الأربعاء 23 / جمادى الآخرة / 1446 - 25 / ديسمبر 2024
(002-ب) من قوله تعالى "صمٌ بكمٌ عميٌ " إلى قوله "ذهب الله بنورهم"
تاريخ النشر: ٢٦ / ذو الحجة / ١٤٣٦
التحميل: 2178
مرات الإستماع: 2062

"قوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة:18]، يحتمل أن يُراد به المنافقون، والمستوقد المُشبه بهم، وهذه الأوصاف مجاز، عبارة عن عدم انتفاعهم بسمعهم، وأبصارهم وكلامهم، وليس المُراد فقد الحواس".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى-: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:18] الصمم معروف، وهو ذهاب حاسة السمع، والمقصود: أنهم لا يسمعون السماع الذي ينفعهم.

والبُكم يقول بعضهم: إن الأبكم هو الذي يولد أخرصًا، فهذا هو الأبكم بهذا القيد، والأبكم هو الذي لا ينطق، لكن هل يقال: كل من لا ينطق أبكم ولو كان ذلك عارضًا؟ كمن كان ينطق فأصابته علة؟ بعضهم يُقيده فيقول: الذي يولد وهو أخرص هذا هو الأبكم.

والعُمي المقصود به: ذهاب حاسة البصر، والمقصود به أنهم لا يرون ولايُبصرون الإبصار الذي ينفعهم، فيحتمل أن يُراد به المنافقون، فهم بهذه المثابة، لا ينتفعون بسمع ولا ببصر، ولا يتكلمون بكلام ينتفعون به في آخرتهم، لا يتكلمون بالحق، معتقدين له، إنما هي مؤامرات وإرجاف ونجوى محرمة، واستهزاء وسُخرية بأهل الإيمان.

يقول: "والمُستوقد المُشبه بهم" يعني قوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة:18] يُقصد به المُستوقد، وهذا بعيد؛ لأن هذه من صفة المنافقين وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ۝ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:17-18] هم صُم وبُكم وعُمي، فهذا من صفات المنافقين، والذي يظهر -والله أعلم- أن هذا ليس من بقية المثل، وإنما هذا من صفتهم.

قال: "وهذه الأوصاف مجاز، عبارة عن عدم انتفاعهم بسمعهم وأبصارهم" سُمي بالمجاز أو لم يُسمى به، فالمقصود أن هؤلاء لما كانت لهم هذه الحواس، لكن لم ينتفعوا بها، فصارت بمنزلة العدم، فهم كما قال الله : لَهُمْ قُلُوبٌ [الأعراف:179] لكن هذه القلوب لا ينتفعون بها، ولَا يَفْقَهُونَ بِهَا، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا يعني: سماع انتفاع، يعني: لا يسمعون هدى، ولا ينطقون به، ولا يُبصرونه بقلوبهم، هذا هو المعنى.

"فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:18] إن أُريد به المنافقون، فمعناه: لا يرجعون إلى الهدى، وإن أُريد به أصحاب النار، فمعناه: أنهم متحيرون في الظُلمة لا يرجعون [وفي نُسخة خطية: لا يبرحون ولا يهتدون إلى الطريق]".

الذي يظهر أن هذا يرجع للمنافقين، فهم لا يرجعون إلى الحق، الذي استعاضوا عنه بالضلالة.

"أَوْ كَصَيِّبٍ [البقرة:19] عطف على الذي استوقد، والتقدير: أو كصاحب صيب أو للتنويع؛ لأن هذا مثل آخر ضربه الله للمنافقين".

أَوْ كَصَيِّبٍ [البقرة:19] عطف على الذي استوقد، يعني: بمعنى أن (أو) بمعنى الواو، وكصيب يعني مثل هؤلاء المنافقين كمثل الذي استوقد نارًا، إلى آخر المثل، وكصيب مطر من السماء، فيه ظلمات ورعد وبرق، أو كصاحب صيب، (أو) للتنويع؛ لأن هذا مثل آخر ضربه للمنافقين، إذا: قلنا: بأن (أو) بمعنى الواو، فالمثل لفئة واحدة، وهم المنافقون، فضُرب لهم المثل بالذي استوقد نارًا، وضُرب لهم المثل بالصيب، أو كصاحب الصيب، فهما مثلان مضروبان للمنافقين، فتكون (أو) هذه بمعنى الواو أو للتنويع، باعتبار تنويع الأمثال، أو تنويع الممُثل لهم، يعني: أن المنافقين على نوعين أو على فئتين، ففئة ضُرب لها المثل بالمستوقد، وفئة ضُرب لها المثل بصاحب الصيب، أو بالصيب، وأصل (أو) للشك، وتأتي للتخيير: تقول: اقرأ هذا الكتاب أو هذا الكتاب، فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196] فـ(أو) للتخيير، ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74] فهذه تحتمل أن تكون (أو) للتخيير أو للشك، أو بمعنى (بل) للإضراب، ومعنى للشك ليس أن الله يشك، فالله يعلم، وقد أحاط بكل شيء علمًا ، ولكن الناظر إلى ذلك يقول: هي كالحجارة، أو أشد من الحجارة في القسوة، مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات:147] يعني: الناظر إليهم يقول: مائة ألف أو يزيدون، يعني: رُوعي فيه حال المُخاطب لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] يتذكر يعني على رجاءكما، أي رجاء موسى وهارون -عليهما السلام- فـ(أو) هذه تأتي للتخيير، وتأتي للتساوي، تقول: صاحب زيدًا أو عمرو، يعني هما يستويان، الحسن أو ابن سيرين، فهي للتسوية من غير شك، كما أنها تأتي بمعنى الواو كما سبق، أو كصيب، بمعنى: وكصيب، إذا فُسرت بمعنى الواو، كقول الشاعر:

لنفسي تُقاها أو عليها فجورها[1]  

يعني: وعليها فجورها، هذا هو المعنى.

