاعتبار.

أيضًا في قوله: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] أولئك يعلمون أنهم معهم، لكنهم عبروا بهذا، كما يقول أهل العلم: وذلك لشدة حذقهم في نفاقهم، حتى ظنوا أن شياطينهم يشكون في كونهم قد دخلوا في الإيمان حقيقة، فهم يرجعون إليهم، ويعبرون بالجملة الاسمية، ويقولون: نحن باقون على ما عهدتم، لكن كنا نستهزئ بهم، فاحتاجوا لمثل هذا؛ لأنهم كانوا في غاية الحِذق في التمثيل والتصنع لأهل الإيمان، حتى يظن الظآن أنهم فعلًا قد خلوا في الإيمان.

"اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة:15] فيه ثلاثة أقوال: تسمية العقوبة باسم الذنب كقوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران:54] وقيل: يُملي لهم بدليل قوله: وَيَمُدُّهُمْ [البقرة:15] وقيل: يفعل بهم في الآخرة ما يُظهر لهم أنه استهزأ بهم".

أنه استهزأ هكذا؟

في الحاشية: استهزاء.

نعم ما يظهر لهم أنه استهزاء بهم، فهذا هو الأقرب، والله أعلم.

"وقيل: يفعل بهم في الآخرة ما يُظهر لهم أنه استهزاء بهم، كما جاء في سورة الحديد: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد:13]".

اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة:15] فهذه الأقوال التي ذكرها الثلاثة: الأول: تسمية العقوبة باسم الذنب، وهو الاستهزاء، فسمى العقوبة باسمه، يعني: أن ذلك من قبيل المجاز، أنه لا حقيقة له، فهذا تأويل للصفة، تسمية العقوبة باسم الذنب، وصفة الاستهزاء صفة ثابتة لله  يستهزأ بهؤلاء المُستهزئين بأهل الإيمان، ولا يصح إنكارها بحال من الأحوال، وهي من الصفات الفعلية، دلت عليه هذه الآية، وفي الحديث في الرجل الذي يكون آخر من يخرج من النار: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين[4].

فقال: "كقوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران:54]" هم يؤلون هذا ونظائره، فلا يثبتون المكر، وإنما يقولون: فعل بهم فعل أهل المكر، أو أن ذلك من قبيل المُشاكلة، يعني: أنه سمى فعله مكرًا مُشاكلة لفعلهم الذي هو مكر، يعني أن ذلك في التسمية فقط، كما ذكرنا في شواهده في مناسبات سابقة:

قالوا: اقترح شيئًا نجد لك طبخه قلت: اطبخوا لي جُبة وقميصا[5]

يقولون: الجُبة والقميص لا تُطبخ، لكن لما كان بحاجة إلى لباس، وعرضوا عليه الطعام، قالوا: اقترح شيئًا نجد طبخه، فشاكل اللفظ، فقال: قلت: اطبخوا لي جُبة وقميصا، فقالوا: هذا من باب المُشاكلة، وهذا المُشاكلة بعضهم يجعلها من قبيل المجاز، وبعضهم يقول غير ذلك، لكن لا يقولون: إنها حقيقة، وهذا للأسف تجد أنه يجري على بعض ألسنة بعض طُلاب العلم من أهل السنة، دون أن يشعر، يعني: هو يجد مثل هذه العبارة، فينقلها في كلامه أو كتابه، فيقول: هذا من قبيل المُشاكلة، وهو لا يعرف حقيقة هذه الكلمة، أو هذا الكلام، وما تحته من التأويل، فهذا لا يُقال: إنه مُشاكلة، وإنما يقال: صفة المكر ثابتة، لله  لكنها ليست على الإطلاق، يعني لا يقال: الله  ماكر، ولكن يقال: بأن ذلك بمن يستحق ذلك، ولا يقال في المكر: إنه لا بد أن يكون على سبيل المقابلة لمكرهم، كما يذكره بعض أهل العلم من أهل السنة؛ لأن ذلك لا يُشترط أن يكون على سبيل المُقابلة لمكرهم، وإنما يكون بمن يستحق ذلك أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ [الأعراف:99] هنا ما ذكر مكرهم، يعني لم يذكره في مقابل مكرهم، لكن وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا [النمل:50] هنا في مقام المُقابلة.

والاستهزاء ذكره في مقابل استهزاءهم إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ۝ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة:14-15] فالمقصود أن هذا كله من الصفات الفعلية الثابتة لله ، التي لا تُثبت على سبيل الإطلاق، فيقال: الله مُستهزئ، الله ماكر، ونحو ذلك، فلا يقال هذا، إنما يقال: الله -تبارك وتعالى- يمكر بأهل الشر والفساد والنفاق والكفر، ويمكن بالماكرين، والله يستهزأ بهؤلاء المُستهزئين، من الكفار والمنافقين، فهذا القول الأول الذي ذكره.

"وقيل: يُملي لهم بدليل قوله: وَيَمُدُّهُمْ [البقرة:15]" يُملي لهم يعني يزيد في الآجال، والأعمار، وأيضًا في العطاء الدنيوي، فيبقون على كفرهم وضلالهم ونفاقهم، ويستمرئونه؛ ولهذا يقولون: إذا رأيت الله يُعطي العبد وهو على غير استقامة وطاعة، فإن ذلك يكون من قبيل الاستدراج وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183] فسمى هذا الإملاء كيدًا، يعني: هو من كيده بهم، وهكذا هنا: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة:15] "قيل: يُملي لهم: ولكن هذا يُمكن أن يُفسر به: الكيد؛ لأن الكيد هو مكر خفي، وإيصال الضرر بطريقة خفية، فلا يقال: بأن الاستهزاء هو الإملاء لهم، هذا يمكن أن يُفسر به الكيد.

يقول: "وقيل: يفعل بهم في الآخرة ما يظهر لهم أنه استهزاء بهم، كما جاء في سورة الحديد ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد:13]" لا نحتاج إلى أن نقول: يفعل بهم في الآخرة ما يظهر لهم أنه استهزاء، بل نقول: يستهزأ بهم.

