وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: 116-117].
وَقالُوا اتَّخَذَ قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت الصابئون وبعض العرب: الملائكة بنات الله.
قوله: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا يقول: قالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت الصابئون وبعض العرب. يعني أنها عامة.
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا تصدق على كل من صدر عنه ذلك من هذه الطوائف، وقد عدّها أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله-[1]، والحافظ ابن كثير[2]: أنها من قبيل الرد على النصارى، فابن جرير يرى أنها معطوفة على ما قبلها وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ فهو يرى أنها في النصارى -كما سبق- حينما منعوا اليهود من بيت المقدس وأخربوه إعانة لبختنصر، فهنا وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا أنها في جملة ذم النصارى، فهو يربط بين هذه الآيات، لكن ابن كثير -رحمه الله- يضيف إلى كونها في النصارى أنها أيضًا فيمن أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب، يعني: أنها في النصارى، ويدخل فيها من أشبههم من اليهود والمشركين، وابن جرير حينما يقول: بأنها معطوفة على ما قبلها مؤيدًا القول بأنها في النصارى وَسَعَى فِي خَرَابِهَا يرى أن ذلك قرينة مرجحة لأحد هذه الاحتمالات، وإلا فإنه في العادة كما هو معروف من منهجه أنه حينما يُذكر أقوالًا أو احتمالات في الآية يقول: وليس لنا أن نحمل الآية على أحد هذه المعاني إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
فعادته أنه يقول: هذه الآية تبقى على هذه الاحتمالات. يعني إلا إذا وجد دليل كقرينة ونحو ذلك، فيرى أن هذه هي القرينة، والله أعلم.
لكن وَقَالُوا الواو هنا عاطفة، وقالوا بما يظهر، بهذا الاعتبار رأى أنه ترتبط بما قبلها، الحديث في السابق إذا حملناه على النصارى وَقَالُوا، أي: النصارى، لكن حينما نقول: إن الآية سابقة لا تختص بالنصارى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أنها عامة وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، فذكر أيضًا من جملة هذه الجرائم الكبار نسبة الولد إلى الله فيدخل في ذلك كل من وقع في هذا.
كما ذكرنا في القاعدة أن القرآن حينما يذكر مقالة فإما أن يذكر قبلها، أو بعدها، أو في أثنائها ما يدل على بطلانها أو يسكت عن هذا، قلنا: إن السكوت غالبًا يدل على أن هذه المقالة صحيحة. فهذا مثال على الرد بعدها وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا يقف هنا ثم تقول: سُبْحَانَهُ: ننزهه عن هذا القول الذي هو أعظم الإفك والافتراء على الله.
أي: لو كان له ولد فهذا الولد سيكون شريكًا له، والله يقول: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ، فاللام هذه للمِلك، هم مربوبون عبيد لله فكيف يكون له ولد؟!.
أي: بمعنى لا يخرجون عن مشيئته وقدرته وملكه، بل هم عبيد مقهورون مدبَرون، وهم منقادون خاضعون للنواميس الإلهية في أبدانهم وغيرها طوعًا أو كرهًا، يعني: هذا الانقياد إما انقياد اختيار وعبودية، وإما انقياد قهر، يعني: أنهم منقادون له شرعًا طوعية، أو قدرًا يتصرف فيهم كما يشاء، ويجري عليهم من أقداره ما شاء لا يستطيعون دفع ذلك، وبنحو هذا قال كثير من السلف: كابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والسُّدي، وعكرمة[3].
وبعضهم يقول: بأن القنوت أصله القيام كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ، يعني: قائمون بالعبودية إما إقرارًا كأهل الإيمان، أو أن أثر الصَنعة ظاهر عليهم كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ [المائدة:75]، فإذا كان يأكل الطعام معناه: أن قيامه بغيره، وكذلك يحتاج إلى الخلاء، والإله لا يكون كذلك، فهنا كُلٌّ لَهُ أثر الصنعة ظاهر عليهم؛ لأن (كل) أقوى صيغة من صيغ العموم كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ، فإذا قلت: أهل الكفر يدخلون في هذا.
فهذا يكون من قبيل قنوت القهر بإجراء الأقدار عليهم أو بظهور أثر الصنعة، وكل هذا لا إشكال فيه، والله تعالى أعلم، وبعضهم فسر القنوت بالطاعة، وبعضهم يقول: مشترك بين هذه المعاني.
وابن جرير فسر كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ، بالإخلاص، وبعض السلف: كابن عباس جاء عنه أن قوله: كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ، أي: مصلون[4].
ويقول السُّدي: مطيعون يوم القيامة[5]. باعتبار أن الكافر متمرد على الله لكن يوم القيامة لا يوجد تمرد.
وجاء عن الربيع بن أنس قَانِتُونَ، يعني: كل له قائم يوم القيامة[6]، ومجاهد فسره بما يشبه المعنى السابق الذي ذكرنا من جريان القدر، لكنه ذكر شيئًا يشبه المثال كن إنسانًا فكان، كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ، يعني: أن مراد الله نافذ فيه، وجاء عن مجاهد أيضًا: بأن طاعة الكافر في سجود ظله وهو كاره[7]. واختاره ابن جرير، وذكر ابن كثير -رحمه الله-: أن القنوت هو الاستكانة والطاعة، وأنه على النوعين اللذين ذكرنا سابقًا: قدري وشرعي[8]. كما قال الله : وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [الرعد:15]، فابن جرير يفسر القنوت هنا بالطاعة والإقرار لله والدلالة على وحدانيته فهو إخبار بأن جميع من في السماوات والأرض كلها مقرة بدلالتها على ربها، وأن بعضهم وإن جحد فإن ألسنتهم وأجسامهم شاهدة على أن الله -تبارك وتعالى- هو الذي خلقهم ويتصرف فيهم كما شاء، الإنسان لا يختار صورته ولا يختار وقت ولادته، ولا وقت وفاته، وهكذا ما يجري عليه بين ذلك إنما هو محكوم بقدر الله لشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في قنوت الأشياء لله وقد استقرأ مواضع القنوت ورجح أن ذلك يرجع إلى معنى واحد: هو دوام الطاعة في كل القرآن يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ [آل عمران:43] دوام الطاعة، وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ [الأحزاب:35] الذين يديمون الطاعة، ونحو هذا.