وكقول الآخر:

نال الخلافة أو كانت له قدرًا[2]  

أو كانت، يعني: وكانت له قدرًا؛ لأنه إذا نالها لا بد أن تكون مُقدرة له، كما أنها تأتي أيضًا بمعنى الإبهام، أي: أن الله أبهم على عباده تشبيههم بهؤلاء أو هؤلاء، أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ [البقرة:19] وبعض أهل العلم يقولون: بأن هذا المثل بأن (أو) للتنويع، وأن ذلك لفئتين من المنافقين، فئة ضُرب لها المثل بالمستوقد، وفئة ضُرب لها المثل بصاحب الصيب، وهذا الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[3]، والحافظ ابن كثير[4]، وهو أن (أو) للتنويع، وأن المثلين لفئتين، هذا الذي يسمونه المثل المائي، والمثل الناري، فالمثل الناري استوقد نارًا، والمثل المائي أو كصيب من السماء، وكذلك في قوله -تبارك وتعالى-: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا هذا مثل مائي فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ [الرعد:17] فهما مثلان أيضًا، مثل مائي ومثل ناري، وبعضهم يقول: بأن كل مثل لفئة، فبعضهم يُشبه المثل الأول كالذي استوقد نارًا، وبعضهم يُشبه المثل الثاني (الصيب)، والذي ذهب إليه كبير المفسرين أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله- وطائفة كبيرة من المفسرين أنها بمعنى الواو وأن المثلين لفئة واحدة[5]، وكأن هذا هو الأقرب والله أعلم، أن المثلين للمنافقين، من غير تفريق بين طوائف المنافقين، بمعنى الواو، أو للتخيير، يعني: إن شئت أن تُمثل لهم بصاحب الصيب، وأن شئت أن تُمثل لهم بالمستوقد النار، أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ [البقرة:19] والمراد بالصيب هنا يعني القرآن، يعني: نحن عند ما نريد أن نُفسر المثل باعتبار أنه مُفرق نقول: الصيب هو المطر، وهو يُقابل القرآن والوحي المُنزل، (كصيب) عطف على الذي استوقد، والتقدير: أو كصاحب صيب.

"والصيب المطر، وأصله صويب، ووزنه فعيل، وهو مشتق من قولك: صاب يصوب".

الصيب: أصله صيوب، فعيل، من قولك: صاب يصوب، وابن كثير -رحمه الله- يرى أن هذا المثل كصيب أنه في قوم من المنافقين يظهر لهم الحق تارة، ويخفى عليهم تارة[6]، فهم في حال من التذبذب، يشكون تارة، ويفيقون تارة، وليسوا على وتيرة واحدة، فقلوبهم في حال الشك والتردد، كصيب من السماء، فيه ظلمات ورعد وبرق.

وقوله هنا: الصيب المطر، فالمطر يقال له: صيب، وقد مضى الكلام على هذا في مفردات الغريب، سُمي بذلك لنزوله؛ لأن ذلك مأخوذ من الصوب، وهو النزول، فلنزوله من أعلى ونزوله من السماء قيل له: صيب، ووزنه فعيل، على قول الكوفيين، الأصل صويب، هذا الأصل، ولكن هذا ليس محل اتفاق، وبعضهم يقول: وزنه فعيل، فحصل فيه قلب وإدغام، لكن عند البصريين هو على وزن (فيعل) والأصل صيويب، فأُدغم، فقيل: صيوب، فحصل فيه إدغام، فصار صيب.

"مِنَ السَّمَاءِ إشارة إلى قوته، وشدة انصبابه، قال ابن مسعود : "إن رجلين من المنافقين هربا إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر، وأيقنا بالهلاك، فعزما على الإيمان، ورجعا إلى النبي ﷺ، وحسُن إسلامهما، فضرب الله ما أنزل فيهما مثلًا للمنافقين"[7]، وقيل: المعنى تشبيه المنافقين في حيرتهم في الدين، وفي خوفهم على أنفسهم بمن أصابه مطر فيه ظلمات ورعد وبرق، فضل عن الطريق، وخاف الهلاك على نفسه، وهذا التشبيه على الجملة".

التشبيه على الجملة يعني باعتبار التركيب، والمعنى الإجمالي للمثل، وقيل: إن التشبيه على التفصيل، يعني باعتبار التفريق، وتفسير أجزاء المثل، فهذا معنى كلامه.

وهذا الأثر الذي ذكره عن ابن مسعود ، جاء أيضًا عن ابن عباس -ا-، ولا يصح، وبعضهم يقول: إن هذا المثل مضروب في منافقين وقع لهم ذلك حقيقة، مشوا في المطر، فكانوا بهذه الحال، والواقع أن هذا مثل، والله تعالى أعلم، وليس بتوصيف لحال وقعت حقيقة.

