بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ [سورة الأنعام:123-124].
يقول تعالى: وكما جعلنا في قريتك يا محمد أكابر من المجرمين ورؤساء ودعاة إلى الكفر والصد عن سبيل الله وإلى مخالفتك وعداوتك، كذلك كانت الرسل من قبلك يبتلون بذلك، ثم تكون لهم العاقبة كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ الآية [سورة الفرقان:31] وقال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا الآية [سورة الإسراء:16] قيل: معناه أمرناهم بالطاعة فخالفوا فدمَّرناهم، وقيل: أمرناهم أمراً قدرياً، كما قال هاهنا: لِيَمْكُرُواْ فِيهَا [سورة الأنعام:123].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
في قوله -تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا [سورة الأنعام:123] يقول الحافظ -رحمه الله: "وكما جعلنا في قريتك يا محمد أكابر من المجرمين ورؤساء ودعاة إلى الكفر والصد عن سبيل الله وإلى مخالفتك وعداوتك، كذلك كانت الرسل من قبلك يبتلون بذلك" هكذا قال الحافظ -رحمه الله-أي: لست وحدك الذي تواجه هؤلاء العتاة من المكذبين المجرمين الماكرين.
وأما ابن جرير -رحمه الله- فإنه يربط هذه الآية بقوله تعالى: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [سورة الأنعام:108] يعني يكون المعنى: وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها.
والجعل في قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا بمعنى صيرنا؛ لأن لفظة "جعل" تأتي لمعنيين في كلام العرب، فهي تأتي بمعنى صيَّر، كما في هذا الموضع، وتأتي بمعنى خَلَق، ومنه قوله -تبارك وتعالى: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [سورة الأعراف:189] أي: خلق منها زوجها، ومنه قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [سورة الأنعام:1] أي وخلق الظلمات والنور.
وقوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا [سورة الأنعام:123] يحتمل فيه أكثر من إعراب، فيحتمل أن تكون لفظة "أكابر" مضافة إلى لفظة "مجرميها" وعلى هذا يكون "أكابر" هو المفعول الأول لجعل؛ وذلك أن الفعل جعل الذي يكون بمعنى صير له مفعولين، والمفعول الثاني لـ"جعل" يكون هو الجار والمجرور، أي أن قوله: فِي كُلِّ قَرْيَةٍ [سورة الأنعام:123] في محل نصب مفعول به ثاني لـ"جعل"، وعلى هذا الإعراب يكون معنى الآية وكذلك جعلنا أكابر المجرمين في كل قرية، والجار والمجرور محله التأخير من الناحية الإعرابية.
والاحتمال الإعرابي الثاني أن مجرميها مفعول أول لـ"جعل" و"أكابر" مفعول ثاني، وعلى هذا يكون المعنى: وكذلك جعلنا مجرميها أكابرها، وهذا ظاهر كلام ابن جرير -رحمه الله- حيث يقول: أي: وجعلنا مجرميها عظماءها.
وعلى المعنى الأول يكون قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا [سورة الأنعام:123] يعني أن كبار المجرمين هم في كل قرية أعداء الرسل، وعلى المعنى الثاني يكون قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا [سورة الأنعام:123] أي: أن مجرميها جعلهم أكابرها لحكمة وهي ابتلاء الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وأتباعهم بهم، والله تعالى أعلم.
يقول الحافظ –رحمه الله: "كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ الآية [سورة الفرقان:31] وقال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا الآية [سورة الإسراء:16] قيل: معناه أمرناهم بالطاعة فخالفوا فدمَّرناهم، وقيل: أمرناهم أمراً قدرياً" إذا فسر قوله تعالى: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا يعني بالفسق والمعصية فإن المقصود بالأمر هنا هو الأمر الكوني القدري؛ لأن الله لا يؤمر بالفحشاء وإنما يأمر بالأمر الشرعي المتمثل بالإيمان والقسط والمعروف، وإذا فسر بالمعنى الثاني أي أنه الأمر الشرعي فالمعنى أنه أمرهم بالطاعة فكفروا فدمرهم وأهلكهم، والشاهد هنا في ذكر المترفين وليس في قوله: أَمَرْنَا، فالمترفون هم الأكابر كما قال تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [سورة المزمل:11].
