الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(020-ب) قوله تعالى "فإن خفتم فرجالا" الآية 237 إلى قوله تعالى "فقال الله لهم موتوا ثم أحياهم..." الآية 241
تاريخ النشر: ٢٩ / جمادى الآخرة / ١٤٣٧
التحميل: 1134
مرات الإستماع: 1552

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد:

اللهم ارزقنا العلم النافع، والعمل الصالح.

قال المصنف -رحمه الله تعالى:

"قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ [البقرة:239] أي: من عدوٍّ، أو سبعٍ، أو غير ذلك، مما يخاف منه على النفس".

فقوله: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239] هنا أطلق الخوف، فيُحمل على أعم معانيه، وهو الخوف الذي لا يتمكن معه من أداء الصلاة على الوجه المأمور به: من القيام، والركوع، والسجود، ونحو ذلك.

"قوله: فَرِجَالًا جمع راجل، أي: على رجليه".

رجالًا: مشتق من الرِجل، الماشي برجله، كما قال الله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا، يعني: مُشاة، على الأرجل وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [الحج:27] هو المركوب من الإبل، وغيرها، وهو الذي أضناه السفر، وطول المسير، فحصل له الضمور، فذهب زهمه، وبقي في حالٍ من الضعف.

"قوله: أَوْ رُكْبَانًا جمع راكب، أي: صلوا كيفما كنتم من ركوب، أو غيره؛ وذلك في صلاة المسايفة، ولا يُنقص منها عن ركعتين في السفر، وأربع في الحضر عند مالك[1]".

يقول: "أَوْ رُكْبَانًا جمع راكب: أي: صلوا كيفما كنتم من ركوب، أو غيره"، يعني: على أي حال مستقبل القبلة وغير مستقبليها؛ لأنه في هذه الحال قد لا يتمكن من الاستقبال، فيُصلي كيفما أمكنه.

وقد جاء عن نافع أن ابن عمر -ا- كان إذا سُئل عن صلاة الخوف وصفها، ثم قال: "فإن كان خوفٌ أشد من ذلك"، يعني: وصف صلاة الخوف بتقدم مجموعة، وتأخر آخرين إلى آخره، ولها صفات متعددة، وتلك الصفات الثابتة الصحيحة محمولة على اختلاف الأحوال، فلكل حالٍ يُصلى ما يناسبها بالوجه والصفة التي تناسب تلك الحالة؛ إذا كان العدو أمامهم أو في الخلف أو غير ذلك.

"فإن كان خوفٌ أشد من ذلك صلوا رجالًا على أقدامهم"، يعني: إذا لم يتهيأ لهم الاصطفاف والصلاة بالصفة التي جاءت عن النبي ﷺ قال: "فإن كان خوفٌ أشد من ذلك صلوا رجالًا على أقدامهم"، يعني: وهم يمشون "أو ركبانًا مستقبل القبلة، أو غير مستقبليها، قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي ﷺ[2]"، يعني: له حكم الرفع.

يقول: "في صلاة المسايفة" والمقصود بالمسايفة، يعني: الالتحام بالقتال "ولا يُنقص منها عن ركعتين في السفر" يعني رباعية، تكون ركعتين إذا كان في سفر، لكن لو كان في حضر وحصل قتال وخوف، فإنه لا يقصر الصلاة، يصليها أربعًا، وفي السفر لا يقصر دون ركعتين، فلا يكتفي بركعة واحدة.

قال: "وأربع في الحضر عند مالك" وقد روى مسلم عن ابن عباس -ا-: "فَرَضَ الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر: أربعًا، وفي السفر: ركعتين، وفي الخوف: ركعة"[3].

وبهذا قال جماعة من السلف؛ كالحسن، وقتادة، والضحاك[4]، وغيرهم، لكن الجمهور يقولون: لا تُقصر[5]، يعني: في السفر لا تقل عن ركعتين، وفي الحضر أربع ركعات.

وقد قال الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه: "باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو" وذكر في ترجمة الباب، قول الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح، ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماءً كل امرئٍ لنفسه، فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة، حتى ينكشف القتال، أو يأمنوا، فيصلوا ركعتين"، يعني: ممكن أن يصلي العصر بعد المغرب، أو بعد العشاء إذا ما استطاع أن يُصلي إيماءً، "فإن لم يقدروا صلوا ركعةً وسجدتين، فإن لم يقدروا لا يُجزيهم التكبير، ويؤخرونها حتى يأمنوا، وبهذا قال أيضًا مكحول الدمشقي، قال أنس بن مالك -رحمه الله-: حضرت مناهضة "حصن تستر" عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال، فلم يقدروا على الصلاة، فلم نصلِّ إلا بعد ارتفاع النهار، فصليناها، ونحن مع أبي موسى الأشعري ففُتح لنا، وقال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها[6].

وفتح "تستر" من أعظم الفتوح في بلاد فارس؛ ولهذا يقول: "وما يسُرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها" هذا لفظ البخاري بترجمة هذا الباب.

فالمقصود: أن من السلف من يقول بأنه في حالات عدم الإمكان أنه يُصلي ركعة واحدة بسجدتين، والجمهور على أنها لا تقل في السفر عن ركعتين، وفي الحضر عما هي عليه أربع ركعات، وبطبيعة الحال المغرب ثلاث، والفجر ركعتين.

