يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:208-214].
السِّلْمِ بفتح السين: المسالمة، والمراد بها هنا: عقد الذمة بالجزية، والأمر على هذا لأهل الكتاب، وخوطبوا بـ (الَّذِينَ آمَنُوا) لإيمانهم بأنبيائهم وكتبهم المتقدمة، وقيل: هو الإسلام، وكذلك هو بكسر السين، فيكون الخطاب لأهل الكتاب على معنى الأمر لهم بالدخول في الإسلام، وقيل: إنها نزلت في قوم من اليهود أسلموا وأرادوا أن يعظموا السبت كما كانوا، فالمعنى على هذا: ادخلوا في الإسلام، واتركوا سواه، ويحتمل أن يكون الخطاب للمسلمين على معنى الأمر بالثبوت عليه، أو الدخول في جميع شرائعه من الأوامر والنواهي.
قوله: السِّلْمِ، بفتح السين: المسالمة. يعني ترك الحرب وإعطاء الجزية والصلح، وبعضهم يقول: بأنه بالفتح السَّلْم والسِّلْم كل ذلك بمعنى واحد.
يقال أيضًا: السَّلَم بمعنى: الإسلام. فهنا في قوله بأنه بالفتح المسالمة والمراد بها عقد الذمة بالجزية. ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً يعني: في المسالمة خطاب لأهل الكتاب، بأي اعتبار؟ باعتبار أنهم آمنوا بأنبيائهم وكتبهم السابقة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لكن هذا بعيد؛ لأن الخطاب بمثل هذا في كتاب الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يقصد به أهل الإيمان ممن آمن بالنبي ﷺ وإن كان السياق في بني إسرائيل، الآيات قبلها وبعدها لها نوع اتصال بهم ولكن مثل هذا الخطاب إنما يخاطب به المؤمنون من هذه الأمة، ولهذا ذكر القول الآخر بأنه الإسلام ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً (في السَّلم كافة) وكذلك يقول: وهو بكسر السين فيكون الخطاب لأهل الكتاب على معنى الأمر لهم بالدخول في الإسلام ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً باعتبار أنه الإسلام، لكن لا حاجة لحمله على أهل الكتاب، لكن كأن هؤلاء استشكلوا الأمر بالدخول في الإسلام بالنسبة للمسلمين، وهذا لا إشكال فيه؛ لأن الآية حينما أمرت بذلك جاء الأمر به مقيدًا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً بهذا الوصف. يقول: وقيل: إنها نزلت في قوم من اليهود أسلموا وأرادوا أن يعظموا السبت كما كانوا. يعني: بقيت عندهم رواسب من دينهم الأول -يعني: من اليهودية- لم يتخلوا عنها، فالمعنى على هذا: ادخلوا في الإسلام واتركوا ما سواه. لكن هذا لا يصح، الرواية التي جاءت في هذا عن عكرمة قال: نزلت في ثعلبة، وعبد الله بن سلام، وابن يامين، وأسد، وأسيد ابني كعب، وشعبة بن عمرو، وقيس بن زيد، كلهم من اليهود، قالوا: يا رسول الله، يوم السبت يوم كنا نعظمه فدعنا فلنسبت فيه وإن التوراة كتاب الله دعنا فلنقم بها بالليل، فنزلت يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ[1]، هذه الرواية لا تصح؛ لأنها مرسلة.
ومن ثم فإن المعنى لا يُحمل على ذلك، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يكون من قبيل العام المراد به الخصوص على هذا التفسير أنه بعض المؤمنين وهم ممن أسلم من اليهود ممن قال ذلك، وهذا خلاف الظاهر، يقول: ويحتمل أن يكون الخطاب للمسلمين على معنى الأمر بالثبوت عليه.