هذا كله بيان بأن الأكابر المجرمين هؤلاء هم المترفون من النعمة، وهذا من بيان القرآن بالقرآن، فقوله: إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا يعني أكابر المجرمين.
المكر هو الحيلة، وبعضهم يقول: أصله مأخوذ في اللغة من الفتل، فالماكر يدبر للإفساد، وهم يمكرون بمعنى يخططون لمحاربة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- ولإفساد الخلق ونشر الباطل والصد عن سبيل الله .
في هذه الآية توضيح لمكر الأكابر هؤلاء، فلو قال قائل: كيف يمكرون؟ قيل: هذا ينكشف ويتجلى في مثل هذه الآيات، قال تعالى: قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [سورة سبأ:32-33] ما هو مكر الليل والنهار؟ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا [سورة سبأ:33] يعني يأمرونهم بهذا أمراً مباشراً وبكل ما يستطيعون من حيلة يتوصلون بها إلى هذا المطلوب.
يقول: "كل مكر في القرآن فهو عمل" يعني يعمل على كذا، لكن هذا يحتاج إلى استقراء، وهذه يقال لها: الكليات في القرآن، أعني قولهم: كل كذا فهو كذا، وهي مبنية على الاستقراء فإذا صح الاستقراء صحت، لكن نجد عند الاستقراء كثيراً مما يقولون فيه: إنه كذا قد لا يثبت.
وقوله تعالى: وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [سورة الأنعام:123] أي: وما يعود وبال مكرهم ذلك وإضلالهم من أضلوه إلا على أنفسهم، كما قال تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ [سورة العنكبوت:13] وقال: وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ [سورة النحل:25].
وقوله تعالى: وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ [سورة الأنعام:124] أي: إذا جاءتهم آية وبرهان وحجة قاطعة قالوا: لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ [سورة الأنعام:124] أي: حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة كما تأتي إلى الرسل، كقوله -جل وعلا: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا الآية [سورة الفرقان:21].
حمل الحافظ ابن كثير -رحمه الله- قوله تعالى: حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ [سورة الأنعام:124] على أن المراد به الرسالة، أي حتى نؤتى الرسالة، وذلك باعتبار أن ما أوتيه الرسل -عليهم الصلاة والسلام- هي الرسالة، كما أنه –رحمه الله- نظر إلى قوله تعالى بعد ذلك مباشرة: اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [سورة الأنعام:124] وهذا المعنى مشى عليه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله.
لكن الآية تحتمل معنى آخر رجحه ابن جرير -رحمه الله- وهو أن المراد بقوله: وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ [سورة الأنعام:124] يعني حتى نؤتى من الآيات والمعجزات مثل ما أوتي رسل الله، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا [سورة الفرقان:21] فهذا من طلب رؤية الآيات وليس من طلب الرسالة، والله أعلم.
يعني على قول ابن كثير والشنقيطي ومن وافقهم أنهم طلبوا أن يعطوا الرسالة فردَّ الله عليهم بقوله: اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [سورة الأنعام:124] وهذا واضح.
وعلى قول ابن جرير أنهم طلبوا آيات يكون قوله تعالى: اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [سورة الأنعام:124] ردَّاً عليهم بأن هذه الآيات إنما تكون للرسل -عليهم الصلاة والسلام- ولا تكون لغيرهم، فليس لكم أن تطلبوا ذلك وأن تقترحوا على الله شيئاً لا يصلح لمثلكم.