فهو يصلي صلاة الخوف المعروفة بأي صفةٍ وردت عن النبي ﷺ بحسب الحال، فإن لم يستطع ففي هذه الحال يصلون مُشاةً، أو ركبانًا -وهم راكبين- مستقبلين، أو غير مستقبلين للقبلة، فإن لم يستطيعوا فبالإيماء، كأن يكون مشتغلًا أثناء القتال بمكالمة الناس، ومخاطبتهم، ومجاوبتهم، وبخاصة في الحروب الحديثة، حيث يكون معه أجهزة، واتصال مباشر طول الوقت، ولا يستطيع لحظة أن ينقطع عن المتابعة، واستقبال أوامر، وتوجيه المقاتلين، فهو يستقبل ويُرسل، لا يستطيع أن يُصلي حتى إيماءً؛ لأنه لا يستطيع أن ينقطع عن الاستقبال والإرسال في الكلام، يعني ليست يده هي التي تشتغل حتى نقول: صل بحسب حالك، ففي هذه الحال ماذا يصنع؟ سيخرج الوقت، والقتال على أشُده، ففي هذه الحالة لهم أسوة بما حصل في فتح تستر، مع هؤلاء الصحابة أبو موسى الأشعري، وأنس بن مالك حيث أخروا الصلاة.

وكذلك استدلوا بما وقع للنبي ﷺ يوم الأحزاب شغلونا عن الصلاة الوسطى[7]، فما صلى العصر إلا بعد خروج الوقت.

"قوله تعالى: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [البقرة:239] الآية: قيل المعنى: إذا زال الخوف، فصلوا الصلاة التي علمتموها، وهي التامة، وقيل: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ هذه الصلاة التي تجزئكم في حال الخوف، فالذكر على القول الأوّل بمعنى: الصلاة، وعلى الثاني بمعنى: الشكر".

"قوله: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ الآية: قيل المعنى: إذا زال الخوف فصلوا الصلاة التي علمتموها، وهي التامة" وهذا اختيار ابن كثير -رحمه الله-[8]، يعني: إذا ارتفع العذر فصلوا الصلاة المعهودة، كما علمكم الشارع بالقيام، والركوع، واستقبال القبلة... إلى آخره، كما قال الله تعالى في صلاة الخوف: فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] فتُقام في وقتها، وعلى صفتها التي شُرعت ابتداءً.

"وقيل: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ هذه الصلاة التي تجزئكم في حال الخوف، فالذكر على القول الأوّل بمعنى: الصلاة، وعلى الثاني بمعنى: الشكر" وعلى قول ابن كثير فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يعني صلوا على الهيئة الشرعية المستقرة في الأحوال العادية.

وعلى المعنى الثاني فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ تكون (الكاف) على المعنى الأول: للتشبيه، اذكروا الله على الصفة التي علمكم فيها، وعلى المعنى الثاني: تكون للتعليل، اذكروا الله كما علمكم؛ لكونه علمكم هذه الصلاة التي فيها رفع الحرج والتخفيف في حال الخوف، فيُشكر على هذا الترخيص والتوسعة على عباده فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ كيف تصلون في حال الخوف، فلم يطالبكم بها على وجهٍ يشق عليكم، أو يتعذر، أو يحصل بسببه وقوع ضرر محقق، أو فوت مصالح كبرى.

"قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةٌ لِأَزْوَاجِهِمْ [البقرة:240]، هذه الآية منسوخة ومعناها: أن الرجل إذا مات كان لزوجه أن تقيم في منزله سنة، ويُنفق عليها من ماله؛ وذلك وصيةٌ لها، ثم نُسِخَ إقامتها سنة، بالأربعة الأشهر والعشر، ونُسِخَت النفقة بالربع، أو الثمن، الذي لها في الميراث، حسبما ذُكِرَ في سورة النساء، وإعراب وصية: مبتدأ، وأزواجهم: خبر، أو مضمر تقديره: فعليهم وصية، وقُرئت بالنصب على المصدر، تقديره: ليوصوا وصية، ومتاعًا نُصِبَ على المصدر".

قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا [البقرة:240] هذه الآية والاعتداد بالحول منسوخة عند الجمهور بالآية التي قبلها؛ وهو الاعتداد بالأربعة أشهر وعشرة أيام، وهذا الموضع الوحيد في القرآن الذي يكون فيه الناسخ قبل المنسوخ في الترتيب، لكن لا شك أن آية الاعتداد بالأربعة أشهر نازلة بعد هذه، لكن ترتيب الآيات توقيفي، بمعنى أن النبي ﷺ هو الذي أرشد إليه، فكان يقول مرشدًا إلى موضعها: ضعوا هذه الآية في موضع كذا، فتوضع في موضعها، لكن هذا الترتيب لا يعني أنه على النزول، فقد تكون الآية التالية نازلة قبل الآية التي قبلها، وهكذا المقاطع، يعني سورة مثلًا الممتحنة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1] صدر هذه السورة نازل في قصة حاطب [9]، واختلفوا فيها، فبعضهم يقول: هذا كان في السنة السادسة؛ وذلك لما أراد النبي ﷺ التوجه إلى مكة للعمرة، ووقع صلح الحديبية، ويستدلون على هذا بأدلة، وبعضهم يقول: كان هذا حينما كان متوجهًا لفتح مكة في السنة الثامنة.

وشقها الآخر، وهي الامتحان للنساء فَامْتَحِنُوهُنَّ [الممتحنة:10] نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعيط؛ لما جاءت مهاجرة بعد صلح الحديبية في السنة السادسة[10]، فعلى القول بأن صدر السورة نازل في تهيؤ النبي ﷺ لفتح مكة، فكتب حاطب للمشركين، يكون أولها نزل بعد آخرها بسنوات، يعني آخرها نزل في السنة السادسة، وأولها في السنة الثامنة.

