بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- عند تفسير قوله تعالى:
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [سورة الأنعام:133-135].
يقول تعالى: وَرَبُّكَ يا محمد الْغَنِيُّ أي: عن جميع خلقه من جميع الوجوه، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، ذُو الرَّحْمَةِ أي: وهو مع ذلك رحيم بهم كما قال تعالى: إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:143].
إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي: إذا خالفتم أمره وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء أي: قومًا آخرين أي يعملون بطاعته، كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ أي: هو قادر على ذلك، سهل عليه يسير لديه، كما أذهب القرون الأول وأتى بالذي بعدها، كذلك هو قادر على إذهاب هؤلاء والإتيان بآخرين كما قال تعالى: إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا [سورة النساء:133] وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [سورة فاطر:15-17].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي قوله -تبارك وتعالى: كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [سورة الأنعام:133] يقول الحافظ -رحمه الله: "أي: هو قادر على ذلك، سهل عليه يسير لديه، كما أذهب القرون الأول وأتى بالذي بعدها، كذلك هو قادر على إذهاب هؤلاء والإتيان بآخرين" يعني جاء بكم فأحدثكم وابتدعكم وأنشأكم وأوجدكم من نسل خلق آخرين كانوا قبلكم هلكوا أو أهلكهم الله -تبارك وتعالى- فهو قادر على إذهابكم كما أذهبهم.
وقوله تعالى: ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [سورة الأنعام:133] أي من نسلهم، فالذرية تطلق على النسل، وقد تأتي بمعنى الآباء والأجداد ولذلك فإن بعضهم ربما يفسر هذه الآية بهذا ويظهر هذا المعنى في أحد الأوجه المشهورة في تفسير قوله -تبارك وتعالى: وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [سورة يــس:41].
ومعلوم أن الذين حملوا في الفلك هم آباء المخاطبين الذين خاطبهم القرآن بهذا من قريش أو العرب أو كل من يتوجه إليه الخطاب باعتبار أن المقصود بالفلك المشحون سفينة نوح -عليه الصلاة والسلام، وعلى هذا المعنى يكون المراد بالذرية الآباء والأجداد، وهذا جواب للإشكال الذي قد يرد في هذه الآية، وإن كان بعض أهل العلم قالوا: إن الفلك المشحون في الآية ليس المقصود به سفينة نوح، وإنما المقصود به السفن التي يحملون عليها، وينتقلون فيها من محل إلى آخر.
والخلاصة أن الذرية في كلام العرب تطلق على ما تناسل من الإنسان وتطلق على ما تناسل منه الإنسان من الآباء والأجداد، فقوله تعالى: كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [سورة الأنعام:133] أي: من نسلهم.
يقول: "الذرية الأصل والذرية النسل" هذا عن أبان بن عثمان في زمن الاحتجاج، فهي بهذا الاعتبار تطلق على المعنيين المتقابلين الذي يسمونه "الأضداد"، فالأضداد هي الكلمات التي تطلق على معان وعلى ما يقابل تلك المعان مثل: "عسعس" بمعنى أقبل وأدبر، والقرء بمعنى الطهر والحيض، وهكذا.
وقوله تعالى: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ [سورة الأنعام:134] أي: أخبرهم يا محمد أن الذي يوعدون به من أمر المعاد كائن لا محالة.
وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ [سورة الأنعام:134] أي ولا تعجزون الله بل هو قادر على إعادتكم وإن صرتم ترابًا رفاتًا وعظامًا، هو قادر لا يعجزه شيء.
وقوله تعالى: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:135] هذا تهديد شديد ووعيد أكيد، أي استمروا على طريقتكم وناحيتكم إن كنتم تظنون أنكم على هدى فأنا مستمر على طريقتي ومنهجي، كقوله: وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ [سورة هود:122].
