بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ [سورة الأنعام:128].
يقول تعالى: واذكر يا محمد فيما تقصه عليهم وتنذرهم به: وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يعني الجن وأولياءهم من الإنس الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ويعوذون بهم ويطيعونهم ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا.
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ أي: ثم يقول: يا معشر الجن، وسياق الكلام يدل على المحذوف، ومعنى قوله: قد استكثرتم من الإنس أي: من إغوائهم وإضلالهم، كقوله تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [سورة يــس:60-62].
وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ [سورة الأنعام:128] يعني أن أولياء الجن من الإنس قالوا مجيبين لله تعالى عن ذلك بهذا.
قال الحسن: وما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس، وقال ابن جريج: كان الرجل في الجاهلية ينزل الأرض فيقول: أعوذ بكبير هذا الوادي، فذلك استمتاعهم، فاعذروا به يوم القيامة، وأما استمتاع الجن بالإنس فإنه كان فيما ذكر ما ينال الجن من الإنس من تعظيمهم إياهم باستعانتهم بهم، فيقولون: قد سدنا الإنس والجن وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا [سورة الأنعام:128] قال السدي: يعني الموت.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ يشمل كل ما قاله السلف -، فاستمتاع الإنس بالجن له صور متعددة، والذي ذكره السلف إنما هو من قبيل المثال، ومن ذلك أن الإنس يتحقق لهم بعض ما يطلبون عن طريق الجن -كالسحر الذي يتم عن طريق الشياطين، وكذلك ما يحصل للكهان من الأخبار الغيبية التي تأتي عن طريق استراق السمع فيضللون بها الناس ويلقون لهم أشياء من الأمور الغيبية التي يبحث عنها هؤلاء الناس.
ومن ذلك ما يحصل لهم من الانتفاع عن طريق تحصيل الضالة بتصرفات تقع من المشعوذين والدجالين الذين يستعينون بالشياطين.
ومن ذلك ما يحصل لهم من أنواع من الانتفاع المحرم من خلال ما يحصل من سرقات للأموال عن طريق الجن فيعطونها لأوليائهم، ومن ذلك ما يتوهمونه أيضًا من الحماية حيث إنهم إذا نزلوا واديًا قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي، ومن ذلك ما يظنون أنهم يتداوون به.
وأما استمتاع الجن بالإنس فهذا أيضًا يقع على صور كثيرة، منها أنهم قد يذبحون لهم ويعظمونهم ويستعيذون بهم إلى غير ذلك مما يبذله الإنس للجن والشياطين، فيحصل لهم التذاذ بسبب ذلك، ويتعاظمون به ويحصل لهؤلاء الجن بسبب هذا بعض الانتفاع المحرم.
وعلى كل حال فإنهم يقولون: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ [سورة الأنعام:128] قال الحسن: ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس، يعني عملت بما زينه لهم الجن -هذا أحد المعاني الداخلة فيه- بمعنى أن الشياطين يضلون الناس ويزيِّنون لهم الباطل والمنكر فيعمل به من شاء الله فيحصل للشياطين التذاذ وفرح بإغوائهم للناس.
وقوله: وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا [سورة الأنعام:128] قال: يعني الموت، مع أنهم قالوا هذا الكلام في اليوم الآخر، فيحتمل أن يكون الموت؛ لأن هذا الصراع وهذا الالتذاذ وهذا الإغواء كله يحصل في الحياة الدنيا فينتهي بموت الإنسان.
ويحتمل أن يكون المراد بقوله: وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا [سورة الأنعام:128] هو المشار بقوله -تبارك وتعالى: ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ [سورة الأنعام:2] فالأجل الأول هو الموت، والأجل الثاني هو البعث، وهذا اختاره ابن القيم -رحمه الله- أي: وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا بالموت وبالأجل الآخر الذي وقفنا فيه بين يديك للحساب، وهو أجل البعث.