"وذلك أنه أجرى لهم في الدنيا ما للمؤمنين" أجرى عليهم أحكام أهل الإيمان، فيأخذون من الغنيمة إذا شهدوا المعركة، ويأخذون من الفيء، ونحو ذلك، وتُقبل منهم كلمة التوحيد، ويُعاملون في الظاهر على أنهم من جُملة المسلمين، هذا في الدنيا، فإذا كان في الآخرة ميز الله بين الفريقين، فهنا ينطفأ نورهم، ويُضرب بينهم وبين أهل الإيمان بسور له باب، باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب، عندها يُدركون وينادون أهل الإيمان: ألم نكن معكم، فيظنون أن ذلك يجري لهم في الآخرة، وكذلك أيضًا في الدنيا كانوا يحلفون لأهل الإيمان إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ۝ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [المنافقون:1-2] وقاية تُرس فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [المنافقون:2] صدوا أهل الإيمان، وعن اتباع الرسول ﷺ، وصدوا عن الجهاد في سبيل الله، هذا كله بمعنى صد المتعدية، وصدوا في أنفسهم، فلم يكونوا على اهتداء، فهذا صد اللازمة، فصد تأتي لازمة، ومُتعدية، والقرآن يُعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فهم بهذه المثابة، يحلفون فيُقبل ذلك منهم في الدنيا، فإذا جاءوا في الآخرة يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة:18] يبعثهم الله جميعًا: يجمع أجزاءهم التي تفرقت وتحللت في الأرض، أو يجمع المنافقين جميعًا، أي يُحشرون مجتمعين، فيحلفون له، الفاء تدل على التعقيب المُباشر، يظنون أن الآخرة مثل الدنيا، أنهم إذا حلفوا قُبل منهم، فيحلفون له كما يحلفون لكم، هم في ذلك كله يظنون أن ذلك يجري على الله -تبارك وتعالى-، ويحسبون أنهم على شيء، فهذا الذي -والله أعلم- أنه يُفسر به قوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة:15] بما أجرى لهم ما يكون للمؤمنين في الدنيا، ثم بعد ذلك يحصل التمييز بينهم وبين أهل الإيمان في الآخرة، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة:15] فيغترون بهذا الذي عُملوا به في الدنيا، وقُبل منهم، فإذا جاءت الآخرة حصل الميز والفرق بين أهل الإيمان وأهل النفاق، فيلقون في النار، بل في الدرك الأسفل من النار.

"وَيَمُدُّهُمْ [البقرة:15] يزيدهم، وقيل: يُملي لهم، وقد ذكر يعمهون".

"وَيَمُدُّهُمْ [البقرة:15] يزيدهم، وقيل: يُملي لهم" الإمداد غير الإملاء، لكن الإملاء له نوع ارتباط بالإمداد، فالإمداد إذا كان في المدة والبقاء، فهذا هو الإملاء، يُملي لهم: يُمدهم، والمدد يكون بالعطاء أو بما يحصل به الإمداد شيئًا بعد شيء، يقال: المدد من الجيش ومن المقاتلين، والمدد من الطعام والشراب، والمدد من النصر والإعانة والتوفيق، ونحو ذلك، وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ [البقرة:15] فهم حيث ينغمسون في الطغيان، ويتجاوزون الحد، ومع ذلك الله -تبارك وتعالى- يُعطيهم من أسباب القوة، ويُعطيهم من أسباب التمكين المُؤقت، الذي يغترون به، ويعطيهم من الأموال والأولاد والعافية في الأبدان ما يحصل معه الإغراق في ضلالاتهم، والاستمرار عليها، بحيث أن الواحد لا يُراجع نفسه؛ وذلك أن المصائب من شأنها أن تُذكر الإنسان، وأن تُعيده إلى رُشده وصوابه، فينظر فيما هو عليه من الحال والعمل، أما هؤلاء فهم في غي، ومع ذلك في نعمة وعافية ورغد وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [المنافقون:4] فهي أجسام من الواضح أنها مُنعمة مُترفة، وليس فيها شحوب، ولا يبدو عليها آثار الضعف والسهر أو الاعتلال، وإنما هي في غاية الراحة والنعمة، فالنعيم يظهر على وجه الإنسان، سواء كان هذا النعيم من النعيم المادي، أو كان ذلك من نعيم القلب، فنعيم القلب يظهر بالإشراق، والنعيم المادي يظهر بما يبدو على بشرة الإنسان وهيئته وصورته من الجمال، ونظارة الظاهر، وما إلى ذلك بسبب الرغد والراحة والنعمة، كما يقول الشاعر يصف مترفةً:

لو دب ذرٌ فوق ضاحي جلدها لأبان من آثارهن حدورُ[6]

يقول: لشدة رقة الجلد ونعومته لو دب ذر فوق ضاحي جلدها، ظاهر الجلد؛ لأبان من آثارهن حدورُ، فتظهر آثار الذر لو مشت عليه؛ لصفاء هذا الجلد ونقاءه ورقته، لكن الإنسان الذي يكون في عمل وعناء وكد، في طلب العيش، ونحو ذلك من فلاحة ونحوها، لربما كانت اليد غليظة، وآثار الشمس ظاهرة.

قال: "وقد ذكر يعمهون" الإمداد هنا المقصود به: أي يزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم، كما يقوله ابن جرير[7] -رحمه الله- وغيره.

والعمه: المقصود به الضلال وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:15] يعني: في ضلالهم وكفرهم يترددون، حيارى، ضُلالًا -نسأل الله العافية- لا يجدون إلى المخرج سبيلًا، فأصل العمه: التردد في الأمر والتحير فيه، كما مضى في الغريب، وهذا هو السر في بقاء كثير من أهل النفاق والضلال على حالهم، هو الإمداد والمكر الذي يمكره الله  بهم، فيبقون على باطلهم وضلالاتهم، وحربهم على دين الله -تبارك وتعالى- وأهل الإيمان، ومع ذلك يحصل لهم من العطاء المادي ما يحصل به الاغترار، حتى يموت الواحد منهم ويوافيه، وهو على حاله التي كان عليها.

"اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ [البقرة:16] عبارة عن تركهم الهُدى مع تمكنهم منه، ووقوعهم في الضلالة فهو مجاز بديع".

هكذا يقولون بأن هذا من قبيل المجاز، وقد لا يُسلم لهم بذلك، فإن الله -تبارك وتعالى- سمى المعاملة معه تجارة: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10] وسماه بيعًا: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ [التوبة:111] وسماه شراء: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111] وسمى ما يحصل من الخسارة في الصفقة: خسارة، وسمى ذلك غبنًا، وسمى يوم القيامة بيوم التغابن قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:15] فهذا لا يختص بالبيع والشراء والمُعاطاة المادية، بل بالتعامل مع الله -تبارك وتعالى-.

اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16]، يعني: أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى، استعاضوا بالضلالة عن الهدى، هذه العبارة هي في ضمنها جواب لسؤال في هذا الموضع، وهو: أن هؤلاء لم يكونوا على هدى فأين المعاوضة؟ اشترى كذا: يعني استبدل شيئًا بشيء، كما يقول أحدهم:

أَخَذْتُ بالجُمَّةِ رأْسًا أَزْعَرَا وبالثَّنايا الواضحاتِ الدُّرْدُرَا
وبالطَّويلِ العُمْرِ عُمْرًا أَنْزَرا كما اشترى المسْلِمُ إذْ تَنَصَّرا[8]

يعني: استعاض واستبدل الإيمان بالنصرانية، فهذا كان على الإيمان، ثم صار نصرانيًا، كما اشترى المؤمن إذا تنصرا، فهؤلاء أهل النفاق لم يكونوا على الإيمان اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [البقرة:16] فهم لم يكونوا على هدى، ولم يبذلوا الهدى ولم يكونوا عليه أصلًا، اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16] فماذا يقال عنهم؟ يقال: استعاضوا عن الهدى بالضلال، وهذا باعتبار أنهم كانوا على إيمان ثم كفروا، كما يقوله بعض السلف كمجاهد: آمنوا، ثم كفروا[9]، وأما باعتبار أنهم منذ البداية لم يكونوا على إيمان حقيقي، فإنه يُمكن أن يُفسر ذلك يقال: أخذوا الضلالة، واشتروا الضلالة، اختاروا الضلالة وآثروها على الهدى، وكما يقول قتادة: "استحبوا الضلالة على الهدى"[10]، وكما قال الله -تبارك وتعالى- في ثمود: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17]، هذا يُفسر به هذا الموضع، فاستحبوا العمى -الذي هو الضلال- على الهدى، كقوله: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16]، يعني: أنهم اعتاضوا عن الهدى بالضلالة، سواء كانوا ممن آمن ثم كفر، أو استحب الضلال على الهدى، كما يقوله الحافظ ابن كثير[11]، وغيره.

يقول: "اشتروا الضلالة عبارة عن تركهم الهدى مع تمكنهم منه، مع وقوعهم في الضلالة، فهو مجاز بديع" ليس كذلك.

"فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [البقرة:16] ترشيح للمجاز؛ لما ذكر الشراء ذكر ما يتبعه من الربح والخُسران، وإسناد عدم الربح إلى التجارة مجاز أيضًا".

الآن قوله: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [البقرة:16] ترشيح للمجاز، ما معنى ترشيح للمجاز؟ إذا كان في الكلام ما يقوي المُشبه به ويُلائمه كان ذلك ترشيحًا عندهم، يعني: تقوية للاستعارة أو المجاز، إذا كان ذلك في الكلام ما يقوي المُشبه به، ويُلائمه، أما إذا ذُكر ما يُلائم المُشبه، فيسمونه التجريد، فهنا في هذه الآية اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16] شبه الضلالة بسلعة، فالمُشبه: الضلالة، والمُشبه به: السلعة، فهذه السلعة من شأنها أن تُباع وتُشترى، فحذف المُشبه به (السلعة) اشتروا الضلالة، يعني: جعل الضلالة كأنها سلعة، شبهها بسلعة، لكن هنا لم يذكر المُشبه به، لم يذكر السلعة في الكلام، هل ذُكر المُشبه به؟ الجواب: لا، لكن دل عليه لازم من لوازمه، وهو فعل الشراء، فالشراء يكون للسلِع، فيلزم أن يكون هناك سلعة تُشترى، ثم بعد ذلك انظر إلى العبارة فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [البقرة:16] هذا مُناسب للمُشبه به وهو السلعة، فهذا عندهم ترشيح، يعني: أنه يقوي المُشبه به، اشتروا الضلالة، المُشبه هو الضلالة، المُشبه به شبهها بالسلعة، ما القرينة الدالة على هذا؟ هي ذكر الشراء، فالاشتراء يكون للسلعة، مع أن هذا المُشبه به غير مُصرح به، لكن وجد ما يقويه فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [البقرة:16] فالتجارة هي المُعاطاة، والبيع والشراء، وتداول السلع، فهذه هي التجارة.

مع أن قوله: وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] مُناسب لضلالهم، فيكون من قبيل التجريد، يعني: آخر الآية فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [البقرة:16] هذا يقوي المُشبه به عندهم، فيكون من قبيل الترشيح، لكن آخرها: وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] هذا يُناسب الضلالة، فهذا الذي يسمونه التجريد، يعني وجد في الكلام ما يقوي جانب المُشبه، فصار في الكلام ما يقوي جانب المُشبه به فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [البقرة:16] فإذا نظرت إلى هذا قلت: هذا من قبيل الترشيح، وإذا نظرت إلى قوله: وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] فهو يقوي جانب المُشبه، وهو الضلالة، التي شُبهت بالسلعة، فيكون من قبيل التجريد.

نحن لا نعرض لهذه القضايا، ولا نشتغل بها، لكن هو أشار إليها، فلا بُد أن يُفهم المراد، وتُفك مثل هذه العبارات، ولا نُمرها كما جاءت، فهذا ليس بمُراد، ولا بد لطالب العلم أن يفهم مراد أهل العلم، بصرف النظر عما تحتها، لكن يفهم ذلك على وجه الإجمال.

والذين يثبتون المجاز ليس عندهم إشكال في هذا، والذين يقولون: هذا حقيقة، فالتجارة كما تكون في السلع التي يتعاطها الناس، ونحو ذلك، تكون أيضًا في الأعمال والتعامل مع الله -تبارك وتعالى-؛ ولهذا سمى الثواب أجرًا، والأصل في الكلام أنه حقيقة، فلماذا يُحمل على المجاز؟ ومن أين لهم من أن الاستعمال الأول هو في كذا، والاستعمال الثاني هو في كذا؟ فسياق الكلام وسباقه ولحاقه، كل ذلك يتبادر منه معنىً، وهذا المعنى الذي يتبادر هو الحقيقة، حتى لو قيل: بأن اللفظ هذا المشهور منه عند الإطلاق هو كذا، فاُستعمل في المعنى الآخر الذي هو الأضعف لقرينة، يقال: المُتبادر هو الحقيقة.

يعني: حينما يقال: الأسد هو الحيوان المُفترس، فإذا اُستعمل في الرجل الشجاع يقولون هذا مجاز؛ لأنه اُستعمل فيما وضع له ثانيًا، الوضع الأول يقولون: الحيوان المفترس، نقول: حينما يقول القائل: رأيت أسدًا يضرب بسيفه في أرض المعركة، نقول: هذا حقيقة، باعتبار أن الحقيقة هي ما يسبق إلى الذهن، فالذي يسبق إلى الأذهان حينما يُقال: يضرب بسيفه في أرض المعركة أنه ليس السبُع، فهذا لا يكون -كما قالوا-: إنه من قبيل المجاز، والذين يثبتون المجاز يتوسعون في هذه الأمور، وتعرفون المجاز يقول به طوائف من أهل السنة، لكنهم لا يجرون ذلك في الأمور الغيبية، من أوصاف الله  وحقائق الآخرة، وما إلى ذلك.