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: عَلَى مَكَانَتِكُمْ ناحيتكم، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [سورة الأنعام:135] أي: أتكون لي أو لكم.. وقد أنجز الله موعده لرسوله -صلوات الله عليه- أي فإنه تعالى مكنه في البلاد وحكَّمَه في نواصي مخالفيه من العباد، وفتح له مكة وأظهره على من كذبه من قومه وعاداه وناوأه، واستقر أمره على سائر جزيرة العرب، وكذلك اليمن والبحرين وكل ذلك في حياته، ثم فتحت الأمصار والأقاليم والرساتيق بعد وفاته في أيام خلفائه - أجمعين- كما قال الله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [سورة المجادلة:21] وقال: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [سورة غافر:51-52] وقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [سورة الأنبياء:105].
وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ [سورة الأنعام:136] هذا ذم وتوبيخ من الله للمشركين الذين ابتدعوا بدعًا وكفرًا وشركًا وجعلوا لله جزءًا من خلقه وهو خالق كل شيء ولهذا قال تعالى: وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ أي: مما خلق وبرأ مِنَ الْحَرْثِ أي: من الزرع والثمار وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا أي: جزءًا وقسمًا، فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا [سورة الأنعام:136].
وقوله: فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ [سورة الأنعام:136] قال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس -ا- أنه قال في تفسير هذه الآية: إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثًا أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منه جزءًا وللوثن جزءًا، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه، وإن سقط منه شيء فيما سمي للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقى شيئًا جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن، وإن سقط شيء من الحرث والثمر الذي جعلوه لله فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا: هذا فقير، ولم يردوه إلى ما جعلوه لله، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله فسقى ما سمي للوثن تركوه للوثن.
وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام فيجعلونه للأوثان ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله، فقال الله تعالى: وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا الآية [سورة الأنعام:136] وهكذا قال مجاهد وقتادة والسدي وغير واحد.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في الآية: كل شيء يجعلونه لله من ذبح يذبحونه لا يأكلونه أبدًا حتى يذكروا معه أسماء الآلهة، وما كان للآلهة لمن يذكروا اسم الله معه وقرأ الآية حتى بلغ: سَاء مَا يَحْكُمُونَ [سورة الأنعام:136] أي: ساء ما يقسمون فإنهم أخطؤوا أولًا في القسم؛ لأن الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وخالقه، وله الملك وكل شيء له وفي تصرفه وتحت قدرته ومشيئته لا إله غيره ولا رب سواه، ثم لما قسموا فيما زعموا القسمة الفاسدة لم يحفظوها بل جاروا فيها، كقوله -جل وعلا: وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ [سورة النحل:57] وقال تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ [سورة الزخرف:15] وقال تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى [سورة النجم:21] وقوله: تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [سورة النجم:22].
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [سورة الأنعام:137].
يقول تعالى: وكما زينت الشياطين لهؤلاء أن يجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا كذلك زينوا لهم قتل أولادهم خشية الإملاق ووأد البنات خشية العار.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ زينوا لهم قتل أولادهم وقال مجاهد: شُرَكَآؤُهُمْ شياطينهم يأمرونهم أن يئدوا أولادهم خشية العيلة.
هذا هو المتبادر من قوله: شُرَكَآؤُهُمْ أي أن شركاؤهم من الشياطين هم الذين لبَّسوا عليهم وزينوا لهم قتل أولادهم، والله تعالى أعلم.
وبعضهم يقول: إن المراد بالشياطين في الآية هم السدنة والخدم الذين كانوا يخدمون الأوثان والأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله بمعنى أنهم شياطين من الإنس، وبعضهم يقول: الشياطين هم الغواة من الإنس الذين يضلونهم ويزينون لهم الباطل كما زين لهم عمرو بن لحي الخزاعي كثيرًا من الأمور التي غيَّر بها دين إبراهيم ﷺ.