وقولهم: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا [سورة الأنعام:128] يعنون أن ذلك الاستمتاع والاستلذاذ الذي وقع منهم قد انتهى، وقد يفهم من أسلوبهم هذا في الخطاب أنهم أرادوا استجلاب الرحمة كما قد يعبر عنه في كلام الناس بالاستعطاف، فهم يقولون إنما كان ذلك في وقت ثم تصرم وزال وصار خبرًا بعد عين، والآن قد صرنا إلى هذه الحال بعيدًا عن هذا الالتذاذ الذي تصرم وانقطع فلم يبقَ له أثر، فكأنهم يقولون: هذا الكفر كان في مدة محددة وقد مضت وانتهت فتجاوز عنا، وهذا ما فهمه ابن القيم -رحمه الله- والآية تحتمل هذا، والله أعلم.
من أهل العلم من قال في قوله: خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ [سورة الأنعام:128]: إن المستثنى هنا هو مدة الحشر من القبور والحساب، وبعضهم -ككبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- يقول: خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ [سورة الأنعام:128] أي: إلا مدة بقائهم في القبور إلى مصيرهم إلى جهنم، يعني ما بين الموت ودخول النار، وبعضهم يقول غير هذا.
لكن هذه التأويلات لا تخلو من تكلف وبُعد؛ لأن الله يخبر عن بقائهم في النار فيقول: خَالِدِينَ فِيهَا [سورة الأنعام:128] يعني إذا دخلوها، فهم يبقون فيها أبدًا بلا انقضاء كما قال الله : وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ [سورة الزخرف:77] وأخبر أن عذابهم لا يفتر عنهم، وأنهم لا يموتون ولا يخفف عنهم من عذاب النار فقال تعالى: لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [سورة الزخرف:75] وقال تعالى: لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا [سورة فاطر:36] وقال: وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [سورة البقرة:167] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على الخلود.
فقوله تعالى: إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ [سورة الأنعام:128] أظهر الوجوه في تفسيره -والله تعالى أعلم- أن هذا التعليق على المشيئة إنما هو من قبيل التعليق على المشيئة في الأمر المتحقق دون أن يراد به مطلق التعليق، يعني هذا الاستثناء إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ [سورة الأنعام:128] على وجه التحقيق لا على وجه التعليق، ومعنى على وجه التحقيق يعني في الأمر الذي يكون قطعًا لكن تذكر المشيئة؛ لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله كقوله -تبارك وتعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ [سورة الفتح:27] فهم داخلوه قطعًا ومع ذلك علقه على المشيئة.
والله لما ذكر خلودهم في النار في سورة هود قال: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [سورة هود:107]، ولما ذكر خلود أهل الجنة قال: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ [سورة هود:108] فهذه الآية مثل هاتين الآيتين، حيث ذكر فيهما الاستثناء في حق أهل الجنة وحق أهل النار مما يبيّن ويوضح أن الاستثناء هنا ليس المراد به -بحال من الأحوال- أن أهل النار يخرجون منها في وقت من الأوقات كما قد يفهمه من شذَّ في فهم مثل هذه النصوص.
وقد جاءت روايات أن النار تفنى وأنه ينبت على شفيرها أو على نواحيها أو جوانبها أو فيها ينبت الجرجير، وما أشبه ذلك، وهذه الروايات كلها لا تصح بحال من الأحوال، لذلك يقال: هذا الاستثناء كالاستثناء في نعيم أهل الجنة الذي لا ينقطع وكالاستثناء في قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ [سورة الفتح:27]، ثم إن الأدلة كلها تدل على أن أهل النار لا يخرجون منها بحال من الأحوال، ولذلك يقال -والله تعالى أعلم: إن الاستثناء هنا إنما هو من باب التحقيق، أي علق ذلك على مشيئة الله ؛ لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئته وليس المراد التعليق المطلق الذي قد يفهم منه أنهم قد يخرجون وأن عذاب أهل النار يفنى وينقطع.
وأما التأويلات التي ذكرها بعض أهل العلم في الاستثناء أنه مدة الحساب أو من الموت إلى دخولهم النار، هذه تأويلات بعيدة؛ لأن قوله: خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ [سورة الأنعام:128] هو كلام عن بقائهم في النار فإذا قلنا: إن المقصود بالاستثناء أي من الموت إلى كذا أو أنه البقاء في القبور فإنهم ما دخلوا النار بعد فكيف يكون ذلك مستثنى من خلودهم فيها؟ هذا لا يصح أن يقال، والله تعالى أعلم.
