وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:53-62].
الْكِتابَ هنا التوراة، وَالْفُرْقانَ، أي: المفرق بين الحق والباطل، وهو صفة للتوراة، عطف عليها لاختلاف اللفظ.
قوله: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، الكتاب هنا قال: التوراة. هذا بالإجماع، والفرقان الذي يدل عليه السياق حيث عطفه على الكتاب أن ذلك جميعًا مما أوتيه موسى فهو المفرق بين الحق والباطل فهو إذن صفة للتوراة، وهذا اختيار ابن جرير -رحمه الله-: أنه صفة للتوراة، عطف عليها لاختلاف اللفظ لا سيما أن هذا اللفظ الفرقان يتضمن صفة وهو أنه يَفْرُق بين الحق والباطل[1].
أما قول من قال: بأنه فرق البحر. فهذا بعيد، وقول من قال: بأنه القرآن هذا أبعد؛ لأن الله قال: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ، وأما أن يقال: بأن ذلك باعتبار تقدير وآتينا محمدًا الفرقان. فهذا لا دليل عليه، والأصل عدم التقدير، وأيضًا يرده قوله -تبارك وتعالى-: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء:48]، فهنا هذه الآية صريحة واضحة لا تحتمل، فسماه فرقانًا.
وبعضهم يقول: الواو زائدة. ولا حاجة لمثل هذا، وبعضهم يقول: المقصود بالفرقان الفرق بينهم وبين قومهم من آل فرعون، فرق الله بينهم، فصل بينهم.
لكن هذا أيضًا بعيد، وبعضهم يقول: الفرقان الفرج من الشدائد والكرب. وهذا أبعد، وبعضهم يقول: الحجة والبيان بالآيات كالعصى ونحو ذلك. لكن الأقرب أن ذلك من صفة الكتاب الذي هو التوراة.
فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، أي: يقتل بعضكم بعضًا، كقوله: فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ [النور:61].
هذا نقل عليه القرطبي الإجماع[2]، أنه لم يؤمر أحد منهم بقتل نفسه، وإنما فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ يعني: فليقتل بعضكم بعضًا، وذلك أن الأمة المجتمعة على ملة ودين تُنَزل منزلة النفس الواحدة، فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ وهذا كما في قوله: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، يعني: لا يأكل بعضكم مال بعض، وهو على أحد القولين في قوله تعالى: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ [المجادلة:8]، يقولون في أنفسهم أحد القولين أنه يقول بعضهم لبعض، وهكذا في قوله: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، قيل: لا تقتلوا أنفسكم أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، وهنا فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، أي: يقتل بعضكم بعضًا.
جاء في بعض المرويات وهو مأخوذ من بني إسرائيل ألقي عليهم الغمام وهو سحاب رقيق أبيض فصار بعضهم يضرب بعضًا بالسيف فيلقى أباه ويلقى أخاه ونحو ذلك فيضربه بالسيف وهو لا يراه يعني لا يميزه عقوبة لهم، حتى قيل: أنه قُتل منهم في يوم واحد سبعون ألفًا ثم رُفع ذلك عنهم، فكانت هذه التوبة من عبادة العجل، فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ هذه توبتهم، وهذا كان من الآصار التي كانت على بني إسرائيل فخفف ذلك عن هذه الأمة، فصارت توبة هذه الأمة بالتوبة والندم والعزم على عدم الرجوع مع الإقلاع، ورد المظالم فيما يتصل بالناس.
وهذا القول بأن من لم يعبد العجل قتل من عبده وألقي عليهم الظلام حتى بلغ القتلى هذا العدد قتل سبعون ألفًا، هذا مروي عن ابن عباس -ا-.
يعني قبله مقدر محذوف طوي الكلام طيًا ثقة بفهم السامع، يعني يُختصر الكلام إذا كان مفهومًا لدى السامع فيُختصر، قال: وهو فحوى الخطاب. المشهور عند الأصوليين أن المعنى اللازم من اللفظ المركب موافقًا لمدلول ذلك المركب فهو مفهوم الموافقة، فإن كان أولى بالحكم فهو فحوى الخطاب، وإن كان مساويًا له فهو لحن الخطاب، هذا مشهور عند الأصوليين. اللفظ المركب إن كان موافقًا لمدلوله يعني المسكوت عنه، إن كان موافقًا للحكم في المنطوق، فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23]، الضرب من باب أولى، فهذا الضرب محرم والتأفيف محرم، فهذا مفهوم موافقة، مفهوم المخالفة يكون بالعكس يعني إذا كان هذا مأمور به يكون المسكوت عنه بعكسه، يعني يكون منهيًا عنه، حينما تقول مثلًا: صاحب الأخيار. مفهوم المخالفة لا تصاحب الأشرار، هذا المسكوت عنه، فُهم من المنطوق به من جهة السكوت عنه، فلما كان المنطوق: صاحب الأخيار، فالمفهوم مسكوت عنه: لا تصاحب الأشرار، أما مفهوم الموافقة فيكون الحكم موافقًا للمنطوق، فإن كان أولى منه، أولى منه بالحكم فهذا مفهوم الموافقة الأولوي، تقول: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ فالضرب محرم، والتأفيف محرم، الضرب من باب أولى وهو المسكوت عنه: الضرب، والشتم، هذا مفهوم موافقة، هذا الأعلى: الأولى بالحكم، هذا الذي يسميه الأصوليون بفحوى الخطاب: مفهوم الموافقة الأولوي، أما المساوي فهو لحن الخطاب، مثل: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [النساء:10]، والذي يحرقها؟ لا يأكلها، يلهو بها؟ نفس الحكم كالذي أكلها، لكن عُبر بالأكل؛ لأنه غالب وجوه الانتفاع، فهنا الأكل والإحراق وأي نوع من أنواع الإتلاف مساوي للمنطوق به، فهذا الذي يسمونه لحن الخطاب، مفهوم الموافقة المساوي هو لحن الخطاب، هذا هو المشهور.