"وقيل: إن التشبيه على التفصيل، فالمطر مَثَلٌ للقرآن، أو الإسلام، والظلمات مثل لما فيه من الإشكال على المنافقين، والرعد مثل لما فيه من الوعيد والزجر لهم، والبرق مثل لما فيه من البراهين الواضحة".

فيه ظلمات بالنسبة للظلمة التي تكون في المطر هي: ظلمة السحاب، وقد يكون مع ذلك الليل، وظُلمة المطر، مطر وسحاب وليل فيه ظلمات، وكذلك ما يعقُب البرق، فإن الظلمة تكون أقوى بعده، والمقصود ما يُقابل ذلك، إذا أردنا التفسير على التفصيل، وبيان أجزاء المثل، ما يُقابل ذلك ما هم عليه من الشك والكفر والنفاق والمعاصي والشُبهات التي تعصف بقلوبهم، فهذه ظلمات، وبالنسبة للرعد يمكن أن يُفسر بما يقابل الرعد هنا في صاحب الصيب، بوعيد القرآن وزواجره، والأوامر والنواهي التي تشق عليهم، فهذه بمنزلة الرعد شيء ينزعجون منه، وبالنسبة للبرق يمكن أن يُفسر بحُجج القرآن الباهرة التي تكاد تخطف أبصار هؤلاء المنافقين، يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ [البقرة:20] فهذه حُججه وبراهينه.

"فإن قيل: لم قال: رَعْدٌ وَبَرْقٌ [البقرة:19] بالإفراد، ولم يجمعه، كما جمع ظُلمات؟

فالجواب: أن البرق والرعد مصدران، والمصدر لا يُجمع، ويحتمل أن يكون اسمين، وتُرك جمعهما لأنهما في الأصل مصدران".

إذا قيل: رعد وبرق أنها مصادر، والمصدر يأتي بمعنى المفرد والجمع، يعني: رعود وبروق، فرعد مصدر، وبرق مصدر، وبهذا الاعتبار يصدق على الواحد والجمع، وإذا قيل: بأنهما اسمان اسم للهيئة المعروفة، البرق، والصوت المعروف وهو الرعد، فباعتبار الأصل: أن الرعد والبرق مصدر.

"يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ [البقرة:19] أي: من أجل الصواعق".

يعني المقصود هنا كما سبق الآيات المُتضمنة للوعيد، وزواجر القرآن، وكذلك التكاليف الشرعية التي تشق عليهم.

"أي من أجل الصواعق، قال ابن مسعود : "كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن في مجلس النبي ﷺ"[8]، فهو على هذا حقيقة في المنافقين، والصواعق على هذا ما يكرهون من القرآن، والموت هو ما يتخوفونه، فهما مجازان، وقيل: إنه راجع لأصحاب المطر المُشبه بهم، فهو حقيقة فيهم، والصواعق على هذا حقيقة، وهي التي تكون من المطر من شدة الرعد، ونزول قطعة نار، والموت أيضًا حقيقة، وقيل: إنه راجع للمنافقين على وجه التشبيه لهم، في خوفهم بمن جعل أصابعه في آذانه من شدة الخوف، من المطر والرعد".

يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ [البقرة:19] أي: من أجل الصواعق، فابن مسعود  يقول: لئلا يسمعوا القرآن؛ لما يجدون في هذا السماع من الزواجر والأمور التي توقع الخوف في نفوسهم، فالصواعق على هذا ما يكرهون من القرآن، والموت هو ما يتخوفونه، فهما مجازان حَذَرَ الْمَوْتِ [البقرة:19] فهذا الذي يمشي في المطر، ويضع أُصبعية، كل ذلك خوفًا على نفسه، مع أن وضع الأُصبعين في الأُذن لا يُجدي عنه، ولا يدفع عنه الموت، ولكن لضعف الإنسان يظن أنه حينما يضع أُصبعه في أُذنه أن ذلك يقيه ما يخافه، وهذا موجود، وحاصل للإنسان، تجد الإنسان يكون في سيارة تنطلق مسرعة، وهو راكب، فلربما يتمسك بشيء فيها، ويظن أنه يُمسكها، بل لربما بلغ به الحال أو ضعف التصور إلى أنه يُهدد بإطلاقها فيما لو لم يُستجب له، فيما يُريد من تهدئة السرعة، يقول: إن لم تُهدئ وتتوقف سأتركها، فكأنه إذا أبعد يده عن مقدمها، وهو راكب يظن أن السيارة ستتحطم وستنفلت، يعني: يظن أنه بفعله هذا حينما يقول عليها هكذا، ويشد بيده، أنه هو الذي يُمسكها من الانفلات، فهذا يحصل للإنسان؛ ولذلك تجده أحيانًا وهو راكب إذا حصل أمر يتخوفه، أو نحو ذلك ضغط برجله بقوة، مع أن ضغطتها هذه لا تُغير من الأمر لا في قليل ولا في كثير، وهكذا في أمثلة وصور كثيرة، وهذا من أوضحها، يجعل أُصبعه في أُذنه، والمقصود هنا رؤوس الأصابع، فهؤلاء يقولون: مجاز، باعتبار أنه عبر بالكل عن البعض، يقولون: هو يضع رأس الأُصبع الأنامل في الأُذنين، لكن بعضهم يقول: وجه هذا التعبير أنه لشدة الضغط على الأُذن بالأنامل يكاد أن يُدخل أصابعه في أُذنيه، فيُبين شدة الحال والخوف الذي هو فيه.