والترشيح ترجيح، لكنه ليس هكذا بإطلاقه، يعني: هو نوع من الترجيح، ترجيح أن ذلك تقوية للمُشبه به، وإلا فإن تقوية المُشبه هو ترجيح، فيسمونه تجريدًا، يعني هذه اصطلاحات خاصة، وهو تقوية، لكن تقوية المُشبه به يقولون لها: ترشيح، وهذا تجريد، وكله تقوية.

"لما ذكر الشراء ذكر ما يتبعه من الربح والخسران، وإسناد عدم الربح إلى التجارة مجاز أيضًا؛ لأن الرابح أو الخاسر هو التاجر".

هكذا يقولوا، ومضى ما فيه "إسناد عدم الربح إلى التجارة مجاز؛ لأن الرابح والخاسر" والله يقول: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:15]، هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10] كيف يقال هذا مجاز؟!

يعني المجاز أبرز قضية وصفة وسِمة يتفقون عليها جميعًا أنه يصح نفيه، فإذا قلت مثلًا: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ [الصف:10]، فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [البقرة:16] يمكن أن يقال هذا ليس بتجارة، التجارة في البيع والشراء في السلع، وهل في القرآن شيء يصح نفيه؟ لا يمكن، هم يتفقون على أن المجاز يصح نفيه، تقول: رأيت أسدًا يقاتل، يقال: ليس بأسد، فهذا رجل، لكن لو قلت: رأيت رجلًا يقاتل، لا أحد يستطيع أن يقول: هذا ليس برجل، هذا حيوان مُفترس، ما أحد يمكن هذا ينفي الحقيقة، لكن المجاز يتفقون على أنه يصح نفيه، جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ [الكهف:77] الجدار يقولون: ليس له إرادة، كيف الله يقول: يُريد؟

وبعض أهل العلم بالغ في الرد عليهم فقال: وما المانع أن يكون للجدار إرادة، والله  ذكر تسبيح كل شيء والنبي ﷺ قال: إني لأعرف حجرًا بمكة كان يُسلم عليّ قبل أن أُبعث[12]، وحنين الجذع[13]، وقال لشجرتين: انقادي علي بإذن الله، فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمنصف مما بينهما، لأم بينهما -يعني جمعهما- فقال: التئما علي بإذن الله، فالتأمتا[14]، في حديث جابر  في صحيح مسلم، فقالوا: فما المانع أن يكون للجدار إرادة؟.

وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف:82] يقولون: المجاز يصح نفيه، والقرية لا تُسأل، وإنما يُسأل أهلها، فهذا قالوا: مجاز علاقته الحالية بالمحالية، وجه السؤال للقرية، وهي لا تُسأل، والمقصود سؤال الحال فيها، وهم أهلها، قالوا: وهذا مجاز، فلا تُسأل القرية، يقال: ما المُتبادر حينما يقال: واسأل القرية؟ فالقرية تُطلق على البُنيان، وتُطلق على ساكنيها، فالمُتبادر هو الحقيقة، هذا المُتبادر إما أن يكون لشُهرة اللفظ هذا المعنى، وهذا الذي يسمونه هم الحقيقة، الأسد الحيوان المُفترس، وإما لوجود ما يدل على المعنى من السياق، أو ما يسبق اللفظ وما يتبعه، كل ذلك من القرائن يدل على المُراد، والله أعلم.

"وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] في هذا الشراء، أو على الإطلاق، وقال الزمخشري: نفى الربح في قوله: فَمَا رَبِحَتْ [البقرة: 16] ونفى سلامة رأس المال في قوله: وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16]".

وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] بهذا الشراء، أو على الإطلاق، فالله أطلقه وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] فيبقى على إطلاقه، فما كانوا مهتدين في حال من الأحوال في شراءهم هذا، وفي أحوالهم كلها، وفي نفاقهم، وفي تحيرهم وفي طُغيانهم، في كل ذلك، والأصل أن حذف المُتعلق يدل على العموم المُناسب، حذف المُتعلق يعني المُقدر المحذوف وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16]، ما قال: مهتدين في شراءهم ولا في بيعهم ولا في تجارتهم، وإنما أطلقه، فيُحمل على العموم، وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] يعني: في تحيرهم وضلالهم ونفاقهم، وفي إيثارهم الدنيا على الآخرة، واختيار الضلالة على الهدى، وما إلى ذلك.

"مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ [البقرة:17] إن كان المثل هنا بمعنى حالهم وصفتهم، فالكاف للتشبيه، وإن المثل بمعنى التشبيه، فالكاف زائدة".

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ [البقرة:17] يعني: الكاف تدل على التشبيه، و(مثل) أيضًا تدل على التشبيه، فإن أصل لفظة (المثل) كما مضى في الكلام على الغريب تدل على الشبه في عامة استعمالاتها، بل بعض أهل العلم كشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: بأن لفظة المثل تدل الشبه بإطلاق[15]، فيقال: هذا مَثل هذا، وهذا مِثل هذا، يعني: أنه نظير لهذا، فهنا ذكر الكاف الدالة على التشبيه، وذكر (مثل) الدالة على التشبيه، ففي مثل هذه المواضع، كقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] يقولون: فيه زيادة في الكلام، باعتبار ما ذُكر، الكاف وحدها ليس كهو شيء، مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:17] فالكاف تدل على التشبيه، ويحصل أصل المعنى المطلوب، أو مثلهم مثل الذي استوقد نارًا، لكن مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا، يقول: "إن كان المثل هنا بمعنى حالهم وصفتهم، فالكاف للتشبيه" كالذي استوقد، كمثل، فـ(مثل) الثانية تُفسر بالصفة (كصفة) يعني ألا تكون (مثل) للتشبيه، مع أن بعض أهل العلم يأبى هذا، وشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: إن (المثل) لا يأتي بمعنى الصفة[16]، مع أن هذا فيه إشكال، ففي بعض المواضع يصُعب حمل المثل فيها على معنى الشبه والشبيه، كـمَثَلُ الْجَنَّة [الرعد:35] فهل يقال هنا: شبه الجنة؟ الأقرب والمُتبادر -والله أعلم- أن المعنى: صفة الجنة، وذَكَرَ ما فيها من النعيم والأنهار، فهذا يُعبر عنه مثل صاحب الكشاف[17]، وغيره ممن وافقه، لا أعني في خصوص هذا الموضع، لكن في كلمة (المثل) يقولون: يُطلق على الصفة العجيبة.