يعنون لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ [سورة الزخرف:31] عظيم كبير جليل مبجل في أعينهم مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ [سورة الزخرف:31] أي: من مكة والطائف؛ وذلك أنهم -قبحهم الله- كانوا يزدرون بالرسول -صلوات الله وسلامه عليه- بغياً وحسداً وعناداً واستكباراً، كقوله تعالى مخبراً عنه: وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [سورة الفرقان:41] وقال تعالى: وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ [سورة الأنبياء:36] وقال تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ [سورة الأنعام:10]، هذا وهم معترفون بفضله وشرفه ونفسه وطهارة بيته ومرباه ومنشأه -صلى الله وملائكته والمؤمنون عليه- حتى إنهم كانوا يسمونه بينهم قبل أن يوحى إليه: الأمين، وقد اعترف بذلك رئيس الكفار أبو سفيان حين سأله هرقل ملك الروم: وكيف نسبه فيكم؟ قال: هو فينا ذو نسب، قال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، الحديث بطوله الذي استدل ملك الروم بطهارة صفاته على صدق نبوته وصحة ما جاء به[1].
وروى الإمام أحمد عن واثلة بن الأصقع -: أن رسول الله ﷺ قال: إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة واصطفى من بني كنانة قريشاً واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم انفرد بإخراجه مسلم[2].
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه[3].
وقوله تعالى: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ الآية [سورة الأنعام:124] هذا وعيد شديد من الله وتهديد أكيد لمن تكبَّر عن اتباع رسله والانقياد لهم فيما جاؤوا به فإنه سيصيبه يوم القيامة بين يدي الله صغار، وهو الذلة الدائمة؛ لما أنهم استكبروا فأعقبهم ذلك ذلاً يوم القيامة لما استكبروا في الدنيا، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [سورة غافر:60] أي: صاغرين ذليلين حقيرين.
وقوله تعالى: وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ [سورة الأنعام:124] لما كان المكر غالباً إنما يكون خفياً، وهو التلطف في التحيُّل والخديعة قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاء وفاقاً، ولا يظلم ربك أحداًَ، كما قال تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [سورة الطارق:9] أي: تظهر المستترات والمكنونات والضمائر، وجاء في الصحيحين عن رسول الله ﷺ أنه قال: ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان[4].
والحكمة في هذا أنه لما كان الغدر خفياً لا يطلع عليه الناس فيوم القيامة يصير علماً منشوراً على صاحبه بما فعل.
فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:125].
يقول تعالى: فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ أي: ييسره له وينشطه ويسهله، لذلك فهذه علامات على الخير، كقوله تعالى: أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ الآية [سورة الزمر:22]، وقال تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [سورة الحجرات:7].
وقال ابن عباس -ا- في قوله: فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ [سورة الأنعام:125] يقول تعالى: يوسِّع قلبه للتوحيد والإيمان به، وكذلك قال أبو مالك وغير واحد وهو ظاهر.
وقوله تعالى: وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [سورة الأنعام:125] قرئ بفتح الضاد وتسكين الياء، والأكثرون ضَيِّقًا بتشديد الياء وكسرها، وهما لغتان كهين وهيّن.
قوله تعالى: ضَيِّقًا بالتشديد هي قراءة الجمهور، والقراءة الأخرى -بالإسكان- هي قراءة ابن كثير، والمعنى واحد، وفي الغالب أن القراءات إذا كانت ترجع إلى معنى واحد فإننا لا نقف عندها ولا نشير إليها.
وهذه أيضاً خلاف قراءة الجمهور، فقراءة الجمهور حَرَجًا بفتح الحاء والراء، و(حَرِجَا) بفتح الحاء وكسر الراء هي قراءة نافع، والحرِج يحتمل أن يكون معناه آثماً، والأقرب والله تعالى أعلم أنه من الحرج وهو بمعنى الضيق، يقال: هذا مكان حرِج يعني مكان ضيق، ومعنى الآية على هذا أن صدر هذا الإنسان لم يشرح للإسلام ولم يفتح الله قلبه لتقبل الهدى الذي أنزله على رسوله ﷺ.
وعلى قراءة الفتح فهو يدل أيضاً على هذا المعنى، ولذلك يقال للشجرة بين الشجر التي لا يوصل إليها حَرَجة، وفي السيرة في قصة غزوة بدر نجد أن أبا جهل الملقب بأبي الحكم كانوا يقولون عنه: أبو الحكم في حرََجة أو كأنه في حرجة، يعني كأنه في حرجة في الغيضان والغابات وما أشبه، والمعنى أنه يحيط به لفيف من المقاتلين معهم الرماح والسلاح حماية وحراسة له حتى لا يوصل إليه، ذلك، فالشجرة التي لا يوصل إليها لكثرة الشجر التي حولها، يقال لها: حرجة، فقوله تعالى يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [سورة الأنعام:125] يعني لا يصل إليه الهدى ولا يقبل الموعظة ولا ينتفع بالتذكير، والله المستعان.
