الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
(001-ب) من قوله تعالى (وابتغاء تأويله..) الآية 7 – إلى قوله تعالى (والله يؤيد بنصره من يشاء..) الآية 13
تاريخ النشر: ٢٠ / ذو الحجة / ١٤٣٧
التحميل: 1222
مرات الإستماع: 1415

قوله تعالى: وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ أي: يبتغون أن يتأولوه على ما تقتضي مذاهبهم، أو يبتغون أن يصلوا من معرفة تأويله إلى ما لا يصل إليه مخلوق.

تعرفون خبر صبيغ بن عسل الذي كان يسأل عن متشابه القرآن، فقال عمر : (اللهم أظفرني به)، فكان يجول بين الجند، ويسأل عن متشابه القرآن، فدخل على عمر يومًا كان الناس عنده يتغدون، قال: يا أمير المؤمنين وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ۝ فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا [الذاريات:1-2]، فقال عمر : أنت هو؟ وفي رواية: أنه قال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، قال: وأنا عبد الله عمر، كان قد خبأ له عراجين، فضربه على رأسه حتى سقطت عمامته، ثم في اليوم الثاني، والثالث، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، إن كنت تريد قتلي فأنت وذاك، وإن كنت تريد ما بي فوالله قد ذهب، يعني: اتباع المتشابه أذهبته العراجين، فتبخر هذا الذي في رأسه، قال عمر : (والله لو وجدتك محلوقًا لأخذت الذي بين عينيك).

يعني: قتلتك، محلوقًا إشارة إلى الخوارج، فإن سيماهم التحليق كما ذكر النبي ﷺ في ذلك الوقت، وإلا بعضهم كان له شعر، كما ذكرنا في العبر من التاريخ بأن عبد الرحمن بن ملجم كان له شعر إلى منكبيه.

ثم نفاه عمر إلى البصرة، وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألا يُجالَس ولا يُكلَّم، فكان إذا جلس إلى حلقة في المسجد لا يعرفونه، وعرفه بعضهم قال: عَزمةُ أمير المؤمنين، فقاموا وبقي وحده، كان عزيزًا في قومه فذل حتى استقام أمره، فكتب أبو موسى الأشعري إلى عمر بأن الرجل قد استقامت حاله، فأمر عمر بمجالسته، فلما خرج الخوارج بعد ذلك قيل له: هذا أوانك، فقال: لا، قد نفعتني موعظةُ الرجل الصالح؛ -عمر -[1].

فهذا إتباع المتشابه والبحث والتنقير الذي يتتبع الغوامض، أو ما يحصل به التلبيس على الناس، أو يُنقر في المسائل، أو يبحث عن الغرائب، أو نحو ذلك، هذا يدل على زيغ في قلبه، وأنه غير سوي ولا نظيف، إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم[2].

فمن الناس من يكون ذلك طبيعة فيه غالبة، يعني: أن عقله هكذا يميل دائمًا إلى هذه المواضع، ويستخرجها مع أنه ليس من المشتغلين بالعلم، لكنه يميل إلى هذه الأشياء ويبحث عنها، وإذا جاءك يسأل عرفت مباشرة ماذا سيسأل عنه، أنه سيسأل عن أشياء من هذا القبيل، يستخرجها بالمناقيش ويأتي ليسأل، يقرأ القرآن ويأتيك يقول: عندي سؤال، ثم يسأل سؤالًا من هذا القبيل، يبحث عن هذه الأشياء ويقف، ويذهب إلى هذا، وهذا، وهذا، يسأل عنها، فهذا طريق الزيغ.