يعني: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً من كان داخلًا في الإسلام أصلًا فيكون هذا أمر بالثبات كما يقولون في قوله -تبارك وتعالى- في سورة الفاتحة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] بعضهم يقول: ثبتنا. باعتبار أن الصراط المستقيم هو الإسلام، وقد دخلوا في الإسلام، فما معنى هذا السؤال؟ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، أي: ثبتنا، وقد ذكر في الكلام على سورة الفاتحة، وفي مناسبات أخرى أن هذا السؤال اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ لا يختص بهذا المعنى ثبتنا، وإنما يشمل معان كثيرة كلها داخلة في طلب وسؤال الهداية، فكذلك هنا في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أي: الإسلام، فهذا خطاب لأهل الإيمان ويكون ذلك باعتبار ما ذُكر من هذا الوصف يعني من قوله: كَافَّةً بمعنى: الدخول في جميع شرائعه من الأوامر والنواهي، وعلى كل حال هذا هو الأقرب، وأن القراءتين بمعنى واحد، والله تعالى أعلم.
وأصل السِّلم كما مضى في الكلام على الغريب يأتي بمعنى الصلح، وضد الحرب، يعني: من المسالمة، وكذلك أيضًا التعري من الآفات، يعني: من السلامة، التعري من الآفات الظاهرة والباطنة، وكذلك الاستسلام والانقياد، فالخطاب في ظاهره للمؤمنين يأمرهم الله -تبارك وتعالى- بالعمل بجميع شرائع الإسلام، وهذا الذي قال به جماعة من السلف كثير: كابن عباس، وعكرمة، والسدي، والضحاك، وطاوس، وابن زيد، وهو أحد القولين لقتادة، وكذلك أيضًا هو مروي عن مجاهد، وهو اختيار أبي جعفر ابن جرير[2]، والحافظ ابن كثير[3]: أنه خطاب للمؤمنين يأمرهم بالدخول في جميع شرائع الدين، وعلى القول بأنه خطاب لأهل الكتاب لما بقي عندهم من دينهم وتمسكوا به من شريعتهم فيكون المعنى: ادخلوا في شرائع دين الإسلام الذي أنزله الله على نبيه ﷺ ولا تدعوا منها شيئًا، لكن على كل حال المعنى الأقرب هو ما ذكرت، وبهذا الاعتبار هذا المعنى أنه خطاب لأهل الإيمان، فإن ذلك يشمل من دخل فيه من أهل الكتاب فهم مأمورون في جملة أهل الإيمان بالدخول في جميع شرائع الدين دون تفريق أو تخل عن بعضها أو استصحاب لشيء من الشرائع المنسوخة أو المحرفة.
كافة هذا يحتمل من جهة الإعراب أن يكون حالًا من السِّلم ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أو من ضمير المؤمنين يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً يعني جميعًا، يأمرهم جميعًا، وعلى الأول أنه حال من السِّلم يعني ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً يعني: في جميع شرائع الإسلام، وقوله هنا: (كافة) عمومًا في المخاطبين. يعني: جميعًا، فهذا باعتبار أنه حال من ضمير المؤمنين، وبنحو هذا فسره ابن عباس -ا- ومجاهد، وأبو العالية، وعكرمة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل، وقتادة، والضحاك[4]، وقوله: أو في شرائع الإسلام.
يعني: بجميع الأعمال ووجوه البر التي شرعها الله -تبارك وتعالى- كما جاء عن مجاهد -رحمه الله- في رواية عنه، والله أعلم.
يعني ذكر هذه الأسماء الحسنى هو مضمن لهذا، يعني لم يقل لهم: فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فإنكم متوعدون بالعقوبة، أو فسأعذبكم على ذلك. وإنما ذكر هذين الاسمين فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فيكون ذلك من قبيل التهديد المبطن، يعني: يتوعدهم بذلك، فمقتضى هذا الاسم الكريم العزيز أنه يأخذ من عتا وضل وانحرف ويعذبه، ويعاقبه، ولا يستطيع أن ينجو من ذلك أو يتخلص بقوته أو أعوانه أو غير ذلك، والحكيم هو: الذي يضع الأمور في مواضعها يوقعها في مواقعها، فأخذه للكافر والمكذب والذي يؤمن ببعض ويكفر ببعض هذا من مقتضى حكمته.
