الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(019-ب) قوله تعالى "لا تضار والدة بولدها" الآية 231 إلى قوله تعالى "ولا تعزموا عقدة النكاح" الآية 233
تاريخ النشر: ٢٢ / جمادى الآخرة / ١٤٣٧
التحميل: 1253
مرات الإستماع: 1453

 لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ۝ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ۝  وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة:233-235].

لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها قرئ بفتح الراء لالتقاء الساكنين على النهي، وبرفعهما على الخبر، ومعناها النهي، ويحتمل على كل واحد من الوجهين أن يكون الفعل مسندًا إلى الفاعل، فيكون ما قبل الآخر مكسورًا قبل الإدغام، أو يكون مسندًا إلى المفعول، فيكون مفتوحًا، والمعنى على الوجهين: النهي عن إضرار أحد الوالدين بالآخر بسبب الولد، ويدخل في عموم النهي: وجوه الضرر كلها، والباء في قوله: بِوَلَدِهَا و بِوَلَدِهِ سببية.

لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا قرأه ابن كثير وأبو عمرو وكذلك هو رواية عن عاصم برفع الراء: (لا تضارُ والدة بولدها)[1]، وقرأه الباقون بالفتح لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا، قوله هنا: بفتح الراء لالتقاء الساكنين على النهي. يعني: تكون (لا) ناهية جازمة، وسُكنت الراء الأخيرة للجزم، وقبلها راء ساكنة مدغمة فيها فالتقى ساكنان فتحركت الثانية بالفتح للألف قبلها، حركة الفتح هذه ليست حركة إعراب لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا بفتح الراء لالتقاء الساكنين على النهي، وبرفعها على الخبر، يعني: تكون (لا) نافية لا عمل لها فيبقى مرفوعًا، يقول: ومعناه النهي. يعني: أنه خبر بمعنى الإنشاء بمعنى النهي (لا تضار) نهي عن المضارة، يقول: ويحتمل على كل واحد من الوجهين أن يكون الفعل مسندًا إلى الفاعل، فيكون ما قبل الآخر مكسورًا قبل الإدغام. يعني: لا تضارِر والدة بولدها، لا تضارِر ولادة زوجها بسبب ولدها باعتبار أن الباء للسببية، كأن ترفض هذا الولد وتلقي بذلك على الزوج من أجل مضارة هذا الزوج بتربية هذا الولد إذا كان لا يتأتى له ذلك، يتعلم مثلًا، ليس عنده من يقوم به ولما حصل الطلاق أرادت أن تلحق الضرر بهذا الزوج فقالت: خذ أولادك، خذ ولدك.

هذا الولد حديث ولادة مثلًا، أو قد يكون مضى على ولادته مدة لكنه لا يستطيع القيام بشؤونه، ليس عنده من يراعاه فيبقى هذا الزوج في حال من الحيرة، كيف يصنع بهذا الولد؟! فهذا لا يجوز، وقد تُضار بغير ذلك من أجل النكاية بهذا الزوج، يحصل منها مطالبات واشتراطات، ولربما دعاوى كيدية على هذا الزوج هنا وهناك في المحاكم وفي الشرط وغيرها بدعاوى كاذبة من أجل ألا يرى هذا الولد أو ألا يأخذ هذا الولد، أو أن تضغط عليه بسبب هذا الولد، أحيانًا تشتكي باعتبار أن هذا الرجل يمثل خطرًا على الولد، فبعض النساء لجهلها تقول: أريد أن يُبرأ منه. كيف يُبرأ منه؟! يعني هذا ولد ملاعنة أم ماذا؟! يعني يصدر من المحكمة حكم بتبرئة هذا الزوج من هذا الولد، هذا لا يكون إلا في الملاعنة، يعني أنه ولد زنا، فهذه لشدة العداوة والبغض لهذا الزوج تريد وثيقة من المحكمة بتبرئته من أبيه، وأحيانًا يكون الأمر بغير هذا، تطالب بمطالبات أنه لا ينفق، تريد نفقة لهذا الولد، تريد نفقة لنفسها وهي مطلقة بائن، تريد سكنى ولا تفتأ من رفع الدعاوى والشكاوى في كل ناحية تطالب بمثل هذه الأمور، فصار هذا الولد سببًا لعناء كثير لهذا الزوج، ودعاوى غير حقيقية، دعاوى كاذبة فيبقى في شقاء بسبب هذا الولد، فيكون الولد هذا هو الضحية، كذلك أيضًا ولا يضارِر مولود له -الزوج- زوجته بسبب هذا الولد، كأن ينزع الولد الصغير منها، تريد تربيته، رضيع تريد إرضاعه؛ انتقامًا منها ونكاية بها فيأخذ هذا الولد، أو يمنعها من رؤيته أصلًا فيحصل لها بسبب ذلك ما الله به عليم وهكذا، فهذا لا يجوز ولا يصح أن يضغط أحد الزوجين على الآخر بسبب الولد فيكون الولد هذا هو وسيلة الضغط والأذى والمضارة بين الزوجين، إنما ينظر الأصلح له هذا هو الواجب.