القول الأول في تفسير قوله: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا [سورة الأنعام:129] هو رواية معمر عن قتادة: يولِّى الله بعض الظالمين بعضًا في النار يعني يتبع بعضهم بعضًا، أي يلي بعضهم بعضًا في الدخول إلى النار فكلما جاءت دفعة فدخلت النار جاءت الثانية بعدها والثالثة والرابعة وهكذا يدخلون النار دخولًا متتابعًا كما قال تعالى: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ [سورة الأعراف:38] وهذا والله تعالى أعلم خلاف الظاهر المتبادر من الكلام.
والقول الثاني –وهو الأقرب- هو رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: ونسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس، يعني نسلط بعضهم على بعض جَزَاء وِفَاقًا [سورة النبأ:26] أي: أن الله يعاقبهم في الدنيا بأن يأتي للظالم من هو أظلم منه فيتسلط عليه.
وقال بعض الشعراء:
وما من يد إلا يد الله فوقها | ولا ظالم إلا سيُبلى بظالم |
ابن الزبير حينما كان في أيام إمارته بلغه خبر عمرو بن سعيد بن العاص الذي يلقب بالأشدق، وقد كان معروفًا بأنه ظالم جبار، حيث كان يرسل الجيوش من المدينة إلى مكة لقتال ابن الزبير، حتى ذكر له بعض الصحابة حديث حرمة مكة فقال: نحن أعلم بهذا منك، وكان عبد الملك بن مروان قد وعد عمرو هذا بالخلافة من بعده، لكن عبد الملك بن مروان لما تمكن جعل الأمر لأربعة من أبنائه.
فلما خرج عبد الملك من دمشق يريد قتال مصعب بن الزبير وضع الأشدق يده على دمشق وحصنها ووضع الرجال على القلاع وعلى الأسوار وأغلق الأبواب، فعلم عبد الملك بذلك فرجع وحاصر دمشق ثم انتهوا إلى صلح واتفاق، وهو أن يكتب عبد الملك لعمرو بن سعيد بن العاص كتابًا أنه هو الخليفة من بعده وأن لا يُمَس بسوء وأن لا يتعرض له، فدخل عبد الملك دمشق، وبينما هو جالس بين بني مروان بعث للأشدق أن يأتي إليه، فقال له بعض أصحابه: لا تذهب إليه، قال: وماذا عسى أن يصنع؟ -قالها؛ لأنه جبار لا يبالي!
فلبس درعًا تحت ثيابه وذهب مع خادمه ودخل عليه فلما رأى بني مروان قد اجتمعوا كأنه توجس الغدر، فقال لخادمه: اذهب إلى أخي وقل له يحضر، قال له: هاه، لا أسمع الخادم، قال: قطع الله لسانك، ثم تقدم وقال له: مرحبًا، فقال له عبد الملك: تعال فأجلسه عنده، ثم قال: إني قد نذرت نذرًا أني إن تمكنت منك أن أضعك في كيس وأن أقبض مجامعه بيدي، قال له: اتق الله؛ لقد أعطيتني عهدًا، فقال من حضر من بني مروان نحن شهود على ذلك لكن هذا نذر أمير المؤمنين ماذا عليك أن يفي بنذره، فأخرج عبد الملك الكيس من تحت سريره وبسطه فأدخله فيه فلما شده تلَّه تلَّةً فضربت ثنيته بالسرير فانكسرت وتدمى فعرف عبد الملك أنه لن ينسى له هذه فقال له وهو في الكيس: اتق الله يا أمير المؤمنين لا يحملنك زهوق عضو مني على إزهاق نفسي، ثم أُذِّن للصلاة فبدأ الناس يطرقون الباب، وعهد عبد الملك بن مروان لأخيه عبد العزيز بن مروان -والد عمر بن عبد العزيز- وهو أخوه لأبيه عهد به إليه ليقتله ويخرج هو إلى الصلاة، فقال له الأشدق: دع قتلي بيد غيرك -لما بينه وبينه من الرحب- فتركه، فدخل عبد الملك بن مروان ووجده لم يُقتل، فعيَّر عبد العزيز بأمه وأخذ الرمح وضرب بها الأشدق، فما نفذت فيه، فقال: ودارعٌ أيضًا، فأخذه وذبحه ذبحًا، ثم قال: ما رأيت طالب دنيا ولا طالب آخرة مثل هذا، يعني ما رأيت أحدًا من طلاب الدنيا ولا من طلاب الآخرة مثل هذا في بأسه وشدته.