هذا كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: يعني: يوم القيامة لفصل القضاء[5]، يعني هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله يوم القيامة.
كل هذا الكلام خطأ يعني حتى ما نسبه إلى السلف خطأ، وليس هذا قول السلف، يقول: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ تأويله عند المتأولين.
يعني: أهل الكلام، أهل التأويل، أهل التحريف، يأتيهم عذاب الله في الآخرة. لاحظ الآن الله يقول: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ فيقولون: يأتيهم الله أي: عذابه في الآخرة. أو أمره في الدنيا.
يعني: كما وقع لهم في يوم بدر من الهزيمة والقتل والأسر ونحو ذلك، عقوبة تنزل بهم: كالقحط والجدب الذي حل بهم لما دعا عليهم النبي ﷺ فأوّلوا مجيء الله وإتيانه بمجيء أمره في الدنيا أو في الآخرة، وهذا لا يصح وهو خلاف الظاهر من القرآن، وذلك وإن سموه تأويلًا الواقع أنه تحريف، والله يقول: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22] يعني جاء أمره؟ لا يمكن هذا، يقول: وهي عند السلف الصالح من المتشابه.
هي ليست عند السلف من المتشابه إلا من جهة الكيفية أما من جهة المعنى فالإتيان صفة ثابتة لله على ما يليق بجلاله وعظمته، لكن الله -تبارك وتعالى- حينما أراد أمره قال: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1]، يعني: القيامة، أما هنا إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فكيف يقال: أن يأتيهم أمر الله؟! يقول: ويحتمل ألا تكون من المتشابه. بأي اعتبار؟ ليس من جهة المعنى هو يقول: بأن قول السلف أنها من المتشابه.
وكما ذكرت في المقدمات أن المؤلف -رحمه الله- يذكر مثل هذا ويظن بعض من يقرأ ذلك أو يكتب في عقيدة المؤلف، أو دراسة عن هذا الكتاب يقولون: كان على عقيدة السلف. وكل من رأيتهم كتبوا في رسائل وهي رسائل كثيرة عن عقيدة المؤلف يذكرون هذا، كلهم ما رأيت أحدًا فصّل في هذا وبينه وإنما يقولون: كان على عقيدة السلف. اغترارًا بمثل هذه العبارة، حينما يقول: عقيدة السلف الصالح، والذي عليه السلف الصالح. ثم يضيف إليهم التفويض أو أن ذلك من قبيل المتشابه ونحو هذا، لكن هنا في قوله: ويحتمل ألا تكون من المتشابه. بأي اعتبار؟ قال: لأن قوله: يَنْظُرُونَ بمعنى: يطلبون بجهلهم كقوله: لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ [البقرة:118]، يعني: يطلبون أن يأتيهم والله لا يأتي عنده، فبهذا الاعتبار ليست من المتشابه، هؤلاء من المشركين لجهلهم يطلبون أمرًا لا يقع ولا يكون فالله عند المتكلمين لا يأتي فهم ينفون هذه الصفات المتعلقة بالمشيئة والإرادة: الإتيان، والمجيء، والضحك، والغضب، ونحو ذلك.
لاحظ أيضًا فِي ظُلَلٍ يقول: جمع ظلة وهي: ما علاك من فوق. يعني ما أظلك، فإن كان ذلك لأمر الله. على التأويل الذي ذكره على قول المتأولين أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ أي: أمره في ظلل، يقول: فلا إشكال، وإن كان لله فهو من المتشابه. المتشابه عنده من جهة المعنى، والواقع أنه ليس من قبيل المتشابه بل ذلك من قبيل المحكم، فيأتي الله -تبارك وتعالى- على ما يليق بجلاله وعظمته لفصل القضاء هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام:158]، فبهذا التفصيل ماذا يقولون؟! فهنا هل سيقولون: بأن ذلك هو أمر الله -تبارك وتعالى-؟! وهكذا في الآية التي أشرت إليها آنفًا: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22].
