الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وعلمنا الحكمة والقرآن، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولشيخنا والحاضرين والمستمعين، أما بعد:
فيقول الإمام ابن جُزي -رحمه الله تعالى- عند قوله تعالى:
قوله: "وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ هم هنا وفي الموضع الأول كفار العرب على الأصح" ويعني بالموضع الأول: قوله -تبارك وتعالى-: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ، وقد مضى الكلام على هذا، وهذا قال به كثير من أهل العلم من السلف، كأبي العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، والسّدي[1].
وبعض أهل العلم يقولون: إن المراد بهم في هذا الموضع: كفار العرب، وفي الموضع الأول: اليهود والنصارى.
الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول محتجًا للقول بأنهم العرب: إن ذلك يؤيده قوله -تبارك وتعالى-: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الأنعام:124] وقوله: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا [الإسراء:90]، ونظائر ذلك:كقوله: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا [الفرقان:21][2].
فقولهم هذا كقول من قبلهم من اليهود والنصارى:يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ [النساء:153]، وقوله: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55] فهذا صدر عن كفار العرب، وعن أهل الكتاب: اليهود والنصارى.
فإذا قلنا: إن هذا يُراد به العرب، فالذين من قبلهم هم اليهود، كقولهم لموسى : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55] حيث طلبوا مثل ما طلب العرب.
وإذا قلنا: إن هذا في اليهود والنصارى، أو العرب واليهود والنصارى معًا، فإن قوله: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني الأمم السابقة، حينما طلبوا من أنبيائهم مثل هذه المطالب.
والحاصل أن هذا الموضع فيه ثلاثة أقوال:
الأول: أن المراد بهم النصارى، وهو قول ابن جرير[3].
باعتبار أنه يذهب إلى أن الكلام قبله، وهو قوله تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا في النصارى ورد عليهم، ثم قال: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ وأن هؤلاء النصارى هم أهل الجهل والضلال، فهو ربط هذا بالذي قبله، فيرى أن السياق في النصارى بهذا الاعتبار.
الثاني: أن المراد: كفار العرب.
الثالث: أن المراد: اليهود والنصارى.
وهناك أيضًا قول رابع: وهو أن المراد بهم الجميع، اليهود والنصارى، وكفار العرب.
عرض بمعنى: طلب، بصيغة العرض، فمعنى: لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ هلا يكلمنا الله.
"أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ أي دلالة من المعجزات، كقولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا [الإسراء:9] وما بعده.
كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني اليهود والنصارى على القول: بأن الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ كفار العرب، وأما على القول بأن الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ اليهود والنصارى، فـالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هم أمم الأنبياء المتقدمين".
الله -تبارك وتعالى- يقول: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153] فاليهود والنصارى سألوا مثل هذه الأسئلة، وطلبوا مثل هذه الأمور، فهذا كله وقع منهم، والآية إذا كانت تحتمل معانٍ، ويدل على هذه المعاني دلائل من الكتاب، أو من السنة، أو كانت هذه المعاني صحيحة من جهة محملها، ولا يوجد ما يمنع من الحمل عليها، فإن الآية تحمل على ذلك جميعًا.
فهذه الآية: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ يحتمل أن يُراد بها الكفار من العرب، ويحتمل أن يراد بها اليهود والنصارى.
وقوله: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ يعني أن هذا أمر قد تتابعت عليه، وتوافقت عليه قلوب الكفار من الأمم.
لكن قد دل القرآن على أن الجميع طلب ذلك، في قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ فكلهم طلبوا مثل هذه الأمور كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ يعني ليس ذلك بجديد بل هي السنن؛ ولهذا قال الله -تبارك وتعالى-: تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ فلما تشابهت القلوب، تشابهت وتتابعت الألسن.
الأمم السابقة كانوا يقولون مقالات تتفق مع مقالات من بُعث فيهم النبي ﷺ فتواطؤ القلوب والألسن على هذا الباطل، صرح به القرآن، كما قال الله : كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ [الذاريات:52-53] يعني: كأنه أمر يتواصى به الأمم، يوصي بعضهم بعضًا أن يقولوا: ساحر، أو مجنون، مع إن الواقع أنهم لم يتواصوا به؛ ولهذا أضرب عن قوله: أَتَوَاصَوْا بِهِ فقال: بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات:53] يعني الواقع أن هذا بسبب طغيانهم وكفرهم وعتوهم على الله -تبارك وتعالى-، وتمردهم على أنبيائهم ورسلهم، فكانت المقالة هي المقالة، والله المستعان.
قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، والله يقول: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الإسراء:59] يعني: آية مبصرة، وليس ذلك صفة للناقة، أنها ذات بصر، وإنما الآية مبصرة يعني واضحة، لا خفاء فيها، فظلموا بها.
فالمقصود بالآيات هنا ما يطلبونه من المعجزات، وخوارق العادات، والله -تبارك وتعالى- كما أخبر النبي ﷺ: ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر[4]، يعني أعطاه ما يثبت نبوته من الدلائل والبراهين، ولكن هؤلاء يطلبون أمورًا يقترحونها هم، فهذا قد وقع لمن قبلهم، فكذبوا ولم تنفعهم هذه الآيات، فكان ذلك سببًا لمحقهم وعذابهم.
يعني حيث وقع هذا الوصف للنبي ﷺ بَشِيرًا وَنَذِيرًا يعني: تُبشر أهل الإيمان، وتنذر الكفار.
"(وَلَا تَسْأَلْ) بالجزم نهي، وسببها: أن النبي ﷺ سأل عن حال آبائه في الآخرة فنزلت، وقيل: إن ذلك على معنى التهويل، كقولك: لا تسأل عن فلان لشدّة حاله.
وقرأ غير نافع بضم التاء واللام: أي لا تُسألُ في القيامة عن ذنوبهم".
قوله هنا: (ولا تَسألْ) هكذا على النهي (لا تَسألْ عن أصحاب الجحيم) يحتمل أن يكون هذا النهي على وجهه، باعتبار أن النبي ﷺ قد سأل، فنُهي عن السؤال، وقد جاء عند عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر: أن النبي ﷺ قال: ليت شعري ما فعل أبواي؟[5]، فنزلت، يعني: أنه سأل حقيقة، ما فعل أبواي؟ يعني هل هما من أهل الجنة أو من أهل النار؟ فقال: (ولا تَسألْ عن أصحاب الجحيم) فيكون هذا النهي على ظاهره، لكن هذه الرواية ضعيفة للإرسال، فهي من رواية محمد بن كعب القرظي، وهو لم يدرك النبي ﷺ فهو من التابعين.
وفي الإسناد أيضًا رجل آخر ضعيف.
وكذلك جاء عند ابن جرير عن داود بن أبي عاصم نحو هذا: أن النبي ﷺ سأل عن أبويه[6] لكنه أيضًا مرسل، فهذه الروايات ضعيفة، وإذا كانت ضعيفة، فإنه لا يُبنى عليها المعنى، وبناء على ذلك، فإن هذه الاحتمال (ولا تَسألْ) أنه نهي للنبي ﷺ عن السؤال حقيقة؛ يكون ذلك مستعبدًا؛ لأن الروايات فيه لم تصح.
فيبقى المعنى الثاني على هذه القراءة المتواترة (ولا تَسألْ عن أصحاب الجحيم) هو الذي ذكره بعده، حيث قال: "وقيل:إن ذلك على معنى التهويل كقولك: لا تسأل عن فلان لشدة حاله" وهذا يقال في النعيم والفلاح، ويقال أيضًا في الخسار والعواقب السيئة، تقول: لا تسأل عن فلان، يعني ما هو فيه من الغبطة والنعمة، وتقول: لا تسأل عن فلان، عما هو فيه من الحسرة والألم والشدة، وسوء العاقبة.
وهذا محمله -والله تعالى أعلم- على هذه القراءة، قراءة نافع (ولا تَسألْ) فهم في أسوأ حال (ولا تَسألْ عن أصحاب الجحيم).
وعلى قراءة الجمهور وَلَا تُسْأَلُ يعني: لست مسؤولًا عنهم يوم القيامة، لا تُسألُ عن ذنوبهم، بمعنى أن هؤلاء سيتحملون أوزارهم، وإنما عليك البلاغ.