والمقصود أن هؤلاء الشركاء زينوا لهم قتل الأولاد لفرط غيرتهم فصار للشيطان نصيب فيها، فقتلوا البنات من أجل حفظ الشرف ودفعًا للعار؛ لأنهم يخشون أن تفتقر البنت فتقارف ما لا يليق، وزينوا لهم قتل الأولاد مخافة الفقر؛ لأنهم ألقوا في قلوبهم أن رزقهم يقل وتصيبهم الحاجة إذا كثر أولادهم، فهذا كله من تزيين الشيطان، وإلا فإن الله قال في الإسراء: نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم [سورة الإسراء:31] وقال في الأنعام: نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [سورة الأنعام:151]؟
وقوله تعالى: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ هي قراءة الجمهور وفيها قراءة أخرى لابن عامر هكذا: (وكذلك زُيِّن لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلاَدَهِمْ) بضم الزاي على البناء للمجهول والرفع في (قتلُ) باعتبار أنه نائب فاعل مع نصب (أولادَهم) مع أن المتبادر أن (قتلُ) مضاف و(أولادِ) مضاف إليه مجرور لكن في هذه القراءة لم يضفه إلى ما بعده باعتبار أنه فصل بين المضاف والمضاف إليه، أي أن المضاف إليه هو قوله: (شركائِهم) ولذلك استشكل هذه القراءة كثير من أهل العلم، لكن القراءة سنة متبعة إذا ثبتت فلا يجوز أن ترد بقاعدة نحوية وإنما تؤخذ القواعد النحوية من القراءات، فمثل هذا يجوز في لغة العرب وإن كان في الاستعمال قليلًا، والله تعالى أعلم.
المشهور أنهم كانوا يقتلون البنات خشية العار لكن لم يكونوا يقتصرون على قتل البنات فقط بل قد يقتلون الأولاد أيضًا خشية الفقر، ويصح في كلام العرب أن يطلق لفظًا عامًا فيراد به بعض أفراده، وهذا يسمونه "العام المراد به الخصوص" فلو قلنا: إن المراد بقوله: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ [سورة الأنعام:140] يعني البنات فقط فيكون ذلك من باب استعمال اللفظ العام –الأولاد- الذي أريد به الخصوص –البنات- أي أن استعمال ذلك يكون صحيحًا لا إشكال فيه.
قال تعالى: وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ [سورة الأنعام:137] أي: كل هذا واقع بمشيئته تعالى وإرادته واختياره لذلك كونًا، وله الحكمة التامَّة في ذلك، فلا يُسأل عما يفعل وهم يسألون.
فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [سورة الأنعام:137] أي: فدعهم واجتنبهم وما هم فيه فسيحكم الله بينك وبينهم.
وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [سورة الأنعام:138] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: الحجر الحرام مما حرموا من الوصيلة وتحريم ما حرموا، وكذلك قال مجاهد والضحاك والسدي وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما.
الحجر هنا مصدر يراد به المفعول، فقوله تعالى: وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ يعني محجور، ويبيّن هذا الحجر ما ذُكر بعده وهو قوله: لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ [سورة الأنعام:138] أي فليس لهم فيها مطلق التصرف، بل منها ما يحجر على الأصنام في الحمل والركوب فلا يحمل عليه ولا يركب، ومنها ما حرموا أكله ودرَّه وما أشبه ذلك بحسب التفصيلات التي أملاها عليهم الشيطان.
قال ابن عباس: الحجر الحرام مما حرموا من الوصيلة وتحريم ما حرموا، يعني ما حرموه على أنفسهم لأصنامهم، أي جعلوا ذلك للأوثان والأصنام التي تعبد من دون الله -تبارك وتعالى.
وقال قتادة: وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [سورة الأنعام:138] تحريمٌ كان عليهم من الشياطين في أموالهم، وتغليظ وتشديد، ولم يكن من الله تعالى، وقال ابن زيد بن أسلم: حِجْرٌ إنما احتجروها لآلهتهم، وقال السدي: لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ [سورة الأنعام:138] يقولون: حرام أن يطعم إلا من شئنا.
وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلًا قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ [سورة يونس:59] وكقوله تعالى: مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ [سورة المائدة:103].
وقال السدي: أما الأنعام التي حُرِّمت ظهورها، فهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وأما الأنعام التي لا يذكرون اسم الله عليها لا إذا ولَّدوها ولا إن نحروها.
وقال أبو بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود: قال لي أبو وائل: أتدري ما في قوله: وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا [سورة الأنعام:138]؟ قلت: لا، قال: هي البحيرة كانوا لا يحجون عليها.