وفي حديث ابن مسعود مرفوعًا: يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء ينظرون إلى فصل القضاء، فينزل الله من العرش إلى الكرسي في ظلل من الغمام[6]، هذا حسنه الحافظ الذهبي[7]، والحافظ ابن القيم[8]، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني[9] -رحم الله الجميع- هذا نص صريح في هذا المعنى، فهذا تفسير لهذه الآية، وهو من أوضح صور تفسير القرآن بالسنة مما لم يذكر فيه النبي ﷺ الآية المفسَّرة، قلنا: إن هذا يدخله اجتهاد المفسر كما ذكرنا في أصول التفسير، وأنه يقع فيه الخطأ من قِبَل المفسر بالربط بين الآية والحديث لا علاقة له بالآية، لكن في بعض الصور مثل هذا يكون ذلك في غاية المقاربة أو المطابقة بما ذُكر في الآية. وجاء عن أبي العالية قال: والملائكة يجيئون في ظلل من الغمام، والله تعالى يجيء فيما يشاء. يعني بأي اعتبار؟ باعتبار أن قوله: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ يرجع إلى الملائكة: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ هذا جاء في بعض القراءات غير المتواترة: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام) [10] وذلك كقوله تبارك وتعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان:25]، فيكون على هذا أن الغمام يرجع إلى نزول الملائكة باعتبار أن في ظلل من صلة فعل الملائكة، وعلى القول الآخر: فإن ذلك من صلة فعل الله -تبارك وتعالى- وهذا الذي اختاره أبو جعفر بن جرير -رحمه الله-: أن ذلك يرجع إلى الله[11].
وهو ظاهر الآية على ما يليق بجلاله وعظمته ويدل عليه حديث ابن مسعود الذي ذكرته آنفًا (فينزل الله من العرش إلى الكرسي في ظلل من الغمام) فهذا واضح وصريح في هذا المعنى.
الغمام: هو السحاب، كل ما أغمك: كل ما غطاك وعلاك، لكن يقيده بعضهم بالسحاب الأبيض الذي يواري وجه السماء لكنه يبقيها مستنيرة، سمي بذلك؛ لأنه يَغُم السماء، هكذا قال بعض أهل العلم، ترون مثل هذا في الليل سحاب أبيض والسماء في غاية الاستنارة، فعلى كل حال أصل المادة تدل على التغطية.
وَقُضِيَ الْأَمْرُ فرغ منه، وذلك كناية عن وقوع العذاب.
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ على وجه التوبيخ لهم، وإقامة الحجة عليهم.
مِنْ آيَةٍ معجزات موسى، أو الدلالات على نبوة محمدﷺ.
كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ، يعني: المعجزات، قال: معجزات موسى وهذا الذي اختاره الحافظ ابن كثير -رحمه الله-[12]، وهو الظاهر المتبادر.
يعني: أن الله أعطاهم من الآيات: كفلق البحر، وضرب موسى بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، وكذلك أيضًا تظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي أعطاهم الله إياه، ومع ذلك كانوا في غاية العتو والظلم والضلال فلم تنفعهم هذه الآيات، فهذه الآيات التي أعطاها الله لموسى ﷺ قال: أو الدلالات على نبوة محمد ﷺ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ على نبوة النبي ﷺ لكن الأول أقرب، والله أعلم.
وَمَنْ يُبَدِّلْ وعيد.
وَيَسْخَرُونَ كفار قريش سخروا من فقراء المسلمين كبلال وصهيب.
على كل حال هي لا تختص بكفار قريش زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا عبّر بالفعل المضارع ليدل ذلك -والله أعلم- على أن هذا وصف متجدد لهؤلاء الكفار، السخرية من أهل الإيمان فهذا أمر لم يزل إلى يومنا هذا، فهذا عملهم وديدنهم وشغلهم السخرية من أهل الإيمان، يعني هم لا يسخرون من الضعفاء: كبلال وصهيب بل يسخرون من أهل الإيمان، وهكذا من كان قبل النبي ﷺ أيضًا هذا حال الكفار، يعني: نوح كانوا يسخرون منه حينما كان يبني ويصنع السفينة وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ [هود:38]، هذا منذ أول الرسل -عليهم السلام- وهكذا ما وقع لشعيب يقولون لهم: أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87]، وصالح قالوا له على سبيل السخرية أيضًا على قول في تفسير الآية: قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا [هود:62]، يعني كنا نرجوك لعظائم الأمور، ونرجو عقلك، ورشدك ثم بعد ذلك جئتنا بهذا الذي جئت به، وهكذا إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [المطففين:29-30].
