الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
[21] من قول الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ} الآية 146 إلى قوله تعالى: {وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} الآية 150.
تاريخ النشر: ٢٤ / ربيع الأوّل / ١٤٢٧
التحميل: 3016
مرات الإستماع: 2129

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

وقوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ [سورة الأنعام:145] أي: فمن اضطر إلى أكل شيء مما حرم الله في هذه الآية الكريمة وهو غير متلبس ببغي ولا عدوان فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة الأنعام:145] أي: غفور له رحيم به، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة بما فيه كفاية.

والغرض من سياق هذه الآية الكريمة الرد على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوه من تحريم المحرمات على أنفسهم بآرائهم الفاسدة من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك، فأمر رسوله أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه الله إليه أن ذلك محرم، وإنما حرَّم ما ذكر في هذه الآية من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أُهِّل لغير الله به، وما عدا ذلك فلم يحرم وإنما هو عفوٌ مسكوت عنه، فكيف تزعمون أنتم أنه حرام؟ ومن أين حرمتموه ولم يحرمه الله؟

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ [سورة الأنعام:145] سبق الكلام على هذا كما ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله، لكن ذكره هنا من باب التذكير به بحيث أن من أشرف على الهلكة فإنه يجوز له أن يأكل من هذه المحرمات كالميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به.

وقوله: غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ [سورة الأنعام:145] سبق كلام أهل العلم على معنى الباغي والعادي، فابن جرير -رحمه الله- يفسر الباغي أنه يأكل من الميتة من غير اضطرار ويجد مندوحة عنها، والعادي هو الذي يتجاوز الحد، يعني اضطر ولكنه يأكل أكثر من المقدار الذي يحتاج إليه؛ وأهل العلم اختلفوا في القدر الذي يأكله من الميتة وهل يتزود منها أو لا يتزود، بمعنى إذا حلت له الميتة هل له أن يأكل حتى يشبع؟ وهل له أن يتزود منها أو لا؟

الحاصل أن هذا مما يدخل في معنى الباغي والعادي، وقد ذكر بعض أهل العلم هنا أيضاً الذي يكون سفره محرماً، هل يجوز له أن يأكل من الميتات أم لا؟

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ [سورة الأنعام:146]، يقول تعالى: وحرمنا على اليهود كل ذي ظفر من البهائم والطير كالإبل والنعام والإوز والبط.

يقول تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ يعني حرمت عليهم ذوات الأظفار، وهي كل ما لم يكن مشقوق الأصابع، وهذا هو المشهور عند أهل العلم والذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- وما لم يكن مشقوق الأصابع كالبط والنعام والإبل وما شابه ذلك، كل ذلك يحرم عليهم، وفسره بعضهم بأوسع من هذا لكن فيه بُعد، والله أعلم.

وقوله تعالى: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا [سورة الأنعام:146] قال السدي: يعني الثرب وشحم الكليتين.

الثرب -بإسكان الراء- هو الشحم الرقيق الأبيض الذي يكون في داخل البطن على الكرش والأمعاء.

يعني الثرب وشحم الكليتين، وكانت اليهود تقول: إنه حرمه إسرائيل فنحن نحرمه.

لماذا قال: "يعني الثرب وشحم الكليتين"؟ قال ذلك؛ لأنه ليس مما حملت ظهورها وليس مما اختلط بعظم مما أبيح لهم، فالشحم الذي يكون على الفخذ مثلاً أو الظهر أو الرقبة هذا يكون مما اختلط بعظم، وكذلك الشحم الذي يكون في الإلية هذا اختلط بعظم وهو العصعص، فلذلك هذا لا يحرم عليهم، إنما الذي يحرم ما لم يختلط بعظم، هذا هو الذي حمله على القول: "يعني الثرب وشحم الكليتين".

قوله: "وكانت اليهود تقول: إنه حرمه إسرائيل فنحن نحرمه" يعني حرمه يعقوب ﷺ لكن هذا ليس صحيحاً.

وقال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا [سورة الأنعام:146] يعني ما علق بالظهر من الشحوم.

وقوله تعالى: أَوِ الْحَوَايَا قال الإمام أبو جعفر ابن جرير: الحوايا جمع واحدها حاويا وحاوية وحويَّة، وهو ما تحوَّى من البطن فاجتمع واستدار، وهي بنات اللبن وهي المباعر وتسمى المرابض، وفيها الأمعاء.