وقال مجاهد: كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها ولا في شيء من شأنها لا إن ركبوا ولا إن حلبوا ولا إن حملوا ولا إن نتجوا، ولا إن عملوا شيئًا افْتِرَاء عَلَيْهِ [سورة الأنعام:138] أي: على الله وكذبهم في إسنادهم ذلك إلى دين الله وشرعه فإنه لم يأذن لهم في ذلك ولا رضيه منهم سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [سورة الأنعام:138] أي: عليه، ويسندون إليه.
قوله تعالى: وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا [سورة الأنعام:138] المتبادر أنهم لا يذكرون اسم الله عليها عند ذبحها أو نحرها وإنما يذكرون أسماء الأصنام والمعبودات من دون الله -تبارك وتعالى- وهذا لا يمنع أن يدخل فيه ما ذُكر من أنهم لا يذكرون اسم الله عليها في شأن من شؤونهم باعتبار أنهم جعلوا هذه الأنعام لأصنامهم، والله أعلم.
وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ [سورة الأنعام:139].
قال أبو إسحاق السبيعي عن عبد الله بن أبي الهذيل عن ابن عباس -ا: وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا [سورة الأنعام:139] الآية، قال: اللبن.
وقال العوفي عن ابن عباس -ا: وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا [سورة الأنعام:139] فهو اللبن كانوا يحرمونه على إناثهم ويشربه ذكرناهم، وكانت الشاة إذا ولدت ذكرًا ذبحوه وكان للرجال دون النساء، وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء، فنهى الله عن ذلك، وكذا قال السدي.
وقال الشعبي: البحيرة لا يأكل من لبنها إلا الرجال، وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء، وكذا قال عكرمة وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
التفصيلات في القضايا التي ذكرها الله تعالى بقوله: مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ [سورة المائدة:103] لا تعرف إلا بمعرفة ما كان عليه أهل الجاهلية، وبالنسبة للمنقولات التي ذكرت عنهم ما كانوا يفعلونه في الجاهلية مختلفة وليست متفقة ولذلك فإن الجزم بأن هذا هو الذي كانوا عليه، أو أن هذا هو المراد بدقة، هذا يصعب؛ لأنه يحتاج إلى معرفة هذه التفصيلات، وكذلك ما قد يذكر في بعض التفصيلات عند قوله: وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا [سورة الأنعام:139] فالأنعام التي جعلوها لغير الله هي الوصيلة والسائبة والبحيرة والحام، فما الذي بطونها؟
المتبادر أن الذي في بطونها هي الأجنة، لكن هل كانوا يفرقون بين المولود الذكر والمولود الأنثى؟ هذا لم يرد في الآية وإنما ذكر في جملة ما ذكر من أخبارهم، فالله تعالى أعلم.
وهل قولنا: إن الذي في بطونها هي الأجنة ينفي قول من قال: إنه اللبن أم أن هذا من جملة ما يدخل فيه، ويكون هذا من قبيل التفسير بالمثال؟
قد يكون كذلك، ولهذا فإن ابن جرير -رحمه الله- حمل ذلك على ما يصدق عليه أنه داخل في هذا الإطلاق، ويقول: إن الله لم يخص نوعًا دون نوع ولا شيئًا دون شيء، فيدخل فيه الأجنة ويدخل فيه اللبن.
في قوله: وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا [سورة الأنعام:139] هل يقصدون بهذا أنه يحرم على الزوجة فقط أم المقصود جملة النساء؟
المقصود أنه محرم على النساء؛ لأن الزوجة هي بنت بالنسبة لأبيها، وهي أم بالنسبة لأولادها، وهي أخت بالنسبة لأخيها وهكذا، فالأزواج في كلامهم -كما يقول ابن جرير وكما هو معروف في كلام العرب- المقصود به نساؤهم، لكن ليس المراد أنهم يحصرون ذلك التحريم على الزوجة فقط بل المقصود جملة النساء والله أعلم.