فالمقصود: أن المثل يأتي بمعنى الصفة، لكنه في مواضع قليلة، فهنا يريد أن يقول: بأن كلمة مثل هنا إن قُصد بها الصفة والحال، فيكون المعنى: مثلهم -صفتهم- (كـ) الكاف للتشبيه، كصفة الذي استوقد نارًا، إذًا: لم يوجد عندنا الكاف، و(مثل) وكلاهما يدل على التشبيه، فيُحتاج إلى القول بأن إحداهما زائدة، فالكاف للتشبيه، وإن كان المعنى الشبيه -لا سيما على قول من يقول-: إنه دائمًا يأتي بهذا المعنى، يقول: فالكاف زائدة، مثلهم مثل الذي استوقد نارًا، ولا يعني قولهم: زائدة، أنها حشو في الكلام، وإنما زائدة إعرابًا، فزيادة المبنى لزيادة المعنى، يعني: هنا الكاف تدل على تقوية المعنى في هذا التشبيه، مع أن هذا إنما يكون حينما تُشق الشعرة والشعيرة، فتولّد هذه الإشكالات، وإلا فالأصل أن المعنى واضحًا لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] فبعضهم يقول: المثل هو الزائد، وبعضهم يقول: الكاف هي الزائدة، فلا يُحتاج إلى هذا، يعني: هم يستشكلون فيقولون: الله ليس له مثل، فكيف نفى المثل عن مثله؟ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] وهل نفي المثل عن مثله يكون مدحًا له؟ لاحظ هنا شق الشعرة والشعيرة فيُولد الإشكالات، وأنت تسمع هذه الآية دائمًا، وليس عندك فيها إشكال، لكن حينما يؤتى إليها بهذا التشقيق، ويقال: الله ليس له مثل، فكيف نفى المثل عن مثله؟ وإذا نفى المثل عن مثله هل يكون تنزيهًا له أو لا؟ بينما في كلام العرب:

ليس كمثل الفتى زُهير خلقٌ يوازيه في الفضائل[18]

فالعرب تقول مثل هذا، مثلك لا يفعل كذا، ويقصدون: أنت لا تفعل كذا.

"استوقد، أي: أوقد، وقيل: طلب الوقود، على الأصل في استفعل".

يقولون: إن الألف والسين والتاء تدل على الطلب، استوقد، فالحروف الثلاثة الأولى.

يقول: "استوقد أي أوقد، وقيل: طلب الوقود على الأصل في استفعل" يعني: كأن هذه النار مُستعارة، استوقد نارًا، فتدل على الطلب، فهي مُستعارة من غيره، فدعوى الإيمان لا حقيقة لها، وإنما كأنه ثوب مُستعار؛ ولذلك كانت خارجة عنهم، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ [البقرة:17] ما أضاءت نفوسهم، ما أضاءت بداخلهم، وإنما أضاءت ما حوله، ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17].

"فَلَمَّا أَضَاءَتْ [البقرة:17] إن تعدى فـمَا حَوْلَهُ مفعول به".

إن تعدى، يعني (أضاءت) هذا الفعل، فقوله: مَا حَوْلَهُ مفعول به، يعني (ما) مفعول به، وهي موصولة فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ [البقرة:17] يعني: أضاءت الذي حوله، وحوله ظرف مكان، وهو مخفوض به، وصلة لـ(ما)، فـ(ما) هي مفعول به، تقول: أضاءت الدار، فالدار مفعول به، أضاءت الغُرفة، الغُرفة مفعول به، أضاءت (ما)، فهنا أيضًا مفعول به، وحول هذه ظرف مكان.

يقول: فَلَمَّا أَضَاءَتْ [البقرة:17] إن تعدى -يعني فعل أضاء-؛ لأنه قد يكون لازمًا، أضاء المصباح، أضاء القلب، ونحو ذلك، بالمعنى اللازم، أضاء في نفسه، لكن إذا قلت: أضاء الغُرفة، وأضاء المكان، فيصير أضاء مُتعدي.

فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ [البقرة:17] إن تعدى -يعني فعل أضاء- فقوله: (ما) مفعول به، و(حوله) ظرف مكان، وإن لم يتعدّ -يعني كان لازمًا- فـ(ما) زائدة، أو ظرفية، يعني: يصير المعنى عنده على هذا القول: فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ [البقرة:17] أضاءت حوله، فتكون (ما) هذه زائدة، وهذا إذا كان الفعل لازمًا، والفاعل ضمير النار أيضًا، إذا كان لازمًا، فلما أضاء ما حوله، أضاءت هي، فالفاعل ضمير النار مُستتر، وتكون (ما) زائدة، و(حوله) يكون منصوب على الظرف، والعامل فيه أضاء.

مع أنه يجوز غير هذا، فيجوز أن تكون (ما) منصوبة على الظرف، وهي بذلك: إما بمعنى الذي، أو نكرة موصوفة، والتقدير: فلما أضاءت النار المكان الذي حوله، أو مكانًا حوله.

ومعنى: فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ [البقرة:17] أي: أبصر بها ما ينفعه ويضره، يعني: هؤلاء أبصروا الحق، أو أنهم انتفعوا بها انتفاعًا مؤقتًا، حقن دمه، وأحرز ماله، فمثل هؤلاء مثل ذاك الذي استوقد -السين والتاء للطلب- استعار نارًا من غيره، فانتفع بها انتفاعًا مؤقتًا، فأبصر الأشياء التي حوله، واستأنس بهذه النار، وانتفع بهذه الإضاءة مع ما فيها من الحرارة؛ لأن الضياء يكون بهما، يعني: إضاءة زائد حرارة، هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا [يونس:5] فالقمر ليس فيه حرارة، فسمى هذا النور الذي يصدر عنه نورًا، والشمس ضياء؛ لأن فيها حرارة؛ ولهذا قال النبي ﷺ: الصبر ضياء[19] لما فيه من الحرارة، وقال: الصلاة نور[20]، فالصلاة ليس فيها حرارة، وكان النبي ﷺ إذا وقعت الحرارة -يعني بالمُصيبة- يُطفأ حر المُصيبة، أو يُبرده بالصلاة أرحنا بها[21]، فالصلاة نور، والصبر ضياء، وما يصدر عن الشمس يقال له: ضياء، وما يصدر عن القمر يقال له: نور، فَلَمَّا أَضَاءَتْ [البقرة:17] فهنا استعمال الإضاءة، فالنار ما يصدر عنها فيه النور والإحراق، فذلك يقال: ضوء النار.

ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17] ذهب الله به، يعني أذهبه، فبقي الحرارة، ما قال: ذهب الله بنارهم، وإنما قال: بنورهم، فذهب الضوء، وبقي الحرارة والإحراق، فهذا الذي تمتعوا به تمتعًا مؤقتًا ذهب وانقشع وتلاشى، لكن بقي حر هذه النار وإحراقها، وهكذا كل من تمتع باللذات المحرمة، ونحو ذلك، أو انتفع بشيء من الأموال المحرمة، فهو يستمتع بها حينًا، ثم بعد ذلك يذهب هذا الاستمتاع، ويبقى الإحراق، فالمعصية بالنظر إلى الحرام، يستمتع به لحظات، ثم يبقى بعده نار تحرقه في جوفه، وفي قلبه، في تعاسة تعقب هذه المعصية، وظُلمة في الوجه، ووحشة في الصدر.

"فلما أضاءت، إن تعدى فـمَا حَوْلَهُ مفعول به، وإن لم يتعدّ فـ(ما) زائدة، أو ظرفية، ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة: 17] أي: أذهبه، وهذه الجملة جواب لمحذوف".

وهنا -أحسن الله إليكم- يوجد سقط تقريبًا سطرين من النُسخ الخطية، وهو:

[جواب لـ(ما) فالضمير في بِنُورِهِمْ عائد على (الذي)، وهو على هذا بمعنى الذين، وحذف النون منه لغة، وقيل: جواب لـ(ما) محذوف].

لا بأس بهذه الزيادة، ويصح الكلام بدونها، يعني: الكلام مُستقيم بهذا الحال الذي أمامكم، وهذه الجملة: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة: 17] جواب لمحذوف، تقديره: انطفأت النار، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ [البقرة:17].

أعد الكلام الساقط.

"جواب لـ(ما) فالضمير في بِنُورِهِمْ عائد على (الذي) وهو على هذا بمعنى (الذين) وحذف النون منه لغة، وقيل: جواب لـ(ما) محذوف".

فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ [البقرة:17] يعني: انطفأت النار، فيمكن أن تكون هذه الجملة ذَهَبَ اللَّهُ بِنورهِمْ [البقرة:17] هي الجواب، ويمكن أن يكون الجواب مقدرًا: فلما أضاءت ما حوله انطفأت النار، يعني: أنه مقُدر محذوف، وهذا بالنظر إلى الحال المُشبه بها، يعني: شبه حال هؤلاء المنافقين في دعوى الإيمان بحال من استوقد نارًا، فالذي استوقد نارًا مُشبه به، في هذا المثل، فتصور إنسان في برية واستوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله انطفأت النار، وبقي في ظُلمات، ظلمة الليل، وظُلمة الظُلمة الحاصلة بعد ذهاب النور، فهي أغلظ وأشد، يعني: لما تكون في نور وينطفأ غير لما تكون في مكان أصلًا ليس فيه نور، فإذا نظرت إلى المُشبه وهو حال المنافقين في ضلالهم واستعاضتهم عن الإيمان، كمثل الذي استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله انتفع بها انتفاعًا مؤقتًا، وحقن دمه... إلى آخره، وهنا ما تقول: انطفأت النار، ذهب الله بنورهم، وهو هذا الانتفاع المؤقت، فحصل لهم بعد ذلك الخيبة، وكانت نهايتهم الدرك الأسف من النار، فسُلبوا هذا، انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد:13]، فإذا نظرت إلى المُشبه الذي هو المُنافق، قلت: فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم، فيكون جواب (لما): ذهب الله بنورهم، وإذا نظرت إلى المُشبه به، وهو إنسان جالس في مكان في صحراء واستوقد نارًا فأنس بهذه النار، وأضاءت ما حوله، ورأى هذه الأشياء حوله، وذهب عنه المخاوف، واستدفأ بها، وصنع عليها طعام، ونحو ذلك، ثم انطفأت هذه النار، فبقي في ظُلمات، فهذا التقدير في الأمثال المضروبة تارة يُنظر فيه إلى المُشبه، فيختلف التقدير، وتارة يُنظر فيه إلى المُشبه به، فهنا المُشبه المُنافق، ذهب الله بنورهم، والمُشبه به إنسان موقد نار في مكان في صحراء، فأنس بها، فانطفأت هذه النار، فما تكون حاله؟ في حسرة، وظلام دامس.

فهذه الجُملة الساقطة نريد أن نكتبها في موضعها، أنا قلت: إن الكلام يصح بدونها، لكن الذي يظهر أن هذا ليس كذلك.

على كل حال رأيتم التقديرين، الآن إما أن يكون قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17] هو جواب (لما) فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ فماذا حصل؟ الجواب: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17] تقول: لما جاء زيد أكرمته، فالجواب: أكرمته، فهنا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فهذا هو الجواب، أو يكون الجواب مُقدرًا، فلما أضاءت ما حوله انطفأت النار، وكما قلت: بأن هذا إن نُظر فيه إل المُشبه وهو المنافق، فالمُناسب أن يكون الجواب: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وأن نُظر إلى المُشبه به، وهو ذاك الذي استوقد النار، فانطفأت عليه النار.

لكن القاعدة: أن الأصل عدم التقدير، وإذا دار الكلام بين الإضمار والاستقلال، فالأصل الاستقلال، ولا حاجة إلى القول بالتقدير، فيكون الجواب ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ أي: أذهبه، وجمع هنا (بنورهم) يقول: "عائد على الذي"، في الزيادة التي أضفناها، ولا حاجة أن يقال: بمعنى (الذين) حذف النون منه لغة؛ لأن (الذي) اسم موصول، وهو من صيغ العموم، وجاء به بلفظه مُفرد، ومعناه العموم؛ ولهذا جاء بالجمع في قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17] لأن (الذي) بمعنى (الذين) وهي من صيغ العموم، فراعى المعنى، فقال: بِنُورِهِمْ فجمع من أجل ذلك.

"تقديره: طُفأت النار".

على أساس أن الجواب مُقدر محذوف: طُفأت النار، لكن هذا خلاف الأصل، فيكون على هذا التقدير: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة:17] يعني: انتهى الكلام، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ [البقرة:17] طُفأت النار، ثم يأتي كلام مُستأنف جديد ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة:17] إما أنه على سبيل الإخبار، أو أنه مُضمن معنى الدعاء عليهم، لكن هذا بعيد، وهو خلاف ظاهر السياق.

ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17] جُملة مُستأنفة، والضمير عائد على المنافقين، فعلى هذا يكون (الذي) على بابه من الإفراد".

يعني في قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:17] يتحدث عن  واحدـ استوقد نار، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ [البقرة:17] طُفأت النار، فانتهى الكلام، ثم بعد ذلك يأتي كلام جديد مُستأنف، وهو: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ [البقرة:17] يتحدث فيه عن المنافقين، وليس الذي استوقد، لكن هذا بعيد.

يقول: "فعلى هذا يكون (الذي) على بابه من الإفراد" مثلهم كمثل (الذي) وليس بمعنى (الذين) لأنه قال بعده: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17] باعتبار أنه يرتبط بما قبله، فأعاد الضمير جمعًا بِنُورِهِمْ مع أنه ذُكر مفرد قبله في اللفظ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ هو نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ولم يقل: ما حولهم ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17] ولم يقل: بنوره، باعتبار أن (الذي) بمعنى (الذين)، لكن إذا قلت: إن الجواب لـ(لما) مُقدرًا، فيكون: طُفأت النار، ثم يبدأ كلام جديد ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17]، الإخبار عن المنافقين، أو الدعاء عليهم، لكن هذا بعيد، هذا معنى كلامه، قال: "والأرجح أنه أُعيد ضمير الجماعة؛ لأنه لما يُقصد بالذي واحد بعينه، إنما المقصود التشبيه بمن استوقد نارًا، سواء كان واحدًا أو جماعة، ثم أُعيد الضمير بالجمع ليُطابق المُشبه؛ لأنهم جماعة" هو يرُجح أن قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17] يتعلق بما يقبله، فيرد عليه السؤال: لماذا جمع الضمير بِنُورِهِمْ وقد ذكر مفردًا قبل ذلك في قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ فالذي في لفظه مفرد، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ كذلك مفرد، فلماذا قال: بِنُورِهِمْ ولم يقل: ذهب الله بنوره؟ فأعاد عليه ضمير المفرد، والواقع أنه أعاد عليه ضمير الجمع؟ فالجواب: يقول: "أُعيد ضمير الجماعة؛ لأنه لم يُقصد بالذي واحد بعينه، وإنما المقصود التشبيه بمن استوقد نارًا، سواء كان واحدًا أو جماعة" فهذا يصدق على الواحد والكثير، ويكفي بأن نقول: إن (الذي) من صيغ العموم، فهو جواب قريب وواضح "ليُطابق المُشبه لأنهم جماعة" والمُشبه من هم؟ المنافقين، فهم كالذي استوقد، يعني كل من يصدق عليه هذا، فلا يقصد واحدًا بعينه.

"والأرجح أنه إنما أُعيد [في نُسخة خطية: إنما أُعيد عليه] ضمير الجماعة؛ لأنه لم يُقصد بـ(الذي) واحد بعينه، إنما المقصود التشبيه بمن استوقد نارًا، سواء كان واحدًا، أو جماعة، ثم أُعيد الضمير بالجمع ليُطابق المُشبه؛ لأنهم جماعة".

عدلوا هذه العبارة فتكون بهذا اللفظ:

"والأول أرجح، والأرجح أنه إنما أُعيد ضمير الجماعة".

"فإن قيل: ما وجد تشبيه المنافقين بصاحب النار التي أضاءت ثم أظلمت؟".

هذه الأشياء التي يوردها هنا هي تُذكر عادة في الأمثال، وشرح الأمثال، يعني: الجوانب البلاغية في المثل، فهذه الأمثال قال الله فيها: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43] وشرح الأمثال يكون على طريقتين:

الطريقة الأول: هو باعتبار أنها مُركبة، والتركيب بمعنى العام الإجمالي، يعني: فلا تقف مع كل جملة، فهذا تفسير لها باعتبار التركيب، معنى المثل إجمالًا، فالله -تبارك وتعالى- يذكر حال هؤلاء المنافقين بمن استوقد نارًا، فانتفع بها انتفاعًا مؤقتًا، ثم بعد ذلك انطفأت هذه النار، وبقي في الظلام، فهذا المعنى العام.

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:17] استوقد نارًا، فهذه توازي دعوى الإيمان -يعني كل جُملة نجعلها في شيء آخر يعني في حال الموصوف أو الممُثل المضروب له المثل- استوقد نارًا، فهذه دعوى الإيمان بالنسبة للمنافقين، كهذا الذي استوقد نارًا، فأضاءت، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ [البقرة:17] بالنسبة للمنافق أنه أبصر الحق مثلًا، على قول بعضهم، أو أضاءت ما حوله: أنه حصل له شيء من الانتفاع، وحقنت دمه، وأحرزت ماله، وكذلك نال بها من الغنيمة والفيء، وحصل له أمان في ظل المسلمين، لكن هذا الانتفاع الذي حصل له ينتهي وينتفي في الآخرة، فهو بمنزلة هذا الذي انطفأت ناره، فبقيت في الظُلمات.

والظُلمات بالنسبة لهذا المضروب له المثل الذي هو المنافق، هي ظلمة الكفر، وظلمة النفاق، وظلمة الطبع، وظلمة المعصية، وظلمة القلب، فبقي في ظلمات، بالإضافة إلى ما يعرض له من الشبهات المُحيرة، فهو في ظلمات.

وذاك الذي استوقد نارًا: بقي في ظلمات، ظلمة الليل، والظُلمة الحاصلة بعد انطفأ النور، فهي حالكة شديدة تكون في مكان فيه نور، فإذا أُطفأ النور فلا ترى شيئًا، وتحتاج إلى وقت، حتى تُبصر الأشياء حولك؛ ولذلك قال النبي ﷺ: لا ترسلوا فواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس، حتى تذهب فحمة العشاء، فإن الشياطين تنبعث إذا غابت الشمس، حتى تذهب فحمة العشاء[22]، والمقصود بفحمة العشاء: شدة الظلام هذا الذي يعقب النهار في أول الليل، فحينما تنقضي هذه المُدة أو هذا الوقت يبدأ الليل، يعني يُميز فيه الإنسان، أو الناظر فيه، أو السائر فيه ما حوله، لكن الظلمة التي تكون بعد الضوء تكون أشد.

الأمثال تُفسر بهاتين الطريقتين، الطريقة الإجمالية، وهذه أسهل من جهة الفهم، وأسهل أيضًا لأنه لا يوجد فيها إشكالات في الأصل.