يقول: ويحتمل على كل واحد من الوجهين أن يكون الفعل مسندًا إلى الفاعل فيكون ما قبل الآخر مكسورًا قبل الإدغام. لا تضارِر، أو يكون مسندًا إلى المفعول فيكون مفتوحًا. لا تُضَارَر والدة بولدها، والمعنى على الوجهين النهي عن إضرار أحد الوالدين بالآخر بسبب الولد.

وقد حملها ابن جرير على المعنيين[2] باعتبار أن القرآن يُعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ [البقرة:282].

كذلك فيكون النهي عن المضارة في حق كل واحد من الزوجين، فالزوج لا يحق له أن يضارر المرأة، والمرأة لا يحق لها أن تضارر الرجل، فلا يضار الرجل لا يضارَر هو، ولا يضارِر أيضًا، ولا تضارر الزوجة الزوج، فكل ذلك صحيح، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، ولا دليل على تعين أحد المعنيين والآية تحتمل ذلك جميعًا فتحمل عليه والله أعلم، فيكون الضرر هنا مرادًا به هذا وهذا، هذا النوع من الوجوه والمعاني يكون من جهة التصريف، وبعضهم يدخله بنوع من المشترك: لفظ واحد يحتمل من جهة التصريف معنيين. فبعضهم يدخله في بعض السور المشترك.

والمراد بقوله: وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ الوالد، وإنما ذكره بهذا اللفظ إعلامًا بأن الولد ينسب له لا للأم.

هذه القضية التي أشرت إليها سابقًا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ما قال: ولا والد. وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ فهو ينسب إلى أبيه.  

وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ اختلف في الْوَارِثِ فقيل: وارث المولود له، وقيل: وارث الصبي لو مات، وقيل: هو الصبي نفسه، وقيل: من بقي من أبويه.

وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ، يعني: وارث الصبي، وارث الطفل الذي مات أبوه مثل ما على الأب من النفقة لما قال: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ [البقرة:233]، الزوج رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233]، وإذا مات؟ فعلى الوارث مثل ذلك، فهو وارث هذا الطفل الذي مات أبوه فعليه مثل ما على الأب من النفقة والكسوة لوالدته وعدم الإضرار بها، هذا الذي ذهب إليه الجمهور في هذا المعنى وَعَلَى الْوَارِثِ وارث الطفل من النفقة، نجمع المعاني: النفقة وعدم الإضرار، وكذلك أيضًا القرطبي حمل هذا وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ يعني: في عدم الإضرار لقريبه، وبهذا قال مجاهد، والشعبي، والضحاك[3].

يقول: اختلف في الْوَارِثِ فقيل: وارث المولود له. يعني الأب، وقيل: وارث الصبي لو مات، وقيل: هو الصبي. هذا اختيار ابن جرير: أن الوارث هو الصبي[4]، وقيل: من بقي من أبويه. وقيل: وارث المرضعة، وبعضهم يقول: هذه الآية منسوخة. ولا دليل على النسخ، لكن على كل حال والذي يظهر -والله أعلم- أن قوله: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ، أي: وارث الصبي، وارث الطفل الذي مات أبوه، هذا قول الجمهور.

واختلف في المراد بقوله: مِثْلُ ذَلِكَ فقال مالك وأصحابه: عدم المضارة، وذلك يجري مع كل قول في الْوَارِثِ لأن ترك الضرر واجب على كل أحد، وقيل: المراد أجرة الرضاع من النفقة والكسوة، ويختلف هذا القول بحسب الاختلاف في الوارث، فأما على القول بأن الوارث هو الصبي فلا إشكال؛ لأن أجرة رضاعه في ماله.