في قوله تعالى: سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ [سورة الأنعام:139] بعضهم يقول: هذا على نزع الخافض، أي: سيجزيهم بوصهم، وبعضهم يقول: فيه مقدر محذوف هكذا: سيجزيهم جزاء وصفهم، والوصف هذا هو الكذب والافتراء على الله -تبارك وتعالى- والقول عليه بلا علم، وسيجزيهم بهذا العمل وبهذا الافتراء الذي افتروه عليه.
إِنَّهُ حِكِيمٌ أي: في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره عَلِيمٌ [سورة الأنعام:139] بأعمال عباده من خير وشر، وسيجزيهم عليها أتم الجزاء.
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ [سورة الأنعام:140].
يقول تعالى: قَدْ خَسِرَ الذين فعلوا هذه الأفعال في الدنيا والآخرة، أما الدنيا فخسروا أولادهم بقتلهم، وضيقوا عليهم في أموالهم، فحرَّموا أشياء ابتدعوها من تلقاء أنفسهم، وأما في الآخرة فيصيرون إلى شر المنازل بكذبهم على الله وافترائهم، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ [سورة يونس:69-70].
وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية عن ابن عباس -ا- قال: إذا سرَّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ [سورة الأنعام:140] وهكذا رواه البخاري منفردًا في كتاب مناقب قريش من صحيحه[1].
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [سورة الأنعام:141-142].
يقول تعالى مبينًا أنه الخالق لكل شيء من الزروع والثمار والأنعام التي تصرَّف فيها هؤلاء المشركون بآرائهم الفاسدة، وقسموها وجزَّؤوها فجعلوا منها حرامًا وحلالًا، فقال: وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ [سورة الأنعام:141].
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: مَعْرُوشَاتٍ مسموكات، وفي رواية: فالمعروشات ما عرش الناس وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ما خرج في البر والجبال من الثمرات.
على هذه الرواية: "فالمعروشات ما عرش الناس" يعني ما زرعه الناس، وغير المعروشات يعني ما يخرج في البراري ونحو ذلك من غير زرع الإنسان، وهذا هو المعنى الأول.
وبعض أهل العلم حمل المعروشات على ما ينفرش سواء رفع أو لم يرفع كالعنب والبطيخ وما أشبه ذلك من الأشجار التي تنفرش على الأرض، وغير المعروشات يعني التي تقوم على ساق كالنخيل وسائر الأشجار التي تقوم على سوقها.
لكن المتبادر والله تعالى أعلم أن المعروشات هي ما يوضع له ما يقوم عليه مما يعرش، كما قال الله في النحل: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [سورة النحل:68] يعني يبنون بحيث يجعلون لها السقف وما تمتد فروعها عليه بحيث تكون مرتفعة، وغير المعروشات ما ليس كذلك والله تعالى أعلم، أي أن ما يخرج من الأشجار يكون على نوعين كل واحد منهما يحصل به الامتنان وتتجلى فيه عظمة الله وبديع خلقه.
وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس -ا: مَّعْرُوشَاتٍ ما عرش من الكرم وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ [سورة الأنعام:141] ما لم يعرش من الكرم، وكذا قال السدي.
وقال ابن جريج: مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ [سورة الأنعام:141] قال: متشابهًا في المنظر وغير متشابه في المطعم، وقال محمد بن كعب: كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ [سورة الأنعام:141] قال: من رطبه وعنبه.
وقوله تعالى: وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [سورة الأنعام:141] وقال مجاهد: إذا حضرك المساكين طرحت لهم منه، وروى عبد الرزاق عن مجاهد: وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [سورة الأنعام:141] قال: عند الزرع يعطي القبضة وعند الصِّرام يعطي القبضة ويتركهم فيتبعون آثار الصِّرام.
آثار الصرام يعرف باللقاط، والمعنى أن الفقراء يأتون ويلتقطون ما تساقط من الحب بعد الحصاد، وهذا كان معروف عندهم، وفي ترجمة الإمام أحمد أنه خرج يلتقط مع الناس ثم رجع وعجَّل في الرجوع فلما سئل عن هذا أخبر أنه رأى منظرًا كرهه وهو أنه رأى الناس يحبون على أربع؛ لأجل الالتقاط وذلك أنه مع تقارب الحب لا حاجة للقيام والقعود، والمقصود أن الإمام أحمد رأى هذا المنظر فكرهه ورجع.