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ، أي: مخترعها وخالقها ابتداء على غير مثال سابق؛ لأن كلمة بديع تدل على هذا المعنى، الشيء المبتدع البدعة على غير مثال سابق، فهذا يدل عليه أصل اللفظ، ابن جرير يربط أيضًا بين هذا والذي قبله، الذي قبله يعتبر أنه رد على النصارى الذين قالوا بأن المسيح ابن الله، فبهذا الاعتبار يفسرها؛ لأن الذي ابتدع السماوات والأرض بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ من غير مثال سابق قادر على أن يخلق المسيح من غير أب، كقوله: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ [الأنعام:101]، يعني كيف يكون له ولد؟! فجمع بين هذا وهذا، يعني: احتج بنفي الولد بقوله: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أن عيسى خلقه الله من غير أب فهذا لكمال قدرته، فخلق السماوات والأرض من غير مثال سابق أعظم من خلق المسيح من غير أب بهذا الاعتبار، وذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- وجوهًا أخرى في وجه هذا الاحتجاج.
وفي نسخة خطية: أي قدره وأمضاه.
يقول: أي: قدره أو أمضاه؛ لأن بعضهم يفرق بين هذا وهذا بطبيعة الحال، فبعضهم يفسره بالتقدير، وبعضهم يقول: وَإِذَا قَضَى أَمْرًا، أي: أمضى أمرًا، وسيتضح هذا بعد قليل -إن شاء الله-.
قوله: "قال ابن عطية: يتحد في الآية المعنيان". يعني: قصد معنيين يعني ليس قدره وأمضاه، وإنما أو أمضاه، ذكر معنيين فهنا أو وليست الواو؛ لأنه نقل كلام ابن عطية قال: يتحد في الآية المعنيان. يعني تفسيره بقدره، وتفسيره بأمضاه، بأي اعتبار؟ يقول: "فعلى مذهب أهل السنة". ويقصد بأهل السنة الأشاعرة، وكان ابن عطية -رحمه الله- من الأشاعرة، وقد اتهمه ابن عرفة المالكي بأنه على مذهب المعتزلة -وابن عطية مالكي- وأنه أخطر من الزمخشري، باعتبار أن الزمخشري معتزلي معروف فيُحْذر وأن ابن عطية لم يكن كذلك فكان يُدخل على أهل السنة عقائد المعتزلة من غير أن يشعروا بذلك.
وهذا الكلام غير صحيح، وبعض المعاصرين أيضًا اتهم ابن عطية بأنه من المعتزلة كأنه أخذ ذلك، بل أخذه من عبارة شيخ الإسلام أن ابن عطية كان ينقل عن ابن جرير أقوال السلف، ولكنه في قضايا الاعتقاد يقررها بنحو ما تقرر به المعتزلة أصولها، شيخ الإسلام لا يقصد أنه يُقرر الاعتقاد بتقريرات المعتزلة نفسها، وبنحو ما تقرر به المعتزلة أصولها.
ومما هو معلوم أن المعتزلة تقرر أصولها بالعقل، وهذا مذهب المتكلمين فيجعلون العقل أصلًا، يشتركون بهذا مع المعتزلة، يجعلونه أصلًا، والنقل تبع، فهو للاعتضاد والاستئناس وليس للاعتماد، ففهم هذا من كلام شيخ الإسلام أنه يقول: بأن ابن عطية من المعتزلة. وهذا غير صحيح، ومن استقرأ تفسير ابن عطية -رحمه الله- وجد فيه التصريح بالرد على المعتزلة باسمها، ووجد فيه مواضع من غير تصريح يرد فيه عقائد المعتزلة، بل يرد بعض أصولهم ويقرر أشياء في العقائد لا يقرها المعتزلة بحال من الأحوال، فلم يكن ابن عطية معتزليًّا، بل كان على طريقة المتكلمين من الأشاعرة.
فالشاهد هنا حينما يتحدث ابن عطية عن مذهب أهل السنة هو يقصد به مذهب المتكلمين من الأشعرية.
يقول: "يتحد المعنيان -أي قدّره أو أمضاه- فعلى مذهب أهل السنة قدر في الأزل وأمضى فيه". فيه الضمير يرجع إلى الأزل، أمضى فيه باعتبار أن عقيدة هؤلاء: أن الله ليس له أوصاف تتعلق بالمشيئة والإرادة، هم لا يقولون: بأن الله يتصف بالصفات المتعلقة بمشيئته وإرادته، فيقولون: كلامه أزلي قديم، وكل شيء قدره وقضاه في الأزل. تقدير بالإضافة إلى القضاء، يقول: يتحد المعنيان. بهذا الاعتبار، والواقع أنهما يتحدان عند الأشاعرة الذين ناظروا المعتزلة في مسألة الكلام وغيره من الصفات الاختيارية يعني المتعلقة بالمشيئة والإرادة، فألزمهم المعتزلة ببعض أصولهم، وقالوا لهم كلامًا لا أحب أن أذكره هنا لئلا يلتبس ويكون من قبيل إيراد الشبهة، المعتزلة في مناظرتهم للأشاعرة ألزموهم ببعض الالزامات، فكان نقص علم الأشاعرة بالكتاب والسنة أوقعهم في اضطرابات، فتارة التزموا بعض هذه الأمور، وقالوا بها، كما في هذه المسألة التي تتعلق بما يسمونه حلول الحوادث وتعدد القدماء إلى غير ذلك مما يعبرون به عنها، وهذا لا شك أنه خطأ وأنهم ألزموهم في أمر عنه جواب بنصوص الكتاب والسنة، لكن هؤلاء ينظرون بنظر الأعور إلى هذه النصوص، ولا بصر لهم بها، وما يفسرها من حديث رسول الله ﷺ فالتزموا هذه واضطربوا في بعضها، وتناقضوا فأتوا بأشياء لا يقرها لغة ولا عقل ولا نقل مثل مسألة الكلام النفسي فهي من ذيول هذه المسألة، وقعوا في أشياء أضحكت منهم العقلاء.