والجادة: أن يسلك الإنسان سبيل العلم، ويتعلم العلم بأصوله الصحيحة، ويتدرج فيه التدرج الصحيح، ولا يأخذ المسائل بالمقلوب، يعني: يأخذ مسائل الكبار، ويهجم عليها، ويسأل عنها، ويترك ما هو بصدده من المسائل التي ينبغي أن يتعلمها من الأسس والأصول، فإذا رأيت من يتقحم من الأعلى فاعلم أنه على طريق ضلالة، وإذا رأيت من يتتبع هذه وينقر عنها -هذه القضايا- فاعلم أنه على طريق ضلالة، ليست هذه هي الجادة، ومثل هؤلاء أنا أرى أنهم لا يُشتغل بهم ولا بالجواب عن مسائلهم، لكن من بسط الله يده مثل عمر من له ولاية، فيمكن أن يؤدب مثل هؤلاء بهذه العراجين، ومن ليس كذلك فكما قال شيخ الإسلام: من المسائل ما جوابه السكوت، ما كل من سأل يُجاب، فإذا سأل الإنسان عن شيءٍ ليس بصدده، أو لا يعنيه، أو غيره من المسائل التي لربما متكلفة، أو من قبيل التعمق في البحث والتنقير، ونحو ذلك، فمثل هذا يُصرف عنه ويُوجه إلى غيره، فإذا عُرف أن هذا من عادته الغالبة تُرك -والله المستعان-.

وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، إخبارٌ عن إنفراد الله بعلم تأويل المتشابه من القرآن، وذمٌّ لمن طلب علم ذلك من الناس.

طبعًا هذا بناءً على الوقف وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ: فيكون العلم علم الكنه والكيفية بالنسبة لحقائق الأمور الغيبية، وكذلك أيضًا الغيبيات ووقوع الساعة ونحو ذلك، متى تقع؟ متى يقع كذا؟ هذا في علم الله وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، فبعض الناس يُجرون حسابات بناءً على الحروف المقطعة، وغير ذلك يقول لك: الساعة ستقوم عام كذا، ستخرج الشمس من مغربها في وقت كذا، في عام كذا، فإذا قيل له: إن هذه الأمور لا يعلمها إلا الله، قال: نعم ممكن يحصل أمور في الكون فيختل هذا السير وهذا النظام، ويتغير الوقت -للأسف- يوجد من يقول مثل هذا الكلام، ويوجد من يكتب وينشر أشياء من هذا القبيل.

وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، مبتدأٌ مقطوعٌ مما قبله.

هذا بناءً على الوقف الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: مبتدأ، فتكون الواو استئنافية، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: يعني ليست عاطفة، وهذا صحيح ثابت عن ابن عباس -ا- يعني: الوقف، فيكون محمله على ما ذكرت، يعني ليس على التفسير والمعنى؛ لأنه لا يوجد في القرآن شيء لا يُعرف معناه، ويكون على هذا: الرَّاسِخُونَ: مبتدأ، والخبر: جملة يَقُولُونَ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ فهذا على قراءة الوقف.

والراسخون ما المراد به في قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ؟

يعني: الذين رسخت قدمهم فيه، يعني: الثابتون فيه، الذين أتقنوا العلم، وضبطوه بحيث لا يُداخلهم في ذلك شك ولا لبس، فالرسوخ يعني: الثبوت، وهذا أصلُ هذه المادة: "رَسَخَ" راسخ، يدل على الثبات، فالناس في العلم مراتب: فمنهم من يكون في مبدأه وهذا يحصل عنده من الشك، يقبل التشكيك في معلومهِ، ومنهم من يكون متوسطًا بين بين، ومنهم يكون راسخًا، فهذا الراسخ هو الذي يكون العلم سجيةً له، يعني: من غير تكلف، ولا تصنع، فيكون العلم من الصفات الثابتة فيه، ولا يقبل التشكيك، وليس عنده فيه تردد.

والشاطبي -رحمه الله- في "الموافقات" ذكر مراتب الناس في العلم من وجه آخر، من جهة ما يحمل عليه، ذكر المراتب الثلاث، ولما ذكر أهل الرسوخ في العلم، ذكر أنهم بالنسبة إليهم هؤلاء المعصية لا يحتاجون إلى مجاهدات، ولا يحتاجون إلى صوت القوارع، والوعيد، والحدود التي تردعهم، كما هو الشأن بالنسبة لأصحاب المرتبة الأولى: تردعهم الحدود، والمرتبة الثانية: تردعهم الوعد والوعيد، وأصحاب المرتبة الثالثة: هم الذين صار العلم كالأنفاس بالنسبة إليهم، والعبادة بلا تكلف[3].