المهم أن ابن الزبير بلغه الخبر وهو في مكة، فقال على المنبر يلمز عبد الملك بن مروان: إن فلانًا قد قتل فم الذئاب -يعني الأشدق- وقرأ قوله تعالى: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [سورة الأنعام:129] أي أنه استشهد بهذه الآية على تسليط الظالم على الظالم.
والآية تحتمل معنى ثالث: وهو أن ذلك من الولاية بمعنى أن قوله: نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا أي: يكونون أولياء بعض، كما قال الله عن المؤمنين: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [سورة التوبة:71] وقال عن المنافقين: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ [سورة التوبة:67] وقال عن الكافرين من اليهود والنصارى: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [سورة المائدة:51] فالله -تبارك وتعالى- قال قبل هذه الآية: وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا [سورة الأنعام:128].
ثم قال: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا [سورة الأنعام:129] أي: يكونون أولياء لبعض يتناصرون على باطلهم وما أشبه ذلك، وهذا المعنى اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- بقرينة الآية التي قبلها وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ ولكن السياق قد يشعر بغير هذا والله تعالى أعلم، وذلك أن الله قال: وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [سورة الأنعام:128-129] فالباء للسببية والتعليل في قوله: بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فكأن ذلك من باب أن الله يسلط بعضهم على بعضهم بكسبهم السيئ وعلمهم السيئ، وعلى قول ابن جرير يعني بأعمالهم السيئة صار بينهم مجانسة وصار بعضهم ولي لبعض، لكن التعليل قد يكون أدل على المعنى الذي قبله وهو تسليط بعض الظالمين على بعض، والله أعلم.
قد يكون الكلام فيه مقدر محذوف يعلم من السياق فذلك جائز كما قال ابن مالك:
وحذف ما يعلم جائز كما | تقول زيد بعد من عندكما |
ويحتمل أن يكون هذا شروع في حكاية ما سيكون في المحشر، أي أنه انتهى من القضية الأولى التي في قوله: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [سورة الأنعام:129] ثم شرع في ذكر ما يحصل في المحشر من سؤالهم سؤال تبكيت ليقروا على أنفسهم بالظلم والتمرد والعتو على الله .
يقول تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ [سورة الأنعام:130] يعني من مجموعكم الصادق على الإنس، أي يكون ذلك في بعضهم من الإنس، وأما الجن فليس منهم رسل بل منهم نُذُر كما قال تعالى: وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ [سورة الأحقاف:29].
وبعض أهل العلم يقول: رُسُلٌ مِّنكُمْ أي: ممن هو مجانس لكم في الأمور المشتركة كالخلق والتكليف وتوجه الخطاب إليهم، فالجن مكلفون بهذا الخطاب، ومتعبدون لله بالشرائع، فقوله: يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يعني من جملة أهل التكليف ممن يتوجه إليهم الخطاب.
وربما يكون هذا من باب التغليب، يعني غُلِّب الإنس على الجن كما يُغلَّب الرجال على النساء في الذكر.
وبعضهم يقول: إن المراد بالرسل في قوله: رُسُلٌ مِّنكُمْ يعني رسل من الإنس ورسل من الجن، فالرسل من الإنس هم الذين يوحي الله إليهم ويشرفهم بالنبوة ويرسلهم إلى قومهم، والرسل من الجن هم النذر الذين يسمعون الحق كما سمعوه من النبي ﷺ ثم يذهبون إلى قومهم فينذرونهم، فيصدق عليه بهذا الاعتبار أنهم رسل لكن ليس الله هو الذي أرسلهم وإنما جاؤوا إلى قومهم يدعونهم ويحثونهم على الإيمان الذي عرفوه من رسل الله، والله تعالى أعلم.