فالشاهد هنا أن هذا ليس على مذهب أهل السنة. يقول: "فعلى مذهب أهل السنة قدر في الأزل وأمضى فيه". نحن نعرف أن التقدير أنواع:
الأول: تقدير في الأزل، كما قال ﷺ: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء[10]، فهذا يسمونه التقدير الأزلي.
الثاني: التقدير العمري، وذلك كما النبي ﷺ: أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما أو أربعين ليلة، ثم يكون علقة مثله، ثم يكون مضغة مثله، ثم يبعث إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات، فيكتب: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد[11]، فهذا تقدير عمري.
الثالث: التقدير الحولي. فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا [الدخان:4-5]، يُفرق يُفصل يُقضى، فهذا في الحول في ليلة القدر، فلا يقال: إن هذا في الأزل.
والمفترض هنا في هذا الموضع أنها جاء إِذَا الشرطية وَإِذَا قَضَى أَمْرًا وعقب ذلك بالفاء فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ هم لا يثبتون الكلام أصلًا، فعند المتكلمين من المعتزلة أن هذا لا حقيقة له أصلًا؛ لأن الله لا يتكلم أصلًا، وأما الأشاعرة فإنهم يقولون: إنه يتكلم لكن لا بحرف ولا بصوت وكلامه لا تعاقب فيه ولا انقضاء. كن النون ليست بعد الكاف كل هذا يأتي دفعة واحدة، هذا الكلام لا يُعقل، ويقولون: الكلام هو المعنى دون اللفظ. وهذا لا يُعقل في اللغة؛ لأن الكلام لا يكون إلا مجموع اللفظ والمعنى، لكن هذا بسبب التزام هؤلاء فيما ذكرت حال مناظرة المعتزلة فأوقعوهم في هذه الأمور التي أضحكت منهم العقلاء فشنع عليهم المعتزلة شناعة كبيرة وقالوا: هذا لا يوجد في اللغة ولا يُعقل هذا الكلام النفسي الذي تقولونه. أرادوا الفرار من إلزام المعتزلة فوقعوا في هذا الاضطراب وجاءوا بالكلام النفسي وقالوا: كلام الله هو معنى واحد.
يعني: لا يتعدد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:1]، أنه يقول لعيسى : أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة:116] في اليوم الآخر، يقولون: لا، هذا كله كان في الأزل، ولا تتعاقب حروفه هذا بعد هذا، ولا كلماته ولا آياته كله كان دفعة واحدة، معنى واحد، فالتوراة والإنجيل والقرآن والزبور كل هذا يقولون: كلام الله، لكن المعنى هو كلام الله واللفظ مخلوق. إذن هم يوافقون المعتزلة في القول بخلق القرآن وتجد في شرح الجوهرة في بعض شروحها يقولون: لكن لا نقول ذلك إلا في مقام التعليم، لا نصرح به للعامة.
فالأشاعرة يصرحون في كتبهم وهو مقتضى قولهم يعني نحن لا نلزمهم باللازم إلا على سبيل المناظرة فقط، لكن القول بأن الأشاعرة يقولون: بأن القرآن مخلوق. بمجرد اللازم هذا لا يكون من العدل، لكن الواقع أنهم يصرحون بهذا ويختلفون: فبعضهم يقول: خلقه الله في الهواء. يعني كلام الله وبعضهم يقول: بأن جبريل تلقفه تلقفًا روحانيًّا -لأن الله لا يتكلم- فعبر عنه جبريل.
فهذا الكلام هو كلام مخلوق كلام جبريل، تلقَّفه تلقُّفًا روحانيًّا؛ لأن الله لا يتكلم -تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا-، وبعضهم يقول: بأن جبريل أخذه من اللوح المحفوظ.
أهل السنة يقولون في تنزلات القرآن نزل في اللوح المحفوظ، ونزل في بيت العزة في السماء الدنيا؛ لكن جبريل كان يسمع من الله مباشرة، فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: إذا تكلم الله بالوحي، سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، حتى إذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم[12].
فيصعق الملائكة ويكون أول من يفيق جبريل ويكلمه الله من وحيه بما شاء، وهذه عقيدة أهل السنة، فجبريل تلقى من الله، وليس من اللوح المحفوظ، ولا من بيت العزة كما يقول بعضهم.
وبعضهم يقول: بأن جبريل ألقاه إلى النبي ﷺ فعبر عنه النبي ﷺ فهذا القرآن هو كلام النبي ﷺ والمعنى من الله.
كل هذه الأقوال تدور على أن القرآن هو كلام مخلوق، وأن القرآن مخلوق في ألفاظه، والمعنى من الله، فهم يوافقون في الواقع المعتزلة في مسألة خلق القرآن، ويعتبرون أنفسهم الخط الأول في الدفاع عن أهل السنة والجماعة، وأنهم هم الذين يردون على المعتزلة، وأنهم الذين أفحموا المعتزلة وناظروهم بالمعقول، والواقع أنهم ناظروهم بقواعد يعتقدون أنها من المعقول فالتزموا انحرافات جديدة كما هو معلوم، هذا الاستطراد لا بد منه حتى نفهم مثل هذا الموضع الذي قد يمر هكذا وله نظائر؛ لأجل ألا يظن أحد أن هذا مذهب أهل السنة وأن المؤلف كان يقرره، تجدون مثل هذه العبارات ويقولون: هذا هو مذهب أهل السنة. ويحتج بأهل السنة، الأشاعرة يسمون أنفسهم بأهل السنة.