يعني: تجد مثل هذا يقوم الليل الساعتين والثلاث ونحو ذلك بلا منبه، حتى لو نام متأخرًّا ينام ساعة، أو نحو ذلك ويقوم بلا منبه، ولا يحتاج تكلف ويتوضأ باليوم الشاتي، ولا يجد كبير كلفة في هذا، ولا يحتاج إلى كبير مجاهدات.

بينما تجد الفئة رقم واحد لربما لا يستيقظ الفجر إلا بكلفة شديدة ومجاهدات، ولربما تفوته تكبيرة الإحرام، أو الركعة الأولى، أو تفوته الصلاة في أيام من الأسبوع.

والمرتبة الثانية: لربما يستيقظ لصلاة الفجر ويجاهد نفسه، لكنه قد لا يكون بذاك بالنسبةِ للعبادة، فنفسه ليست منقادة الانقياد الكامل لها، وكذلك بالنسبة للمعصية يقع ويقوم، ويقع ويقوم، ويحتاج إلى نصوص الوعد والوعيد ونحو ذلك؛ ليحصل له الانكفاف والانزجار، والعمل بطاعة الله وترك معصيته ومخالفته، هذا لا شك أنه واقعٌ موجود، ولو تقرأون في سير العلماء الراسخين، وتنظرون إلى حالهم من الاستقامة، والعبادة، والطاعة، والتلاوة، وقيام الليل، وصيام النهار، تجدون أن هذا مثل السجية بالنسبة إليهم، هذا هو السبب لما تسمعون تراجم معاصرين وقدماء أنه لربما لا ينام إلا ساعة، أو يقسم الليل ثلاثة أقسام، أو نحو هذا، والبعض من طلاب العلم لربما يبقى الليل وهو في حالٍ من السهر والنشاط ونحو ذلك، ويكسل عن ركعة يوتر فيها، هذا ليس من أخلاق ولا من صفات الراسخين في العلم أصلًا، ولذلك قد تجده يحفظ أشياء، وتجده يحسن الإلقاء -ونسأل الله أن يلطف بنا ويرحمنا برحمته- يشتغل بالعلم ونحو ذلك، ولكنه إذا نظرت إليه في حاله، عبادته، في صيامه، في قيامه، في طاعاته، في ذكره، في ورده، تجد التقصير الكبير وتجد حالًا لا تفترق كثيرًا عن حال العوام، بل حال بعض العوام أفضل، بعض العامة يقومون الليل، ويبادرون إلى الصلاة، ويصلون خلف الإمام، ولا تفوتهم تكبيرة الإحرام، ما يؤذن المؤذن إلا وهو في المسجد، وبعض طلبة العلم آخر من يأتي، هذا ليس من صفات الراسخين في العلم، فهي مراتب، وراجعوا كلام الشاطبي في هذا -كلام جيد مفيد-.

والمعنى: أن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه، وإنما يقولون آمنا به على وجه التسليم، والانقياد، والاعتراف بالعجز عن معرفته، وقيل: إنه معطوفٌ على ما قبله، وأن المعنى: أنهم يعلمون تأويله، وكلا القولين مرويٌّ عن ابن عباس[4].

يعني: كل ذلك ثابت -كما ذكرت- وعلى هذا المعنى الثاني فقوله: الرَّاسِخُونَ مرفوع وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، يكون مرفوع عطفًا على لفظ الجلالة، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يعني يعلمون تأويله، هذا على قراءة الوصل، ويكون قوله: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ هذا يكون الجملة تكون حالية، حال، يعني حال كونهم قائلين: آمَنَّا بِهِ، أو خبر لمبتدأ محذوف غير الأول، أي هم يقولون: آمَنَّا بِهِ، وكأن الذي قبله أحسن أنه حال، وأن الأصل عدم التقدير -والله تعالى أعلم- وأن المعنى: أنهم يعلمون تأويله.

والقول الأول: قول أبي بكرٍ الصديق[5]، وعائشة[6]، وعروة بن الزبير[7].

هنا في الهامش لم أقف على قول أبي بكر الصديق في هذه المسألة، وهو مرويٌّ عن عمر بن عبد العزيز، ومالك بن أنس كما في "المحرر الوجيز لابن عطية "[8] بدون ذكر سند.