يعني لما ذكر اليهود والنصارى في قوله: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ هي ليست بملة واحدة، اليهود لهم ملة، والنصارى لهم ملة، وكل طائفة تكفر الأخرى، وتضللها، فهنا وحَّد الملة، فقال: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ باعتبار أنها واحدة من جهة الضلال، يعني في الحكم أنها ضلالة وكفر وعماية، فكأنها ملة واحده بهذا الاعتبار.
والملة مضى في الكلام على الغريب أصل ذلك: أنه من أمللت، يعني أمليت؛ لأنها -الملة- كما يقال: تُبنى على مسموع، أو متبوع، فإذا أُريد الدين باعتبار الدعاء إليه، قيل: ملة.
وإذا أريد باعتبار الطاعة والانقياد له، قيل: دين، وملة. فالدين باعتبار الدعاء إليه، ملة وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ وإذا أُريد باعتبار الطاعة والانقياد له يقال له: دين، دان له، بمعنى: انقاد، يقال: فلان دانت له العرب والعجم، يعني: انقادوا له، فالدين بهذا الاعتبار الطاعة والانقياد، يقال: دين.
أما ما يُدعى إليه، فيقال: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النحل:123] وهذا في مقام الدعاء إليه، ما قال: اتبع دين إبراهيم، والملة والدين متقاربان، لكن في الاستعمال فرَّق بعضهم بهذا الاعتبار، والله أعلم.
لاحظ هذا السياق والأسلوب قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ أكده بـ(إن) هُوَ الْهُدَى وجاء بضمير الفصل بين طرفي الكلام؛ لتقوية النسبة هُدَى اللَّهِ هُوَ ودخلت (أل) على الْهُدَى وهو الخبر، وذلك يفيد أو يُشعر بالحصر، فلا هدى إلا في هدى الله -تبارك وتعالى-.
لاحظ هنا قال: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ ولم يقل: ولئن اتبعت ملتهم، فهم فيما يدعون إليه يدعون إلى ملتهم بحسب اعتقادهم، ولكن في حكم الله -تبارك وتعالى- فإن ذلك من قبيل الأهواء، وليس بدين صحيح، وملة صحيحة، ولهذا قال: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ فسماها أهواء، فما هم عليه من الدين إنما هي أهواء، قد تفرقوا فيها، وتوجيه الخطاب هنا في ظاهره للنبي ﷺ يقول: "وقد علم الله أنه لا يتبع أهواءهم". القاعدة في هذا: أن التعليق على الشرط لا يقتضي الوقوع، يعني الله -تبارك وتعالى- يقول: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] وحاشاه أن يُشرك -عليه الصلاة والسلام-، ويقول عن الأنبياء الكرام الذين ذكرهم في سورة الأنعام: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88] وحاشاهم من الإشراك، وقال: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [الزخرف:81] وهذا أمر محال.
فالتعليق على الشرط لا يقتضي الوقوع، قال: "ولكن قال ذلك على وجه التهديد، لو وقع ذلك فهو على معنى الفرض والتقدير، ويحتمل أن يكون خطابًا له ﷺ" يعني: بمعنى أنه وُجه الخطاب إليه -عليه الصلاة والسلام-، والمقصود بذلك الأمة؛ لأن الأمة تخاطب بشخص مُقَدَّمها -عليه الصلاة والسلام-.
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ المراد بهم: المسلمين والْكِتَابَ المراد به القرآن، وهذا القول اختاره بعض السلف: كقتادة، وقال عبد الرحمن بن زيد: بأنهم اليهود والنصارى[7].
وقد ذهب ابن جرير -رحمه الله- إلى أن المقصود بقوله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يعني: أحبارَ اليهود، وعلماء النصارى[8]، الذين آمنوا بالله، وصدقوا رسله، فأقروا بحكم التوراة، فعملوا بما أمر الله -تبارك وتعالى- به فيها، من اتباع النبي ﷺ والإيمان به، والتصديق بما جاء به من ربه.
أولئك يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ يعني: يتبعونه حق اتباعه، وقد ذكرنا في بعض المناسبات: أن التلاوة تأتي بمعنى القراءة، فالقاري تالي؛ لأنه يتلو الحروف والكلمات، ونحو ذلك، يتبعها بقراءته، وكذلك يأتي بمعنى الاتباع، فهنا فسر كثير من السلف قوله: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ يعني: يتبعونه حق اتباعه، وليس مجرد التلاوة بالألسن، فلا بد من العمل، والامتثال.