قوله: "لا تصل إليه راعية" يعني كالإبل والغنم.
وقوله: "ولا وحشية" يعني كالوعول ونحوها.
يقول تعالى: كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ –بتشديد الصاد والعين، وفي قراءة ابن كثير بالتخفيف (يصْعَد) وزيادة المبنى لزيادة المعنى فقوله: يَصَّعَّدُ تدل على المعاناة، والذي يذكره المفسرون في معنى كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء [سورة الأنعام:125] أنه مثل الذي يحاول الصعود ولا يستطيع، فهو يتكلف أمراً لا يقدر عليه مما يتعذر فعله.
وأصحاب التفسير العلمي والإعجاز العلمي يقولون في هذه الآية: إن الإنسان كلما صعد إلى أعلى ضاق نفسه؛ لأن نسبة الأكسوجين تقل كلما ارتفعنا عن سطح الأرض، لكن نحن نقول: لا بد من أن يُنظر إلى كلام السلف هل قال أحد منهم بمثل هذا المعنى، ولا أقصد هل يقولون: إن الأوكسجين يقل أو لا وإنما أقصد هل قالوا: إن الإنسان إذا حاول أن يصعد إلى السماء يضيق صدره أم أنهم قالوا فقط: إن قوله تعالى: كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء [سورة الأنعام:125] معناه أنه يحاول الصعود ولا يستطيع؛ لأنه لا يستطيع الصعود إلى السماء أصلاً، بغض النظر عن موضوع الأكسوجين؟
وعلى كل حال فالآية لا شك أنها تدل على معنى المعاناة في الصعود، ولا يبعد أن يُضمَّ إضافة هذا المعنى إلى ما قاله السلف إضافة إلى هذا المعنى، بمعنى أنه قد يحاول أن يصعد ولا يستطيع، وأن الذي يصعد أو يحاول الصعود ويحصل له بعض الصعود فإنه يعاني من ضيق الصدر إضافة إلى عجزه عن الصعود إلى السماء لبعدها، وإنما قلت ذلك؛ لأن الآية فيها قرينة تشعر بهذا المعنى، فالقضية في معرض ذكر شرح الصدر وضيق الصدر، فالذي يحاول أن يقفز ليصعد إلى السماء، هل يحصل له ضيق الصدر بمجرد هذه المحاولة، هذا لا يظهر، وأما أن يقال: إنها من قضايا الإعجاز وأن العلم الحديث اكتشفها، فهذا غير صحيح؛ لأن هذه مسألة يدركها الناس مسبقاً، ولو سألنا كبار السن الذين لم يدرسوا الأكسوجين ولم يعرفوه ولم يسمعوا به، لماذا لا تصعد إلى الجبل أو نحوه من المناطق المرتفعة لقال: أنا لا يناسبني ذلك؛ لأني إذا صعدت يحصل عندي ضيق، والمقصود أن هذا أمر موجود يدركه الجميع لكن لا يعرفون فلسفته.
ومن ذلك أننا ندرك أن الماء يحصل به الري وأن الأكل يحصل به الشبع، لكن لو جئنا بإنسان متخصص فإنه سيبيّن كيف يحصل الري بالماء وكيف يحصل الشبع بالطعام، بمعنى أن فلسلفة ذلك ليست واضحة إلا عند أهلها، وقل مثل ذلك في كون الإبصار يكون بالعين، فلو أتينا بمتخصص فإنه سيبيّن كيف يحصل الإبصار بالعين، وهكذا.
والخلاصة أنه ليس لنا أن نرد أقوال السلف ونثبت معنى جديد يتعارض مع أقوالهم، لكن إذا كان المعنى الجديد يمكن إضافته إلى أقوال السلف بحيث لا يتعارض معها فلا إشكال، والله أعلم، ولذلك نقول: قال السلف في الآية كذا ويدخل فيها المعاناة والضيق الذي يحصل للإنسان إذا حاول الصعود، والله أعلم.. وعلى كل حال فهذه مسألة تحتاج إلى زيادة مراجعة.