 هذا على قول ابن جرير، على الوارث يعني الصبي فيؤخذ من مال الصبي الأجرة، أجرة الرضاع. 

وأما على سائر الأقوال، فقيل: إن الآية منسوخة فلا تجب أجرة الرضاع على أحد غير الوالد.

يعني: فيما لو كان مثلًا الذي كان وارثًا لما مات والد هذا الصبي فكان الوارث مثلًا هو أخوه فهل عليه أجرة الرضاع؟ بعضهم يقول: منسوخة؛ لأن لا يجب عليه هذه النفقة. لكن لا دليل على النسخ، قلنا: بأن المعنى وارث الصبي، فهنا يجب عليه الإنفاق إذا لم يوجد من يقوم بذلك، يعني: إن لم يكن هو الولد فيجب على غيره من الوارثين أن ينفق عليه، بعض أهل العلم يأخذ من هذه الآية: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ أن الزكاة لا تُعطى لمن كان المعطي وارثًا له لو مات؛ لأنه يجب عليه أن ينفق عليه، قالوا هنا وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ يعني النفقة، وارث الصبي يجب عليه النفقة، فكل صاحب زكاة فإنه لا يعطي من قرابته ممن يرثه هذا المعطي لو مات، يعني: لو كان له أخ مثلًا هل يعطي الزكاة لأخيه أو لا؟ على هذا القول فيه تفصيل، فإذا كان هذا الأخ له أب فسيرثه أبوه، لو كان هذا الأخ له ابن سيرثه الابن دون الأخ، فهنا يعطيه من الزكاة إن كان فقيرًا، لكن لو فُرض أن هذا الأخ ليس له أب وليس له ابن من سيرث؟ الأخ، ففي هذه الحالة قال هؤلاء: يجب عليه أن ينفق عليه فهو وارث، والله يقول: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ.

هذا وإن كان في الرضاع فاستنبطوا منه هذا الحكم: إن الوارث يجب عليه أن ينفق، فإذا كان يجب عليه أن ينفق كيف يعطيه من الزكاة؟! هكذا قال بعض أهل العلم، وبعضهم كما هو معلوم يقول: الزكاة لا تُعطى للأصول ولا الفروع وتعطى لمن عدا ذلك سواء كان المعطي وارثًا له أم لم يكن، وكأن هذا القول -والله أعلم- أقرب إلا ما كان من قبيل الدين؛ لأنه لو كان على الأب دين فيمكن أن يُعطيه الولد لسداد الدين، قضاء الدين؛ لأنه لا يجب على الولد أن يقضي هذا الدين بهذا الاعتبار، وهكذا الوالد يمكن أن يدفع الزكاة للولد لقضاء الدين، أما في النفقة فلا؛ لأنها واجبة عليه.

وقيل: إنها محكمة فتجب أجرة الرضاع على وارث الصبي لو مات، أو على وارث الوالد، وهو قول قتادة[5] والحسن البصري[6].

هنا نقل تعليقًا عن ابن العربي يقول: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ قال ابن القاسم -يعني من المالكية- عن مالك: هي منسوخة. يقول ابن العربي: وهذا كلام تشمئز منه قلوب الغافلين فتحار فيه ألباب الشادين والأمر فيه قريب؛ لأنا نقول لو ثبتت ما نسخها إلا ما كان في مرتبتها -عند من يقول مثلًا-: لا ينسخ القرآن إلا قرآن كما يقول الشافعي -رحمه الله- أو من يقول مثلًا: بأن المتواتر لا ينسخه إلا متواتر، والأقرب أوسع من ذلك -لكن بصرف النظر- وجهه أن علماء المتقدمين من الفقهاء والمفسرين كانوا يسمون التخصيص نسخًا؛ لأنه رفع لبعض ما يتناوله العموم مسامحة، فجرى ذلك في ألسنتهم، وهذا يظهر عند من ارتاض بكلام المتقدمين كثيرا[7].