طبعًا المؤلف هنا ينقل باختصار واقتضاب في الأحكام التي يذكرها من التخريج، أحاديث الكتاب في رسالة ماجستير في جامعة أم القرى، ينقل هذه الأحكام التي ترونها في هامش الكتاب، ينقلها باختصار واقتضاب، فهناك تجد في التخريج لم أقف على قول أبي بكر الصديق.

وهذا ثابت عن عائشة -ا- كان من رسوخهم في العلم: أن آمنوا بمحكمه ومتشابهه، ولم يعلموا تأويله.

القول الأول: يعني: هذا باعتبار الكنه والكيفية، يعني على الوقف وليس المعنى والتفسير.

القول الثاني: أنه معطوف على ما قبله يكون بالتفسير، ويكون التشابه فيه نسبي، يعني: بالنسبة لبعض الناس، من خفي عليه فهو متشابه في حقه، فهو متشابه بالنسبة إلى فلان، وفلان، وفلان، وليس بمتشابه بالنسبة إلى فلان، هذا معنى نسبي ليس بمطلق.

وعروة بن الزبير، هنا يقول: أخرجه الطبري في "جامع البيان" بسندٍ ضعيف.

على كل حال: هو مروي أيضًا عن ابنه هشام بن عروة، وعن أبي نهيك الأسدي، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، وأبي الشعثاء[9]، وهذا القول أيضًا اختيار بن جرير[10]، والواحدي[11]، وابن قدامة[12]، والشنقيطي[13]، ونسبه أبو عمرو الداني -رحمه الله- إلى أكثر العلماء من المفسرين والقراء والنحاة[14].

وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: (وعليه أصحاب ابن عباس)[15]، وفي قراءة ابن مسعود: (إِنْ تَأْوِيلَهُ إِلَّا عِنْدَ اللَّهُ)، يعني: إنْ هنا هذه نافية، بمعنى: ما تأويله إلا عند الله، يكون الله استأثر بعلمه، (إِنْ تَأْوِيلَهُ إِلَّا عِنْدَ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ).

هذا على كل حال كما ذكرت بأن الوقف والوصل كلاهما ثابت عن ابن عباس -ا- ولكلٍ محمله، ولا إشكال في ذلك -والله أعلم-.

إذًا القول الأول: على الوقف هو قول الأكثر، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، فيكون محمله على ما ذُكر، حقائق الأمور الغيبية ونحو ذلك، ولكن على الوصل أيضًا المعنى واضح ولا إشكال فيه، فيمكن أن تصل، ويمكن أن تقف، كل ذلك سائغ -والله أعلم- يقول ابن جزي هنا: "وهو أرجح"، يعني القول الأول على الوقف.

القول الأول: قول أبي بكرٍ الصديق، وعائشة، وعروة بن الزبير وهو أرجح.

وقال ابن عطية: المتشابه نوعان: نوعٌ انفرد الله بعلمه، ونوعٌ يمكن وصول الخلق إليه، فيكون الراسخون ابتداءً بالنظر إلى الأول، وعطفًا بالنظر إلى الثاني.

"المتشابه نوعان: نوعٌ انفرد الله بعلمه": فيكون هنا الوقف على لفظ الجلالة، والراسخون ابتداء، "ونوعٌ يمكن وصول الخلق إليه" فيكون على الوصل، فيكون معطوف، وَالرَّاسِخُونَ معطوف على لفظ الجلالة وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، يعني: يعلمون تأويله وعطفًا بالنظر إلى الثاني.

وعلى كل حال: عرفتم أن الوقف قول الأكثر، لكن الوصل -كما قلت- أيضًا ثابت عن ابن عباس -ا- وهو مروي أيضًا عن مجاهد، والربيع بن أنس، ومحمد بن جعفر بن الزبير، والضحاك بن مزاحم[16]، وشيخ الإسلام -رحمه الله- ذكر القولين وأنه لا منافاة بينهما.

وجوَّز الأمرين: الراغب الأصفهاني أيضًا[17]، وهذا مما يدخلُ في قاعدة: أن القرآن يُعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فمن الفروع الداخلة تحتها ما يتعلق بالوقف، والوصل، والابتداء، يعني يتغير المعنى، ويكون كل ذلك صحيح.