وعلى القول بأن صدر السورة كان قبل الحديبية، وآخرها كان بعد الصلح، فيكون بين النزولين بهذا الترتيب مدة قصيرة.

فالشاهد: أن الجمهور يقولون بأنها منسوخة، بالآية الأخرى التي هي الاعتداد بأربعة أشهر وعشرة أيام، وهو مروي عن ابن عباس -ا-[11]، ومجاهد، والحسن، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان[12].

لكن من أهل العلم من يقول بأن الوصية المذكورة هنا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240] أنها منسوخة بالميراث، فكانت المرأة تبقى هذه المدة في بيت زوجها، ولها النفقة، وأن ذلك قد نُسخ بالميراث، بحيث جعل الله لها الميراث، فأغناها عن ذلك كله، فلا تبقى هذه السنة، وإنما تبقى أربعة أشهر وعشرة أيام فقط.

فبعضهم يقول: إن ذلك نُسخ بالميراث، وبعضهم يقول بقوله: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234] فنقصت المدة.

يقول: "ومعناها: أن الرجل إذا مات كان لزوجه أن تقيم في منزله سنة، ويُنفق عليها من ماله، وذلك وصية لها" فعلى هذه القراءة، أو وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ فعليهم أن يعهدوا قبل وفاتهم لورثتهم بأن تمكث زوجاتهم في بيوتهم مدة عام، يتمتعن فيه بالنفقة؛ تسكن في بيته، ويُنفق عليها وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ عليهم أن يعهدوا للورثة، أي: يوصوا الورثة بإبقاء الزوجات في البيوت سنة، وتُجرى لهن النفقة من ماله.

يقول: "ثم نُسِخَ إقامتها سنة بالأربعة الأشهر والعشر، ونُسِخَت النفقة بالربع أو الثمن"، يعني: حسب حال المرأة؛ إن كان لها ولد، فلها الثمن، وإن لم يكن لها ولد، فلها الربع في الميراث.

يقول: "كما ذُكِر في سورة النساء" يعني أن الله أعطاها نصيبها من الميراث.

فهنا نفقة وسكنى، والفقهاء مختلفون في سُكنى المعتدة:

فالأحناف يقولون: إن ذلك يكون في عدة الوفاة من مالها؛ لكونها وارثة، باعتبار أن ذلك نُسخ بالميراث، فتكون السُكنى من مالها، وفرقوا بينه وبين الطلاق البائن، فقالوا: هذا على الزوج؛ لأن نفقتها عليه في مدة العدة[13].

وأما المالكية: ففرقوا بين المدخول بها، وغير المدخول بها، فالمدخول بها: تكون النفقة والسُكنى على أهلها، أو من مالها[14]، فبالنسبة للمدخول بها إن كانت تسكن في ملكه، أو في مسكن استأجره، وعجلَّ الأجرة، فليس للورثة أن يخرجوها، حتى لو بيعت الدار التي يملكها، فيشترطون على المشتري مدة العدة، يستثنونها فتبقى فيها، فإن لم يكن كذلك، يعني ليست هي في دارٍ له يملكها، ولا في دارٍ قد عجل أجرتها، ففي هذه الحال يقولون: أن أجرة السُكنى من مالها سواءً كانت حاملًا، أو لا.

وأما الشافعية: فشددوا في هذا، وقالوا: بأنها تستحق الأجرة من التركة[15]، بل قالوا: إن ذلك يُقدم على مؤن التجهيز؛ تجهيز الميت والديون، فضلًا عن الميراث، فيُبدأ بهذه الزوجة، ويوفر لها السُكنى، سواءً كانت حاملًا أو لا، أو مدخولًا بها أو غير مدخول، يعني في جميع الأحوال.

وأما الحنابلة: ففرقوا بين الحامل وغير الحامل، فالحائل غير الحامل من مالها بلا خلاف عندهم[16]، وفي الحامل روايتان:

ففي حديث الفُريعة؛ أخت أبي سعيد الخدري ؛ لما قُتِلَ زوجها، قتله أعبد أبقوا، فطلبهم فأدركهم في القدوم فقتلوه، فسألت النبي ﷺ وذكرت له أن زوجها لم يترك لها مسكنًا يملكه، ولا نفقة، وما عندها شيء، وأنها في دار للأنصار بعيدة عن أهلها، فاستأذنته أن تقيم في مدة الحداد عند أهلها، وإخوتها، وأن ذلك أرفق بها، فقال: امكثي في بيتك، حتى يبلغ الكتاب أجله[17]، فلم يأذن لها بالاعتداد في بيت أهلها، وفي بعض ألفاظه تقييد ذلك بالمكان الذي بلغها وفاته، وهي مقيمة فيه، المكان الذي بلغها الوفاة.

وهذا الحديث صححه الترمذي[18]، وابن الجارود، وابن حبان[19]، والحاكم[20]، والذهلي[21]، والحافظ ابن حجر[22]، والحافظ ابن كثير[23]، والألباني[24].

فهذا يدل على أنها تبقى في بيته سواءً كان مُلكًا له، أو كان مستأجرًا، فهذا الرجل لم يكن يملك هذا البيت، فأمرها النبي ﷺ بالمكث فيه، فهذا يكون للمرأة، لكن الحول نُسِخ إلى أربعة أشهر وعشرة أيام.

وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كان يرى أن هذه المدة -مدة السنة- أن ذلك لها لو أرادت أن تبقى سنةً، وإلا فالقدر الواجب: أربعة أشهر وعشرة أيام، فإن أرادت إلى الحول فلها ذلك[25]، لكن الجمهور على أن ذلك منسوخ.

يقول: "وإعراب وصية: مبتدأ، وأزواجهم: خبر" هذا على قراءة الرفع (وصيةٌ لأزواجهم).

"أو مضمر" يعني: الخبر "تقديره: فعليهم وصية" لأزواجهم، فالجار والمجرور هو الخبر مقدم ومقدر.

"وقُرئت بالنصب" قراءة النصب أبي عمرو، وابن عامر، وحمزة، وحفص، وقراءة البقية بالرفع، ومنهم نافع[26]، لذلك هنا أجرى القراءة على الرفع (وصيةٌ لأزواجهم).

يقول: "وقُرئت بالنصب على المصدر" وصيةً "تقديره: ليوصوا وصية" أو أوصى الله وصيةً لأزواجهم، أو كتب الله عليهم وصيةً، فتكون وصيةً: مفعول به، وعلى قراءة الرفع يكون التقدير: عليهم وصية، أو أن وصية مبتدأ، والخبر لأزواجهم، والتقدير: وصية لأزواجهم.

وقال بعضهم: حكم الذين يُتوفون وصية، و(متاعًا) يكون منصوب على المصدر، يعني إذا قُلنا: إنه منصوب بفعلٍ محذوف: متعوهن متاعًا، أو جعل الله لهن متاعًا، ويمكن أن يكون النصب على الحال، أو منصوب بوصية.

وحكى ابن عطية[27]، والقاضي عياض[28] الإجماع على نسخ الاعتداد بالحول.

وروى البخاري عن ابن الزبير -ا- قال: قلتُ لعثمان : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ [البقرة:240] قد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها؟ أو تدعها؟ -يعني التي هي الاعتداد بأربعة أشهر وعشرة أيام- فقال: يا ابن أخي لا أغير شيئًا منه من مكانه"[29]، يعني كأنه يقول: لماذا تركت هذه وهي منسوخة؟ فقال: لا أغير شيئًا من مكانه، وهذا يدل على أنه نُسخ حكمها، ولم يُنسخ لفظها، وهذا أحد أنواع النسخ.

"قوله تعالى: غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240] أي: ليس لأولياء الميت إخراج المرأة، فَإِنْ خَرَجْنَ"

ليس لهم إخراج المرأة، فهو نهي عن إخراجها، فقوله: غَيْرَ إِخْرَاجٍ يُمكن أن يكون حالًا، أي: متعوهن غير مخرجات، أو بنزع الخافض، أي: من غير إخراج.

وأبو جعفر بن جرير يقول: بأن المعنى: كتب الله لأزواجهم عليكم وصية منه لهن أيها المؤمنون أن لا تُخرجوهن[30]، فهي وصية من الله لأزواجهم، يعني: أن لا تخرجوهن.

وعن ابن عباس -ا-: فكان للمتوفى عنها زوجها نفقتها وسُكناها في الدار سنة، فنسخها آية المواريث، فجعل لهن الربع، أو الثمن، مما ترك الزوج[31]، يعني: يجب أن يوصي المتوفى أن تُمتع زوجته سنة، فالمتاع: السُكنى والنفقة.

وهنا نقل الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هذا المعنى، فقال: "وروي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: كان الرجل إذا مات وترك امرأته، اعتدت سنةً في بيته، يُنفق عليها من ماله، ثم أنزل الله بعد: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234] فهذه عدة المتوفى عنها زوجها، إلا أن تكون حاملًا، فعدتها: أن تضع ما في بطنها، وقال: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ [النساء:12] الآية، فبيَّن ميراث المرأة، وترك الوصية والنفقة[32]، وهكذا جاء عن هؤلاء السلف الذين ذكرت أنها نسختها أربعة أشهرٍ وعشرًا.

يقول ابن كثير: "قال البخاري... عن مجاهد: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا [البقرة:234] قال: كانت هذه العدة، تعتد عند أهل زوجها واجب، فأنزل الله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ... [البقرة:240] قال: جعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة، وصية إن شاءت سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قول الله: غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فالعدة كما هي واجب عليها زعم ذلك عن مجاهد -رحمه الله- وقال عطاء: وقال ابن عباس: نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها، فتعتد حيث شاءت، وهو قول الله تعالى: غَيْرَ إِخْرَاجٍ قال عطاء: إن شاءت اعتدت عند أهلها، وسكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت لقول الله: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ [البقرة:240] قال عطاء: ثم جاء الميراث فنسخ السكنى، فتعتد حيث شاءت ولا سكنى لها"[33].

ويعني: أنها كانت مخيرة في سُكنى الحول، وابن جرير يقول: إن اختارت الخروج فلا حرج عليكم أيها الورثة؛ لأنهن مخيرات[34]. يعني: في مدة الحول.

ويقول ابن كثير: "وقول عطاء ومن تابعه على أن ذلك منسوخ بآية الميراث، إن أردوا ما زاد على الأربعة أشهر والعشر فمسلَّم، وإن أرادوا أن سُكنى الأربعة أشهر وعشر لا تجب في تركة الميت، فهذا محل خلاف بين الأئمة...، فقد استدلوا على وجوب السُكنى في منزل الزوج، فيما رواه مالك في موطئه عن زينب بنت كعب بن عُجرة: أن الفريعة بنت مالك بن سنان؛ وهي أخت أبي سعيد الخدري -ا- أخبرتها أنها جاءت إلى رسول الله ﷺ تسأله..."[35] وذكر الحديث الذي ذكرته آنفًا، وقد أخذ منه عامة أهل العلم أنها تعتد في المكان الذي بلغها فيه خبر الوفاة.