فيكون معنى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ يعني: يتبعونه حق اتباعه، فيشمل ذلك القرآن، ويشمل ذلك الكتب قبله: كالتوراة، والإنجيل، فيكون ذلك من قبيل الوصف المبين لحقيقة الإيمان بالكتاب، والتلاوة الحقة له، وأن ذلك بالعمل بما فيه، وباتباعه.
فإذا حُمل على اليهود مثلًا، أو اليهود والنصارى، فلا شك أن المقصود بذلك مَن آمن بالنبي ﷺ إن كان قد أدركه؛ لأن كتابهم قد دل عليه، وذكره بصفته التي لا تلتبس، وأمر بالإيمان به.
لاحظ هنا اعتبر أن التلاوة: بمعنى القراءة، التي يتبعها التدبر والعمل والامتثال، والمعنى الثاني: فسّر التلاوة: بالاتباع، تلا بمعنى اتبع، ثم رجح المعنى الأول، تفسير التلاوة بالاتباع هذا قال به كثير من السلف يَتْلُونَهُ يعني: يتبعونه، وهو مروي عن ابن عباس، وابن مسعود، وجماعة كبيرة من التابعين: كقيس بن سعد، وعكرمة، وعطاء، ومجاهد، وأبو رَزين، وإبراهيم النخعي، والحسن[9].
بل حكى عليه ابن جرير الإجماع[10] على أن يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ بمعنى يتبعونه.
وهل ينافي هذا المعنى، المعنى الأول الذي ذكره ابن جزي بأنه: بمعنى: يقرؤونه كما يجب من التدبر له، والعمل به؟ الجواب: أنه لا ينافيه؛ لأنه فسره بالقراءة مع التدبر والعمل، لكن لو فُسر يَتْلُونَهُ بمعنى يقرؤونه فقط، لكان منافيًا، لكن ابن جزي لم يقتصر على القراءة في المعنى الأول، وإنما ذكر القراءة والتدبر والعمل، فهذا المعنى يشمل في الواقع قول من قال: إنهم يتبعونه، يعني القول الأول يتضمن القول الثاني، والقول الأول أوسع من القول الثاني، فالمعنى الغالب في التلاوة أنه القراءة، لكن لما ذكر معه التدبر والعمل به، كان متضمنًا للقول الثاني، الذي هو الاتباع.
لكن لا يُفسر بها بمجردها، وإنما يقال: التلاوة مع التدبر والعمل، فيكون قد جمع بين المعنيين.
يعني الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ هذه الجملة خبر، فيوقف عليها، لكن هذا لا يخلو من بُعد؛ لأنه يوجب أن يكون كل من أوتي الكتاب يتلوه حق تلاوته.
فإذا حصل الفصل بين الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ وبين أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ صار الكلام تامًا، مبتدأ وخبر، جملة تامة، لكن هل هذا هو الواقع: أن كل من أوتي الكتاب يتلوه حق تلاوته؟
الجواب: لا، فليس الأمر كذلك، إلا إذا كان المقصود بالذين أوتوا الكتاب الأنبياء؛ لأن هناك من قال: إنهم الأنبياء -عليهم السلام-، لكن لا دليل على هذا.
فإذا جعلت قوله: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ هو الخبر، والكلام قد تم عند ذلك، ويمكن أن يوقف عليه، فمن الذين يتلونه حق تلاوته؟ الأنبياء فقط، أما من أُنزل عليهم الكتاب فمنهم من يتلوه حق تلاوته، ومنهم غير ذلك، كما قال الله : وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78] كما سبق في أحد القولين المشهورين، وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام، كما قلنا: بأنه أماني، إلا قراءة مجردة، يعني: من غير عقل لمعانيه، ولا عمل بما تضمنه، وعليه فهذا القول فيه بُعد.
لاحظ أن تكون الجملة في موضع الحال، حالية، والخبر أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ يعني: الذين آتيناهم الكتاب حال كونهم يتلونه حق تلاوته أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ هذا هو الخبر، الذي يتم به الكلام، فالذين يؤمنون به هم الذين أوتوه، ويتلونه حق تلاوته، والله أعلم.