وقال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس -ا: كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء [سورة الأنعام:125] يقول: فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه حتى يدخله الله في قلبه.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: وهذا مثل ضربه الله لقلب هذا الكافر في شدة ضيقة عن وصول الإيمان إليه، يقول: فمثله في امتناعه من قبول الإيمان وضيقه عن وصوله إليه مثل امتناعه عن الصعود إلى السماء وعجزه عنه؛ لأنه ليس في وسعه وطاقته.
يلاحظ أن عباراتهم تدور على أن معنى يَصَّعَّدُ أي أنه يحاول الصعود ويعجز.
وقال في قوله: كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:125] يقول: كما يجعل الله صدر من أراد إضلاله ضيقاً حرجاً كذلك يسلط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبى الإيمان بالله ورسوله فيغويه ويصده عن سبيل الله.
وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: الرجس الشيطان، وقال مجاهد: الرجس: كل ما لا خير فيه، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الرجس: العذاب.
وبعضهم يقول: أصل الرجس في كلام العرب النَّتن، ولذلك يقال للنجاسات الحسية: رجس ويقال لها: ركس أيضاً، ويقال ذلك أيضاً في النجاسات المعنوية، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [سورة المائدة:90] تقول: هذا رجس، ونقول أيضاً عن الشيطان إنه رجس؛ لأنه محل للعمل السيئ -نسأل الله العافية- ويقال ذلك أيضاً للعلم السيئ والفساد والإفساد والشر والإغواء، ويقال عن أهل الفساد والشر: إنهم رجس.
والله قال عن المنافقين: فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ [سورة التوبة:95] وقال عن المشركين: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [سورة التوبة:28] والنجس بمعنى الرجس أي: نجاسة معنوية، والنجاسة نجاستان: حسية ومعنوية.
وقوله تعالى: كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:125] يعني يسلط عليهم الشيطان، ويدخل في معنى ذلك كل المعاني التي يمكن أن تصلح في هذا المقام، فهم أهل ومحل لهذه القاذورات من الكفر والأعمال السيئة، ولهذا قال الله -تبارك وتعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ [سورة النــور:26] وقال -تبارك وتعالى: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [سورة النــور:26] قال ابن جرير -رحمه الله- وهو أحد المعاني الداخلة فيها: الكلمات الطيبة للطيبين والعقائد الطيبة للطيبين والأعمال الطيبة للطيبين، والخبيثون هم محل للفواحش وللكلام السيئ الرديء وما لا يليق، فهم أهل لذلك وموطنه.
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:126-127] لما ذكر تعالى طريق الضالين عن سبيله الصادِّين عنها نبه على شرف ما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق، فقال تعالى: وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا [سورة الأنعام:126] منصوب على الحال، أي: هذا الدين الذي شرعناه لك يا محمد بما أوحينا إليك هذا القرآن هو صراط الله المستقيم.
قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ أي: وضحناها وبيَّناها وفسرناها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:97] أي: لمن لهم فهم ووعي يعقل عن الله ورسوله.
لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ [سورة الأنعام:127] وهي الجنة عِندَ رَبِّهِمْ [سورة الأنعام:127] أي: يوم القيامة، وإنما وصف الله الجنة هاهنا بدار السلام لسلامتهم فيما سلكوه من الصراط المستقيم المقتفي أثر الأنبياء وطرائقهم، فكما سلموا من آفات الاعوجاج أفضوا إلى دار السلام.
وَهُوَ وَلِيُّهُمْ [سورة الأنعام:127] أي: حافظهم وناصرهم، ومؤيدهم، بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:127] أي: جزاء على أعمالهم الصالحة، تولاهم وأثابهم الجنة بمنه وكرمه.