أما ما ذكره المؤلف هنا فهذا يتأتى على قول بعض الأصوليين: كالقفال، فإن هؤلاء يطلقون فحوى الخطاب ويقصدون به ما دل المظهر على المسقط، ما دل المظهر يعني فيه حذف دل عليه ما ذُكر، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، ما هو التقدير؟ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فأفطر، فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، لو أنه كان على سفر ولم يفطر، فهل يقال: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ؟ الجواب: لا، فيه مقدر محذوف: فأفطر فعدة من أيام أخر، فالمذكور دل على المحذوف، فأفطر هنا مقدر ولا بد، قال تعالى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشعراء:63] ما هو التقدير؟ فضرب فانفلق، هذا مقدر دل عليه المذكور في الكلام، فعند هؤلاء فحوى الخطاب هو ما دل المظهر على المسقط، يسمونه فحوى الخطاب.
هذا هو الذي مشى عليه ابن جُزي هنا، يعني على خلاف المشهور في اصطلاح الأصوليين فحوى الخطاب.
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:26]، قل: آمن به. فآمن له، يقول: مضمن الفعل معنى فعل آخر يُعدى باللام، ما هو الذي يُعدى باللام؟ الانقياد، انقاد له، فيكون آمن مضمن معنى انقاد ليصح تعدية باللام، انقاد له، فصار ذلك دالًا على الإيمان والانقياد، فالإيمان تصديق انقيادي، وليس مطلق التصديق فَآمَنَ لَهُ، لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ يعني: لن نؤمن الإيمان بمعنى التصديق والانقياد، تصديق انقيادي.
الجهر العيان، أو إعلان الشيء وكشفه جهرة.
الصاعقة مضى الكلام عليها في الغريب، وكثير من الألفاظ يتركها ابن جزي لا يتكلم عنها، لا يوردها أصلًا؛ لأنه مضى الكلام عليها في الغريب، ولهذا قلت لكم: اعتنوا بالغريب وأكثروا من ترداده، وقراءته أو سماعه، فهذا مهم؛ لأنه يترك كثيرًا من الألفاظ.
الصاعقة قال: الموت. وكما سبق في أقوال المفسرين فيها: ابن جرير يقول: بأن الصاعقة كل أمر هائل رآه المرء أو عاينه، أو أصابه حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب[3].
يعني: الصاعقة هي أمر مهلك، يقول: وإذا ذهاب عقل وغمور فهم أو فقد بعض آلات الجسم صوتًا كان ذلك أو زلزلة أو نارًا أو رجفًا. عمم في المعنى، يعني ما يصيبه من أمر مهلك أو ما يقع به من فقد عضو أو حاسة سواء كان أرضيًا أو سماويًا فهو صاعقة عند ابن جرير -رحمه الله-وكثير منهم يقول: بأن الصاعقة هي نار محرقة من السماء.
وكما ذكرت أن هذا تفسير لها ببعض آثارها، والمعاصرون يقولون: بأنه شحنة كهربائية هائلة تقع مع الرعد فما وقعت عليه يحترق. فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، قال: الموت.
كأنه فسرها بأثرها أو لازمها، قال: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ، فدل على أن هذه صعقة موت ولم تكن صعقة غشية، وهذا أحد المواضع في سورة البقرة وهي خمسة التي ذكرها الله -تبارك وتعالى- دالة على قدرته على إحياء الموتى، وسبق ذكرها، وكانوا سبعين وهم الذين اختارهم موسى وحملهم إلى الطور، لسوء أدبهم وجراءتهم على الله.
لاحظ تقدم في اللغات، وأحيانًا لا يشير إلى هذا يترك ذكره أصلًا، فالحاصل أن الغمام، جعلنا الغمام وظللنا هو السحاب الأبيض يواري وجه السماء، لكنه يبقيها مستنيرة، سُمي بذلك؛ لأنه يغم السماء، يعني يسترها ويواريها، قال: كان ذلك في التيه، وكذلك أنزل عليهم فيه المن. أيضًا مضى الكلام على المن، والنبي ﷺ يقول: الكمأة من المن[4]، قلنا هناك: بأن الأقرب أن المن أنه يشمل ما يمتن الله به.
ولهذا قال النبي ﷺ: الكمأة من المن مما لا يكون فيه عمل الإنسان، وكد وسعي، من غير زرع منه مثلًا، فالكمأة بهذا الاعتبار من المن، ولهذا قالوا: بأن المن هو الترنجبين، صمغة تنزل على الأشجار تشبه العسل الأبيض، فيأكلونها كالعسل.
هذا من المن باعتبار أنه لم يكن من عملهم وجهدهم وكدهم وسعيهم الكمأة من المن، فكل ما لا سعي للإنسان فيه يكون من المن، ولهذا طلبوا لعتوهم على ربهم -تبارك وتعالى- وعلى رسله -عليهم السلام- طلبوا ما طلبوا من البصل والثوم والفوم والعدس، ونحو ذلك مما يزرعه أهل القرى، والسلوى أيضًا مضى الكلام عليه في الغريب، وقد نقل ابن عطية -رحمه الله- الإجماع على أنه طير[5]، لكن هذه الإجماع غير دقيق، ولهذا رده القرطبي -رحمه الله-[6].
لكن عامة المفسرين من السلف فمن بعدهم على أنه طائر، وإنه جاء في أوصافه شيء من التفاوت، فبعضهم ذكر حجمه، يعني قال: هو أصغر من الحمامة وأكبر من العصفور.
وبعضهم قال: طائر في الهند هو السُمان أو يشبه السمان. وبعضهم يقول: طائر له منقار أحمر ... إلخ، فذكروا بعض أوصافه، فهو طائر على كل حال، فكانوا يأكلون لحم الطير ويأكلون المن، فقالوا ما قالوا.
يعني قلنا: كلوا.
هذه القرية يقول: بيت المقدس. بيت المقدس هذا قول الجمهور، وهو اختيار ابن جرير، وابن كثير، وقيل: أريحاء.
ويقال: أريحا. وهذا منقول عن ابن عباس -ا- وابن زيد، وقيل: قريب من بيت المقدس. والقول بأن هذا هو بيت المقدس. هو قول جماعة أيضًا من السلف: كقتادة والربيع والسدي.
فَكُلُوا جاء هنا بالفاء التي للترتيب؛ لأن الأكل بعد الدخول فيها، وجاء في الأعراف بالواو بعد قوله:
اسكنوا لأن الأكل مقارن للسكنى.