"قوله: فَإِنْ خَرَجْنَ [البقرة:240] معناه: إذا كان الخروج من قِبَلِ المرأة فلا جناح على أحد فيما فعلت في نفسها من تزوّجٍّ وزينة".

وهذا في الحول، إن لم تمكث حولًا كاملًا فلها ذلك، كما فهمه بعض أهل العلم، لكن في الأربعة أشهر وعشرة أيام ليس لها أن تخرج، ولا أن تتزين.

"قوله: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ [البقرة:241] عامٌّ في إمتاع كل مطلقة، وبعمومه أخذ أبو ثور[36]، واستثنى الجمهور المطلقة قبل الدخول، وقد فُرِضَ لها بالآية المتقدمة منه، واستثنى مالكٌ المختلعة والملاعنة[37]".

وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ هذه التي أشرت إليها قبل قليل في الكلام على المتعة للمطلقة قبل الدخول، وقبل أن يفرض لها الصداق، فهناك قال: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236] وهنا عام في المطلقات وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241] فهذا ظاهره العموم في كل مطلقة، وقال به جماعة كثيرة من السلف؛ كأبي العالية، وعطاء، والزهري، وسعيد بن جُبير[38]، وكما ذكرت أنه اختيار أبي جعفر بن جرير -رحمه الله-[39]، وبه قال الحافظ ابن كثير[40]، فالحافظ ابن كثير يرى أن الآية السابقة: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ من باب ذكر بعض أفراد العموم، يعني كأنه نص على تلك؛ لشدة تأكده؛ لأنها طُلقت قبل أن يُسمى لها صداق قبل الدخول، فهي بحاجة إلى المتعة؛ وذلك آكد في حقها، وإن كانت المتعة واجبة لكل مطلقة.

يقول هنا: "وبعمومه أَخَذَ أبو ثور، واستثنى الجمهور المطلقة قبل الدخول، وقد فُرِضَ لها بالآية المتقدمة" فعند الحنفية[41]، والشافعية[42]، والحنابلة[43]، للمطلقة قبل الدخول المتعة، ما لم يسمِّ لها صدقة، فإذا سمى لها صداقًا فنصف ما سمى.

يقول: "واستثنى مالكٌ المختلعة والملاعنة" هي التي لعنها زوجها، أو التي لاعنت هي الزوج.

والفقهاء لهم تفاصيل فيما يجب من المتعة للمطلقات، لكن ظاهر الآية: العموم؛ أن كل مطلقة لها متعة، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم- وأن ما ذُكر في الآية السابقة فيمن طُلقت قبل الدخول وقبل أن يُسمي لها صداقًا: أن ذلك آكد في حقها، فهو من باب ذكر بعض أفراد العام، والله أعلم.

"قوله تعالى: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ يدل على وجوب المتعة، وهي الإحسان للمطلقات؛ لأن التقوى واجبة؛ ولذلك قال بعضهم: نزلت مؤكدة للمتعة؛ لأنه نزل قبلها حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فقال رجل: فإن لم أرد أن أحسن لم أمتع، فنزلت: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241][44]".

لا يثبت ذلك في سبب النزول؛ لأن الرواية فيه مرسلة عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فهذا لا يصح أنه سبب النزول.

"قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ رؤية قلب إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ [البقرة:243] وهم قوم من بني إسرائيل".

يعني الاستفهام في قوله: أَلَمْ تَرَ للتقرير، وكونها رؤية قلب هذا الواقع؛ لأن النبي ﷺ لم يشاهد ذلك، فتكون بمعنى: ألم تعلم؟

"أمروا بالجهاد، فخافوا الموت بالقتال، فخرجوا من ديارهم فرارًا من ذلك، فأماتهم الله؛ ليُعرّفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء، وقيل: بل فرّوا من الطاعون".

هذا من جملة المبهمات، ومضى الكلام على شيءٍ من هذا، والسُهيلي له كتاب مشهور: "التعريف والإعلام"، والعلماء بعده زادوا عليه، وذكرت في بعض المناسبات بأن تتبع المبهمات، أن ذلك لا يحصل منه فائدة تُذكر، اللهم إلا في مواضع قليلة جدًا: كدفع التهمة، أو بيان منقبة، وإلا فالغالب أنه لا فائدة فيه.

فقوله هنا: بأن هؤلاء من بني إسرائيل أُمروا بالجهاد، فخافوا الموت بالقتال، فخرجوا من ديارهم فرارًا من ذلك، فأماتهم الله، فهذه رواية عن ابن عباس -ا- والضحاك[45]: أنهما من بني إسرائيل فروا من القتال.

"وقيل: بل فرّوا من الطاعون" وهذه رواية أخرى عن ابن عباس -ا-[46].

وذكر بعض السلف: أنهم استوخموا أرضهم، وأصابهم وباء شديد، فخرجوا فرارًا من الموت هاربين إلى البرية، فنزلوا واديًا أفيح، فملئوا ما بين عدوتي الوادي، فأرسل الله إليهم ملكين، أحدهما من أسفل الوادي، والآخر من أعلاه، فصاحا بهم صيحةً واحدة، فماتوا عن آخرهم، موتة رجل واحد[47]، والله أعلم أي ذلك كان، لكنه لا يترتب عليه ثمرة من جهة الاعتبار والعمل.