يقول هنا: "فعلى مذهب أهل السنة قدّر في الأزل وأمضى فيه". وقلنا: إن التقدير لا يلزم أن يكون أحد التقديرات هو التقدير الذي في الأزل.
يقول: "وعلى مذهب المعتزلة أمضى عند الخلق والإيجاد"، هذا يدل على أنه ليس على مذهب المعتزلة، يذكر أهل السنة ويقابلهم بالمعتزلة، فليس من العدل أن يقال: بأن ابن عطية كان من المعتزلة.
يقول: على مذهب المعتزلة أمضى عند الخلق والإيجاد. بأي اعتبار؟ باعتبار قال: وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ فالفاء تدل على التعقيب المباشر وَإِذَا قَضَى، وإذا هذه شرطية، فعند الخلق والإيجاد.
المعتزلة يقولون: هذا الكلام هو خلق خلقه الله ويكلم المسيح يوم القيامة، باعتبار أن الكلام مخلوق، يخلق كلامًا، وليس كلامه الذي هو صفته، باعتبار أن الحوادث لا تحل بذات الله .
فالمعتزلة يفصلون بين الذات والصفات، فيقولون: الصفات منفكة عن الذات، فإذا أثبتنا الصفات قلنا: إنها قديمة؛ تعدد القدماء، ولا يجوز تعدد القدماء.
وأهل السنة يقولون: الصفات ملازمة للذات غير منفكة. فلا تُتصور ذات بدون صفات، وهؤلاء يقولون: الصفات مخلوقة.
فمذهب المعتزلة من وجه أعقل من مذهب الأشاعرة، وإن كان الجميع على ضلال وانحراف، لكن مذهب الأشاعرة في بعض القضايا لا يتفق مع لغة، ولا مع عقل، ولا مع نقل، فالمعتزلة ما عقلوا كلامًا في الأزل لا تعاقب فيه، ولا انقضاء، وإن الكلام هو النفسي، قالوا: لا يوجد شيء اسمه كلام نفسي، ولا يعرف في اللغة، وكيف يكون لا تعاقب فيه ولا انقضاء؟.
لكن يقولون: الله خلقه. هذا مخلوق وانتهى. قال: وعلى مذهب المعتزلة أمضى عند الخلق والإيجاد. بأي اعتبار؟ أنه جاء بـ إِذَا الشرطية وإذا تدل على التكرر بتكرر المشروط وَإِذَا قَضَى أَمْرًا والفاء تدل على التعقيب المباشر، فدل على أنه يقول له: كن. إذا قضى، فكل ما قضى أمرًا فمباشرة يقول له: كن. هذا عند المعتزلة، طبعًا هذا القول عند المعتزلة أعقل من قول الأشاعرة.
لاحظ: لأن القدر قديم! وعرفت أنت بأن القدر منه ما هو قدر أزلي، ومنه ما ليس كذلك، أنواع القدر، هؤلاء يطلقون الكلام على عواهنه ولا يجمعون بين النصوص ولا بصر لهم بها أصلًا، ونحن إنما نتكلم بمقتضى النصوص، يعني في كل هذه القضايا نورد لكم النصوص الواردة فيه.
قوله: "لا يكون قضى بمعنى قدر؛ لأن القدر قديم". هذه المقدمة غير مُسَلمة باعتبار أن القدر منه ما هو أزلي، ولا نعبر بالقديم، ومنه ما هو غير ذلك: كالتقدير العمري، والتقدير الحولي.
يقول: "(وإذا) تقتضي الحدوث والاستقبال". هذا الإشكال عندهم هنا، هذا الذي أشكل عليهم وذلك يناقض القدم، فهم بنوا على أصل فاسد فاستشكلوا الآية، يناقض القدم، إذن هو سيبحث عن معنى آخر لقضى غير قدر؛ لأن ذلك ممتنع عنده؛ لأن التقدير أزلي وهذا بناء على مقدمة فاسدة، على تصور غير صحيح، قال: وإنما قضى هنا بمعنى أمضى.
يعني: أمضى الذي كان قدره في الأزل من أجل أن يتفق مع إِذَا الشرطية، والفاء التي تدل على التعقيب المباشر أمضى ما قدره في الأزل، طبعًا هم سيستشكلون فيما بعده فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وعندهم أن الله لا يتكلم حقيقة، كل هذا يُشكل عليهم، يخرجون من إشكال، ويظهر لهم إشكال آخر في نفس اللفظ مثل الذي طلب من بعض أئمة القراءة أن يقرأ له الآية: (وكلم اللهَ موسى تكليمًا) بدلا من وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، قال: اقرأها هكذا. قال: هب أني قرأتها. يعني يصير المتكلم هو موسى، فما تقول في قوله تعالى في مجيء موسى للميقات: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143]، فبُهت[13].
قال: "وإنما قضى هنا بمعنى أمضى أو فعل أو أوجد". وأمضى وفعل وأوجد هذه أفعال فهي تتعلق بالمشيئة والإرادة، وهم يمنعون من هذا، فإذا أثبتوه فلماذا لا يثبتون إذن أفعال الله المتعلقة بمشيئته وإرادته الواردة في الكتاب والسنة؟
قال: كقوله: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [فصلت:12]، وقد قيل: إنه بمعنى حتم الأمر. يعني أوجبه. قال: وبمعنى حكم. كلمة قضى في اللغة تأتي بمعان ذكر جملة منها الأزهري في كتابه (تهذيب اللغة)[14]، وأرجع ذلك إلى انقطاع الشيء وتمامه وأنه مشترك، يعني: بين هذه الإطلاقات أو المعاني، فتأتي بمعنى خلق، حمل عليه قوله: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، بمعنى أعلم وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ [الإسراء:4]، بمعنى أعلمنا، مع أن هذه ليست محل اتفاق، هذه المعاني التي يذكرها الأزهري في كل موضع فيه خلاف للمفسرين فيها، ويأتي بمعنى أمر وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، يعني أمر، وكذلك وفى فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ [القصص:29]، وكذلك المعنى الخامس: أراد وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فسرها بأراد.