الذين سخر الكفار منهم أو الذين لم يسخروا منهم، يعني هو ذكر الضعفاء: كصهيب وبلال -ا- لكن وَالَّذِينَ اتَّقَوْا كل الذين اتقوا حتى من الأقوياء من أهل الإيمان فإن هؤلاء فوق الكفار يوم القيامة، وغاير بين الوصفين هنا قال: وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا وذلك أن التقوى هي المعيار الذي يتفاضل فيه أهل الإيمان ويتفاوتون، فكان هذا الوصف مقصودًا ليس مجرد دعوى الإيمان أو الدخول في الإيمان وحده وإنما لا بد من التقوى وتحقيق التقوى.
بعضهم يقول: بأن النار تحت الجنة. وبعضهم يقول: في الأرض السابعة.
ولكن هذا لا دليل عليه، بعضهم فهم ذلك من قوله- تبارك وتعالى-: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ [الأعراف:50]، قالوا: الإفاضة تكون من أعلى إلى أسفل.
وعلى كل حال وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يعني: أعلى منزلة ومرتبة ودرجة من الكفار.
على كل حال السياق هو في ذكر ما يكون لأهل الإيمان الذين سَخِر منهم الكفار فحكم لهم بعلو المرتبة وأنهم فوق الكفار يوم القيامة، قال: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ففضل أهل الإيمان ورفعهم فذلك من أعظم ما يكون لهم من العطاء والرزق، وإن كان ظاهر اللفظ العموم وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ وذلك في الدنيا والآخرة، لكن السياق هو في هذا يعني فيما أعطاه الله لأهل الإيمان ورفع درجتهم وجعلهم فوق الكفار يوم القيامة، فعقب بهذا التعقيب جاء هذا التذييل كما يقال.
وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ هذا يدل على الكثرة يعني يعطي عطاء كثيرًا فإن الذي يُحسب ويُحصى هو القليل، جاء هذا في العطاء الدنيوي يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ أو العطاء الأخروي باعتبار أن ذلك في الآخرة، وكذلك في الأجر والثواب كما جاء في أهل الصبر إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، يعني: يُعطون أجرًا كثيرًا لا يُحسب ولا يُعد لقلته وإنما يكون من غير حساب، هذا معروف في كلام العرب، الحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول في نونيته:
فالبهت عندكم رخيص سعره | حثوًا بلا كيل ولا ميزان[13] |
يعني: الشيء القليل يُكال أو يوزن ولكن الكثير يحثى.
قوله: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً، قال: أي متفقين في الدين. أي دين؟ ثم فرع عليه الأقوال، قيل: كفار. يعني: كان الناس على الكفر، الذين قالوا هذا، فهموه من قوله: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، قالوا: بعث الرسل الذي استدعاه هو وجود الكفر، فإن الفاء تدل على التعليل، هذه التي يسميها الأصوليون بدلالة الإيماء والتنبيه: أن يقرن الحكم بوصف لو لم يكن علة له لكان ذلك معيبًا عند العقلاء، فهنا كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ قالوا: هذا يشعر بأنهم كانوا على الكفر. هذا توجيه هذا القول. قال: في زمن نوح وقيل: مؤمنون ما بين آدم ونوح. كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً، يعني: فاختلفوا، يعني وقع فيهم الكفر، وهذا القول بأن ذلك ما بين آدم ونوح هو الراجح، والله تعالى أعلم، وبه قال كثير من السلف: كابن عباس، وقتادة، وابن جريج[14]، كما في قوله -تبارك وتعالى-: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا [يونس:19]، كانوا على الإيمان فوقع بيهم الاختلاف، قال: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس:19] هذا يدل على هذا المعنى والله أعلم، والأثر المشهور عن ابن عباس -ا- وقد يقال: بأن له حكم الرفع، قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق -يعني كلهم على التوحيد- فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين[15].