لاحظ هنا يقول: فَكُلُوا جاء هنا بالفاء التي هي للترتيب؛ لأن الأكل بعد الدخول، ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا فهم لا يتمكنون من الأكل إلا بعد الدخول، وجاء في الأعراف بالواو بعد قوله: اسْكُنُوا هنا بالفاء في سورة البقرة باعتبار أن الأكل لا يتأتى إلا بعد الدخول ادْخُلُوا ... فَكُلُوا، في الأعراف بالواو اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا [الأعراف:161]؛ لأن السكنى أمر ممتد، والأكل يكون معها لا بعدها، ليس بعد السكنى، فالسكنى تطول أو تقصر يكون الأكل معها اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا اسكن وكل، لكن الدخول ادْخُلُوا ... فَكُلُوا فلا يتأتى الأكل منها إلا بعد دخولها، فجاء بالفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فالأكل مرتب على الدخول، فلا يتأتى لهم الأكل إلا بعد تحقق الدخول، هذه من الفروق والوجوه البلاغية في الفروق اللفظية من جهة الألفاظ والتراكيب، وهذا الذي يسمى بالمتشابه اللفظي وتوجيه المتشابه اللفظي يكون آية وردت في موضعين مع مغايرة في بعض الألفاظ، فهذا الذي يُعنى به الذين يتحدثون عن توجيه هذه، لماذا قال هنا كذا وقال هنا كذا، هم أصحاب الكتب التفسير البلاغي: كصاحب الكشاف، وأبي السعود، والرازي يذكر من هذا ولم يكن تفسير مصنف في التفسير البلاغي لكنه يذكر جوانب من هذا ولفتات، كذلك الألوسي، وكذلك أيضًا البيضاوي، وحواشيه، وحواشي الكشاف، كذلك الكتب المستقلة في هذا الجانب: ككتاب الغرناطي وهو (ملاك التأويل) في مجلدين مطبوع، وكتاب (البرهان) للكرماني، وكتاب الإسكافي (درة التنزيل وغرة التأويل) مطبوع في مجلد، كتاب زكريا الأنصاري أيضًا في متشابه القرآن، هذه الكتب تعنى بتوجيه المتشابه اللفظي، لماذا قال هنا كذا، وقال هنا كذا؟، مواضع ليست بالقليلة تجد تكلفات، قد تُفهم بصعوبة، فمثل هذا مرفوض، لكن إذا ظهر وجهه مثل هذا فهذا حسن، وعلى كل حال فهو أقرب إلى مُلح العلم منه إلى صُلب العلم، هي مُلح يعني لا يتوقف عليها فهم الآية.
متواضعين بمعنى الخضوع والتواضع، لكن هذا خلاف الظاهر، فالسجود يقال: للانحناء، والركوع باعتبار هنا حُمل على الركوع باعتبار أنه لا يتأتى الدخول مع السجود، يعني: يدخل الواحد منهم وقد حنى ظهره راكعًا خضوعًا وتذللًا وتواضعًا لله -تبارك وتعالى- فأُمروا بفعل وهو السجود، أن يدخلوا راكعين، وبقول، وهو أن يقولوا: حطة. يعني حط عنا خطايانا، يعني أن مسألتنا حطة كما سيأتي.
حط عنا خطايانا، يعني التقدير: مسألتنا حطة، وأصل الحط إنزال الشيء من علو، هذا أصله.
وَسَنَزِيدُ، أي نزيدهم أجرًا إلى المغفرة.
فَبَدَّلَ، روي أنه قالوا: حنطة، وروي: حبة في شعرة.
قد يرد على هذا أنه هي حطة وحنطة متقاربتان فجاءوا بلفظ آخر على سبيل السخرية والتهكم والاستهزاء، يبقى الكلام في أن هذا اللفظ حنطة وكونه قريب من حطة هل هذا في لغتهم العبرانية أو لا؟ ذكر لي أحد الإخوان قبل مدة في درس التدبر الذي بعد العشاء: بأن ذلك في العبرية يقولون كذلك في الحنطة أنهم ينطقونها هكذا تقريبًا حنطة في لغتهم. على كل حال هذا صح في الخبر أنهم قالوا: حنطة أو حبة في شعرة.
هنا يقول في الحاشية: وفي الحديث أنهم دخلوا يزحفون على استاههم وبدلوا فقالوا: حبة في شعرة. هذا ثابت في الصحيح، وقيل: قالوا حنطة حبة حمراء فيها شعرة، وقيل: شعيرة. هذا كله يدل على عتو هؤلاء وتمردهم على الله -تبارك وتعالى-.
وضع الظاهر يعني ما قال: فبدلوا قولًا غير الذي قيل لهم. فهنا عُبر بالظاهر موضع المضمر، كان بالإمكان أنه يختصر الكلام ويقال: فبدلوا قولًا غير الذين قيل لهم. قال: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا فوضع الظاهر في الموضع الذي يصح فيه وضع الضمير يكون لمعنى أو لعلة بلاغية، يقول هنا: لقصد ذمهم بالظلم، وكرره زيادة في تقبيح أمرهم. فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ما قال: فأنزلنا عليهم رجزًا من السماء، فهو يصفهم بالظلم، فأظهره لذمهم وإبراز هذا الوصف.
الرجز هو العذاب، ومضى في اللغات في الغريب، وأصله الاضطراب، وقد جاء عن ابن عباس -ا-: كل شيء في كتاب الله من الرجز يعني به العذاب[8].
وجاء نحو هذا أيضًا عن الحسن، وأبي مالك، ومجاهد، والسدي، وقتادة: أن الرجز العذاب[9]، ما هذا العذاب؟ قد يكون الطاعون، والله أعلم.
باعتبار أن السين والتاء للطلب.
هنا لا دليل على أنه بهذا بالقدر: ذراع في ذراع، ولا على أنه نزل من الجنة، فبعض أهل العلم يقولون: الحجر بأن (أل) هذه عهدية بمعنى أنه حجر معين مخصوص معهود كانوا يحملون معهم، فإذا احتاجوا إلى الماء ضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، ويحتمل كما يقوله بعضهم: بأن (أل) هذه ليست عهدية وإنما للجنس، الحجر، يعني يضرب حجرًا أي حجر، فتنفجر منه اثنتا عشرة عينًا.