يقول: "فهما مجازان" أن زواجر القرآن يقول: هذا مجاز، وكذلك الموت يعني ما يتخوفه، لكن سبق الكلام في المجاز، وقيل: "إنه راجع لأصحاب المطر المُشبه بهم، فهو حقيقة فيهم" يعني: هو يفعل هذا ليدفع عنه نفسه في زعمه أو ظنه أو وهمه الموت، والصواعق على هذا حقيقة وهي التي تكون مع المطر من شدة الرعد ونزول قطعة نار، وقد مضى الكلام على هذا في الغريب، فالصاعقة يقول: قطعة نار، وبعضهم يقول: نار تنزل من السماء عن شدة الرعد، وكأن هذا في الواقع تفسير لها بأثرها؛ لأن أثر الصاعقة يكون الإحراق، لكن هل هي نار مُشاهدة تنزل يشاهدها الناس، وبعضهم يقول: هو الصوت الشديد من الجو، وأهل الهيئة من المعاصرين يقولون: اصطدام السُحب يتولد عنه شيئان: صوت وهو الرعد، وأيضًا البرق، وهذا غير صحيح؛ لأن النبي ﷺ أخبر أن الرعد ملك من الملائكة، وأن الرعد صوته، كما في سؤال اليهود للنبي ﷺ قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: ملك من ملائكة الله  موكل بالسحاب بيده -أو في يده- مخراق من نار، يزجر به السحاب، يسوقه حيث أمر الله قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: صوته[9]، فهذا كلام من لا ينطق عن الهوى، فبعضهم يقول: إن الرعد هو هذا الصوت الشديد، أو كل عذاب مُهلك، فيقال للموت والعذاب والنار، لكن هو يدل على شدة صوت، وهذا الرعد نعرفه جميعًا، لكن بالنسبة للصاعقة فبعضهم يقول: هو هذا الذي يكون مع الرعد، أو العذاب المُهلك الشديد، والموت والنار، ولو قيل: كما يقول المعاصرون: شُحنة كهُربائية هائلة، فينتج عنها الإحراق، فمن نزلت عليه حصل الإحراق؛ ولذلك كما هو مُشاهد توضع فوق المباني العالية ما يمتص هذه الشُحنات، ويُفضي بها إلى باطن الأرض، فهي عبارة عن شُحنة كهربائية، إذا نزلت بشيء ظهر من آثارها الإحراق، فهي تقتل وتتُلف وتُدمر وتُحرق، والله أعلم، فهم يفعلون بهذا المثل كي يتقوا زواجر القرآن حَذَرَ الْمَوْتِ [البقرة:19] أي حذرًا من حلول الوعيد الذي توعدهم الله به في القرآن، هذا باعتبار أن هذا للمنافقين، فإشفاقًا من حلول عقوبة الله  بهم على نافقهم يجعلون أصابعهم، إذا أردنا أن نُجزئ كل مثل، ونقول: هذه الجُزئية في مُقابل كذا يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ [البقرة:19] ما هي الصواعق؟ حَذَرَ الْمَوْتِ ما هو الموت الذي يحذرونه هنا؟ هو عقوبة الله بهم مثلًا، أو الوعيد الذي توعدهم الله به في القرآن.

"فإن قيل: لم قال: أصابعهم، ولم يقل: أناملهم، والأنامل هي التي تُجعل في الآذان؟ فالجواب: أن ذكر الأصابع أبلغ؛ لأنها أعظم من الأنامل؛ ولذلك جمعها مع أن الذي يُجعل في الآذان السبابة خاصة".

نعم يعني وجه ذلك كما قلت، يجعلون أصابعهم أصابع جمع، كأنه يُدخل أصابعه في أُذنيه من شدة إلصاقها بالأذن، لكن لماذا قال: أصابعهم والذي يُجعل واحدة وهي السبابة؟ يُمكن أن يُقال: هما سبابتان أو مُسبحتان، وأن أقل الجمع اثنان على قول بعض أهل العلم، وقد مضى الكلام على هذا في بعض المناسبات، ويشهد له قوله: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11] ويحصل حجب الأم من الثُلث إلى السُدس حجب نُقصان باثنين فأكثر من الإخوة، فقال: إخوة، وكذلك: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] وهي شوال وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، عند كثير من أهل العلم، فهما شهران، فيقال: أشهر باعتبار جبر الكسر، في شهر ذي الحجة، أو باعتبار أن أقل الجمع اثنان، كما قال صاحب المراقي:

أقل معنى الجمع في المُشتهرِ اثنان عند الإمام الحميري[10]

يعني: الإمام مالك -رحمه الله- فهذا قول لبعض أهل اللغة، وبعض الفقهاء، والله أعلم، فيكون يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ هما أُصبعان مُسبحتان، فعبر بالجمع.

"وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ [البقرة:19] أي: لا يفوتونه، بل هم تحت قهره، وهو قادر على عقابهم".

يعني مُحيط بهم قُدرة وعلمًا، ، وتقدست أسماءه، لا يفوتونه.

"يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ [البقرة:20] إن رجع إلى أصحاب المطر، وهم الذين شبه بهم المنافقين، فهو بيّن في المعنى، وإن رجع إلى المنافقين فهو تشبيه بمن أصابه البرق على وجهين:

أحدهما: تكاد براهين القرآن تلوح لهم، كما يُضيء البرق، وهذا مُناسب لتمثيل البراهين بالبرق، حسب ما تقدم.

والآخر: يكاد زجر القرآن ووعيده يأخذهم، كما يكاد البرق يخطف أصحاب أبصار المطر المُشبه بهم".

والأول أوضح، يعني: زواجر القرآن هذه الصواعق، والبراهين هي البرق، كما قلت لكم في تفسير الأمثال بالتفريق يقع الخلاف، ما المراد بهذا؟ وتقابل ماذا؟ وهذا تُقابل ماذا؟ فهنا بعضهم يقول: إن هذا البرق زواجر القرآن، وبعضهم يقول: حُجج القرآن.

يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ [البقرة:20] الخطف: أخذ الشيء بسرعة، واختلاسه بسرعة يقال له: خطف.

"كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [البقرة:20]، إن رجع إلى أصحاب المطر، فالمعنى أنهم يشمون بضوء البرق، [وفي نُسخة في ضوء البرق] إذ لاح لهم، وإن رجع إلى المنافقين، فالمعنى: أنه يلوح لهم، [وفي نُسخة فالمعنى أنهم يلوح لهم] من الحق ما يقربون به من الإيمان".

بالنسبة لصاحب البرق هذا الذي يمشي في المطر وشبه المنافقين بصاحب الصيب الذي يمشي بهذه الحال، كلما أضاء لهم مشوا فيه، هذا الذي يمشي في الظلام، فإذا أضاء له البرق مشى خطوات، ثم توقف مُتحيرًا، بالنسبة لهؤلاء الذين ضُرب لهم المثل، يعني إذا ظهر لهم نور الحق في قلوبهم مشوا على ضوئه، وخطوا خطوات، لكنها خطوات يسيرة، لا يستقر في قلوبهم ذلك، هذه القلوب المُظلمة بالكفر والنفاق والشكوك والشبهات، فلا يلبث أن ينطفأ فيقفوا حائرين، فيكون البرق كلما أضاء لهم مشوا فيه، كل ما حصل لهم شيء من الإفاقة عرفوا الحق وحصل شيء من الاطمئنان، وبعض أهل العلم يقولون: كلما أضاء لهم، كل ما حصل لهم شيء من الخير، يعني: فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ [الحج:11] فهؤلاء إذا حصل لهم غنيمة حصل لهم أشياء محبوبة، قالوا: هذا دين خير، وهذا دين ميمون مُبارك، وإذا حصل لهم قحط أو نكبة، أو ما إلى ذلك من المكاره، دهمهم العدو، أو نحو ذلك، أو وقع عليه قتل وجراح، قالوا: هذا دين مشؤوم، وأين النصر الذي وعدنا به؟ وأين خيرات الدنيا والآخرة؟ وأين كنوز كسرى وقيصر؟ كما قال المنافقون في يوم الأحزاب مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12] فهم بهذه الحال يُكذبون بالوعد لما ضرب النبي ﷺ الصخرة في الحديث المعروف، وبشرهم بالبشارات الثلاث، وهي قصور كسرى، وقيصر، وصنعاء اليمن، فكانوا يقولون: الواحد لا يستطيع أن يذهب لقضاء حاجته من الخوف[11]، وهذا يعدكم بفتح هذه الممالك العِظام!

فهذا إن حصل لهم خير اطمئنوا، وإن حصل لهم مكروه انحسر هذا الخير في قلوبهم والتصديق، أو نحو ذلك، وعادوا إلى شر حال.

فبعضهم يقول: أضاء لهم مشوا فيه، إن حصل لهم ما يُحبون أقبلوا، وإذا وقع ما يكرهون تراجعوا، وبعضهم يقول: يحصل لهم شيء من الإيمان، وبعضهم يقول: إذا تكلموا بالإيمان، فهذا كلما أضاء لهم مشوا فيه، فإذا رجعوا إلى حالهم من الكفر أو الشك، إذا أظلم عليهم قاموا، فهذا تجدها عبارات لابن عباس -ا- وغيره، وهذا محملها، وهي عبارات متقاربة، نطقوا بالإيمان، أو أضاء الإيمان في قلوبهم، أو عرفوا من الحق، أو وقع لهم ما يطمئنون به من المحاب، فكل هذا فُسر به كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [البقرة:20] وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ [البقرة:20] انقشع ذلك، وارتفع، سواء كانت هذه المحاب، أو المعرفة التي حصلت، أو النطق بالحق والإيمان، ثم بعد ذلك يعقبه الشك والكفر.

"وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا [البقرة:20] إن رجع إلى أصحاب المطر فالمعنى أنهم إذا زال عنهم الضوء وقفوا متحيرين لا يعرفون الطريق، وإن رجع إلى المنافقين فالمعنى أنه إذا ذهب عنهم ما لاح لهم من الإيمان ثبتوا على كفرهم، وإن قيل: إن المعنى كلما صلحت أحوالهم في الدنيا، قالوا: هذا دين مُبارك، فهذا مثل الضوء، وإذا أصابتهم شدة، أو مُصيبة عابوا الدين وسخطوا، [وفي نُسخة وسخطوه] فهذا مثل الظُلمة".