قوله: "وهي بنات اللبن" يعني خزائن اللبن، ولذلك العلم الحديث يقول: إن الدم يمتص الغذاء من الأمعاء ثم ينتقل إلى سائر الجسم.

يقول: "وهي المباعر" ويقصدون بالمباعر ما نسميه الآن بالأمعاء الغليظة، وتسمى المباعر؛ لأن البعر تجتمع فيها، والمقصود أن ما حملته هذه الحوايا من الشحوم فإنه يجوز لهم أكله.

وبعضهم يقول: إن الحوايا هي الأمعاء مطلقاً فما كان عليها من الشحم فإنه يحل لهم، بمعنى أنه لا يختص ذلك بالأمعاء الغليظة، والله أعلم.

يقول: "وتسمى المرابض" الأمعاء وأحشاء البطن يقال لها المرابض.

قال: ومعنى الكلام ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو ما حملت الحوايا.

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: أَوِ الْحَوَايَا وهي المبعر، وقال مجاهد: الحوايا المبعر والمربض.

يعني أن الشحم الذي يكون في أحشاء البطن حلال لهم.

وقوله تعالى: أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [سورة الأنعام:146] يعني إلا ما اختلط من الشحوم بعظم فقد أحللناه لهم.

"أو" في قوله: أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [سورة الأنعام:146] حرف عطف فيكون ما بعد "أو" عائد إلى الأشياء التي أبيحت لهم، فيكون الذي أبيح لهم من الشحوم مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [سورة الأنعام:146] وهذا الذي عليه عامة المحققين من أئمة اللغة ومن المفسرين.

وبعضهم يقول: إن الحوايا وما اختلط بعظم معطوف على الشحوم، فيكون الكلام هكذا: "وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما والحوايا وما اختلط بعظم، وهذا القول فيه تكلف وهو خلاف الظاهر، والأصل حمل الكلام على ظاهره إلا لدليل يجب الرجوع إليه، ولا حاجة لمثل هذه التكلف.

والخلاصة أن الأشياء التي حرمت عليهم هي كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم الشحوم ويستثنى من ذلك ما حملت الظهور أو الحوايا الشحوم التي على الأمعاء، أو ما اختلط بعظم، فكل ذلك مباح لهم، والله أعلم.

وقال ابن جريج: شحم الإلية ما اختلط بالعصعص، فهو حلال، وكل شيء في القوائم والجنب والرأس والعين وما اختلط بعظم فهو حلال، ونحوه قاله السدي.

وقوله تعالى: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ [سورة الأنعام:146] أي: هذا التضييق إنما فعلناه بهم وألزمناهم به مجازاة على بغيهم ومخالفتهم أوامرنا، كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا [سورة النساء:160].

وقوله: وِإِنَّا لَصَادِقُونَ [سورة الأنعام:146] أي: وإنا لعادلون فيما جازيناهم به.

وقال ابن جرير: وإنا لصادقون فيما أخبرناك به يا محمد من تحريمنا ذلك عليهم لا كما زعموا من أن إسرائيل هو الذي حرمه على نفسه.

يقول: "لا كما زعموا من أن إسرائيل هو الذي حرمه على نفسه"؛ لأن الله قال: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [سورة آل عمران:93] فكذبهم الله بهذا.

وقد جاء في التوراة أيضاً هذا النص: حرمتُ عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وكلَّ دابة ليست مشقوقة الحافر، وكل حوت ليس فيه سفاسف -يعني ليس فيه بياض- وقوله: "وكلَّ دابة ليست مشقوقة الحافر" هذا ما فسرنا به قوله: حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [سورة الأنعام:146].

مسألة:

من جملة ما حُرِّم على الذين هادوا الشحوم إلا ما اختلط بعظم أو الحوايا -على القول بأنها مستثناة مما لا يحل- فقد يقول قائل: إن ما حرِّم عليهم الشيء اليسير من الشحوم كالتي في العينين وفي القلب والكليتين ونحو ذلك فما الحكمة من تحريم هذه الأشياء اليسيرة مع أن هناك شحم كثيف في الإلية –مثلاً- وفي غيرها لم يحرم عليهم؛ لأنه مما اختلط بعظم أو من الحوايا؟ فالجواب أن تحريم الشحوم عليهم بهذه الصفة تجعلهم يحتاجون إلى فصل الشحم من بعض أجزاء الجسم مما يتم فصله بصعوبة، فهذا يحل وهذا لا يحل وهكذا، فكأن كأن في هذا معنى التضييق عقوبة لهم، والله أعلم.