لاحظ هذا الذي سماه فحوى الخطاب من قبل، فَانْفَجَرَتْ فضربه فانفجرت، هذا عند الأصوليين يسمى بدلالة الاقتضاء، لكنه هنا الاقتضاء من جهة اللغة، فَانْفَجَرَتْ فضرب فانفجرت، من أجل أن يستقيم الكلام، والاقتضاء منه ما هو شرعي، ومنه ما هو عادي يعني في العادة، ومنه ما هو عقلي، ومنه ما هو لغوي، أربعة أنواع.
مَشْرَبَهُمْ، أي: موضع شربهم، وكانوا اثني عشر سبطًا لكل سبط عين. يعني قبائل.
كُلُوا، أي: من المنّ والسلوى، واشربوا من الماء المذكور.
كُلُوا، يعني: قلنا لهم: كلوا. يعني هناك قول مقدر فُهم من السياق.
الثوم باعتبار أنها أُبدلت الثاء فالفاء، ثوم وفوم، كما تقول: جدف، وجدث للقبر. وجذب وجبذ فهذا على كل حال في اللغة معروف وهو نوع من ما يسمى بالاشتقاق، جذب وجبذ ونحو ذلك، وبعضهم يقول: بأن الفوم هو الخبز. وبعضهم يقول: هو الحبوب.
والقول بأن الفوم هنا هو الثوم هذا مروي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والربيع، والضحاك[10]، واختاره من المعاصرين الشيخ عبد الرحمن بن سعدي[11]، والطاهر بن عاشور[12]، والشيخ محمد الصالح العثيمين[13] -رحم الله الجميع- أن الفوم هو الثوم.
يقول: وقيل: الحنطة. القول بأنه الحنطة نقل عليه الواحدي الإجماع[14]، أن الفوم هو الحنطة، لكن هذا الإجماع لا يصح، ابن عطية نسبه إلى أكثر المفسرين[15]، وهو مروي عن ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وأبي مالك، وعكرمة، وعطاء بن أبي رباح، قالوا: الفوم الحنطة[16].
لكن على الأقل حينما يقال: إن هذا إجماع أهل اللغة هذا يعني أنه قول السواد الأعظم منهم. قد يقول قائل: إن القرينة على أن الفوم هو الثوم أنهم ذكروا البصل.
فقد يقول قائل: وما حاجتهم بالثوم في التيه؟ يستبدلون المن والسلوى بالثوم والبصل، فهنا لما ذكر البصل دل على أن هممهم متدنية، وأن الفوم هو الثوم، هما شجرتان خبيثتان كما قال النبي ﷺ، فزهدوا في المن والسلوى ورغبوا بالفوم والبصل.
أدنى يعني أكثر دناءة، أو الذي هو أدنى يعني أقل، بالذي هو خير، لكن مقابلة ذلك بالذي هو خير يدل على أنه المقصود الدنيء الحقير، الأقل شأنًا ومرتبة.
هنا اهْبِطُوا مِصْرًا قيل البلد المعروف بلد مصر، لماذا نوّن؟ ما قال: اهبطوا مصر. يكون ممنوع من الصرف؟ قال: لأنه ساكن الوسط، مِصْر، مثل نوح، فالعلمية والعجمة علتان يمتنع معهما الصرف، فإذا كان الوسط ساكنًا يعني اسم مصر ليس باسم عربي في أصله، فإذا كان ساكن الوسط فإنه يكون منصرفًا: كما يقوله بعض النحاة، قيل: البلد المعروف. فيرد سؤال هنا لماذا صُرف إذن؟ يعني ليس المقصود التنكير، مصر من الأمصار، قال: لسكون وسطه، وقيل: هو غير معين فهو نكرة. اهْبِطُوا مِصْرًا يعني بلدًا تجدون فيها هذا الفوم والعدس والبصل، ... إلخ، مما يُزرع في القرى عادة، غير معين، وهذا الذي قال به السدي، وقتادة، والربيع، وجماعة من السلف وهو الأقرب، والله أعلم، اهْبِطُوا مِصْرًا يعني من الأمصار، وهنا رجح أنه مصر البلد المعروف؛ لقوله: وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء:59]، يعني مصر.
لكن المعروف في التاريخ أنهم لم يرجعوا إليها، وقد مضى الكلام على هذا في التعليق على المصباح المنير، ما رجعوا إلى مصر ثانية بعد أن خرجوا منها، وهذا لا ينهى في قوله تعالى: وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وهو أحد الأقوال في قوله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأعراف:137]، والراجح أنها الشام، لكن هنا في قوله: وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، يعني: مصر.
فقد تكون تابعة لهم ولا يلزم أنهم رجعوا إليها، فتكون تابعة لهم يُجبى إليهم خراجها أو نحو ذلك، دون أن يرجعوا ويستقروا فيها، هذا كأنه الأقرب، والله أعلم، ومعلوم في التاريخ أن من ملك الشام ملك مصر، فالشام هي البوابة إلى مصر، فلما دخلوا الشام كانت مصر أيضًا تابعة لهم بعد هلاك فرعون، فتكون هنا اهْبِطُوا مِصْرًا، يعني: من الأمصار، بلدًا من البلدان، وليس البلد المعروف.
على كل حال الضرب هنا التعبير به يدل على أن ذلك أمر لازم لهم لا انفكاك ولا خلاص منه، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ صارت وصفًا لازمًا، فهذا يدل على شدة العلوق واللزوم.
تفسير بالفاقة وَالْمَسْكَنَةُ يعني الفاقة يعني الفقر، وبه قال أبو العالية، والسدي، والربيع، قد يقول قائل: اليهود يملكون الذهب والاقتصاد العالمي كما يقال؟ فالعلماء أجابوا عن هذا بأن الفقر الذي فيهم هو بنوعيه: الفقر بمعنى قلة ذات اليد، والثاني: هو فقر القلوب، يعني مهما كانوا يملكون من الأموال إلا أن الفقر في قلوبهم، وإذا دخل الفقر في قلب الإنسان، فلو كانت الدنيا في يده لرأيته لاهثًا خلفها يبحث عنها ولو كان ذلك في أحط الأشياء وأدنى الأشياء فإنه لا يدع سبيلًا إلا طلبه، هذا فقر القلوب، ناس في أيديهم أموال ومع ذلك يشعرون دائمًا أنهم بحاجة وأنهم يعانون ويكابدون، كما هو حال كثير من الناس الآن، مهما كان في أيديهم إلا أنه يشعر أنه مهضوم، وأنه مظلوم، وأنه قليل ذات اليد، وينظر إلى الآخرين، ينظر إلى من فوقه دائمًا فيشعر أنه قد هُضم وأنه لم يحصل له ما يستحقه وأنهم في معاناة دائمة ولا يستطيع أن يتصرف في شؤونه وحاجاته مع أنهم في عافية الله وغناه، ولو نظر إلى من دونه عرف نعمة الله عليه.