ويقول ابن جرير في هذه الآية: وَإِذَا قَضَى أَمْرًا وإذا أحكم أمرا وحتمه، وأصل كل قضاء أمر الإحكام، والفراغ منه[15].
هذا على كل حال وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ إذا قضى أمرًا يعني إذا أحكم أمرًا وحتمه، وحكم بوقوعه فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ وهذا على ظاهره، وليس كما يقول بعضهم: بأن ذلك عبارة عن جريان الإرادة والتقدير فيه فيتحقق ويحصل، يعني: أنه ليس هناك قول حقيقي أنه يقال له: كن.
وهذا خلاف ظاهر القرآن؛ لأنه ذكر القول، والقول في لغة كلام العرب هو: مجموع اللفظ والمعنى إذا أُطلق، ولا يقال لغير ذلك، فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وذكر العبارة التي تُقال، وما ينتج عنها من قوله فيكون.
يقول هنا: "والأمر هنا بمعنى الشيء وهو واحد الأمور وليس بمصدر أمر يأمر". يعني: وَإِذَا قَضَى أَمْرًا الأمر يأتي ويطلق بإطلاقين:
الإطلاق الأول: أن الأمر بمعنى طلب الفعل مثلًا على وجه اللزوم، أو غير اللزوم، يعني: الأمر الجازم، وغير الجازم الذي هو الوجوب والاستحباب، فهذا حينما يقال: افعل. هذا أمر.
الإطلاق الثاني: وهو واحد الأمور. تقول: ما الأمر. ما أمر فلان؟ يعني ما شأنه، فالأمر يقال لهذا وهذا.
فهو يقول هنا: الأمر ليس معناه الأمر الذي هو طلب الفعل وإنما واحد الأمور.
وذكر بعضهم أن الأمر في القرآن ورد لأربعة عشر معنى، لكن هذا التشقيق يولع به من يتحدثون عن الأشباه والنظائر في القرآن، يشققون هذا ويحملونها على محامل كثيرة قد يجتمع ذلك في بعضها فتُختصر هذه الأربعة عشر مثلًا في أقل من النصف أو الثلث أو الربع، وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ [التوبة:48]، هل المقصود بظهر أمر الله هنا الأمر افعل؟، وإنما دينه وشرعه فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا [المؤمنون:27]، هذا الأمر الذي هو افعل جَاءَ أَمْرُنَا، وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ [إبراهيم:22]، يعني: الشأن والقيامة ودخول النار، وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كما في هذه الآية فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ [غافر:78]، أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1]، يعني: القيامة، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ [يونس:31،3] [الرعد:2] [السجدة:5]، فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا [الطلاق:9]، وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ [هود:97]. قال: وليس بمصدر أمر يأمر.
هذا الموضع سبب الإشكال عندهم فيه -والله أعلم- أمران:
الأمر الأول: هو ما يتعلق بتركيب الكلام من حيث اللغة وَإِذَا قَضَى أَمْرًا إذا هذه شرطية وهذا للمستقبل فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الفاء تدل على التعقيب المباشر، فما معنى قضى؟ هل هي بمعنى حكم؟ هل هي بمعنى إحكام الشيء والفراغ منه؟ هل هي بمعنى أمر؟، المعاني التي ذُكرت، هم يختلفون في تفسير قضى هنا وَإِذَا قَضَى أَمْرًا، وقضى تأتي لعدة معاني هذا صحيح، وإن كان يجمعها جامع، فهنا إذا فُسرت بمعنى إحكام الشيء على وجه الفراغ منه فكيف يكون وجوده بعد القضاء؟، فإن القضاء يعني النفوذ، وما نقله عن ابن جرير صحيح، أقصد أن ابن جرير قاله: أن ذلك مقارن للقضاء، بمعنى أن القضاء يدل على النفوذ، وإحكام الشيء وتحتيمه والفراغ منه، فلا يكون بعده، المقضي يعني لا يكون بعده، من هذه الحيثية جاء الإشكال، لا يكون بعده وإنما ينفذ ذلك مباشرة، فهذا من جهة.
الأمر الثاني: وهي أن هذا وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، القضية الثانية التي أوقعتهم في الإشكال هي أنه هل يُخاطب المعدوم؟ هذا غير موجود، يُراد إيجاده فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ هل يخاطب المعدوم؟ فهذا ألجأ بعضهم إلى القول: بأن ذلك يكون بعد إيجاده. وهذا أبعد ما يكون فهو خلاف ظاهر القرآن، لكن الذي حمله على هذا مسألة مخاطبة المعدوم عندهم.
والمتكلمون لهم كلام كثير في هذه المسألة: هل يخاطب المعدوم أو لا؟ واضطرب كلام هؤلاء فيها، فالمعدوم نوعان:
الأول: نوع لم يكن في علم الله أصلًا؛ لأنه لا يكون ولا يوجد ولم يقدر الله وجوده ولا قضاؤه سواء كان من قبيل المستحيلات أم ما لم يقدره الله فهذا المعدوم وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا فهذا لا يتوجه إليه أصلًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فهذا المعدوم لا يتوجه إليه كُنْ وهو ليس بشيء، هل المعدوم شيء أو ليس بشيء؟، فهذا النوع من المعدوم يعني وجود إنسان مثلًا رأسه من در، هذا يُتصور، العقل قد يُتصور المعدوم بل يتصور المحال أحيانًا، وجود إنسان في مكانين في وقت واحد هذا مستحيل عقلًا، كون إنسان موجود معدوم في نفس الوقت هذا مستحيل؛ لأن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، فهذا لا يتعلق به خطاب وليس بشيء إطلاقًا، فلا يتوجه إليه كُنْ.