سخطوه هذه أدق، وإن كانت الأولى أيضًا لا إشكال فيها.

"فإن قيل: لم قال مع الإضاءة (كلما) ومع الظلام (إذا)؟

فالجواب: أنهم لما كانوا حِراصًا على المشي ذكر معهم (كلما) لأنها تقتضي التكرار والكثرة".

هذا ملحظ بلاغي، يعني كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا [البقرة:20] فهم لحرصهم على المشي جاء بما يدل على التكرار وهي (كلما).

ومن الأخطاء الشائعة تكرار كلمة (كُلما) فكثيرًا ما نقول مثلًا: كلما كنت مُجدًا كلما كنت مُدركًا لأسباب الفلاح، أو مُحصلًا لأسباب الفلاح، أو: كلما كنت يقظًا كلما كنت أقرب إلى النجاة، وهذا غير صحيح، والصواب: أن تقول: كلما كنت يقظًا كنت أقرب إلى النجاة، وتقول: كلما كنت مُجدًا كنت أقرب إلى الفلاح، يعني: لا تُعد كلمة (كُلما) في الجواب، فالأشياء التي نُرددها والخطباء يقولونها كثيرًا: كلما أمعنا في هذا الأمر كلما ازددنا فيه تحيرًا، والصواب: كلما أمعنا في هذا الأمر ازددنا فيه تحيرًا.

"وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ [البقرة:20]... الآية، إن رجع إلى أصحاب المطر، فالمعنى: لو شاء الله لأذهب سمعهم بالرعد، وأبصارهم بالبرق، وإن رجع إلى المنافقين، فالمعنى: لو شاء الله لأوقع بهم العذاب والفضيحة، وجاءت العبارة عن ذلك بإذهاب سمعهم وأبصارهم، والباء للتعدية، كما هي في قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17]".

هذا تهديد ووعيد من الله -تبارك وتعالى- بإذهاب سمعهم وأبصارهم عقوبة لهم على نفاقهم، يقول: "إن رجع إلى أصحاب المطر، فالمعنى: لو شاء الله لأذهب سمعهم بالرعد والبرق"... إلى آخره، أي الذين يتخوفون ويضعون الأصابع في الآذان، "وإن رجع إلى المنافقين، فالمعنى: لو شاء الله لأوقع بهم العذاب والفضيحة".

وبعضهم يقول: لو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم حقيقة، عقوبة لهم، يعني: كما أنهم لم ينتفعوا بها، فإن ذلك أيضًا يُسلب منهم حقيقة، يعني: في الحاسة نفسها، يقول: "جاءت العبارة عن ذلك بإذهاب سمعهم وأبصارهم، والباء للتعدية، كما هي في قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17]" يعني: ذهب به، ذهب يُعدى بالباء، ذهب بسمعهم يعني كأنه سلبه، أو أخذه.

أسئلة:

س: ما هو الفرق بين المصدر والاسم؟

ج:

المصدر اسم ما سوى الزمن من مدلولي الفعلِ كأمن من أمن[12]

الآن تقول: أمن يأمن أمنًا، فالمصدر هو الثالث في تصريف الفعل، أكل يأكل أكلًا، قرأ يقرأ قراءة، هذا المصدر الثالث، فهو اسم لما سوى الزمان من مدلولي الفعل، فالفعل فيه شيئان، ذهب فيه معنى الذهاب، وفيه الزمن في الماضي، يذهب فيه معنى الذهاب، والزمن الذي هو المُضارع، اذهب، فيه معنى الذهاب، والزمن الذي هو المستقبل، فإذا سُلب الزمن فالباقي هو المعنى، ذهب يكون ذهاب، لا يوجد زمن لا ماضي ولا مستقبل ولا غيره، فالمصدر اسم ما سوى الزمان، فإذا حذفت الزمان من الفعل بقي المعنى، والمعنى هذا هو المصدر.

والمصدر قد يُسمى به، فيقال: أمن، فالأمن اسم، وهو أيضًا مصدر، هذا هو المقصود، فالرعد هنا تقول: رعد يرعد رعدًا، فهذا مصدر، فحينما يُسمى به الصوت الصادر من السحاب فهذا اسم، وهكذا البرق برقًا، فالبرق مصدر، وقد يُسمى به هذا، فيقال: هذا برق.

س:...

ج: لا يلزم، قد يكون مُقدرًا، كلما أضاء لهم المكان، كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [البقرة:20] كلما أضاء لهم ما حولهم، كلما أضاء لهم المكان، قد يكون هذا، وهكذا يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ [النور:35] يعني يُضيء المكان من غير إيقاد فيحتمل، فهذا وارد، يعني: ليس بالضرورة.

س:...

ج: زائدة يعني إعرابًا، هم يتفقون على أنها زائدة إعرابًا؛ ولهذا يقول في المراقي:

ولم يكن في الوحي حشو يقعُ[13].