قد ذكرت في بعض المناسبات قوله -تبارك وتعالى-: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ على هذه القراءة المتواترة، تقف هنا، القتل وقع على من؟ على النبي، أنبياء كُثر، "كأي" تدل على التكثير أنبياء قٌتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ يعني جماعات كثيرة أتباع مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ يعني من قتلِ نبيهم ومُقدَمهم وقائدهم مَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا، وعلى الوصل: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ يعني: قُتل كثير من الأتباع، فما فت ذلك في أعضاد من بقي على قيد الحياة.

على القراءة الأخرى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران:146]، وتقف وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ كثير من الأنبياء قاتلوا الكفار، مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:146]، فيتغير المعنى بحسب الوقف، وكل ذلك صحيح -إن شاء الله- وله أمثلة على كل حال، لكن من أوضحها: آية آل عمران هذه في المتشابه.

كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا أي: المحكمُ والمتشابه من عند الله.

رَبِّنَا: هذا من قولِ الراسخين، وجاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء ثم قال رسول الله ﷺ: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك[18].

وعن شهر بن حوشب، قال: قلت لأم سلمة: يا أم المؤمنين ما كان أكثر دعاء رسول الله ﷺ إذا كان عندك؟ قالت: "كان أكثر دعائه: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" قالت: فقلت: يا رسول الله ما لأكثر دعائك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟ قال: يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ. فتلا معاذ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران:8][19].

هنا يقول: حكاية عن الراسخين، يعني أن هذا من كلامهم أنهم يقولون هذا، ويحتمل أن يكون منقطعًا على وجه التعليم، يعني: يكون هذا من قبيل الموصول لفظًا، المفصول معنًى.

يعني: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا هذا كلام الراسخين، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ، رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا يكون من كلام الله يعلم عباده كيف يدعون.

وعلى الأول: يكون من جملة كلام الراسخين أنهم يقولون: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، ويدعون ويقولون: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا، وهذا فيه معنًى لطيف في غاية الأهمية، وهو أنه مع رسوخهم في العلم يسألون الله الثبات رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا فيخافون على أنفسهم، فهذا لا شك أنه يدل على معنًى كبير، إذا كان هؤلاء مع رسوخهم بهذه الحال يسألون الله ألا يُزيغ قلوبهم، فكيف بمن دونهم ممن لا علم له أو لديه من العلم ما يقبل التشكيك، والتردد، ونحو ذلك، يضطرب، لا يثبت على حال!

فهذا من باب أولى أن يلهج كثيرًا بهذا الدعاء، فهؤلاء ما أورثهم الرسوخ في العلم الغرور والإعجاب بالنفس، فيشعر أنه لا سبيل إلى الضلال أو الزيغ، ولا طريق للانحراف إلى قلبه، فهم يخافون، فالمؤمن حري به أن يخاف دائمًا، وأن يُكثر من هذا الدعاء، ويبتعد -إذا كان هؤلاء يسألون مع رسوخهم- يبتعد عن كل الأسباب التي تؤدي إلى زيغ القلب من النظر للشبهات، وتعريض القلب للفتنة: فتنة الشهوات، وفتنة الشبهات، لئلا تعلق في قلبه فيضل، أما الذي يفرِّط ويتعرض لكل آسرٍ وكاسر، فيقرأ هنا وهناك، ويتابع مدونات ويتابع حسابات، ويبحث عن الكتب، وكأنه قد ظفر بشيءٍ عظيم حينما يجد كتابًا لبعض أهل الضلال في سفر أو نحو ذلك.

هذا قبل وجود هذه الشبكة ونحو هذا كان بعضهم يفرح إذا وجد بعض كتب الضلالة، بل رأيت بعض من فرح فرحًا كبيرًا أنه وجد كتابًا مشهورًا في السحر في بعض البلاد -ولا حاجة لذكر اسم ذلك الكتاب- فرأيت ذلك الرجل مغتبطًا أنه وجده في أحد المكتبات، يُبشر أنه وجده، هو ليس من السحر في شيء لكن الرغبة بالممنوع، والرغبة بالشيء النادر ونحو هذا، فهذا موجود، وبعض الناس يبحث عن كتب للفرق المنحرفة والضالة، ويحاول أن يقتني هذه الكتب، وليس من أهل الاختصاص، وإنما البحث دائمًا عنه، والآن أصبح كل شيء متاح عبر هذه الشبكة، فتجد يقرأ لهذا ويتابع هذا، ويبقى القلب في حالٍ من التقلب والتعرض لفتن قد لا تقف أمامها الجبال، وهو بحجة أنه يثق كما يقول بعضهم: أنا واثق من نفسي، ونظري في هذه الضلالات والانحرافات التي تقولون عنها انحرافات وضلالات يزيدني ثقةً بما عندي؛ لأني لا بد أن أعرف كل ما عند الآخر؛ لأكون على بينة، هذا من أعظم أبواب الزيغ.