الحاصل أن الفقراء كانوا يحضرون بعد الحصاد علَّهم يعطون شيئًا ويحضرون بعد الحصاد يلتقطون ما تساقط من الحب، فقوله -تبارك وتعالى- هنا: وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [سورة الأنعام:141] بعضهم يقول: هذا حق لا تقدير فيه فالله لم يذكر فيه حدًا محدودًا فعلى المرء أن يعطي شيئًا يوم الحصاد، لكن هل هذا الذي يعطيه يوم الحصاد هو زكاة أو أن في المال حقًا سوى الزكاة؟ يعني هل هذه الآية محكمة أم إنها منسوخة؟ أو هل هذا مما نزل قبل تقرير الحكم؟
وباعتبار أن سورة الأنعام مكية هل هذه الآية مدنية باعتبار أن الزكاة فرضت في المدينة وعليه فنقول: إن هذا مما نزل قبل فرض الحكم؟ أم نقول: إن هذه الآية أصلًا مدنية مستثناة من بقية السورة التي نزلت في مكة؟ أم نقول: إن هذه الآية مكية حيث كان فرض الزكاة أولًا بهذه الطريقة بحيث يعطى من حضر من الفقراء شيئًا من هذا الحصاد دون حد ولا تقدير، ثم بعد ذلك فرضت وبيّنت الأنصباء في المدينة، وعلى هذا القول الأخير تكون هذه الآية منسوخة بآيات الزكاة وما جاء عن الشارع من تحديد الأموال الزكوية وأنصبائها؟
هذا القول الأخير ذهب إليه طائفة من أهل العلم لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال، والأقرب أن أصل الزكاة فرض في مكة، ثم فرضت الأنصباء وحددت وفصلت وبيّنت وما الذي يُخرج منه الزكاة من الأموال في المدينة، والله تعالى أعلم.
وقوله: وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [سورة الأنعام:141] بعض العلماء يقول: هذا غير الزكاة، وفي بعض الآثار "في المال حق سوى الزكاة" لكن الجمهور على أنه لا يجب في المال سوى الزكاة وهذا الإخراج كان في أول الأمر، ويقول ابن جرير -رحمه الله: ليست الزكاة هي المقصودة بهذه الآية، ويحتج على ذلك بقوله: معلوم أن الزكاة لا يجب أن يُخرج في يوم الحصاد؛ لأن الحب لا يزال في سنبله فهو لا زال بحاجة إلى عدة عمليات حتى تخرج منه الزكاة.
وعلى كل حال فالتفاصيل التي بينها الله في الزكاة كانت في المدينة وأما ما في هذه الآية فهو أمر من الله أمر به في مكة، أي أن عليهم يوم الحصاد أن يعطوا من حضر من الفقراء شيئًا من غير محدد مما حصدوه، والله تعالى أعلم.
وقد تكون هذه الآية قد تكون محكمة باعتبار أن هذا حق لا تقدير فيه بل على المرء أن يعطي الفقراء شيئًا يوم الحصاد كما قال الله في المواريث: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ [سورة النساء:8]، وبعضهم يقول أيضًا هي محكمة: لكنها للندب وليست للوجوب، وسبق أن الجمهور يقولون: إنها نسخت بعد ذلك بالزكاة التي فصلها الله وهذا الذي اختاره أيضًا ابن جرير -رحمه الله، وعلى كل حال فالأقرب أن يقال في هذه الآية: إن الزكاة فرض أصلها بمكة ثم بينت تفاصيلها بالمدينة، والله تعالى أعلم.
يعني أن القبضة من الحب والضغث كالحشيش وسوق الذرة ونحو ذلك لعلف الدابة، وكل ما قبضت عليه بيدك يقال له: قبضة ويقال له: ضغث كما قال تعالى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا [سورة ص:44].
- أخرجه البخاري في كتاب المناقب - باب قصة زمزم وجهل العرب (3334) (ج 3 / ص 1297).