والمقصود: أنهم خرجوا فرارًا من الموت، سواءً كان القتل، أو الطاعون، أو استوخموا أرضهم، وأصابهم فيها اعتلال، وأنه لا ينجي حذرٌ من قدر قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ ما قال: مدرككم أو ملاحقكم، أو...، لا بل قال: فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة:8]، وقال: لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، فالموت مُدرِك لا محالة في الوقت والمكان الذي قدره الله ومهما كان عند الإنسان من الحذر، فإن ذلك لا يُغير من قدر الله -تبارك وتعالى- وليس معنى ذلك ترك الأسباب، ولكن ذلك يبعث على طمأنينة القلب، والصبر، والرضا بقضاء الله .

وكما هو معلوم في القضاء والقدر إذا كان ذلك مما يمكن مدافعته بقدر الله، فإنه يدافع مثل: الجوع يُدافع بالأكل، والعطش يُدافع بالشرب، والمرض إذا كان يوجد لها علاج ودواء فإنه يُدافع بذلك، فنفر من قدر الله إلى قدر الله، لكن لا نركن إلى الأسباب، وأما إذا كان مما لا يمكن دفعه؛ كموت قريب، أو نحو ذلك، فهنا ليس أمام الإنسان إلا التسليم والصبر، فهذا مما لا يمكن دفعه، وكذلك ذهب المال، وخسر في تجارته ونحو ذلك، فلا ينبغي أن تذهب نفسه حسرات؛ لأن الحزن لن يرد فائتًا.

وكذلك أيضًا القلق الدائم، فهذا لا يُغير من قدر الله، فعلى الإنسان أن يعيشه في حاله من الاطمئنان، والرضا القلبي، ولا تبقى نفسه مضطربة دائمًا، يفكر في المستقبل، ويقلق مما ينتابه، أو قد ينتابه، ويتخوف من المجهول كما يُقال؛ لأن ذلك لن يُغير من قدر الله، فهذه الأشياء إذا كانت مقدرة على الإنسان فهي ستقع، وقع له قلق أو لم يقع، وإن كانت لم تُقدر فلن تقع، ولن يدفع ذلك القلق، فالقلق على المستقبل الذي يسمى الخوف، والحزن على الماضي، فلا الحزن يرد الفائت، ولا الحذر أو القلق يتقي به قدر الله -تبارك وتعالى- المحتوم، فالطريق إذًا هو الصبر والرضا والتسليم بأقضية الله والثقة به، والاطمئنان إليه، وترك الاشتغال بما لا يكون إلى العبد، فالكون يدبره حكيم عليم، فدع التدبير له، وما عليك إلا أن تجتهد في التقرب إليه، وطاعته وعبادته إلى أن يوافي الأجل، لا تقلق ما الذي سيحصل بعد قليل، أو غدًا، أو الأسبوع القادم، أو الشهر القادم، أو السنة القادمة، لا تشتغل بهذا، الكون يدبره حكيمٌ، عليمٌ، خبير، لطيف، رحيم، فثق به ولا تقلق، فلن يحصل هناك شيء من الخلل وسوء التدبير، فالله منزه عن هذا، والله المستعان.

"قوله: وَهُمْ أُلُوفٌ جمع ألف، قيل: ثمانون ألفًا، وقيل: ثلاثون ألفًا، وقيل: ثمانية آلاف، وقيل: هو من الألفة، وهذا ضعيف".

فهذا التفاوت، من ثمانين ألف إلى ثمانية آلاف، هذه كلها مبنية على أخبار بني إسرائيل، ولا شك أن أحد هذه الأخبار كذب، وقد تكون جميع هذه الأخبار كذب، فالله لم يذكر العدد، ولو كان يترتب عليه فائدة لذكره، وأما ما ذكره هنا من تفسير الألوف أنه من الألفة، فهذا بعيد، يعني وَهُمْ أُلُوفٌ وهم في حال التآلف. هذا بعيد، ولا يصح أن يُفسر القرآن بغير الظاهر المتبادر إلا بدليل.

"قوله: فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا [البقرة:243] عبارةٌ عن إماتتهم".

قوله: "عبارةٌ عن إماتتهم" هذا لا يخلو من إشكال، فنقول: فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا فيه إثبات القول لله وإثبات صفة الكلام على ما يليق بجلاله وعظمته، هذا ظاهر اللفظ فَقَالَ فالقول في اللغة هو: مجموع اللفظ والمعنى، ولكن المتكلمين -كما هو معروف- لا يثبتون الكلام لله أصلًا، فالجهمية المحضة، والمعتزلة، يقولون: مخلوق، وأما الأشاعرة فإنهم يثبتون الكلام بجملة الصفات التي يثبتونها، لكنهم في الحقيقة ينفونها، فيقولون: القرآن كلام الله، ويقصدون المعنى، وهو معنًى واحد قائم في النفس، يعني: هو شيء لا يتصور في الواقع، فهذا الذي أثبتوه، لكن الألفاظ: فالأشاعرة يقولون: مخلوقة، وحادثة، وإن اختلفوا في ذلك، فبعضهم يقول: خلقه الله في الهواء، وبعضهم يقول: هو كلام جبريل، وبعضهم يقول: كلام النبي ﷺ فهم يوافقون المعتزلة بأن الألفاظ مخلوقة، ويقررون هذا في كُتبهم، وذكر هذا صاحب شارح الجوهرة، وقال: لكننا لا نقول مثل هذا إلا في مجلس التعليم، ولا نقوله لعامة الناس، كأنهم يخافون الشناعة، فالواقع: أنهم يوافقون المعتزلة.