وعلى كل حال المسكنة أصلها من السكون، فهذه المسكنة تكون مظهرًا من مظاهر حال تقع للإنسان، فقد تكون هذه المسكنة نتيجة للفقر، ولهذا سمي الفقير بالمسكين؛ لأنه قد سكن، تقول: تمسكن. صار إلى حال من السكون؛ وذلك نتيجة لهذا الفقر.
قال: وقيل الجزية. فهذه الجزية حينما تُضرب عليهم يكون ذلك أيضًا سببًا لذل ومهانة وسكون، فتفسيره بالفاقة كأنه من قبيل تفسير الشيء بسببه، وإلا فأصل المسكنة ترجع إلى معنى السكون، مسكين؛ لأنه قد سكن لفقره وحاجته، فهذه المسكنة كما قال الشوكاني -رحمه الله-: بأن ذلك يلوح على وجوههم ومظاهرهم ولو كان عندهم من المال الشيء الكثير، لا يفارقهم هذا الوصف[17]. فالشوكاني يعرفهم؛ لأن اليهود كانوا ولا زالوا يوجدون في اليمن، فإذا رأيتهم رأيت البؤس والمسكنة في وجوههم، مجمع أوصاف الشر موجودة في اليهود.
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ، الإشارة إلى ضرب الذلة والمسكنة والغضب، والباء للتعليل. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ، أي: بسبب أنهم، الباء للتعليل، ما الذي أوجب ذلك؟ ما الذي أوقعه بهم من ضرب الذلة والمسكنة؟ السبب بأنهم يكفرون بآيات الله ويقتلون أنبياءه بغير حق.
أنا أقول دائمًا: أتفكر في نفسي وأقول هل اليهود هؤلاء أو من شابههم ممن ينتسب إلى الإسلام من هذه الأمة، لو نظروا فقط إلى المرآة، نظروا إلى وجوههم لعرفوا ما هم عليه من الباطل، بالمسخ الذي عجله الله لهم، فيعرفون حالهم من وجوههم، وأنهم أهل باطل ومنكر وشر ووجوههم مظلمة، نسأل الله العافية، ووجوه أهل ووجوه أهل البدع كل ذلك يظهر.
يعني: الآيات المتلوات مثل الذي نزل عليهم في التوراة، أو العلامات الآيات التي أعطاها الله لموسى، المعجزات، ودلائل نبوته، فكانوا يكفرون بآيات الله، ما أعطاه الله لعيسى من إبراء الأكمة، والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله، فهذا كله من آيات الله، وكونه وُجد من غير أب، وتكلم في المهد، فكفروا بذلك جميعًا، فهذه علامات، والأول المتلوات يعني التوراة والإنجيل والقرآن، لكن ضرب الذلة والمسكنة كان سابقًا لنزول القرآن، وسابقًا لنزول الإنجيل، وبعث عيسى .
لاحظ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:21]، ما قال: بغير الحق. فغير الأنبياء قد يُقتل بحق، وقد يُقتل بغير حق، حينما يُقيد هذا فيما يتعلق بالأنبياء -عليهم السلام-، وكما في قوله -تبارك وتعالى-: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [المؤمنون:117]، لا يمكن لأحد أن يدعو مع الله إلهًا آخر له فيه برهان، فهذه التي يسمونها الصفة الكاشفة يعني أنها لا تُقيد الموصوف، وإنما توضحه وتجليه، فمثل هذا الموضع هنا بِغَيْرِ الْحَقِّ هذه فيه تشنيع عليهم أنهم يقتلون الأنبياء -عليهم السلام-، قتل الأنبياء لا يكون بحق، فيكون ذلك من باب الشناعة، وتعظيم جرم هؤلاء اليهود، كما قال الله : وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [الأنعام:38]، ومعلوم أن الطائر لا يطير إلا بجناحيه، يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [البقرة:79]، والكتاب يُكتب بالأيدي، فهذا للتشنيع عليهم وتسجيل الجُرم، يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ [آل عمران:167].
هذه الجملة التي ذكرها ابن جزي -رحمه الله- في التفريق بين هذا الموضع في سورة البقرة: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، والموضع الذي في آل عمران، بيان مراد المؤلف في قوله: لأن تلك نزلت في المعاصرين لمحمد ﷺ. والتي في آل عمران، قال: بالتنكير لاستغراق النفي.
الأولى في البقرة بالتعريف باللام للعهد؛ لأنه قد تقررت الموجبات لقتل النفس. والتي في آل عمران بالتنكير؛ لاستغراق النفي، فالأولى التي في البقرة لكونها نزلت في المعاصرين لمحمد ﷺ.
هذا الكلام لربما يكون بعبارة أوضح في المصادر الأخرى، يتضح لكم المراد، ففي بصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي يقول: قوله: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ هنا في البقرة، وفي آل عمران وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:31]، وفي النساء وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [النساء:155]، يقول: لأن ما في البقرة إشارة إلى الحق الذي أذن الله أن يُقتل النفس فيه، وهو قوله: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الأنعام:151]، وكان الأولى بالذكر؛ لأنه من الله تعالى، وما في آل عمران والنساء نكرة أي: بغير حق في معتقدهم ودينهم[18].