لكن النوع الثاني: وهو تفسير الأمثال بأن تفرق كل جملة، وتُبين محملها، فيمن ضُرب له المثل، ففي هذه الحال تقع إشكالات، هل هذا يُراد به كذا، أو لا يُراد به كذا؟ وما المقصود به؟ فمثلًا في قوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ [النور:35] فلو تريد أن تجعل كل جملة من هذه الجُمل مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور:35] المشكاة ما هي؟ هل هي الصدر؟ وهل هو القلب؟ والمشكاة فيها مصباح، ما هذا المصباح؟ وهل هو نور الإيمان في القلب؟ والمصباح في زجاجة، والزجاجة ما هي؟ إذا كانت المشكاة هي الصدر طيب والزجاجة؟ أو يُقال: المشكاة هي الحديدة التي فيها الفتيلة، المصباح نور الإيمان، طيب والمشكاة هي القلب؟! المصباح في زجاجة، الزجاجة هي الصدر؟  فلا بد أن تجعل كل جزء في المثل يُقابل شيئًا، فتشبيه نور الإيمان في قلب المؤمن بمشكاة كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور:35] السراج، فهل المشكاة هي الكوة التي في الجدار وتكون مثل النافذة، لكنها لا تنفذ إلى الخارج، فيصل الضوء من خمس جهات، ويجتمع وينحبس ويكون أقوى؟ فهل هذه هي المشكاة؟ أو المشكاة هي الحديدة التي فيها الفتيلة؟ فإذا قلنا: المشكاة هي هذه التي في النافذة فيها مصباح يعني سراج، وإذا قلنا: هذه المشكاة هي الحديدة، وفيها مصباح هي الفتيلة، أي أنها تتوهج، والمصباح في زجاجة، وهذا يقوي قول ابن جرير[23] بأن المشكاة هي الحديدة، وليست الكوة؛ لأنه قال: الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ [النور:35] التي في السراج، فحينما نُريد أن ننزل هذا على الإيمان ونوره في القلب، فما هو المصباح؟ وما هي المشكاة؟ يعني ترمز إلى ماذا؟ الصدر أو القلب؟ فتقع هنا إشكالات وخلاف بين أهل العلم كثير في هذا، فهذا تفريق المثل، يعني: تفسيره مفرقًا، وبعض الأمثال كما يقول بعض العلماء: إنها أصلًا لا تتأتى إلا بالتركيب، يعني المعنى العام، ما يتأتى فيها بالتفريق، وليس ذلك محل اتفاق أيضًا؛ لأنه يوجد من يُخالفهم، فحينما يذكر ابن جُزي مثل هذه الأشياء، فهذه لا بد لطالب العلم أن يُدركها؛ لأنه سيجد في تفسير الأمثال في كتب التفسير مثل هذه الأشياء، ولا بد أن يعرف المراد منها.

"فالجواب من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن منفعتهم في الدنيا بدعوى الإيمان شبيه بالنور، وعذابهم في الآخرة شبيه بالظلمة بعده.

والثاني: أن استخفاء كفرهم كالنور، وفضيحتهم بعده كالظلمة.

والثالث: أن ذلك فيمن آمن منهم، ثم كفر، فإيمانه نور، وكفره بعده ظلمة، ويُرجح هذا قوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [المنافقون:3]".

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [المنافقون:3] فهذا في فئة من المنافقين، وليس في كل المنافقين، ولم يُذكر هذا في هذه الآية، فيبقى أن وجه التشبيه كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:17] أنهم انتفعوا انتفاعًا مؤقتًا بدعوى الإيمان، ثم بعد ذلك صاروا في الآخرة إلى ما قد علمتم، فهذا وجه تشبيه هؤلاء بالذي استوقد نارًا.

وأما على القول بأنهم آمنوا، ثم كفروا، كما يقوله بعض أهل العلم، كما ذكرنا سابقًا، فباعتبار أن الإيمان كان بمنزلة هذه النار التي أضاءت، أو باعتبار أن هؤلاء أبصروا من الحقائق شيئًا، ثم بعد ذلك ارتكسوا وانتكسوا، فكانوا كالذي استوقد نارًا ثم انطفأت عليه، وبقيت بعده حرارة الكفر والشكوك في قلوبهم.

"فإن قيل: لم قال: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17] ولم يقل: ذهب الله بضوئهم مشاكلة لقوله: فَلَمَّا أَضَاءَتْ [البقرة:17]؟

فالجواب: أن إذهاب النور أبلغ؛ لأنه إذهاب للقليل والكثير، بخلاف الضوء، فإنما يُطلق في الكثير".

هذا وجه في الجواب، والجواب الآخر ولعله أحسن منه، وهو: أنه ذهب النور، وبقي الحرارة والإحراق، كما قلنا: إن الضوء غير النور، الضوء معه حرارة، فذهب الضوء، وبقي الحرارة والإحراق.

وهنا لم يذكر قوله: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة:17] وهذه الظلمات هي -كما قلنا-: ظلمة الكفر، والشك والشرك والحيرة والشُبه، وظلمة القلب، وظلمة الطبع، وظلمة النفس، وظلمة المعاصي، بقوا فيها متحيرين.

  1. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/182).
  2. بدائع الفوائد (2/21).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب قدر ما يستر المصلي برقم: (510).
  4. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب آخر أهل النار خروجًا برقم: (187).
  5. البيت بدون نسبة في مفتاح العلوم (ص:424).
  6. البيت بدون نسبة في العين (3/179) ونسبه في أساس البلاغة (1/174) وتهذيب اللغة (4/236) لعمر بن أبي ربيعة.
  7. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (1/320).
  8. الأبيات في الأضداد لابن الأنباري (ص:72) بدون نسبة، ونسبها في التقفية في اللغة (ص:425)، لأبي النجم.
  9. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (1/326).
  10. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (1/325).
  11. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/185).
  12. أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة برقم: (2277).
  13. أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب الخطبة على المنبر برقم: (918).
  14. أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر برقم: (3012).
  15. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (3/444).
  16. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (3/444).
  17. تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/72).
  18. البيت في البحر المحيط في التفسير (9/326)، والدر المصون في علوم الكتاب المكنون (9/545)، واللباب في علوم الكتاب (17/174) لأوس بن حجر.
  19. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء برقم: (223).
  20. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء برقم: (223).
  21. أخرجه أبي داود في كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة برقم: (4985)، وصححه الألباني.
  22. أخرجه مسلم في كتاب الأشربة، باب الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء، وإغلاق الأبواب، وذكر اسم الله عليها، وإطفاء السراج والنار عند النوم، وكف الصبيان والمواشي بعد المغرب برقم: (2013).
  23. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (17/301).

مواد ذات صلة