فبالاتفاق أنه لا يوجد حشو؛ لأنه قيل: زائدة بلا معنى، هم يقولون: زيادة المبنى لزيادة المعنى، وبعضهم أنكر التعبير بالزيادة أصلًا، والزركشي في كتابه البحر المُحيط في أصول الفقه في موضعين يقول: لا زائد في القرآن[14]، وذكر هذا جماعة بأنه لا يصح أن يُعبر بالزيادة في القرآن، قالوا: وهذا لا يليق مع كتاب الله ؛ ولذلك فإن بعضهم يُعبر فيقولون: ما صلة، تأدبًا في العبارة، وإلا المؤدى واحد.

س: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [البقرة:30].....

ج: لا هذا غير صحيح؛ لأنه دعوى الزيادة لا محل له، وإنما كما سبق في نظائره: أن هنا مُقدر، واذكر إذ قال ربك للملائكة، وبعضهم يجعله ذلك باطراد في كل المواضع إذا ذُكرت إذ، وإذ قال، يعني واذكر إذ قال، حين قال، لا يقال: بأن (إذ) هذه زائدة.

س:...

ج: في قوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [المنافقون:3] ليس هذا الموضع الذي عندنا، لكن في قوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [المنافقون:3] فبعضهم يقول: إيمان حقيقي حصل بعده ردة، وبعضهم يقول: هذا الإيمان هو الإيمان المدعى الظاهر، ثم حصل ما ينقضه من أقوالهم وأفعالهم، وهذا كأنه أقرب، والله أعلم.

وفي قوله -تبارك وتعالى- في سورة براءة: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:66] بعضهم يقول: هذا كان في منافقين لم يحصل منهم إيمان، والمقصد كفرتم بعد إيمانكم المُدعى بالنطق بالشهادتين الظاهر الذي أُجريت عليكم أحكام الإسلام تبعًا له، وبعضهم يقول: لا، هذا كان في قوم من غير المنافقين، كانوا من المؤمنين ضُعفاء إيمان، فحصل منهم إيمان صحيح، ثم بعد ذلك نافقوا، قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:66] ولو قيل بأن ذلك في الإيمان الذي أظهروه وادعوه، وإن لم يكن إيمانًا صحيحًا حقيقيًا، يعني إيمانكم الذي كان بهذه الدعوى.

س:...

ج: لم يقع منهم التصديق الحقيقي، لكن المقصود الإيمان المُدعى، هي مُجرد دعوى، قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1] ثم قال: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1] في آخر الآية، مع أنه رسول الله؛ ولذلك جاء بالجُملة المُعترضة احترازًا وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1] لئلا يتوهم شهادة المنافقين بأنه ليس برسول الله؛ لأنهم قالوا: نشهد إنك لرسول الله، وهو حقًا رسول الله، لكنه احترز، فقال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1] فدعواهم أنه رسول الله، لكنهم هم لا يعتقدون هذا، فصاروا كذبة بذلك، للمُخالفة بين ما تفوهوا به، وما في قلوبهم، مع أنه يُطابق الواقع أنه رسول الله.

س:...