وقال عبد الله بن عباس: بلغ عمر بن الخطاب - أجمعين- أن سمرة باع خمراً فقال: قاتل الله سمرة، ألم يعلم أن رسول الله ﷺ قال: لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها [أخرجاه][1].

يعني جاؤوا وحولوها إلى شيء آخر كأن يكونوا أذابوها وباعوها ودكاً ثم قالوا: نحن ما بعنا الشحوم.

وعن جابر بن عبد الله -ا- يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول عام الفتح: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل يا رسول الله: أرأيت شحوم الميتة فإنها يدهن بها الجلود وتطلى بها السفن ويستصبح بها الناس، فقال: لا، هو حرام ثم قال رسول الله ﷺ عند ذلك: قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه ورواه الجماعة[2].

فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [سورة الأنعام:147] يقول تعالى: فإن كذبك يا محمد مخالفوك من المشركين واليهود ومن شابههم فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ [سورة الأنعام:147].

الحافظ ابن كثير -رحمه الله- جمع المعاني التي قيلت فيمن يتوجه إليه قوله: فَإِن كَذَّبُوكَ فبعضهم يقول: هم المشركون؛ لأن سياق الحديث أصلاً في تحريم المشركين بعض الأشياء وتحليل بعض الأشياء، فالله يرد عليهم وكان من جملة ما ذكر أنه قص ما وقع لليهود في المحرمات، فالله أمر رسوله ﷺ أن يقول للمشركين: لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ [سورة الأنعام:145] وذلك عندما حرموا ما حرموا وأباحوا ما أباحوا، قال تعالى: وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء الآية [سورة الأنعام:138] والمقصود أنه جاء الكلام على اليهود في ثنايا الرد على المشركين، ثم قال: فَإِن كَذَّبُوكَ أي هؤلاء الذين حرموا أشياء وأحلوا أشياء من عند أنفسهم من المشركين فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ [سورة الأنعام:147].

وبعضهم يقول: فَإِن كَذَّبُوكَ [سورة الأنعام:147] يعني اليهود الذين قال الله فيهم: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ أي: فيما أخبرتك ما الذي حرمت عليهم فَإِن كَذَّبُوكَ [سورة الأنعام:147] وقالوا لا، ليس الأمر كذلك فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ [سورة الأنعام:147]، وبه قال ابن جرير –رحمه الله-.

فالشاهد: أن الحافظ ابن كثير جمع بين المعنيين باعتبار أنه لا يوجد دليل يدل على تخصيص المشركين أو اليهود بالضمير في قوله: فَإِن كَذَّبُوكَ [سورة الأنعام:147] فقال: "فإن كذبك يا محمد مخالفوك من المشركين واليهود" أي الذين يحللون ويحرمون ويعتدون على شرائع الله فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ [سورة الأنعام:147].

فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ [سورة الأنعام:147] وهذا ترغيب لهم في ابتغاء رحمة الله الواسعة واتِّباع رسوله.

وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [سورة الأنعام:147] ترهيب لهم من مخالفتهم الرسول خاتم النبيين، وكثيراً ما يقرن الله تعالى بين الترغيب والترهيب في القرآن، كما قال تعالى في آخر هذه السورة إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة الأنعام:165] وقال: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة الرعد:6] وقال تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۝ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ [سورة الحجر:49-50] وقال تعالى: غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [سورة غافر:3] وقال: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ۝ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ۝ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ [سورة البروج:12-14] والآيات في هذا كثيرة جداً.

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ۝ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ۝ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [سورة الأنعام:148-150].

هذه مناظرة ذكرها الله تعالى وشبهة تشبث بها المشركون في شركهم وتحريم ما حرموا فإن الله مطلع على ما هم فيه من الشرك والتحريم لما حرموه وهو قادر على تغييره بأن يلهمنا الإيمان ويحول بيننا وبين الكفر فلم يغيّره، فدل على أنه بمشيئته وإرادته ورضاه منَّا بذلك، ولهذا قالوا: لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ [سورة الأنعام:148].