يعني: يريد أن يوجه القول المروي عن مالك -رحمه الله- بأنها منسوخة، بأن المقصود بذلك التخصيص وأن المتقدمين يطلقون النسخ على كل ما يعرض للنص من تخصيص العام وتقييد المطلق وبيان المجمل والقسم الرابع: وهو الرفع الذي شاع عند المتأخرين بإطلاق النسخ عليه وهو المتبادر، لكن قد لا يكون هذا هو المراد، والله أعلم، عند من قال بأنها منسوخة، يعني هل هذه مخصصة أو لا؟، هل المقصود التخصيص أم الرفع؟ قد لا يُراد هذا، والله أعلم، يعني قد يقصد القائل به الرفع باعتبار أن ذلك لا يجب عليه أصلًا، والله أعلم.

وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا إباحة لاتخاذ الضئر.

المقصود بالضئر: هي المرضعة لغير ولدها، سواء كان ذلك من الآدميين وغالب ما يقال ذلك للناقة التي تُضيْر فترضع غير ولدها، يكون هذا قد ماتت أمه مثلًا وهذا معروف عند أهل الإبل فيعملون لها أشياء صعبة جدًا من أجل أن تتوهم أنه ولدها فتعطف عليه وترضعه فيقال: ضئر. ترضع ولدًا غير ولدها، قوله: إباحة لاتخاذ الضئر. هذا لا إشكال فيه يعني يُتخذ له مرضع.

إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ، أي: دفعتم أجرة الرضاع.

حمله ابن كثير على استلام الأب للولد إذا اتفقا مع أمه لعذر[8]، إذا سلمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن، واسترضع له غيرها، فيعطيها أجرة الرضاع، يعطيها الأم إذا أخذ الولد ليرضع من أخرى، وبعضهم يقول: إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ يعني: للمرضع المستأجرة، يُعطى لها الأجرة.

وبعضهم حمله على التراضي الذي يكون بين الزوجين، وعلى كل حال هو مطالب بأن يعطي الأم المطلقة أجرة الرضاع إن كانت قد أرضعت ثم ينتقل إلى أخرى، وتلك أيضًا تُعطى الأجرة بالمعروف، والله أعلم.

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً الآية، عموم في كل متوفى عنها، سواء توفي زوجها قبل الدخول أو بعده، إلا الحامل فعدتها وضع حملها سواء وضعته قبل الأربعة الأشهر والعشرة أو بعدها عند مالك والشافعي وجمهور العلماء، وقال عليّ بن أبي طالب: عدتها أبعد الأجلين[9]. وخص مالك من ذلك الأمة فعدّتها في الوفاة شهران وخمس ليال.

قوله: عموم في كل متوفى عنها -يعني الزوج- هذا نقل عليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- الإجماع، أنها عامة[10]، كما نقل أيضًا ابن العربي المالكي الإجماع على أن عدة الأمة نصف عدة الحرة[11]، يعني يكون ذلك في شهرين وخمسة أيام، قال: إلا الحامل فعدتها وضع حملها سواء وضعته قبل الأربعة الأشهر والعشرة أو بعدها. لكن العموم في كل متوفى عنها، يعني لو كانت الوفاة قبل الدخول -يعني عقد عليها ثم توفي- فيجب عليها أن تعتد، هذا معنى العموم الذي عليه الإجماع يعني سواء كان مدخول بها أو لا -يعني قد مات قبل الدخول أو بعد الدخول- ويدل عليه حديث معقل بن يسار في أن النبي ﷺ قضى في المرأة بنت واشق أنها لما توفي عنها زوجها قبل الدخول[12].

فهذه المرأة يثبت لها المهر، فسمى لها من المهر وعليها العدة ولها الميراث، ثلاثة أشياء.

هنا يقول: سواء وضعته قبل الأربعة الأشهر والعشرة أو بعدها. يعني: أن العدة بوضع الحمل بالنسبة للحامل ولو وضعته بعد وفاته بساعة فإن عدتها تنقضي، ويدل على هذا حديث سُبيعة الأسلمية: لما توفي عنها زوجها فوضعت بعده بليال، وأنكر عليها أبو السنابل لما رآها قد تهيأت وتزينت، فسألت النبي ﷺ فأفتاها أنها قد حلّت حين وضعت حملها، وأمرها أن تتزوج إن بدا لها ذلك[13].