يعني كما سبق، أنه قال: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ يعني:يا أولاد يعقوب، فناداهم بهذا الاسم المحبب إليهم؛ وذلك استدعاء لانقيادهم وقبولهم واستجابتهم.
بعض أهل العلم يقولون: إنه إذا جاء مثل هذا "وإذ كذا" وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى [البقرة:61] ونحو ذلك أنه يكون معمولًا لفعل مقدر محذوف "واذكر" وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ واذكر إذ ابتلى إبراهيم ربه، وبعضهم يقول غير هذا.
قوله: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا هذا بعيد، والله أعلم، لكن القول بأن (إذ) معمول لمقدر محذوف تقديره "اذكر" هذا المعنى أوضح، وإن لم يكن محل اتفاق، فبعض أهل العلم يربط ذلك بمذكور في الآية بعده، ويقول: هو العامل فيه، لكنه لا يتبادر إلى الذهن من جهة المعنى، والله أعلم.
هذا التحديد لا دليل عليه، قوله: بِكَلِمَاتٍ قيل: مناسك الحج، وهذا مروي عن ابن عباس -ا-[11]، والسلف قد يفسرون بالمثال، وقيل: خصال الفطرة العشرة، وهو أيضًا مروي عن ابن عباس، وعن جماعة من التابعين: كابن المسيب، ومجاهد، والشعبي، وإبراهيم النخعي[12]، يقولون: هي خصال الفطرة، التي هي: المضمضة، والاستنشاق... إلخ.
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ولو أنه فُسر بما يشمل ذلك وينتظمه، فيقال مثلًا: بِكَلِمَاتٍ أي بتكاليف دون تحديد؛ لأنه لم يرد في ذلك تحديد، لا في كتاب الله، ولا في سنة رسوله ﷺ ابتلاه بكلمات أي بتكاليف، فأداها على وجه تام، كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:37] فوفى ما أمره الله به، وكلفه به، وهذا الذي اختاره ابن جرير[13]، وابن كثير[14]، حيث يرون أن بِكَلِمَاتٍ أي: بتكاليف، فتشمل أمورًا لم يحددها الله -تبارك وتعالى- هنا بشيء من هذه المذكورات بعينها، وإنما المراد أنه ابتلاه بتكاليف، فأتى بها على أكمل الوجوه وأتمها، فتكون هذه الأشياء المذكورة التي ذكرها بعض السلف يمكن أن تكون من قبيل التفسير بالمثال.
فالسلف قد يفسرون بالمثال، وقد يفسرون بلازم المعنى، يعني مثل: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ فالذين قالوا: يتبعونه حق اتباعه، يمكن أن يكون هذا من قبيل التفسير بلازم المعنى، وليس بالمعنى؛ لأن من معنى التلاوة الاتباع، لكنه يمكن أن يكون هو أحسن من القول بأنه تفسير له بدلالة التضمن، يعني فسره ببعض معناه، فذكر الأهم وهو الاتباع، لكن هذا الاتباع في الواقع لا يتأتى إلا بالقراءة، فالقراءة هي الطريق التي يكون معها التدبر، فيحصل بذلك العمل والامتثال، فالتلاوة تشمل هذا وهذا بدلالة المطابقة، بدلالة اللفظ على كامل المعنى، فإذا فُسر بالقراءة فقط، أو فُسر بالعمل والاتباع، فهذا تفسير له ببعض معناه، هذه التي يقال لها: دلالة التضمن، فيكون قد فسره ببعض معناه، وأي المعنيين ذكر، المعنى الأهم، لكن الواقع أن هذا الاتباع لا يتأتى أصلًا إلا بالقراءة، فالتلاوة لا بد فيها من القراءة؛ لأنها الطريق إلى العمل والامتثال؛ ولذلك فإنا إذا أردنا أن نفسر المعنى بكامل ما تدل عليه اللفظة، فنقول: القراءة والاتباع والعمل والامتثال، والسلف قد يفسرون بهذا، يعني ببعض المعنى، أو بجزء المعنى، وقد يفسرون بلازمه.
يعني جاء بهن على الوجه الأكمل.