وفي قراءة ابن مسعود وهي قراءة غير متواترة: (كان الناس أمة واحدة فاختلفوا) [16].
وكذلك أيضًا في قراءة أُبَي[17]، إذن كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً على التوحيد، فوقع بينهم الاختلاف، وذكر ابن جرير -رحمه الله- بعض الأقوال من أن ذلك يُراد به آدم أو ذريته من صلبه، يعني آدم كان على التوحيد وهو نبي أول نبي هو آدم وأول رسول هو نوح فبعضهم يقول هو آدم، وبعضهم يقول: ذرية آدم من صلبه. يعني: من أولاده، أو إلى زمن نوح، ابن جرير -رحمه الله- يقول: بأن ذلك جائز[18]. يعني أن يُراد به كَانَ النَّاسُ آدم أو أولاد آدم من صلبه، أو الذرية إلى زمن نوح يقول: لا دليل على تحديده.
باعتبار أن هؤلاء جميعًا يصدق عليهم أنهم كانوا على التوحيد، لكن ما ذكره ابن عباس يشمل هذا: ما بين آدم إلى نوح عشرة قرون على التوحيد، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: أن ذلك ما بين آدم إلى نوح حيث وقع الشرك في قومه[19].
الكتاب يعني أن الله تبارك وتعالى أنزل معهم الكتاب، مع الرسل -عليهم السلام- الذين بعثهم، أنزل معهم جنس الكتاب، أو مع كل نبي كتاب، يعني باعتبار أن (أل) الكتاب يحتمل أن تكون للجنس، ويحتمل أن يكون المراد التوراة واللام للعهد، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله-: أن اللام (أل) الكتاب عهدية وليست للجنس، ليست للعموم ويشمل ذلك جميع الكتب[20].
بأي اعتبار ابن جرير اختار أنها للعهد وأن ذلك يُراد به التوراة؟ لاحظ السياق كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ هو يقول: إن هذا في بني إسرائيل. هم الذين اختلفوا فيه بغيًا بينهم كما ذكر الله -تبارك وتعالى- عنهم في مواضع أخرى، هذه قرينة عند ابن جرير -رحمه الله- على أن المراد بالكتاب هنا التوراة، وأن المقصود بذلك أهل الكتاب من بني إسرائيل، وكأن الأول -والله أعلم- أقرب: أن ذلك في جنس الكتاب، ولا يختص ذلك بالتوراة أو ببني إسرائيل فذلك من جملة الكتب.
المقصود بالضمير المجرور (فيه) وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ يعود على الكتاب وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ يعني في الكتاب، أو إلى من أُنزل عليه وهو محمد ﷺ بعضهم يقول هذا اخْتَلَفَ فِيهِ يعني: في من أُنزل عليه الكتاب، لكن هذا فيه بُعد، وهكذا قال بعضهم: بأن المقصود بذلك وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أي: الحق وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ، فبعضهم يقول: هذا يرجع إلى الحق اخْتَلَفَ فِيهِ أي في الحق. وذلك إذا تأملت السياق وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ اختلفوا في ماذا؟ اختلفوا في الحق، أو اختلفوا في الكتاب، أو اختلفوا فيمن جاء معه بالكتاب وأنزل عليه، أو على الضمير المجرور المتقدم لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ، يعني: فيكون عائدًا إليه ذاك الذي وقع بينهم الاختلاف، لكن ما هذا الذي وقع بينهم الاختلاف فيه؟ اختلفوا في دينهم، قال: الزمخشري: يعود على الحق. اخْتَلَفَ فِيهِ، أي: الحق، وأما الضمير في أُوتُوهُ فيعود على الكتاب. وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ، أي: أوتوا الكتاب، القاعدة أن الأصل توحيد مرجع الضمائر، القاعدة الترجيحية: أن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها، يعني عندنا ضمائر متتابعة فإذا أمكن حمل المعنى باعتبار أنها ترجع إلى شيء واحد فهذا أولى من القول بأن هذا الضمير يرجع إلى كذا، وهذا الضمير يرجع إلى كذا وهكذا، فهذه قاعدة مرجحة في هذا الموضع توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها، وهذا ذكرنا له أمثلة في بعض المناسبات في غير هذه المجالس: كقوله تبارك وتعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفتح:9]، هل يعود ذلك إلى النبي ﷺ أو يعود إلى الله، أو بعض ذلك يعود إلى الله، وبعض ذلك يعود إلى النبي ﷺ؟ وهكذا في شواهد وأمثلة أخرى.