فهذا صريح في أن الحامل تكون عدتها بوضع الحمل، وهذا الذي عليه الجمهور، علي يقول: بأنها تعتد بأبعد الأجلين. لو فرضنا أن الحمل في الشهر الأول فهنا يقال العدة بوضع الحمل تسعة أشهر، لكن لو أنها أسقطت بعد تمام الشهر الرابع هنا تجلس أربعة أشهر وعشرة أيام، لو أنها ولدت بعد شهر فتجلس أربعة أشهر وعشرة أيام أطول الأجلين، فإن كان الأطول هو الحمل بقيت مدة الحمل، وإن كان الأطول هو عدة الوفاة الأربعة أشهر وعشرًا فهذا تطالب بالبقاء بالأطول منهما، هذا على قول علي والأول قول الجمهور، فهذه الآية: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا مخصصة بالحامل، مخصصة بعضهم كما سبق نقل عليها ابن العربي الإجماع خصصوا الأمة.

و(يتربصن) معناه: عن التزويج، وقيل: عن الزينة فيكون أمرًا بالإحداد.

جاء عن سعيد بن المسيب وأبي العالية: أن الحكمة في هذه العدة لاحتمال اشتمال الرحم على الحمل[14].

وذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أن حديث: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله، ورزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح[15] فدل على أن الأربعة أشهر هي المدة التي يحصل بها نفخ الروح كما في الحديث المشار إليه، إن كان له تمام الأربعة أشهر ففي ذلك الحين تُنفخ فيه الروح[16].

فهنا يقولون: يتحرك في البطن فيتبين الحمل تمامًا. وعشرة أيام؟ قالوا: العشرة احتياطًا لذلك. يعني عشرة أيام يستبين بها الحمل، عشرة أيام قالوا: احتياطًا بحيث إن ذلك يكون في غاية الجلاء.

قال بعضهم: بأن ذلك الاحتياط من جهة ما قد يحصل من نقص في بعض الشهور. الاعتداد بالأشهر فقد يكون تسع وعشرين، الشهر الآخر تسع وعشرين، ونحو ذلك، فقالوا: قد يحصل نقص في بعض الشهور فيكون ذلك يعني من أجل التحقق من الحمل. والله أعلم.

وإعراب (الذين) مبتدأ، وخبره (يتربصن) على تقدير أزواجهم يتربصن، وقيل التقدير: وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن، وقال الكوفيون: الخبر عن (الذين) متروك، والقصد الإخبار عن أزواجهم.بي

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا والذين يتوفون منكم ما بهم؟ يذرون أزواجًا، جاء الإخبار عن الزوجات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ، والكوفيون يقولون: الخبر لم يذكر. الخبر عن (الذين)، والقول الذي قبله بأن (الذين) مبتدأ، والخبر (يتربصن) وجيء به بصيغة الخبر ومعناه الإنشاء -يعني: معناه الأمر- يعني عليهن أن يتربصن، ليتربصن، والتربص، بمعنى: الانتظار، فإذا كانت تنتظر لا تتزوج ولا تُخطب فدواعي النكاح أيضًا تمتنع منها، الزينة سواء كان ذلك بالأصباغ كالحناء والكحل ونحو ذلك أو كان بالحلي أو كان باللباس، ما ظاهره الزينة، تترك ذلك إيذانًا بإعراضها عن النكاح، فهذا من دواعيه، فالمرأة تكون في حال من الحداد باعتبار أنها لا التفات لها إلى الأزواج في هذه المدة فلا تتهيأ ولا تتزين ولا تتجمل.

فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من التزويج والزينة.

بِالْمَعْرُوفِ هنا: إذا كان غير منكر، وقيل: معناه الإشهاد.

إذا كان غير منكر، يعني: هذا الفعل والتصرف الذي يصدر عنها إذا كان غير منكر، يعني: لا تتبرج مثلًا، فالأولياء كما قال النبي ﷺ: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته[17]، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ مفهوم المخالفة أن عليكم الجناح -يعني: الحرج والإثم- إذا فعلن في أنفسهن غير معروف، يعني تصرفن بما يكون من قبيل  المنكر كالتبرج والاختلاط بالرجال ونحو ذلك، ويدخل في هذا المنكر فيما لو تزوجت بغير ولي، وقول من قال هنا: الإشهاد.

يقصد الإشهاد على النكاح فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ يعني: الإشهاد، فهذا يكون من قبيل التفسير بالمثال، وإلا فالمعنى أوسع من هذا، فتتزوج بولي وكذلك أيضًا بشهود ولا تزوج نفسها بحال من الأحوال، جاء عن ابن عباس -ا- قال: أن تتزين وتتصنع وتتعرض للتزويج فذلك المعروف[18].