والرسل من الإنس فقط وليس من الجن رسل، كما قد نص على ذلك مجاهد وابن جريج وغير واحد من الأئمة من السلف والخلف.
ولدليل على أن الرسل إنما هم من الإنس قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ [سورة النساء:163] إلى قوله: رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [سورة النساء:165].
أول الرسل نوح -عليه الصلاة والسلام- وجميع الذين أرسلهم الله تعالى بعده -عليهم الصلاة والسلام- ليس فيهم أحد من الجن.
وقوله تعالى عن إبراهيم : وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [سورة العنكبوت:27] فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته، ولم يقل أحد من الناس: إن النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم الخليل ثم انقطعت عنهم ببعثته.
وقال تعالى: وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [سورة الفرقان:20] وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى [سورة يوسف:109].
ومعلوم أن الجن تبع للإنس في هذا الباب ولهذا قال تعالى إخبارًا عنهم: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [سورة الأحقاف:29-32].
وقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره أن رسول الله ﷺ تلا عليهم سورة الرحمن، وفيها قوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [سورة الرحمن:31-32] وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا [سورة الأنعام:130] أي: أقررنا أن الرسل قد بلغونا رسالاتك وأنذرونا لقاءك، وأن هذا اليوم كائن لا محالة.
وقال تعالى: وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [سورة الأنعام:130] أي: وقد فرطوا في حياتهم الدنيا وهلكوا بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم للمعجزات؛ لما اغتروا به من زخرف الحياة الدنيا وزينتها وشهواتها.
وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أي: يوم القيامة أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ [سورة الأنعام:130] أي: في الدنيا بما جاءتهم به الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم.
يقول الله تعالى: وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ [سورة الأنعام:128] في هذه الآية دليل على أن الكفار من الجن يدخلون النار ويعذبون فيها كالكفار من الإنس، قال تعالى: قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ [سورة الأنعام:128] يعني الكفار من الجن والإنس، وأما دخول المؤمنين من الجن إلى الجنة فالذي عليه الجماهير من السلف والخلف أن المحسن منهم والمؤمن يدخل الجنة أيضًا.
ومن أهل العلم من قال: إن الجن لا يدخلون الجنة وإنما يكون جزاؤهم النجاة من العذاب، واستدلوا بقوله -تبارك وتعالى: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الأحقاف:31] أي أنه لم يذكر دخولهم الجنة لكن ليس بلازم أن يذكر في المقام الواحد جميع ما يترتب على الإيمان والعمل الصالح، بل اكتفى بذكر بعض الأمور المترتبة على إيمانهم، ولهذا فإننا نقول: إن الجن المؤمنين يدخلون الجنة كالإنس فهم مكلّفون ومتعبدون بالشرائع، وبعد مبعث النبي ﷺ كل الجن متوجه إليهم خطاب الشارع الذي يخاطب به الإنس في الجملة، وهم متعبدون بالقرآن تلاوة وعملًا وتحاكمًا وما أشبه ذلك، فهم تبع للإنس في مثل هذه الأمور وحتى في السنة وما يتعلق بها، فأهل السنة منهم يعملون ويشرحون القرآن ويفهمونه بما ورد عن رسول الله ﷺ من السنة الشارحة المبينة له، وهذه الكتب مثل الكتب الستة، والكتب المعتمدة عند المسلمين، هي معروفة لديهم ويقرؤون بها ويحفظون منها كالإنس، فهم تبع للإنس في مثل هذه القضايا وإن كانت توجد فروقات في الخلق وفي بعض التفصيلات أو الجزئيات وما أشبه ذلك، لكن يبقى أنهم متعبدون مكلفون كالإنس، وفيهم الطوائف من الرافضة والزيدية والمعتزلة والخوراج وغيرهم من أهل الأهواء قديمًا وحديثًا كالإنس، وفيهم المتلبس بالشهوات وفيهم الطيب والرديء والصالح والفاسد، والله المستعان.
ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:131-132].