استفهام يعني يكون المعنى: أتجعل منهم أئمة؟ فيكون استفهام، أو رغبة بمعنى طلب، يعني وَمِنْ ذُرِّيَّتِي اجعل أئمة، وهذا هو الظاهر؛ لأنه قال: لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فكأنه طلب ذلك؛ ولهذا يقول العلماء: بأنه قد أخذته الشفقة على الذرية، فطلب لهم الإمامة.
عَهْدِي المقصود بالعهد: الإمامة، وبعضهم قال: النبوة، وبعضهم قال: الأمان من عذاب الآخرة، وهذا بعيد، وبعضهم يقول غير ذلك، لكن الذي يظهر أن المقصود: الإمامة؛ لأنها هي المذكورة إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي والمقصود الإمامة في الدين، وليس الإمامة في الدنيا، بأن يكون الحكم والتسلط له، ونحو ذلك فليس هذا هو المراد، فهذا يقع لأهل الإيمان، ويقع للكفار، ويقع للظلمة، لكن هنا الإمامة في الدين، يعني أن عهده بالإمامة لا يصير إلى الظلمة، فلا ينالون الإمامة في الدين؛ لأن الإمامة في الدين شرف وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74] الذي يُقتدى به في الخير، فيكون مقدمًا للناس من جهة الأسوة والقدوة لصلاحه وتقواه وعلمه وعمله، وما أشبه ذلك، فهذا لا يكون للظالمين، فليسوا بأهل لهذا التقديم.
قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي والذرية مضى الكلام في الغريب، قيل: مأخوذ من الذّر، وقيل:من ذرأ الله الخلق، يعني إذا خلقهم، وقيل: لأن الله ذرأهم على الأرض، كما ذرأ الزارع البذر، أي نشرها.
أصل الثوب العود والرجوع، ثاب إلى رشده، يعني: رجع إلى رشده، وبعضهم يقول: من الثواب أنهم يحجون فيثابون، ويعتمرون فيثابون جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً أي يثاب الناس على حجهم وعمرتهم، فهو من الثواب، مثابة من الثواب، وأن الهاء للمبالغة، وبعضهم يقول: للتأنيث، لكن الأقرب -والله تعالى أعلم- أن مثابة بمعنى أنهم لا يقضون وطرهم ونهمتهم منه، فبمجرد ما ينتقلون، ويرتحلون عنه، تهفو نفوسهم إليه ثانية، فيرجعون، وهكذا، وهذا لا يوجد لبلد آخر، الإنسان يزور بلدًا من البلدان، ثم بعد ذلك يطلب غيرها، إذا كان يريد النزهة، يعني: لا يذهب لعمل، فلا تكون زيارته الثانية كالأولى، فإذا كرر ذلك سئم، أما مكة فبمجرد ما ينتقل الإنسان منها ويرجع إلى بلده يبدأ الحنين يعاوده، كما ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في خصائص البيت ومكة، وهذا استجابة لدعاء إبراهيم حيث قال: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم:37] فهو مأوى الأفئدة.
(واتخَذوا من مقام إبراهيم مصلى) يقول: بالفتح، وهذه قراءة متواترة، لنافع، والتي عليها هذا الكتاب، وابن عامر، فيكون إخبارًا، (واتخَذوا من مقام إبراهيم مصلى) يعني أتباع إبراهيم والقراءة التي نقرأ بها وَاتَّخِذُوا بالكسر، على أنه أمر، وقد عرفنا إنه إذا كان لكل قراءة معنى، فهما بمنزلة الآيتين، فيكون ذلك إخبارًا عن أتباع إبراهيم والمعنى الثاني للقراءة الأخرى: أنه أمرٌ من الله -تبارك وتعالى-.
قول عمر المشهور:"وافقت ربي في ثلاث، وذكر منها أنه قال: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى"[15]، فأنزل الله : وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى.
وعمر قصد المقام الذي هو موضع القدمين، المعروف، وهو الحجر الذي كان يرقاه إبراهيم ﷺ عند بناء الكعبة، فظهر فيه آثار القدمين، قصد هذا؛ ولهذا فإن النبي ﷺ صلى خلف المقام امتثالًا لأمر الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية، وهذا المعنى يدل عليه السنة؛ ولهذا قال: "مقام إبراهيم هو الحجر الذي صعد به، حين بناء الكعبة، وقيل: المسجد الحرام".