وذكرنا من قبل أن المؤلف -رحمه الله- أنه لا يطرد على قول المتكلمين وقول الأشاعرة في كل المواضع، فتارةً وتارة، فالقول هنا بأن قوله: فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا عبارة عن إماتتهم، يعني ليس ثمة قول، وهذا خلاف ظاهر القرآن.

"وقيل: إن ملكين صاحا بهم: موتوا فماتوا" مثل ما ذكره بعض السلف، وهم أخبار بني إسرائيل؛ لما نزلوا في الوادي، فجاء ملكان... إلى آخره[48]، لكن قوله: فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ هذا من قول الله فكيف يُقال ذلك من قول الملكين؟ والله أعلم.

أسئلة:

س: .....

ج: هنا الخلع اختلفوا فيه: هل هو طلاق أو ليس طلاق؟ هو العدة التي تعتد المختلعة، والأقرب: أنها تعتد بحيضة واحدة، فهي التي تعطيه، وليس هو الذي يعطيها؛ لأنها هي التي طلبت الطلاق، فالمتعة جبرًا لقلبها الذي قد انكسر بسبب الطلاق، وهذه المرأة هي التي تريد الفراق، فهي المبادرة المبتدئة بطلبه، ومن ثمَّ فهي تفتدي منه بمالها، تعيد إليه المهر، أو ما يتفقون عليه.

س: يقول: هل المتعة تكون حتى الوفاة أم لها زمن معين؟

ج: المتعة شيء يعطيها إياه إذا طلقها، يُعطيها كسوة، أو خادمًا، أو سيارة، أو مالًا، أو نحو ذلك.

س: .....

ج: في صلاة الخوف يُقال فيها كالصلاة في الأمن بالنسبة لهذا الشرط، لا تقصر، والمغرب لا تُقصر، وصلاة الخوف لا تُقصر، فالخوف إذا حُمل على العموم، كالخوف الحقيقي لا يستطيعون معه الصلاة بالصورة المطلوبة، يصلون صلاة الخوف، وأن ذلك لا يختص بالحرب، إذا كان هذا الخوف يمنعه من إقامة الصلاة على الوجه الشرعي المقرر.

س:.....

ج: هذا بحسب، فالذي يظهر أن هذا من باب التكافل الاجتماعي، وأن ذلك ليس من ميراثه، فعلى هذا الاعتبار يكون بحسب ما حُدد لمن حُدد له، لكن لو كان ذلك من جملة الميراث، فإنه يُقسم القسمة الشرعية.

س:.....

ج: تسأل عن الوفاة؟ إذا مات الزوج عن المرأة قبل أن يدخل بها فلها الميراث، وعليها العدة، توفي قبل الدخول، وبالنسبة للناشز ما دامت في عصمته فلها الميراث، وعليها العدة، لكن الكلام في النفقة، هل يجب عليه أن يُنفق على امرأته الناشز أو لا؟ هي تسقط النفقة عنها إذا كانت فعلًا تحقق النشوز، والله أعلم.

س:.....

ج: إذا خطبها ولم يعقد عليها، ودفع لها الشبكة مثلًا، ثم صرف النظر، فالكلام فيما يُستعاد من المهر فيمن طُلقت قبل الدخول فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [البقرة:237] وكذلك فيمن خلعت زوجها، فاتفقوا على أن تُعيد إليه المهر، فما الذي يُعاد؟

الأقرب -والله أعلم- أن ذلك يرجع فيه المهر المحدد والمسمى والمعين، وما يُلحق به؛ وهي التوابع التي تُعطى من شبكة ونحوها، وأما بقية الهدايا؛ أهدى والدها، أو أهدى أمها، فهذه لا يرجع فيها؛ لأن العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه[49] فتوابع المهر لها حكم المهر بأي اسم كانت، وأما ما كان من جنس الهدايا التي لم يجر العرف أنها من توابع المهر، فإنها لا تكون منه، فلا يرجع فيها، والله أعلم.

س: فيمن توفي زوجها وهي في الحج، هل تبقى عند ابنتها؟ هل تبقى في هذا المكان، أو تكمل الحج؟

ج: العلماء تكلموا فيما هو أدنى من هذا، فمن سافرت للحج، أو العمرة، أو لأي سفرٍ كان، ثم توفي زوجها، فالفقهاء لهم في هذا تفاصيل:

فبعضهم يقول: إن كان ذلك دون مسافة قصر، فإنها ترجع وتعتد في بيتها، وإن تلبست بالإحرام، ويقولون: بأن عمر أعاد امرأةً من ذي الحُليفة توفي زوجها، وابن مسعود أيضًا حكم برجوع نساء قُتل أزواجهن وخرجن للحج، فعل ذلك في ظاهر الكوفة، يعني: النجف، أو ما يُعرف بالنجف، أو نحو ذلك.

ويقول بعضهم: هي إن فارقت البنيان فقد شرعت في السفر؛ ولها أحكامه، فلا ترجع.