الثاني: وهو ما كان في مقدور الله وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا [مريم:9]، فنفى كونه شيئًا فهذا معنى العدم، فالذي لم يوجد معدوم، فالمعدوم الذي في علم الله أنه يوجد وقدره هنا لا يتوجه إليه الخطاب من حيث النظر إلى كونه معدومًا، ولكن يتوجه إليه الخطاب باعتبار الإيجاد، كما قال الله هنا: وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فهذا خطاب إيجاد وخلق ويتوجه إلى هذا المعدوم الذي في علم الله أنه يوجد، ويكون شيئًا فصح توجيه الخطاب إليه، فمن هنا يكون الخطاب قبله ويكون وجوده بعد قول: كُنْ يكون وجوده بعده، فهذه من قضايا المتكلمين التي يثيرونها فالنظر إليها من هاتين الناحيتين قدر زائد.
ثالثا: وهي مسألة: كُنْ هل هذا خطاب باللفظ أو لا يقال ذلك باعتبار أنهم يعتقدون أن الله لا يتكلم أصلًا، هذه مسألة ثالثة، لكن مدار البحث في هذه القضية على أمرين، ومسألة هل يتوجه الخطاب إلى المعدوم أو لا ؟ هذا فيه تفصيل، وأهل السنة تكلموا في هذا وردوا على هؤلاء وفصلوا في المسألة، من شاء مثلًا فليراجع فتاوى شيخ الإسلام المجلد الثامن صفحة (181) فما بعدها، والمجلد التاسع صفحة (282) فما بعدها، هذا على سبيل المثال في الفتاوى، وإلا فقد تكلم على هذه المسألة في كتب أخرى متعددة.
قال: وقال الأصوليون -يعني المتكلمين الأشاعرة- إن هذا عبارة عن نفوذ قدرة الله تعالى وليس بقول حقيقي. لماذا؟ لأنهم ينفون صفة الكلام وهذا غلط، قال: لأنه إن كان قول: كُنْ خطابًا للشيء في حال عدمه لم يصح؛ لأن المعدوم لا يخاطب -وهذا فيه تفصيل- وإن كان خطابًا للشيء في حال وجوده لم يصح. يعني هؤلاء الذين يقولون: بأن هذا الخطاب بعده. يوجد من قال هذا، هذا مثل إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا [المائدة:6]، يعني: إذا أردتم القيام، لا، وَإِذَا قَضَى أَمْرًا يعني هنا أراد إيجاده لا نفسر القضاء بمجرد الإرادة، وإنما حتمه ونحو ذلك وأمضاه وحكم به، مريدًا ووجوده فإنه يحصل بقول كُنْ، هذا المراد والله أعلم، لكن هؤلاء أدخلوها في هذه المقالات الفاسدة فذهب المعنى الأصلي الذي ذكره الله لبيان كمال قدرته وأنه المتفرد بالخلق والإيجاد والتصرف وحده فهو الذي يستحق أن يُعبد وحده ولا يُضاف إليه صاحبة ولا ولد، هذا هو المراد، لكن هؤلاء دخلوا في مسألة خطاب المعدوم وضاع المعنى الذي نزلت من أجله الآية، اشتغلوا بأمر آخر.
يقول: وإن كان خطابًا للشيء في حال وجوده لم يصح لأنه قد كان، وتحصيل الحاصل غير مطلوب. وحمله المفسرون على حقيقته، وأجابوا عن ذلك بأربعة أوجه.
هذا القول الأول هو الذي يصح على التفصيل الذي ذكرته أن المعدوم منه ما لا يكون في علم الله أصلًا، يعني في علم الله أنه لا يوجد، وإنما المقصود هنا هو ما سيوجد في علم الله، فقد قدره، فهذا الذي يتوجه إليه كن.
هذا الذي قاله ابن جرير.
يعني: ليس بإيجاد المعدوم كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة:65] [الأعراف:166]، يعني: المسخ، فهذا الذي موجود يحوله، فيقول: كإحياء الموتى، ومسخ الكفار، وهذا ضعيف؛ لأنه تخصيص من غير مخصص. لأنه قال: وَإِذَا قَضَى أَمْرًا ما قال: أمرًا موجودًا. فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ ليموت يعني إن كان حيًا أو يحيى إن كان ميتًا، أو يُمسخ إلى هيئة أخرى، أو يمرض أو يصح، أو نحو ذلك.
والرابع: أن معنى يَقُولُ لَهُ يقول من أجله، فلا يلزم خطابه.
والأول أحسن هذه الأجوبة.
يعني: لا يلزم أن يكون هذا متوجه إلى المعدوم فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ، يعني: يقول في شأنه وحقه فيكون قال لأجله كن بهذا الاعتبار.
لاحظ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ انتهى جملة جديدة على الاستئناف فَيَكُونُ يعني فيوجد.
يعني بمعنى أنه خبر، جملة خبرية والمبتدأ محذوف: فهو يكون.
فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، الفاء عاطفة على يقول، و(يكون) معطوف على يَقُولُ، فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ هذه النتيجة، فتكون عاطفة، ويكون هذا الكلام مترابطًا والوقف يكون على فَيَكُونُ والفاء لا تكون استئنافية، كلام جديد، وإنما هو عطف على ما مضى من قوله: يَقُولُ يتضمن النتيجة لهذا القول كُنْ فَيَكُونُ فلا تقف عند فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ إذا كنت تريد إنها عاطفة ليتم المعنى، لكن على الأول فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ انتهى فهو يكون جملة جديدة مبتدأ وخبر.