يقول: والمعنى تقبيح الاختلاف بين الذين أوتوا الكتاب بعد أن جاءتهم البينات. وهذا كما قال الله : وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [الجاثية:17]، وقال: وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ [يونس:93] وقال بعد ذلك: فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس:93] وهكذا في قوله: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:4].
وعلى كل حال كما سبق في قوله: أما الضمير في أُوتُوهُ فيعود على الكتاب. لكن ليس هذا محل اتفاق، مع أنه هو ظاهر السياق، فبعضهم أيضًا يقول: إن ذلك يرجع إلى الحق. إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أي: الحق، أو النبي ﷺ أي: أُعطوا علمه بصفته -عليه الصلاة والسلام- في كتبهم، ابن جرير يحمل ذلك على اليهود وعلى كتابهم التوراة.
أصل البغي كما سبق هو طلب الشيء، يبغي، يبتغي، ويقال ذلك لجنس من الفساد، الظلم، والترفع والعلو بغير الحق، ومنه قيل: للحسد بغي بهذا الاعتبار؛ لأن الباغي طالب الظلم، والحاسد يظلم المحسود جهده طلبًا لإزالة النعمة، وهو بمعنى: الطغيان والتعدي والظلم، وهذا نتيجة للحسد، فهؤلاء حسدوا أهل الإيمان باعتبار أن ذلك في أهل الكتاب أو في اليهود على قول ابن جرير بَغْيًا بَيْنَهُمْ، وإذا قيل ذلك باعتبار أن (أل) في الكتاب للجنس فيكون ذلك الاختلاف وقع في كتب الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فآمن من آمن وكفر من كفر بغيًا بينهم، فالبغي هو الذي حمل على الكفر والضلال والانحراف وترك ما أنزل الله -تبارك وتعالى- على رسله -عليهم الصلاة والسلام- وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا [هود:27]، هكذا كانوا يستنكفون عن قبول دعوة الرسل -عليهم السلام- بهذا النظر، يقول: وهو مفعول من أجله. يعني: يكون باعتبار لأجل البغي، أو مصدر في موضع الحال: بغيًا.
لا شك أن الله هدى أهل الإيمان لما اختلفوا فيه، لكن يدخل فيه أيضًا باعتبار أن الكتاب للجنس يدخل فيه كل من آمن من تلك الأمم، فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ.
وذهب ابن جرير -رحمه الله- وكذلك قبله الفرّاء[22] إلى أن في الآية قلبًا والتقدير: فهدى الله الذين آمنوا للحق لما اختلفوا فيه من كتاب الله الذي أوتوه فكفر بعضهم بتبديله وثبت آخرون، ولكن هذا خلاف الأصل، والقاعدة: أن الكلام إذا دار بين الترتيب على النسق الذي ذكره الله أو القول بالتقديم والتأخير والقلب فإن الأصل في ذلك المقدم هو الترتيب كما ذكر الله تعالى.
قيل: بعلمه. هذا الذي اختاره ابن جرير أي: بعلمه بهم وبما هداهم له فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ يعني: بعلمه بحالهم وبما هداهم له، وهذا المعنى -بعلمه- ما ارتضاه آخرون، مثل: النحاس، اعتبر أنه غلط وأن المعنى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ أي: بأمره.