يعني: الأولى بغير الحق الذي شرّع فيه قتل النفس، وفي سورة آل عمران:بِغَيْرِ حَقٍّ يعني: في معتقدهم، يعني ليس عندهم أدنى شبهة، ولا مبرر، يقول: فكان بالتنكير أولى. يعني في معتقدهم بِغَيْرِ حَقٍّ مطلقًا، هذا معنى قول ابن جزي، بغير حق مطلقًا يعني لا بما قرره الله -تبارك وتعالى-: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [الإسراء:33]، وما جاء عن النبي ﷺ: لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة[19]، فهنا بغير الحق يكون (أل) للعهد، الحق المعهود، الذي أباح الله، هذا في آية البقرة، هذا الذي أراده، طبعًا مثل هذه الفروقات والدقائق لا يُقطع بها، وهكذا ما يذكره البلاغيون من هذه المعاني في المتشابه اللفظي، أو في المُلح التي يذكرونها فهي على كل حال ما لم يكن فيها تكلف فلا بأس، وكذلك هذا تجدونه بنحوه في كتاب (البرهان في توجيه متشابه القرآن) المتشابه اللفظي، للكرماني، وفي كتاب أيضًا (درة التنزيل وغرة التأويل)، لكنه ذكر غير هذا الوجه غير هذا الوجه أيضًا في توجيهه، يقول: بأن الآية الأولى في سورة البقرة خبر عن قوم عُرفوا وعُرفت أفعالهم ومضت أزمنتهم وأحوالهم، فلما شُهروا شهر فعلهم بوقوعه منهم، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، فلكونهم قد عُرفوا وعرفت أفعالهم جاء ذلك بالتعريف. هذا ذكره الإسكافي لكن قد لا يكون من الظهور بمكان.
يقول: وقيل: الحق هو ما قاله الله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا [الأنعام:151]، إلخ، الذي مضى من كلام الفيروزآبادي، هذا الوجه الثاني الذي ذكره، يقول: فهذا معلوم مخبر بلفظ المعرفة والقتل وقع منهم من غير أن يكون على الأوجه الثلاثة المعروفة. بِغَيْرِ الْحَقِّ المعروف.
الموضع الثاني: يقول: الذي نُكّر فيه حق هو خبر عن قوم يرون ذلك ويعتقدونه ويدينونه به. ثم ذكر أنه قال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21]، يقول: هؤلاء قوم لم يمضوا ولم ينقرضوا فلذلك قال: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. لاحظ كلام ابن جزي، قال: قال هنا: بِغَيْرِ الْحَقِّ بالتعريف باللام للعهد؛ لأنه قد تقررت الموجبات لقتل النفس. هذا واضح، وتكون (أل) عهدية، وقال في الموضع الآخر من آل عمران: بِغَيْرِ حَقٍّ بالتنكير؛ لاستغراق النفي. استغراق يعني لا بحق من الله ولا في معتقدهم أيضًا، استغراق النفي؛ لأن تلك نزلت في المعاصرين لمحمد ﷺ.
لاحظ قال: لأن تلك نزلت في المعاصرين لمحمد ﷺ. على هذا فهذه التي نزلت في المعاصرين للنبي ﷺ هي آية آل عمران، لاحظ كلام الإسكافي يقول: في الموضع الثاني الذي نُكّر فيه حَقٍّ هو خبر عن قوم يرون ذلك ويعتقدونه ويدينون به. ثم ذكر الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21]، قال: هؤلاء قوم لا يمضوا ولم ينقرضوا، فلذلك قال: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، بينما الذين في البقرة قوم قد ذكر أوصافهم وحالهم واشتهروا، فقال: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ فهذا في كتاب أيضًا (مِلاك التأويل) وهو شيخ لابن جزي وهو ينقل عنه للغرناطي يقول: قوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وآية آل عمران: بِغَيْرِ حَقٍّ يقول في الجواب عن هذا: والجواب عن الأول -والله أعلم- بعد العلم بأن المذكورين في الآيات الثلاث من بنى إسرائيل قد اجتمعوا في الكفر والاعتداء: أن هذه الآية الأخيرة لما كانت فيمن شاهد منهم أمر النبي ﷺ.
يقصد بالآية الأخيرة آية آل عمران، وذكر الآيات هنا قال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ هذه التي في البقرة، والتي في آل عمران: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:21]، وفيها بعد لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى [آل عمران:111]، إلى قوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:112] بتنكير حق في هذين الموضعين، وتعريفه في البقرة، فهو يقول هنا: اجتمعوا في الكفر والاعتداء؛ أن هذه الآية الأخيرة لما كانت فيمن شاهد منهم أمر محمد ﷺ وعاين تلك البراهين واستوضح أنه الذى أخبر به موسى وغيره -صلى الله عليهم أجمعين- وتكاثرت الأدلة في أمره، ثم لم يجد ذلك عليهم إلا التمادي في الكفر والعناد من بعد ما تبين لهم الحق كان الأنسب لمرتكبهم في كفرهم أن يعبر عنهم أنهم ارتكبوه بغير شبهة ولا سبب يمكن التعلق به فقوله تعالى: بِغَيْرِ حَقٍّ كأنه مرادف، كأن لو قيل: بغير سبب ولا شبهة، وذلك أوغل في ذمهم وسوء حالهم؛ لأنهم لا يمكنهم في مرتكبهم تعلق بشيء البتة، ولا أدنى شبهة، ولما كانت الأولى في سورة البقرة إنما هي في سلفهم ممن لم يشاهد أمر محمد ﷺ وقد وقع الإفصاح فيها بكفرهم بعد تعريفهم بذكر آلاء ونعم، وقد ورد فيها أن بعض تلك المرتكبات أو أكثرها قد عفى عنهم فيها، ولا شك أن بعضهم قد سلم مما وقع فيه الأكثر من كفرهم، وقد أفصحت الآيات بذلك فيما ذكر عقبها من أن الكفر السابق ... إلى آخر ما ذكر.
فالشاهد يقول: بأن هذه التي في آل عمران هي في المعاصرين للنبي ﷺ شاهدوا ما لم يشاهد أولئك فحصل منهم هذا القتل. يعني بدون أدنى شبهة أو بأدنى سبب ولو في معتقدهم، إلى آخر ما ذكر، أطال في الكلام على هذا فيراجع.
وهنا أيضًا كلام للرازي يذكر الفرق بينهما يقول: بأن الحق المعلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل يتجلى في الحديث: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معان ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق[20]، فالحق المذكور بحرف التعريف إشارة إلى هذا، وأما الحق المُنَكّر فالمراد به تأكيد العموم أي لم يكن هناك حق لا هذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره البتة[21]. بِغَيْرِ حَقٍّ مطلقًا يعني.