طبعًا هذا الذي مشى عليه ابن جرير، هو يقول: معه يكون الوجود، الوجود مع كن فيكون. ولكن هذا ليس بلازم في الواقع يعني لا على قول ابن جرير -رحمه الله-، ولا على قول ابن عطية -رحمه الله-، فإن الفاء تدل على التعقيب المباشر ولكن المباشرة بكل شيء بحسبه، فهنا هي تدل على التعقيب المباشر، فيكون وجوده بعد قول: كُنْ هذا واضح ولا يُشترط أن يكون مقارنًا له، فإن الفاء تدل على التعقيب المباشر، فهو لا يتأخر عن ذلك، ليس معناه أن يكون مقارنًا له وإنما يكون نتيجة وتابعًا لقول: كُنْ، وهذا كما سبق أن الآية سيقت لبيان عظمة الله وكمال قدرته، فكيف يفعل الجدل في النصوص وفي معانيه مثل هذا الذي سمعتم، ما أُحب أن أورد شيئًا من كلامهم إطلاقًا، لكن هو الآن يورد كلام بعضه ظاهر وبعضه خفي في عقائد المتكلمين ولا يتفطن له أكثر من يقرأ هذا، وبعضهم لا يظن أن الكلام أصلًا يتعلق بالعقيدة، فلا بد من التعليق، وبعض هذه المسائل قد تكون دقيقة وتحتاج إلى شيء من الإيضاح لبعض المتعلقات: لماذا يقولون كذا؟، وما هو مذهب أهل السنة فيها؟.
أسئلة:
س: يقول: هل من تعليق على قوله تعالى: ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ [البقرة:272]، هل صحيح تفسيره ابتغاء النظر لوجه الله، وهل تفسير ابتغاء ثواب الله من التأويل؟.
جـ: ليس هذا هو المراد ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ليس معناه النظر لوجه الله، والتفسير بثواب الله هو تفسير لها ببعض لوازمها ولكن ليس هو معناها، فيها إثبات صفة الوجه، ومن لوازم ذلك طلب الثواب وما إلى هذا من المعاني.
س: يقول: هل يمكن لطالب العلم المبتدئ أن ينظر في مجموعة كتب في التفسير كأن يقرأ وجهًا واحدًا من المصحف ثم ينظر في عدة كتب في التفسير: كالسعدي وابن كثير والقرطبي وابن جرير؟.
جـ: لا، ليس للمبتدئ أن يفعل هذا، لكن يقرأ في مثل تفسير المختصر، أو التفسير الميسر، أو تفسير السعدي، أو نحو هذا ولا يتوسع بهذه الطريقة المذكورة؛ لأنه سيجد أقوالا للمفسرين واختلافات وسيتوقف متحيرًا.
س: يقول: ما الواجب إذا رأيت من يقيم بدعة أو شركًا في المسجد؟.
جـ: أن تُعلمه، وتُنكر عليه، لكن ما هي البدعة؟ قد يُنكر الإنسان أشياء ويعتقد أنها من البدعة وهي من السنة، فهذا لا يكون إلا لمن كان له علم بهذا.
س: يقول: عند قوله: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا [البقرة:111]، استشهد المؤلف بقول الفرّاء: أصله يهودي فحُذفت منه الياء على غير قياس. وفي الهامش قال الفرّاء: حُذفت منه ياء يهودا، وهل يكون هذا الذي في الهامش أنسب؟.
جـ: لا، هذه نسخة من النسخ ويبدو أنها محرفة، يهوديًا هذا الذي عند الفرّاء، أما قولك: هذا الذي في الهامش يكون أنسب. فلا، يهوديًا حُذفت منه الياء، فأين الياء في يهودا، يهوديًا هي عبارة الفرّاء في كتاب الفرّاء.
س: يقول: هل يجوز ما يفعله بعض الرُقات من الاستعانة ببعض الجن حال الرقية؟.
جـ: لا يجوز الاستعانة بالجن، والجن لا يعطونه شيئًا إلا بمقابل، ويتلاعبون بهم تلاعبًا كثيرًا، ولربما أضلوهم وقالوا لهم كلامًا لا حقيقة له إما في جنس العلة ونوعها، أو كان ذلك فيما يزعمون لأنفسهم، يقول: أنا ملك الجن. مثلًا، أو أنه من كبارهم أو أنه دخل في الإسلام، أسلم ويقول: أنا طوع يديك. ويذكر له معلومات وأشياء غير صحيحة فلا يزال به حتى يضله، فهم لا يقدمون شيئًا إلا بمقابل، ويتعامل مع مجاهيل لا يدري ما هذا، فلا يفتح على نفسه بابًا لربما يؤدي به إلى ضلالات، ويتحول فيما بعد إلى ساحر ونحو هذا، ويتعامل مع الشياطين.
س: ما تفسير قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29]؟.
جـ: فُسر قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ بمعنى أنه يُعز قومًا ويُذل آخرين، ويرفع أقوامًا ويضع آخرين، ويرزق ونحو ذلك، فالله أعلم، لكن الذي ذكره أهل العلم في التقدير هذه الأنواع التي ذكرتها آنفًا، يذكرون أربعة أنواع، ويذكرون النوع الآخر الذي في الصحف في أيدي الملائكة، بعضهم يذكر هذا وبعضهم يذكر غيره، ولكن لا شك أن الله متصف بصفات الكمال، فيفعل ما شاء ويحكم بما يريد، فهو يرزق ويحيي ويميت ونحو ذلك، فلم يزل بصفات الكمال متصفًا منذ الأزل، وهكذا لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، وليس بمعطل عن أوصاف الكمال.
س: نزول آيات الحجاب عقب زواج النبي ﷺ بالسيدة زينب هل هذا كان في السنة الخامسة للهجرة أم الثالثة أم تكرر نزولها؟.