وعلى كل حال بِإِذْنِهِ أي: بعلمه وإرادته وتيسيره، والله تعالى أعلم، في حديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فاختلفوا، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه، هدانا الله له - قال: يوم الجمعة - فاليوم لنا، وغدا لليهود، وبعد غد للنصارى[23].
فهذا من جملة ما هدى الله إليه هذه الأمة بالنظر لما كان عليه من قبلها من بني إسرائيل حيث ضلوا في جملة من الأمور، هدى الله هذه الأمة إليها، كمسألة القبلة، والجمعة، وأشياء ذكر العلماء جملة منها، لكن على كل حال إذا قيل: بأن الآية عامة وأن ذلك يرجع إلى الأمم عمومًا فإن هذه الأمة لا شك أنه حصل لها من الهدايات ما هو أعظم وأكمل مما وقع لمن قبلها، فهي داخلة في ذلك دخولًا أوليًا.
(أم) هذه منقطعة بمعنى: بل، بعض أهل اللغة يقولون: هي بمعنى: همزة الاستفهام. خطاب للمؤمنين على وجه التشجيع والأمر بالصبر يعني يوطن نفوسهم ويهيئوها لتلقي الابتلاء والشدة فإن ذلك من رحمته -تبارك وتعالى- بهم أن أخبرهم عن وقوع ذلك قبل حصوله فتكون النفوس مستعدة له بهذا الاعتبار.
وَلَمَّا يَأْتِكُمْ أي: لا تدخلوا الجنة حتى يصيبكم مثل ما أصاب من كان قبلكم.
مَثَلُ الَّذِينَ أي: حالهم وعبّر عنه بالمثل؛ لأنه في شدته يضرب به المثل.
يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي: سنة من كان قبلنا[24].
وذلك هي الحال المستمرة المعهودة وهو وقوع الابتلاء في الأمم فهذا أمر لا بد منه، والمثل في أصله كما ذكرنا في الكلام على الأمثال في القرآن أكثر أهل العلم يقولون: إن أصله يرجع إلى معنى الشبه. وهذا ذكرت أن في بعض المواضع قد لا يتأتى بشيء من التكلف، لكن هنا مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ المثل إذا فسر بالشبه أو أعدنا معناه إلى الشبه يعني الحال الشبيهة المشابه لهم، ويأتي في مواضع قليلة بمعنى الصفة وإن أنكره بعض أهل العلم يعني بهذا المعنى الصفة مَثَلُ الْجَنَّةِ [الرعد:35]، [محمد:15]، أي: صفة الجنة، وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، أي: الصفة وهي الابتلاء.
الزلزلة عرفنا أن أصلها يرجع إلى معنى التحريك الشديد.
في حديث خباب المشهور لما قال للنبي ﷺ: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ هذا في مكة بعد أن لقوا من المشركين ما لقوا فقال النبي ﷺ: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون[25].
وهذا كقول الله : أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3] فهذا أمر لا بد من وقوعه، وكما في قوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142]، وكذلك في قوله: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [آل عمران:186]، يعني كأنه يقول: والله لتبلون في أموالكم وأنفسكم.
- تفسير الطبري (4/255)
- تفسير الطبري (4/251- 252).
- تفسير ابن كثير (1/565).
- تفسير ابن كثير (1/565).
- تفسير ابن كثير (1/566).
- أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (9/357)، رقم: (9763).
- مختصر العلو للعلي العظيم (ص:110).
- حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص:305).
- موسوعة الألباني في العقيدة (6/304)
- تفسير الطبري (4/261).
- تفسير الطبري (4/260).
- تفسير ابن كثير (1/568).
- نونية ابن القيم = الكافية الشافية (ص:108).
- تفسير ابن كثير (1/569).
- تفسير ابن كثير (1/569).
- تفسير الطبري (4/275).
- تفسير الطبري (4/278).
- تفسير الطبري (4/277)
- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/204).
- تفسير الطبري (4/280).
- تفسير الزمخشري (1/256).
- تفسير القرطبي (3/33).
- أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، رقم: (855).
- تفسير ابن كثير (1/572).
- أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم: (3612).