يقول تعالى: لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ [سورة الأنعام:127] إضافة الدار إلى السلام هنا يحتمل أن يكون المراد بالسلام أي: الله -تبارك وتعالى- فتكون الإضافة إلى السلام يعني لهم دار الله التي بناها لأوليائه وعباده المتقين، فهذا تحتمله الآية؛ لأن الله هو السلام، وهذا القول اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله.
ويحتمل أن يكون المراد بالسلام التحية، فتحية أهل الجنة السلام، كما قال الله : تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ [سورة إبراهيم:23] ويشمل المعاني الثلاثة التي ذكرها السلف، أي: أن الله يحييهم بذلك كما قال تعالى: سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ [سورة يــس:58] والملائكة تحييهم بهذا كما قال تعالى: وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ [سورة الرعد:24] وكذلك يحيي بعضهم بعضاً كما قال تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ [سورة الأحزاب:44] فيحتمل هذه المعاني الثلاثة وكلها حق، فعلى هذا تكون الإضافة في قوله: دَارُ السَّلاَمِ باعتبار تحية أهل الجنة.
والمعنى الثالث هو أن المراد السلامة من الآفات، وهذا المعنى هو الأقرب، فالجنة هي دار النعيم المقيم لا تنغيص فيه، ولهم فيها المقام الكريم، فلا يجدون فيها شيئاً من المنغصات التي يجدها أهل الدنيا في دورهم ومساكنهم، كما أن هذه المعاني الثلاثة التي ذكروها متلازمة كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله، فمعنى السلام من أسماء الله السالم من كل عيب ونقص وآفة، وهو الذي سلم عباده من أن يظلمهم، وهو الذي يسلمهم أيضاً من الآفات، وما أشبه ذلك، ولذلك إنما تطلب السلامة منه -.
والسلام في التحية حينما تقول: السلام عليكم، هل المراد به أنك تلقي الاسم الكريم على هؤلاء الذين حييتهم بذلك؟ هذا يكون من قبيل الخبر وهو محتمل، ويحتمل أن يكون من باب الدعاء.
وأذكر لابن القيم -رحمه الله- كلاماً في هذا المعنى جمع فيه هذه الأشياء جميعاً، في التحية بالسلام، وذكر أنها معانٍ متلازمة وفصل في هذا تفصيلاً حسناً.
والخلاصة أن قوله: لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ [سورة الأنعام:127] يمكن أن يكون معناه: لهم دار السلامة من الآفات على أنه لا منافاة بين هذا المعنى والمعاني الأخرى بل بين هذه المعاني ملازَمة، باعتبار أن السلام سواء نظرت إليه باعتبار أنه من أسماء الله أو باعتبار التحية أو باعتبار السلامة فإن معناه السلامة من الآفات الحسية والمعنوية، ولذلك فإن الله حينما يذكر الجنة يذكر الخلود معها غالباً؛ لأن الموت هو الذي ينغص على الإنسان لذته وراحته وسعادته، فمهما كان المكان الذي يقيم فيه مليئاً بالحبور والسعة والنعيم والراحة إلا أنه إذا تذكر الموت تنغص عليه ذلك، فالجنة لا يوجد فيها مثل هذا التنغيص بل هي مقام كريم، نسأل الله أن يجعلنا من أهلها، إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
- أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي - باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ (7) (ج 1 / ص 7) ومسلم في كتاب الجهاد والسير - باب كتاب النبي ﷺ إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (1773) (ج 3 / ص 1393).
- أخرجه مسلم في كتاب الفضائل - باب فضل نسب النبي ﷺ وتسليم الحجر عليه قبل النبوة (2276) (ج 4 / ص 1782) إلا أنه دون قوله: إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل وأخرجه الترمذي بتمامه في كتاب المناقب – باب في فضل النبي ﷺ (3605) (ج 5 / ص 583).
- أخرجه البخاري في كتاب المناقب - باب صفة النبي ﷺ (3364) (ج 3 / ص 1305).
- أخرجه البخاري في كتاب الفتن - باب إذا قال عند القوم شيئا ثم خرج فقال بخلافه (6694) (ج 6 / ص 2603) ومسلم في كتاب الجهاد والسير - باب تحريم الغدر (1738) (ج 3 / ص 1361).