وبعضهم فصل في هذا، فقال: إذا كانت قد توسطت في سفرها، فقطعت مسافة يشق عليها الرجوع، أو يُخشى عليها من الرجوع، أو نحو ذلك، فإنها تمضي في سفرها، ومن باب أولى طبعًا هي الآن محرمة ستكمل الحج، فكيف لو كانت قد انتقلت ووصلت إلى مكة، وبلغها وفاة زوجها وهي هناك؟ فإنها تكمل الحج؛ لأنها مسافرة، فهذا من جملة سفرها، فإذا كانت لا ترجع، فكيف يُقال: إنها تبقى في بيت ابنتها في مكة، ولا تكمل الحج، بل تكمل الحج، هي خلاص الآن خرجت وسافرت من مكانها، فتكمل حجها، لكن تكلموا فيما كان دون مسافة قصر، بل بعضهم قال -كما قلت-: إذا فارقت البنيان فقد شرعت في السفر، فلا عبرة بتحديد مسافة قصر، هي بمجرد أن فارقت البنيان فهي مسافرة، فلا ترجع.

لكن هذه الآثار عن الصحابة في ذي الحليفة وذو الحليفة الآن جزء من المدينة، متصل بالبنيان، لكن في السابق كان منفصلًا عنه، وهؤلاء اللاتي أعادهن ابن مسعود من ظاهر الكوفة، يدل على أنها كانت قريبة دون مسافة قصر، فترجع، والله أعلم.

س:.....

ج: هو لا يدري هل راجعها، طلقها قبل الدخول ولا يدري، ثم راجعها بينه وبينها، قال: راجعتك، هذا لا يصح، يُفرق بينهما، فإن كان له أولاد، فيُلحقون به، ويعقد عليها من جديد، ولا يصح هذا بحال من الأحوال.

س:.....

ج: يعني طلبًا لدوام الصحبة، ومن أجل: لتسكنوا إليها، فلا يتزوج متذوقًا، فقد نهى عن التزويج للتذوق، يعني: يُجامع ثم يُطلق، وإنما يطلب بذلك طول الصحبة، والسكون، ونحو ذلك.

 

 

  1. عيون المسائل للقاضي عبد الوهاب المالكي (ص:154).
  2. أخرجه مالك في الموطأ رواية محمد بن الحسن الشيباني (ص:103-290).
  3. أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها برقم: (687).
  4. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/656).
  5. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/657).
  6. صحيح البخاري (2/15).
  7. سبق تخريجه.
  8. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/657).
  9. أسباب النزول ت الحميدان (ص:421).
  10. الصحيح المسند من أسباب النزول (ص:210).
  11. تفسير ابن أبي حاتم (2/451) وتفسير ابن كثير ت سلامة (1/658).
  12. تفسير ابن أبي حاتم (2/451) وتفسير ابن كثير ت سلامة (1/658).
  13. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (3/211).
  14. أسهل المدارك «شرح إرشاد السالك في مذهب إمام الأئمة مالك» (2/188).
  15. روضة الطالبين وعمدة المفتين (8/424).
  16. المغني لابن قدامة (8/234) والكافي في فقه الإمام أحمد (3/230).
  17. أخرجه الترمذي ت شاكر في باب أبواب الطلاق واللعان، ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها؟ برقم: (1204) وأبو داود في كتاب الطلاق، باب في المتوفى عنها تنتقل برقم: (2300) وابن ماجه في كتاب الطلاق، باب أين تعتد المتوفى عنها زوجها برقم: (2031) وصححه الألباني.
  18. أخرجه الترمذي ت شاكر في باب أبواب الطلاق واللعان، ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها؟ برقم: (1204) وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
  19. صحيح ابن حبان (10/128-4292).
  20. المستدرك على الصحيحين برقم: (208).
  21. تصحيح الذهلي نقله الحاكم في المستدرك على الصحيحين برقم: (208).
  22. بلوغ المرام من أدلة الأحكام (ص:339-1121).
  23. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/660).
  24. في صحيح سنن أبي داود (ص:2-2300) وفي غيره. وقال في تراجعات الألباني (ص:39): "كنت ذهبت في الإرواء إلى أن إسناد حديث فريعة ضعيف، ثم بدا لي أنه صحيح بعد أن اطلعت على كلام ابن القيم فيه، وتحقيق أنه صحيح، بما لم أره لغيره جزاه الله خيرًا، وازددت قناعة حين علمت، أنه صححه مع الترمذي ابن الجارود وابن حبان والحاكم والذهبي، ومن قبلهم محمد بن يحيى الذهلي الحافظ الثقة الجليل، وأقرهم الحافظ في بلوغ المرام، والحافظ ابن كثير في التفسير، واستعمله أكثر فقهاء الأمصار".
  25. المستدرك على مجموع الفتاوى (5/54).
  26. حجة القراءات (ص:138) والسبعة في القراءات (ص:184).
  27. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/326).
  28. إكمال المعلم بفوائد مسلم (5/69).
  29. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير} [البقرة:234] برقم: (4530).
  30. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/399).
  31. تفسير ابن أبي حاتم (2/451).
  32. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/658).
  33. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/659).
  34. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/408).
  35. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/659).
  36. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/326).
  37. المدونة (2/240).
  38. فتح القدير للشوكاني (1/290).
  39. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/303).
  40. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/660).
  41. الهداية في شرح بداية المبتدي (1/201).
  42. المجموع شرح المهذب (16/389).
  43. المغني لابن قدامة (7/240).
  44. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/327).
  45. تفسير ابن أبي حاتم (2/456).
  46. تفسير ابن أبي حاتم (2/456).
  47. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/661).
  48. سبق تخريجه.
  49. أخرجه البخاري في كتاب الحيل، باب في الهبة والشفعة برقم: (6975) ومسلم في كتاب الهبات، باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض إلا ما وهبه لولده وإن سفل برقم: (1622).

مواد ذات صلة