ليست تتزين للرجال، وإنما بحضرة النساء فيمكن أن تحضر مجالس النساء، ومجامع النساء العامة والخاصة متزينة علها أن تُخطب، هذا هو المقصود، بعض النساء اليوم يسألن عن حضور حفلات الزواج اللاتي لم يدعين إليها أصلًا، يعني: هي لا تعرفهم أو ما دعيت، هي تذهب لصالات الأفراح وتدخل مع الناس متزينة في غاية الزينة، لماذا تفعلين هذا؟ هي تسأل عن الحرج في الأكل ونحو ذلك من باب التطفل وأكل طعام ما دعيت إليه، فهي تسأل عن هذا فلماذا إذن تذهبين؟ تقول: لعلي أُوفق. يعني: يراها من يُعجب بها فتخطب.

فعلى كل حال بِالْمَعْرُوفِ وهذا أيضًا نحوه عن مقاتل بن حيان، وجاء عن مجاهد بأن المقصود بذلك النكاح الحلال الطيب فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ وعلى ما أذن الله فيه وأباحه لهن. يعني: بالولي والشهود، وجاء نحو هذا عن الحسن، والزهري، والسدي[19].

وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ الآية، إباحة التعريض بخطبة المرأة المعتدّة، ويقتضي ذلك النهي عن التصريح.

وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ التعريض هو الإيماء والتلميح من غير تصريح، جاء عن ابن عباس -ا- ما يوضحه، يعني كأن يقول: إني أريد التزويج وإني أحب امرأة من أمرها ومن أمرها[20].

وفي رواية: ودت لو أن الله رزقني امرأة من أمرها كذا وكذا[21].

ونحو هذا من العبارات، ويدل على ذلك فاطمة بنت قيس، قالت: إن زوجها طلقها ثلاثًا، فلم يجعل لها رسول الله ﷺ سكنى، ولا نفقة، قالت: قال لي رسول الله ﷺ: إذا حللت فآذنيني، فآذنته، فخطبها معاوية، وأبو جهم، وأسامة بن زيد، فقال رسول الله ﷺ: أما معاوية فرجل ترب، لا مال له، وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء، ولكن أسامة بن زيد فقالت بيدها هكذا: أسامة، أسامة، فقال لها رسول الله ﷺ: طاعة الله، وطاعة رسوله خير لك، قالت: فتزوجته، فاغتبطت[22].

فيمكن أن يقول الرجل للمرأة إذا حللت -انقضت العدة- فأخبريني، أشعريني بذلك فقط، لا يواعدها يقول: سأتزوجك.

ولا يخطبها وإنما يُعرض إما أن يقول: أخبريني، آذنيني، أعلميني. أو أن يقول: أنا أبحث عن زوجة ولعل الله ييسر لي، أنا أبحث عن زوجة تكون ثيبًا، أنا أبحث عن امرأة من صفاتها كذا وكذا مما ينطبق عليها، مثلك يرغب فيه الأزواج. مما قد تفهم منه بطريق التعريض لا التصريح، فهذا لا إشكال فيه.

ثم أباح ما يضمر في النفس، بقوله: أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ.

يعني سترتم وأضمرتم كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ [القصص:69]، يعني: ما تخفيه، فهذا الذي يكتمه في نفسه من العزم على التزوج بهذه المرأة لا يؤاخذ عليه، لكنه لا يُصرح لها بذلك ولا يواعدها.

عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ، أي: تذكروهن في أنفسكم وبألسنتكم لمن يخفي عليكم، وقيل: أي ستخطبونهن إن لم تنهوا عن ذلك.

عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: أي في أنفسكم[23].

يعني الإنسان لا يستطيع أن يدفع مثل هذه الواردات عن نفسه، فعفى الله -تبارك وتعالى- عنها ولم يؤاخذ بها أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ قال: أي تذكرون ما في أنفسكم بألسنتكم. هنا أعم -يعني ما ذكره ابن جزي أنه يذكرها- يتكلم بلسانه، عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ، لمن يخفي عليكم.

يعني: يتكلم مع صاحبه مثلًا بشأنها، يقول: أنا أريد أن أتزوج فلانه. لكن هذا لا يذهب إليها ويقول: فلان سيتزوجك. وهي في العدة، يعني هذا يمكن أن يتجه أما إذا كانت العبارة: لم يخف عليكم. فهذا ليس معنى، المعاني الآن صارت عندنا ثلاثة:

المعنى الأول: (ستذكرونهن) ابن كثير يقول: في قلوبكم فأنتم غير مؤاخذين على هذا.