فالقول بأنه الحجر جاء عن ابن عباس -ا-، وسعيد بن جبير، والسُّدي، وقتادة، والربيع، وسفيان، وبعضهم فسره بمقامات إبراهيم في الحج، وهي الشعائر، يعني: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، يعني: اجعلوها أماكن للعبادة: كالدعاء، والعمل الذي تؤمرون به في تلك المواطن: منى، وعرفة، ومزدلفة، ورمي الجمار، فيكون مقام إبراهيم مفرد مضاف يفيد العموم، يعني: مقامات إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، وليس عين الحجر، وهذا رواية عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء[16].
وجاء عن السُّدي والحسن وقتادة والربيع[17]: أنه الحجر الذي وضعته زوج إسماعيل لإبراهيم تحت قدمه، حتى غسلت رأسه، لكن هذا بعيد، يعني هو الحجر، لكن ما علاقة هذا الحجر بإبراهيم ؟ قال: بأنه اغتسل عليه، أو غسل رأسه على هذا الحجر، فظهرت آثار أقدامه، هذا رده بعض السلف: كسعيد بن جبير[18]، ورده بعضه المفسرين: كالقرطبي[19]؛ لأنه بعيد، وإنما ذكرته للتنبيه إلى أنه يوجد من قال من السلف: بأن مقام إبراهيم هذا الحجر أنه لم يكن لبناء الكعبة، وإنما كان ذلك؛ لأن زوج إسماعيل قد غسلت رأس إبراهيم، وهو على هذا الحجر، يعني: وضعت له هذه الحجر، وغسلت رأسه عليه، فظهرت آثار القدمين، وهذا بعيد.
والمقصود أن قوله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فيه معنيان مشهوران للسلف:
الأول: أنه الحجر المعروف، ويدل عليه السنة، وهذا يدخل فيه دخولًا أوليًا.
الثاني : وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى يعني مقامات إبراهيم في الحج: كالصفا، و المروة، والسعي، وكذلك: عرفة، ومزدلفة، ومنى، ورمي الجمار، ونحو ذلك، ويكون معنى مُصَلًّى أي: متعبدًا.
فإذا أردنا أن نرجح بين القولين نرجح الأول؛ لأن السنة دلت عليه، وهي تفسر القرآن، والمعنى المتبادر لكلمة مُصَلًّى و مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ كل ذلك، فالمقام يتبادر إلى الحجر المعروف، والمصلى يعني مكان الصلاة، والمعنى الثاني أيضًا تحتمله الآية، فيمكن أن يدخل فيها، فيقال: الحجر هذا يُصلى خلفه، وكذلك تتخذ هذه المقامات في الحج أماكن للتعبد، كما أمر الله -تبارك وتعالى- وشرع.
"وقيل: أمر لإبراهيم وشيعته، وقيل: لبني إسرائيل، فهو على هذا عطف على قوله: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ وهذا بعيد.
مَقامِ إِبْراهِيمَ هو الحجر الذي صعد به حين بناء الكعبة، وقيل المسجد الحرام.
وَعَهِدْنا عبارة عن الأمر والوصية.
طَهِّرا بَيْتِيَ عبارة عن بنيانه بنية خالصة، كقوله: أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وقيل: المعنى طهراه عن عبادة الأصنام".
يدخل في التطهير: الطهارة المعنوية، يعني من الشرك، ودعاء غير الله وكذلك الطهارة الحسية من النجاسات والأقذار، ونحو هذا، وقد جاء عن الحسن: من الأذى والنجس[20] وجاء عن ابن عباس: من الأوثان[21].
وجاء عن مجاهد وسعيد بن جبير: من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس[22]، يعني الكلام الذي لا يليق من السب والشتم والغيبة والكذب، فالرفث كل كلام لا يليق، ولا يصح أن يقال في بيت الله -تبارك وتعالى-، ينزه ويُطهر، فيشمل التطهير الحسي والتطهير المعنوي فيما يتصل بالشرك ودعاء غير الله، وكذلك كل ما لا يحل من الأقوال والأفعال، وكذلك أيضًا كل مستقذر، أو نجاسة حسية، فإن ذلك يدخل في التطهير، فالتطهير لا يكون فقط من النجس حكمًا وشرعًا، وإنما يكون التطهير أيضًا من المستقذرات.