يقول تعالى: ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ أي: إنما أعذرنا إلى الثقلين بإرسال الرسل وإنزال الكتب؛ لئلا يؤاخذ أحدٌ بظلمه وهو لم تبلغه دعوة.
اسم الإشارة ذَلِكَ في قوله: ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى يقول ابن كثير: "أي إنما أعذرنا بإرسال الرسل للناس إلى الثقلين وإنزال الكتب؛ لئلا يؤاخذ أحد بظلمه" أي أن اسم الإشارة يعود إلى الإعذار بإرسال الرسل.
وبعض أهل العلم يقول: إن قوله: ذَلِكَ يرجع إلى شهادتهم على أنفسهم، يقول: قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ذَلِكَ [سورة الأنعام:130] أي: شهادة هؤلاء على أنفسهم أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [سورة الأنعام:131] يعني هؤلاء أقروا على أنفسهم واعترفوا، والاعتراف هو سيد الأدلة، فالله لم يكن ليهلك المكذبين والظالمين بظلم وأهلها غافلون.
قال الحافظ ابن كثير: "لئلا يؤاخذ أحد بظلمه وهو لم تبلغه الدعوة" هذا تفسير لقوله: بِظُلْمٍ في قوله: ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ [سورة الأنعام:131] أي بظلم منه لهم بأن يأخذهم ويعذبهم ولم يبعث إليهم رسولًا ولم ينزل عليهم كتابًا فيكون ظالمًا لهم بتعذيبهم، إنما يكون الإعذار بالإنذار وإرسال الرسل وإنزال الكتب وبيان ما يجب عليهم، فإذا تركوا ذلك كانوا مستحقين للعقوبة، فيكون على هذا المعنى الذي مشى عليه ابن كثير -رحمه الله: لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [سورة الأنعام:131] يعني بظلم منه فيكون ظالمًا لهم.
وهناك احتمال آخر وهو أن قوله: بِظُلْمٍ يعني بظلم منهم، أي: أن الله لم يكن ليأخذهم بظلم صادر منهم -وهو الشرك كما قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان:13]- حتى يبعث فيهم رسولًا، وبعبارة أخرى: ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم صادر منهم وأهلها غافلون لم تأتهم الرسل، ومن هنا يتبين الفرق بين المعنيين، فعلى المعنى الأول الظلم المنفي صادر من الله أي لا يعذبهم وهو ظالم لهم حيث لم يرسل لهم رسولًا.
والمعنى الثاني أن الله لم يكن ليعذبهم بظلمهم الذي هو بمعنى الإشراك والكفر وهم غافلون لم يأتهم رسل يبينون لهم ما هم عليه من الباطل، بل إنه يبعث إليهم الرسل ويحصل لهم التذكير والتنبيه أولًا.
والمعنى الأول لعله هو المتبادر وهو الأقرب -وهو الذي ذكره ابن كثير –رحمه الله تعالى- وهو الذي رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- واحتج عليه ببعض الآيات كقوله -تبارك وتعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [سورة الإسراء:15] وقوله تعالى: رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [سورة النساء:165]، والله أعلم.
ولكن أعذرنا إلى الأمم وما عذبنا أحدًا إلا بعد إرسال الرسل إليهم، كما قال تعالى: وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ [سورة فاطر:24] وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [سورة النحل:36] كقوله: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [سورة الإسراء:15] وقال تعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا [سورة الملك:8، 9] والآيات في هذا كثيرة.
قال: وقوله تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ [سورة الأنعام:132] أي: ولكل عامل في طاعة الله أو معصيته مراتب ومنازل من عمله يبلغه الله إياها، ويثيبه بها.
هذه الآية كقوله تعالى في الآية الأخرى في الأحقاف: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [سورة الأحقاف:19].
إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، قلت: ويحتمل أن يعود قوله: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا [سورة الأنعام:132] أي: من كافري الجن والإنس، أي: ولكل درجة في النار بحسبه، كقوله: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ [سورة الأعراف:38] وقوله: الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ [سورة النحل:88].
وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:132] قال ابن جرير: أي: وكل ذلك من عملهم يا محمد بعلم من ربك يحصيها ويثبتها لهم عنده، ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه ومعادهم إليه.