المعنى الثاني: (ستذكرونهن) بألسنتكم -على هذه النسخة الأخرى لابن جزي- لمن يخفي عليكم.

يعني: يكتم ذلك، ولا يوصله إلى هذه المرأة ولا يصرح لها، وقيل: أي ستخطبونهن إن لم تنهو عن ذلك. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ فأنتم بحاجة إلى منع وإلا بادرتم إلى التصريح بالخطبة، وعلى كل حال الآية تحتمل هذا، قال: وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا لاحظ الآن يعني مثل هذا النهي عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ الذي يسمع الآن مثل هذا قد يتساءل وبتعجب إن المرأة إذا طُلقت أو مات عنها زوجها لا يكاد يتقدم لها أحد! لكن من عرف عادة العرب قبل هذا الوقت وذلك أنهم كانوا ينظرون إلى مواصفات المرأة دون النظر إلى كونها ثيبًا أو بكرًا فيتسابقون عليها، فيتقدم لها الخطاب فتتحير أحيانًا من تقبل، فما كانت المرأة تبور ولذلك حينما تنظرون في التراجم مثلًا بعض الصحابيات كأسماء بن عميس -ا- تزوجها مجموع بمجرد ما يُستشهد زوجها وتنقضي العدة، أو يموت، تتزوج مباشرة، ويتزوجها الكبار، وهكذا، لو تتبعت تجد من هذا كثير، فمن عرف تلك الحال التي كانوا عليها يفهم مثل هذا الخطاب.

وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا، أي: لا تواعدوهنّ في العدة خفية بأن تتزوّجوهن بعد العدة، وقال مالك فيمن يخطب في العدّة ثم يتزوّج بعدها: فراقها أحب إليّ، ثم يكون خاطبًا من الخطاب، وقال ابن القاسم: يجب فراقها.

وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا حمله ابن جرير على الزنا[24]، والسياق إنما هو في الخطبة والتزوج، ولهذا قال: أي لا تواعدوهن في العدة خفية بأن تتزوجوهن بعد العدة.

جاء عن ابن عباس: لا تقول لها إني عاشق وعاهديني ألا تتزوجي غيري[25].

وجاء عن سعيد بن جبير، والشعبي، وعكرمة، وأبي الضحى، والضحاك، والزهري، ومجاهد، وسفيان الثوري: هو أن يأخذ ميثاقها ألا تتزوج غيره[26].

أن يأخذ عليها عهدًا ألا تتزوج أحدًا غيره، وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا يكفي من غير أخذ ميثاق أن يواعدها يقول لها: إذا انتهت العدة تزوجنا. وتوافقه على ذلك فهذه مواعدة من الطرفين، يتفق معها على التزوج بعد انقضاء العدة، هذا لا يجوز، ومن قال: بأنه يجب فراقها. كقول ابن القاسم، يمكن أن يوجه هذا باعتبار أن النهي يقتضي الفساد إذا واعدها في العدة، لكن هذا النهي إنما هو عن المواعدة وهو لم ينكح ولم يتزوج فتزوجها بعد العدة في وقت قد حلت فيه للأزواج، فقاعدة النهي يقتضي الفساد قد لا تنطبق على هذا بصورة دقيقة.

إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا استثناء منقطع، والقول المعروف هنا: هو ما أبيح من التعريض: كقوله: إنكم لأكفاء كرام، وقوله: إن الله سيفعل معك خيرًا، وشبه ذلك.

القول المعروف هنا قال: الاستثناء المنقطع. باعتبار أنه نهى عن المواعدة لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا، فالقول المعروف ليس من قبيل المواعدة؛ لأنها منهي عنها، فكان بذلك الاستثناء منقطعًا، والاستثناء المنقطع ما كان فيه المستثنى من غير جنس المستثنى منه، وهذا الذي قاله ابن جرير -رحمه الله- قال: والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض. هذا كما سبق وبه قال: مجاهد، وسعيد بن جبير، والسدي، والثوري، وابن زيد، كقوله: إنكم لأكفاء كرام، وقوله: إن الله سيفعل معك خيرًا، ونحو ذلك. هذا القول المعروف يعني من غير تصريح، يكون بالتعريض.

وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ الآية، نهي عن عقد النكاح قبل تمام العدّة، و(الكتاب) هنا: القدر الذي شرع من العدة، ومن تزوّج امرأة في عدّتها يفرق بينهما اتفاقًا، فإن دخل بها حرمت عليه على التأبيد عند مالك خلافًا للشافعي وأبي حنيفة، واختلف عن مالك في تأبيد التحريم إذا لم يدخل بها، وإذا دخل بها ولم يطأها.

في قوله: وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ العقدة اسم لما يُعقد من نكاح أو يمين أو غير ذلك، وعقدة كل أمر هي إيجابه وتوثيقه، تقول: عقد البيع، عقد الصفقة. ونحو ذلك فأصله الشّد وشدة الوثوق وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ يقول الحافظ ابن كثير: يعني لا تعقدوا العقدة بالنكاح حتى تنقضي العدة[27]. جاء هذا المعنى عن جماعة: كابن عباس -ا- ومجاهد، والشعبي، وقتادة، والربيع، وزيد بن أسلم، ومقاتل، والزهري، وعطاء الخرساني، والسدي، وسفيان الثوري، والضحاك: لا تعقدوا العقدة بالنكاح حتى تنقضي العدة، وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ يعني على عقده والتزوج، يقول: والْكِتَابُ هنا: القدر الذي شرع من المدة. وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَه المدة المضروبة، يقول: ومن تزوّج امرأة في عدّتها يفرق بينهما اتفاقًا.

وهذا نقل عليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- الإجماع، تزوج امرأة في العدة، عدة الوفاة مثلًا، وكذلك أيضًا لو أنها عدة طلاق ثلاث، يفرق بينهما، ومن باب أولى لو كانت الطلقة رجعية فلا زالت في حبال الزوج وعصمته، فهذا النكاح وقع على نكاح وعلى عقد، فهذا لا يصح بحال من الأحوال.

يقول: فإن دخل بها حرمت عليه على التأبيد عند مالك. لكن هذا لا دليل عليه خلافًا للشافعي وأبي حنيفة، واختلف عن مالك في تأبيد التحريم إذا لم يدخل بها، وإذا دخل بها ولم يطأها.

على كل حال وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ هنا سماه كتابًا لكونه مفروضًا محدودًا كقوله: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء: 103]، فالشيء المفروض المحدود يقال له: كتاب. فهذه المدة في العدة أربعة أشهر وعشرة أيام، أو الحامل بانقضاء الحمل، هي أمر مفروض محدد من الله تبارك وتعالى.

 

  1. تفسير الطبري (5/46).
  2. تفسير الطبري (5/48).
  3. تفسير ابن كثير (1/635).
  4. تفسير الطبري (5/54).
  5. مصنف عبد الرزاق الصنعاني (6/167)، رقم: (10372).
  6. تفسير الطبري (5/55)، رقم: (4990).
  7. أحكام القرآن لابن العربي (1/276).
  8. تفسير ابن كثير (1/635).
  9. السنن الكبرى للبيهقي (7/706)، رقم: (15474).
  10. تفسير ابن كثير (1/635).
  11. أحكام القرآن لابن العربي (1/283).
  12. أخرجه أبو داود، كتاب النكاح، باب فيمن تزوج ولم يسم صداقا حتى مات، رقم: (2114).
  13. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، رقم: (3991)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها، وغيرها بوضع الحمل، رقم: (1484).
  14. تفسير ابن كثير (1/636).
  15. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، رقم: (3208)، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، رقم: (2643).
  16. تفسير ابن كثير (1/636- 637).
  17. أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب {قوا أنفسكم وأهليكم نارا} [التحريم:6]، رقم: (5188)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عليهم، (1829).
  18. تفسير ابن كثير (1/638).
  19. انظر: تفسير ابن كثير (1/638).
  20. تفسير الطبري (5/95).
  21. المصدر السابق (5/96).
  22. أخرجه مسلم، كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثا لا نفقة لها، رقم: (1480).
  23. تفسير ابن كثير (1/639).
  24. تفسير الطبري (5/105).
  25. تفسير الطبري (5/107).
  26. تفسير ابن كثير (1/640).
  27. تفسير ابن كثير (1/640).

مواد ذات صلة