البصاق ليس بنجس، لكن لا يليق ولا يصح، ولا يحل لأحد أن يبصق في المسجد الحرام، يعني النبي ﷺ ذكر في النهي عن أن يبصق عن يمينه، أو قِبَل وجهه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه[23]، وهذا حينما كان المساجد في السابق على غير الحال التي نشاهدها الآن، أما الآن فلا شك أن هذا تلويث، وتقذير لها، فتطهر من ذلك.
وهذا قاله سعيد بن جبير.
الطائف يعني أن مجيئه عارض، وليس بمستقر فيها، طاف بالمكان يعني إذا أتى عليه.
يعني: أنهم الذين يطوفون بالكعبة.
بالنسبة للطائفين المعنى المتبادر لا شك أنهم الذين يطوفون بالكعبة؛ ولهذا قدمه على غيره؛ لأنه أخص بالمكان، فالطواف لا يكون إلا بالكعبة، لكن العكوف يكون بالمسجد الحرام، ويكون بغيره من المساجد، لكنه لا يكون إلا بمسجد، فذكره ثانيًا، وأما الصلاة فإن الصلاة تكون في كل مكانٍ في المساجد، وفي غير المساجد، فذكره ثالثًا، فيكون هذا الترتيب بدأ بالأخص، وهو الطواف؛ لأنه يختص بالبيت، ثم بالاعتكاف؛ لأنه يختص بالمساجد، ثم بالصلاة، فهي لا تختص بالمساجد، فالعاكفون هم المعتكفون في المسجد، والاعتكاف يُحمل على هذا المعنى الشرعي؛ لأن ألفاظ الشارع تُحمل على المعاني الشرعية.
باعتبار أنه لو فُسر أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ إذا قيل هم الذين يقدمون على البيت من غير أهله، فالعاكفون هم أهله وقطانه، أهل مكة، وأهل الحرم، فهم العاكفون، لكن المعنى الشرعي للاعتكاف هو الذي يتبادر؛ لأن ألفاظ الشارع محمولة على المعاني الشرعية.
ممن فسره بأهله المقيمين: قتادة، والربيع بن أنس[24]، وَالْعَاكِفِينَ يعني: أهل مكة، والله -تبارك وتعالى- يقول: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [الحج:25] فهذه تُحمل على العاكف أهل مكة، والباد، يعني: الذي يرد عليه، لكن هنا في آية البقرة ذكر هذه العبادات متتابعة: الطواف، الاعتكاف، والصلاة، فيحمل الاعتكاف على المعنى الشرعي، والله أعلم.
وابن جرير -رحمه الله- فسر العاكفين بالعكوف في البيت على سبيل الجوار فيه[25].
- تفسير ابن كثير (1/399).
- تفسير ابن كثير (1/399-400).
- تفسير الطبري (2/555).
- أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي ﷺ بعثت بجوامع الكلم رقم (7274)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته برقم (152) واللفظ له.
- أخرجه عبد الرزاق في تفسيره برقم (126) وابن جرير في جامع البيان ت شاكر برقم (1876).
- أخرجه ابن جرير في جامع البيان ت شاكر برقم (1877).
- تفسير ابن كثير (1/403).
- تفسير الطبري (3/187).
- تفسير الطبري (2/567- 568).
- تفسير الطبري (2/569).
- تفسير الطبري (2/13).
- تفسير ابن كثير (1/406).
- تفسير الطبري (2/15).
- تفسير ابن كثير (1/410).
- أخرجه أحمد، (1-157)، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
- تفسير الطبري (2/33).
- تفسير ابن كثير (1/414).
- تفسير ابن كثير (1/414).
- تفسير القرطبي (2/113).
- تفسير ابن كثير (1/419).
- تفسير ابن كثير (1/419).
- تفسير ابن كثير (1/419).
- أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب حك المخاط بالحصى من المسجد وقال ابن عباس: "إن وطئت على قذر رطب، فاغسله وإن كان يابسا فلا" برقم (90) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها برقم (548).
- تفسير ابن كثير (1/419).
- تفسير الطبري (2/43).