يعني أن هؤلاء المشركين احتجوا بالقدر على شركهم وجعلوا ذلك دليلاً على رضا الله -تبارك وتعالى، وهذا هو الذي يحتج به الجبرية، لكن الله ردَّ عليهم -كما ذكرنا في القاعدة التي أشرنا إليها مراراً- وهي أن كل حكاية في القرآن يحكيها الله عن قائلٍ فإنه يذكر قبلها أو معها أو بعدها ما يدل على بطلانها وإلا فهي صحيحة غالباً، فالله رد على هؤلاء، وهذا فيه إبطال لحجة الجبرية أيضاً حيث يقول تعالى: قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا [سورة الأنعام:148] ثم بين أنهم بذلك ما يتبعون إلا الظن، وأنهم يخرصون خرصاً فلا حقيقة عندهم ولا يقين.

يقول تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا [سورة الأنعام:148] هذا إخبار من الله أنهم سيقولون ذلك، وأخبر في مواضع أخرى من كتابه كما في سورة النحل أنهم قالوه فعلاً، أعني أن هذا قاله في سورة الأنعام وهي سورة مكية، وسورة النحل سورة مكية لكنها نزلت بعد سورة الأنعام بدليل قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ [سورة النحل:118] وقد قص هذا في سورة الأنعام في هذا الموضع: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [سورة الأنعام:146] إلى آخر ما ذكر، فالإجمال في سورة النحل مبين بهذا التفصيل الذي في سورة الأنعام.

والحاصل أنه قال: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ [سورة الأنعام:148] ثم بين في سورة النحل أنهم قالوه فعلاً كما قال الله : وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ [سورة النحل:35] وقال أيضاً في سورة الزخرف: وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم [سورة الزخرف:20] فهم قالوا ذلك فعلاً فجعلوا وقوع ذلك منهم بمشيئته دالاً على محبته ورضاه.

ونحن نعرف أن المشيئة الكونية لا تقتضي المحبة فالله يقول: وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [سورة الزمر:7] وإنما الذي يقتضي المحبة هي الإرادة الشرعية فحيث لم يفرقوا بين الإرادتين ظنوا أن وقوع ذلك بمشيئته وإرادته دليلٌ على محبته ورضاه.

كما في قوله تعالى: وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم الآية [سورة الزخرف:20] وكذلك الآية التي في النحل مثل هذه سواء.

هؤلاء بالإمكان أن يُرَدُّ عليهم بكل بساطة فيقال لهم: إذا كان وقوع الشيء يدل على محبة الله له فلماذا تحاربوننا وتعادوننا غاية العداوة، وقد أسلمنا لله رب العالمين؟ فالله يحب ذلك ويرضاه، فلماذا أنتم تنكرونه وتعادون أهله وتضيقون عليهم وتضطرونهم إلى الخروج من بلادهم؟ لماذا خالفتم إرادته ومحبوباته؟

بهذا الرد لن يكون عندهم جواب، ومثل هذا الأسلوب يستعمل مع العصاة الذين يحتجون بالقدر حيث يقول الواحد منهم: إن الله كتب هذا عليَّ وقدره، ولذلك لا يتوب من معصيته ولا يرعوي فيقال له: ما دام الله كتب عليك هذا وأنت راضٍ به فلماذا لا ترضى أن يضربك شخص أو يكسر سيارتك أو نظارتك دون أن تغضب وتحاول الانتقام لنفسك فالله كتب عليك ذلك ولا بد لك من الرضا بهذا القضاء؛ لأن هذا الفعل الذي صدر في حقك وأجراه الله على يد هذا الإنسان مكتوب لا محالة أن يقع عليك فلا بد أن نرضى أنا وأنت بما قدر الله وانتهينا!.

ومثله ذلك الطالب الذي عنده اختبار يقال له: لا تقرأ ولا تفتح كتاباً ولا تمشي إلى المدرسة أيضاً وما قدره الله لك من النجاح أو الفشل سيقع لا محالة، هكذا يرد على من يحتج بالقدر على ترك السعي إلى الآخرة، لكن المشكلة أنك تراهم يتهافتون ويسعون لأجل الدنيا دون ملل فإذا قلت للواحد منهم: لا تهلك نفسك لأجل الدنيا فما قدره الله لك سيكون إذا ببعضهم يؤلفون هنا حديثاً قدسياً نصه: اسعَ يا عبدي وأنا أسعى معك!! أما في باب العمل الصالح يحتجون بالقدر والله كاتب عليَّ أن أكون بهذه المثابة فادع لي، وهكذا يتهربون من إقامة الحجة عليهم، والله المستعان.