ج: قد يوجد فيه إيمان حقيقي، ثم بعد ذلك ينتكس، يعني: قضية الإيمان والنفاق هذه قضية ينبغي أن نتصورها بصورة صحيحة، يعني في قوله: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167] فالإنسان ترد عليه أحوال؛ ولهذا قال النبي ﷺ في الفتن في آخر الزمان: يصبح الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا، ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا[15]؛ ولهذا الصحابة -كما ذكرت- كان الواحد منهم يقول: لربما نافق فلان، دعني أضرب عنق هذا المنافق، لموقف، فالنفوس يحصل لها من التحولات؛ ولذلك تجدون في التاريخ بعد الأحداث الكِبار والهزائم، وغلبة العدو وإذا داهم بلاد المسلمين، تجدهم يقولون: ونجم النفاق، وراجت سوق النفاق، يعني: في المجتمع، فبدأوا يقبلون على العدو، ويدلونه على عورات المسلمين ليتخذوا عنده يدًا، ويُمالئونه؛ ليحصلوا مكاسب ومواقع جديدة في هذا الوضع الجديد؛ ليسبقوا إلى مغانم، أو يُحرزوا أنفسهم وأموالهم، ونحو ذلك، فهذا يظهر، فيُنافق الإنسان أحيانًا لضعف يعتريه، أو لشُبهة تعرض له أحيانًا فيُنافق، لطمع يغلب، فيحصل منه منافق، فموضع النفاق هي قضية نسبية؛ ولذلك تجد بعض العلماء غالبًا يقولون: إن النفاق لم يوجد في مكة، وقد نبهت على هذا، أنه يوجد ما يدل على أنه وجد في مكة، وذكرت الآية التي في سورة العنكبوت، والسورة مكية، وإن كان يدعي بعضهم أن هذه الآية مدنية، لكن هذا خلاف الأصل؛ لأنه ذكر فيها النفاق وهي قوله: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [العنكبوت:11] والسورة مكية، وفي سورة الأنفال: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ [الأنفال:49] وهذا في سورة الأنفال، وهي تتحدث عن غزوة بدر، والمشهور أن النفاق ما ظهر إلا بعد بدر، فهؤلاء يسيرون إلى غزوة بدر، والمنافقون والذين في قلوبهم مرض يقولون: غر هؤلاء دينهم، هل كان هناك نفاق قبل غزوة بدر؟ المشهور أنه لا يوجد، وهذه الآية تدل على أنه كان موجودًا، فالبعض يستشكل هذا فيقول: كانوا في مكة في ضعف، النفاق لماذا؟ نقول: النفاق للضعف، لا يُشترط أن يكون قد يكون النفاق خوفًا من المسلمين فيُمالئهم ويُصانعهم ليحقن دمه، لكن في أوقات ضعف المسلمين قد يوجد من ينتسب إلى الإسلام مع شيء من النفاق، فهو ضعيف فيتلون؛ لما يتخوفه من الأعداء، وبعض الذين خرجوا في غزوة بدر كانوا ممن دخل في الإسلام، قالوا: وفيهم نزل قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ [النساء:97] فقالوا: هؤلاء خرجوا في جيش المشركين يقاتلون النبي ﷺ، فقُتل بعض هؤلاء، ففيهم نزلت الآية[16]، فقد يوجد بسبب الضعف نفاق، والله  قال عن المنافقين في سورة الأحزاب: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا [الأحزاب:14] يعني: المدينة، فليس هذا خوفًا من المسلمين، ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ [الأحزاب:14] يعني الكفر لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [الأحزاب:14] يعني: لا يحتاج إلى طول تفكير، وإنما مُباشرة يبذل دينه لهؤلاء الذين غلبوا، واقتحموا المدينة من الكفار، فهذا موضوع النفاق، وهنا الخطورة، تلون في أوقات الضعف، وفي أوقات الشدة فيبدأ يبيع المبادئ، ويُنكر ما كان يعرف، ويعرف ما كان يُنكر، ويتغير وتتحول أحواله -نسأل الله العافية- ويُزين المنكر والباطل، ويجعله معروفًا، وما أكثر هذا في هذا العصر، فالمسلمون لا يملكون قوة، ولكن بسبب الضعف، فكل شيء عنده حسن، يُزين أفعال أعداء الله  إذا غلبوا على ناحية، أو بلد، ويدلهم على عورات المسلمين ويدافع عنهم، ويقول: إن هؤلاء جاءوا بمبادئ، وأنهم أهل نزاهة، ونحو ذلك، وقبل ذلك قد لا يُعرف بالنفاق، فلا تدري هل هذا يُمثل ويكذب ويعلم أنه يكذب، أو أن هذا الذي يعتقده فعلًا، كلامه غير معقول ولا مقبول، ولا يمكن أن يتصور على عاقل أنه يُثني على العدو الذي احتل بلده، وغلب عليها، ويكون معهم، ويضع يده في أيديهم.

س: شيخنا -أحسن الله إليك- قول الله -جل وعلا-: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16] هل الباء دائمًا تدخل على الثمن والعوض هل هي قاعدة مطردة؟ يعني أن الهدى ثمن للضلالة؟

ج: لا يُشترط أن يكون بمعنى الثمن، كما سبق أن ذلك قد يكون بمعنى أنهم اختاروا وآثروا، باعتبار أنهم كانوا فاقدين للهدى أصلًا، فلا يُشترط فيه المعاوضة؛ ولذلك الذين حملوه على هذا المعنى الدقيق قالوا: كانوا على الإيمان، ثم كفروا، فحصل التبادل.

س:...

ج: وهذا ينطبق عليه البيت الذي ذكرته:

كما اشترى المسلم إذ تنصرا[17].

كان على الإيمان، ثم تنصر، أما هؤلاء إذا قلنا: إنهم لم يكونوا مؤمنين أصلًا، فيكون بمعنى اختاروا، وهكذا في نظائره، وفي وصف الكفار، مثل هذا مثلًا لما تقول الكفار: بأنهم استحبوا العمى على الهدى، أو اشتروا الضلالة بالهدى، والله أعلم.

 

  1. البيت في الأضداد لابن الأنباري (ص:279)، وغريب الحديث للخطابي (2/210) لتَوبة بنُ الحُمَيِّر، وتمامه:
    وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بأَنِّي فَاجِرٌ *** لِنَفْسي تُقَاها أَوْ عَلَيْهَا فُجُورُها
  2. البيت في الأضداد لابن الأنباري (ص:279)، والجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي (ص:719) لجرير، وتمامه:
    نَالَ الْخلَافَة أَو كَانَت لَهُ قدرًا *** كَمَا أَتَى رَبّه مُوسَى عَلَى قَدَر
  3. أمراض القلوب وشفاؤها (ص:9).
  4. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/189).
  5. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (1/354).
  6. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/189).
  7. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/102).
  8. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/103).
  9. أخرجه أحمد ط الرسالة (4/284-2483) وقال محققو المسند: "حديث حسن دون قصة الرعد، فقد تفرد بها بكير بن شهاب، وهو لم يرو عنه سوى اثنين".
  10. نشر البنود على مراقي السعود (1/234).
  11. بنحوه أخرجه أحمد ط الرسالة (30/625-18694) والطبراني في المعجم الكبير (11/376-12052).
  12. ألفية ابن مالك (ص:29).
  13. نشر البنود على مراقي السعود (1/85).
  14. البحر المحيط في أصول الفقه (2/200).
  15. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن برقم: (118).
  16. الصحيح المسند من أسباب النزول (ص:126).
  17. الأضداد لابن الأنباري (ص:72).

مواد ذات صلة