جـ: لا أدري، لكن الذي أعرف أن الحجاب كان في السنة الخامسة للهجرة.
س: هل يجوز القول بأن النبي ﷺ هُزم في أُحد أم يقال: هُزم المسلمون في أحد بمخالفة أمر رسول الله ﷺ؟.
جـ: النبي ﷺ لم ينهزم ولم يفر -عليه الصلاة والسلام-، ولكن على كل حال الله -تبارك وتعالى- أجرى ما حصل بسبب ذنوب بعضهم، فكان ما كان من التراجع والقتل والجراح ونحو ذلك، والقول بأن ذلك كان للمسلمين يعني هُزم المسلمون في أحد هذا لا شك أنه أليق من القول بأن النبي ﷺ هُزم في أحد، والتأدب في الألفاظ ونحو ذلك مطلوب، لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا [البقرة:104]، وكذلك أيضًا وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]، أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79]، وقال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف:82]، ونحو هذا في الألفاظ ذكر بعضه في قوله تعالى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3]، ما قال: وما قلاك. فالنبي ﷺ لا ينهزم ولا يفر -عليه الصلاة والسلام- بمعنى الفرار من المعركة والهزيمة، وفي يوم حنين وقف ﷺ على بغلته البيضاء وهي بغلة لا تُحسن الكر والفر والسهام كأنها مطر تزعزعه الريح ويقول ويعلن نفسه -عليه الصلاة والسلام-: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، ولم يثبت معه إلا نحو عشرة من هذا الجيش الذي مع مسلمة الفتح، بلغ ما يقرب من اثني عشر ألفًا، وهو يقول هذا -عليه الصلاة والسلام- ويأمر العباس أن ينادي يا أصحاب السمرة، الذين بايعوه تحت الشجرة في الحديبية، هذا لكمال شجاعته، وعلي ذكر هذا في شجاعة النبي ﷺ وعلي أشجع الناس يقول: كان إذا حمي الوطيس كنا نلوذ برسول الله ﷺ. يعني يحتمون به ﷺ فلا يتقدم إليه أحد إلا تقدم عليه.
س: القول بالسيدة زينب؟.
جـ: على كل حال هي سيدة، والنبي ﷺ قال: إن ابني هذا سيد ، وقال عن فاطمة -ا-: بأنها سيدة نساء أهل الجنة، فإذا قال الإنسان السيد، صح أن السيد هو الله، لكن هل يُمنع من إطلاقه على المخلوق أو لا؟ النبي ﷺ قال: إن ابني هذا سيد، وابن عمر قالوا له: أنت سيدنا وابن سيدنا. بالإضافة وما أنكر هذه اللفظة بعينها، فلم يقل: السيد هو الله. ولكنه قال: لست بسيدكم ولا ابن سيدكم فما تزالون بالرجل حتى تهلكونه. يعني يقصد المدح والغلو والإطراء وما كانوا يدعونه إليه يقولون: أنت تصلح للخلافة، ولماذا تقعد. ونحو هذا، وكذلك جاء عن النبي ﷺ أنه قال: السيد هو الله، ردًا على من وجه ذلك إليه فهذا حُمل من باب تواضعه -عليه الصلاة والسلام-، والله يقول: وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ [يوسف:25]، والنبي ﷺ أخبر أن المرأة سيدة في بيتها ونحو هذا، فبعض أهل العلم منع منه إذا دخلت عليه (أل) المُعَرفة السيد، فقالوا: هذا هو الممنوع، وأما بالإضافة أو بالتنكير إن ابني هذا سيد فإنه لا إشكال فيه. والله أعلم. ومن له شرف ومنزلة لكن لا يُخص أحد بعينه بلقب يضاهى فيه أحد البدع كأن يقال مثلًا: الإمام علي.
هو إمام لكن لماذا لا يُقال: الإمام عمر؟ لماذا الإمام علي؟ الرافضة يعتقدون أنه أول الأئمة، الإمام الحسين فاطمة -عليها السلام-، لماذا لم نقل عائشة -عليها السلام-؟ ما سمعناها ولا مرة، مضاهاة لقول أهل البدع، مع أنك قد تجد هذه العبارات في بعض كتب أهل السنة كثيرًا، بل في بعض أصول كتب السنة، أعني كلمة ، لكن لا يخص به أحد بعينه على سبيل المداومة والملازمة فيكون ذلك مضاهاة لأهل البدع وإن كان بهذه المثابة هو سيد وإمام و، يصح أن يقال: فلان ﷺ. لكن جرى العمل على أن الصلاة تكون على الأنبياء والسلام، والترضي عن الصحابة، والترحم على من بعدهم، لكن لو قيل: أبو بكر ﷺ. العبارة صحيحة، علي ﷺ العبارة صحيحة، يا رسول الله صلي علي وعلى زوجي قال: (صلى الله عليك وعلى زوجك)، وقال: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]، وقال ﷺ: اللهم صل على آل أبي أوفى، فهذا لا إشكال لكنه لا يُتخذ عادة، أو يُخص به أحد بعينه دون غيره. والله أعلم.
- تفسير الطبري (2/537).
- تفسير ابن كثير (1/396).
- تفسير ابن كثير (1/397).
- تفسير ابن كثير (1/397).
- تفسير الطبري (2/538).
- تفسير الطبري (2/539).
- تفسير الطبري (2/538).
- تفسير ابن كثير (1/397).
- تفسير ابن عطية (1/201).
- أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى -عليهما السلام-، رقم: (2653).
- أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِين} [الصافات:171]، رقم: (7454).
- أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في القرآن، رقم: (4738).
- شرح الطحاوية (1/177).
- تهذيب اللغة (9/169)، وما بعدها.
- تفسير الطبري (2/542).
- تفسير الطبري (2/547).
- تفسير ابن عطية (1/202).
- تفسير الطبري (2/544).
- تفسير ابن عطية (1/202).