نرجع إلى عبارة ابن جزي حتى نفهم مراده، يقول: قال هنا بِغَيْرِ الْحَقِّ بالتعريف باللام للعهد؛ لأن قد تقررت الموجبات للقتل. قال هنا يعني في البقرة، وقال في الموضع الآخر من آل عمران: بِغَيْرِ حَقٍّ بالتنكير لاستغراق النفي. يعني لا بحق مما يعرفه المسلمون، ولا بما يعتقدونه هم، يقول: لأن تلك -يعني التي في آل عمران- نزلت في المعاصرين لمحمد ﷺ، إلى آخر ما قال.
ذلِكَ بِما عَصَوْا، يحتمل أن يكون تأكيدا للأول، وتكون الإشارة بذلك إلى القتل والكفر، والباء للتعليل. أي اجترأوا على الكفر وقتل الأنبياء لما انهمكوا في العصيان والعدوان.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا الآية.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي: من هذه الأمة، مع أن الإيمان يصدق على من آمن بالأنبياء -عليهم السلام-، لكن يمكن أن يكون ذلك ما خُصت به هذه الأمة هنا إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا؛ لشدة إيقانهم وكثرة إيمانهم كما يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يعني تميزوا بهذا؛ ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء السابقين والكتب وكذلك الغيوب الآتية، فصار إيمانهم أكمل من إيمان غيرهم، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا، يعني: اليهود، قيل: من الهوادة وهي المودة، أو التهود وهي التوبة إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف:156].
وقيل: نسبة إلى يهوذا أكبر أولاد يعقوب وأبو عمرو بن العلاء وهو من أئمة اللغة والقراءة يقول: سموا بهذا لأنهم يتهودون. يعني يتحركون عند القراءة، يحصل لهم حركة، تمايل إلى الأمام أو إلى جانبهم، قال: هذا من عادة اليهود. هذا التمايل عند القراءة.
هذا ليس بنسخ، وإنما بمعنى أنها يمكن أن يقال: خصصتها. فإن النسخ رَفع، وهذا خبر والأخبار لا تُنسخ كما هو معلوم، إنما الذي يُنسخ هو الإنشاء: الأمر، والنهي، أو الخبر الذي يكون بمعنى الأمر والنهي. والسلف يطلقون النسخ ويقصدون به كل ما يطرأ على العام: من تقييد المطلق، وتخصيص العام، وبيان المجمل، فهذه الآية بينتها الآية الأخرى، وهي قوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]، وذلك أن قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا الآية، هذا فيمن كان على ذلك قبل الإسلام، يعني الذين آمنوا بموسى إيمانًا صحيحًا فهم موعودون بالجنة وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وكذلك أيضًا الذين آمنوا بعيسى إيمانًا صحيحًا، لكن بعد بعث النبي ﷺ فإنه يجب الإيمان به.
وقد قال ﷺ: ما من يهودي ولا نصراني يسمع بي من هذه الأمة، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار[23].
وفي حق غيرهم يعني اليهود والنصارى، والصابئين، وهذا المعنى الأخير أنها كانت قبل بعث النبي ﷺ هو الذي اختاره ابن كثير وحمل عليه قول ابن عباس السابق، قال: إنه يقصد هذا المعنى[24].
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا إلى أن قال: مَنْ آمَنَ مبتدأ، خبره فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ يعني والجملة خبر إن، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ما بهم؟ مَنْ آمَنَ فهذا يكون هو خبر (إن)، أو يكون بدلًا يعني: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا، إلى أن قال: مَنْ آمَنَ فهذا بدل من قوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا إلى آخر من ذكر، يعني يكون سياق الكلام هكذا إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، يكون إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الاسم الموصول هو اسم إن، والخبر؟
يعني: ما بهم هؤلاء إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ والخبر من آمن منهم، من آمن من هؤلاء، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، ويحتمل أن يكون مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا بدل مما ذُكر بعد (إن)، يعني كأنه يقول: إن من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم. بدل من قوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
أسئلة:
س: ما قولكم في مثل قوله تعالى: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41]، فهل يُعمل هنا بمفهوم المخالفة، هل هناك مرجع معين لقاعدة مفهوم المخالفة مفصلة فيه؟.
جـ: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ، ما هو مفهوم المخالفة هنا؟ هنا القضية لا تتعلق بمفهوم المخالفة، بالنسبة لمفهوم المخالفة موجود في أصول الفقه، افتح أي كتاب في أصول الفقه تجد الكلام على مفهوم المخالفة، المطولات يفصلون في ذلك، لكن الكلام ليس في هذا الآن، الكلام في أفعل التفضيل، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ هل يصح أن يقال: هذا أوهن من بيت العنكبوت؟ باعتبار أن أفعل التفضيل هنا أهون البيوت، أوهى البيوت، أوهى يعني أضعف، أوهى البيوت لبيت العنكبوت، فهو الأضعف يعني الأكثر ضعفًا، فهل هناك ما هو أكثر منه؟، فإذا قيل: هذه الحجة أوهى من بيت العنكبوت. كأنك تكون بهذا الاعتبار قد استدركت على كلام الله ، يعني كأنه يكون تكذيب لما ذُكر في الآية أنه يوجد ما هو أضعف من بيت العنكبوت، وَإِنَّ أَوْهَنَ أوهى شيء يعني أكثرها ضعفًا ووهاء، فهل هناك شيء أوهى من بيت العنكبوت حتى يقال: هذا أوهى من بيت العنكبوت. وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ حينما تقول: هذا أوهى من بيت العنكبوت. هل هذا تكذيب لقول الله ؟ فبعض أهل العلم قال: لا يجوز؛ لأنه تكذيب له، فالله أخبرنا أن أوهن البيوت بيت العنكبوت، فإذا قلت: إن هذا أوهن منه فأنت كأنك تستدرك على الله . وبعض أهل العلم يقولون: إن مثل هذا يقال للمبالغة ولبيان شدة الضعف. والأدب اللائق ألا يقال مثل هذا؛ لأن الله قال: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ أضعف البيوت.
س: يقول: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ [البقرة:60]، قدم استسقاء موسى فقال: فَانْفَجَرَتْ، وذكر استسقاء قومه فقال: فَانْبَجَسَتْ [الأعراف:160]، هل هذه العلاقة صحيحة؟.
جـ: لا أعرف، لكن سبق الكلام على انبجست وانفجرت، قلنا: الانبجاس هو البداية، والانفجار هو في المنتهى، يعني هو في البداية انبجاس خروج الماء في صورة ليست بتلك القوة، ثم الانفجار يكون أشد، ففي البداية تنبجس ثم ينطلق الماء منها قويًا.