قال الله تعالى: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم [سورة الأنعام:148] أي: بهذه الشبهة ضل من ضل قبل هؤلاء، وهي حجة داحضة باطلة؛ لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه ودمر عليهم وأدال عليهم رسله الكرام، وأذاق المشركين من أليم الانتقام.

قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ [سورة الأنعام:148] أي: بأن الله راض عنكم فيما أنتم فيه فَتُخْرِجُوهُ لَنَا أي: فتظهروه لنا وتبينوه وتبرزوه.

إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ [سورة الأنعام:148] أي: الوهم والخيال والمراد بالظن هاهنا الاعتقاد الفاسد.

وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ [سورة الأنعام:148] تكذبون على الله فيما ادعيتموه.

من المناظرات التي ذكر بعض السلف في هذا قصة ذلك الرجل الذي احتج بالقدر فلطمه صاحبه فلما غضب قال له: هذا شيء قدره الله عليك ولابد من الإيمان بالقدر.

والآخر احتج بحل الخمر قائلاً: ما تقول في الماء والخل؟ فقال له صاحبه: هما حلال، قال: وما تقول في العنب؟ قال: هو حلال، قال: فالخمر إنما هي عنب وماء وخل فلماذا تحرمها؟

قيل له: أرأيت إن أخذت تراباً وألقيته على رأسك هل يضرك؟ قال: لا، قال: فإن أخذت ماءً وصببته على رأسك هل يضرك؟ قال: لا، قال: لو أخذت تبناً فألقيته على رأسك هل يضرك؟ قال: لا، قال: أرأيت لو أني جمعت التراب وبللته بالماء ثم وضعت معه التبن فتماسك وتركته حتى جف ثم بعد ذلك ضربت به رأسك، هل يضرك؟ قال: إذاً تقتلني؟ فقال: هكذا إذاً الخمر، هي عنب وماء يترك حتى يشتد ويلقي بالزبد ويصير مسكر فإذا شربته حصل من ذلك الأثر والضرر منه.

وقوله تعالى: قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [سورة الأنعام:149] يقول تعالى لنبيه ﷺ: قل لهم يا محمد فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ أي: له الحكمة التامة والحجة البالغة في هداية من هدى وإضلال من ضل فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [سورة الأنعام:149] فكل ذلك بقدرته ومشيئته واختياره، وهو مع ذلك يرضى عن المؤمنين ويبغض الكافرين كما قال تعالى: وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى [سورة الأنعام:35] وقال تعالى: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ [سورة يونس:99].

وقوله: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۝ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [سورة هود:119] قال الضحاك: لا حجة لأحد عصى الله، ولكن لله الحجة البالغة على عباده.

وقوله تعالى: قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ [سورة الأنعام:150] أي: أحضروا شهداءكم الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا [سورة الأنعام:150] أي: هذا الذي حرمتموه وكذبتم وافتريتم على الله فيه فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ [سورة الأنعام:150] أي: لأنهم إنما يشهدون والحالة هذه كذباً وزوراً.

وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [سورة الأنعام:150] أي: يشركون به ويجعلون له عديلاً.

"هلمَّ" في قوله: قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ [سورة الأنعام:150] يعني أحضروا، فبعضهم يقول: إنها مركبة من كلمتين، أو من حرفين، وبعضهم يقول: إنها مركبة من "هل" الاستفهامية" و"أُمّ" يعني هل أقصد كذا، لكن لكثرة الاستعمال قيل هلُمَّ، وبعضهم يقول غير هذا، فأهل اللغة مختلفون في أصلها وفي تركيبها، وعلى كل حال هي بهذا المعنى اسم فعل، وأسماء الأفعال -كما هو معلوم- تأتي بمعنى الأمر أحياناً كقولك: صه يعني أنصت، وقولك: مَهْ بمعنى كُفَّ، وكذلك تقول: هلم يعني أقبل، ومن أسماء الأفعال قول: "بخٍ" فهي كلمة تدل على استحسان الشيء، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه البخاري في كتاب البيوع - باب لا يذاب شحم الميتة ولا يباع ودكه (2110) (ج 2 / ص 774) ومسلم في كتاب المساقاة - باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام (1582) (ج 3 / ص 1207).
  2. أخرجه البخاري في كتاب البيوع - باب بيع الميتة والأصنام (2121) (ج 2 / ص 779) ومسلم في كتاب المساقاة - باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام (1581) (ج 3 / ص 1207).

مواد ذات صلة