س: يقول: في قول الله تعالى: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ قيل: هي العبادة أو الصلاة أو الاستعانة. هل يجوز أخذ هذه المعاني كلها أو لا بد من واحد منها؟.
جـ: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ يعني يحتمل أن تكون هذه المرادة: يعني الصبر والصلاة معًا، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، فإذا قلت: إن المقصود بذلك الاستعانة، فالاستعانة هو ما يعقبها من فعل هذه الصلاة والتحقق بالصبر.
س: يقول: هل المطلق دائمًا يُحمل على المقيد؟.
جـ: هذا هو الأصل أن المطلق يُحمل على المقيد.
س: ما أفضل الطبعات لتفسير ابن كثير؟.
جـ: هناك عدد من الطبعات، مثل طبعة طيبة، وطبعة دار ابن حزم جيدة، وطبعة ابن الجوزي، ومكتبة أولاد الشيخ هي مثل طبعة ابن حزم إلا فروقات في بعض الألفاظ قليلة.
س6: ما العمل من الناحية العملية وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ؟.
جـ: استعين بالصبر أن يكون ذلك صفة له يوطن نفسه على الصبر فلا يحصل من التسخط ولا الجزع بالنسبة للمكاره والمصائب، وفيما يتعلق بالعبادات، أو المطالب الدنيوية ... إلخ، يتحلى بالصبر حتى يتحقق له مطلوبه، وبالنسبة للصلاة فكما كان النبي ﷺ يفعل، كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. والاستعانة لا تكون إلا بالله ، وهذه وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ كل ذلك مما يرجع إلى الله -تبارك وتعالى-، فإن الإنسان لا يمكن أن يصبر إلا إذا تذكر ما عند الله فتسلو نفسه، وما عند الله أبقى، وأن هذا الابتلاء ساقه الله إليه عن علم، حكمة، وما أشبه ذلك من الأمور المعروفة التي تكون جالبة للصبر، فهذا يكون مما يرجع إلى الله -تبارك وتعالى-، والاستعانة بالله طلب العون منه، أن يطلب العون من الله، وهذا لا ينافي وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، فيتحلى بالصبر، فالله أمره بذلك فيكون ذلك عونًا له، وكما تقول: استعن بهذا الطعام، استعن بهذا الشراب، استعن بهذا الدواء، استعن بهذه الدابة، بهذا المركوب. ونحو ذلك، فيحصل له قوة بهذا، لكن إذا استعنت فاستعن بالله طلبت العون فلا تطلب ذلك من المخلوقين، إذا سألت فاسأل الله مع أنه يجوز الاستعانة والطلب والسؤال من المخلوق فيما يقدر عليه، ولكن في كمال العبودية ألا يتوجه في رغبته وحاجته وفقره إلى غير ربه وفاطره فهذا في حال السؤال والاستعانة والرغبة والطلب أن يتوجه إلى الله، اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا [الأعراف:128]، هناك أمور تعين على الثبات وتعين على لزوم الحق من ذلك: الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، والصبر على أقداره المؤلمة فيبقى الإنسان متماسكًا فيحتاج إلى أن يستعين بالصبر، وليس ذلك من الاستعانة بغير الله؛ لأن الله هو الذي أمره بالصبر، والصبر يرجع إليه؛ لأن الله -تبارك وتعالى- هو الذي يوفق له من شاء، وكذلك أيضًا فإن هذا الصبر إنما يكون بالتذكر ما سبق، من أن الله هو الذي ساق له هذا واختاره وقدره، وأنه يجزيه، عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51]، وما قال: علينا. فهو له بكل الحالات، وكذلك الصلاة فهي مناجاة لله يحصل بها ما يحصل من القوة والسلوى والراحة القلبية، فليس هذا من قِبَل اللجوء إلى المخلوقين، وإلقاء الحاجات إليهم، والتفات القلب وتعلقه بهم، هذا ليس من هذا في شيء إطلاقًا، وإنما كل هذا من الركوع إلى الله واللجوء إليه، والتقرب إليه، وعبادته، عبادات القلبية: كالصبر، والعبادات البدنية: كالصلاة، فكله يرجع إلى الاستعانة بالله اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ.
س: هل الظن يطلق ويراد به العلم؟.
جـ: الظن يطلق ويراد به العلم صحيح، قال تعالى: وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا [يوسف:42]، أي: علم أنه ناج منهما، لا إشكال، لكن هل كل ظن فهو علم في القرآن؟ لا شك أن الظن يأتي بمعنى العلم واليقين، هذا لا شك فيه، قال تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ [البقرة:46]، يعني: يعلمون ويتيقنون، فهذا صحيح وإن كان يرد عليه احتمال أنه غلب على ظنه النجاة له، لكن لما كان مثل يوسف وما أوتي وهو نبي، ومن تعبير الرؤى فالذي يظهر أن محمله على العلم، علم أنه ناج منهما، فهذا الظن بمعنى العلم، وهذا كثير في القرآن، هو معنى صحيح لا إشكال فيه.
- تفسير الطبري (2/70).
- تفسير القرطبي (1/401).
- تفسير الطبري (2/83).
- أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب: المن شفاء للعين، رقم: (5708)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب فضل الكمأة، ومداواة العين بها، رقم: (2049).
- تفسير ابن عطية (1/149)
- تفسير القرطبي (1/407).
- تفسير الطبري (13/262).
- تفسير الطبري (2/118).
- تفسير ابن كثير (1/277).
- تفسير ابن كثير (1/280).
- تفسير السعدي (ص:53).
- التحرير والتنوير (1/520).
- تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة (1/211).
- التفسير الوسيط للواحدي (1/146).
- تفسير ابن عطية (1/153).
- تفسير ابن كثير (1/280).
- انظر: فتح القدير للشوكاني (1/109).
- بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز (1/144).
- أخرجه البخاري، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: {أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف ...} رقم: (6878)، ومسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب ما يباح به دم المسلم، رقم: (1676).
- أخرجه أبو داود، كتاب الحدود، باب الحكم فيمن سب النبي ﷺ، رقم: (4363).
- تفسير الرازي (3/535).
- تفسير الطبري (2/155).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته، رقم: (153).
- تفسير ابن كثير (1/284).