فكان هذا دعاء الراسخين: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا، والنبي ﷺ لما رأى مع عمر  نسخة من التوراة غضب[20]، فكيف بكتب مليئة بالفتن والشبهات بأنواعها؟ أو الذي يقضي ليلًا طويلًا أمام مواقع إباحية، ويرى ما لا قِبل له به فتتراءى له الفاحشة وهو ساجد، ولا يرى فيمن يشاهد من محارمه إلا صورة المرأة العارية، هذا كيف يكون ممن يطلب السلامة والخلاص والثبات على الحق، وقلبه بمثل هذه الحال مستطير مع هذه الشرور الكبار، فقد ينحرف في أي لحظة، وقد ينحرف، ويضل، ويُختم له بالخاتمة السيئة عند الموت.

وقد رأيت بعض من كان دون ذلك يقرأ على بعض المتكلمين في علوم اللغة والبلاغة ونحو هذا، ونُهي عن هذا، ونُصح، فكان يذهب إليهم سرًّا سنوات، ثم بعد ذلك قال كلمة سمعتها، قال: أجد في نفسي حُسيكة من أثر تلك القراءات على هؤلاء، لكن بعد متى؟ بعد سنوات، ولم ينتصح، ويذهب إليهم سرًّا، بعض المبتدعة من كان يذهب إليهم في أوقات الظهيرة، وإذا خفت الرِّجْل والناس في هدأة ونحو هذا، ويذهب إليهم في الساعة الثانية ظهرًا في الصيف، فيقرأ عليهم ويوجد غير هؤلاء ممن يمكن أن يأخذ العلم عنه، فأثر هذا فيه -كما يقول هو- وفي البداية كان يقول: هذه علوم لا علاقة لها، والواقع أن الأخذ والتلقي عن مثل هؤلاء يؤثر في القلب -الله المستعان-.

رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا [آل عمران:8]: حكايةٌ عن الراسخين، ويحتمل أن يكون منقطعًا على وجه التعليم، والأول أرجحُ لاتصال الكلام.

يعني: هذا الأصل أنه الكلام يكون متصلًا، فيكون هذا من دعائهم.

وأما قوله: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ: فهو من كلام الله تعالى لا حكايةُ قول الراسخين.

إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ: استدلالٌ على البعث، ويحتمل أن يكون من تمام كلام الراسخين، أو منقطعًا فهو من كلام الله.

يعني: من الموصول لفظًا، المفصول معنًى، و إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ يقول ابن جرير: "هذا من الكلام الذي استُغني بذكر ما ذكر منه عما تُرك ذكره"[21]، يعني: معنى الكلام عند ابن جرير -رحمه الله-: ربنا إنك جامع الناس ليوم القيامة، يوم لا ريب فيه فاغفر لنا يومئذ، واعف عنا، فإنك لا تخلف وعدك، أن من آمن بك واتبع رسولك، وعمل بالذي أمرته به في كتابك، أنك غافره يومئذ.

فالآية عند ابن جرير -رحمه الله- وإن كانت قد خرجت مخرج الخبر إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ: الصيغة صيغة خبرية، فإن تأويلها من القوم مسألة ورغبة إلى ربهم، يعني: حينما قالوا: إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:194]، يعني: يا رب أوفِ لنا ما وعدتنا، هذا معناها، السؤال والطلب، لكن ذكروا الخبر، وقد يأتي الطلب والسؤال بصيغة الإخبار، وهذا له نظائر، يعني: موسى حينما قال: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24] هذا خبر، معناه: الطلب، والسؤال، والدعاء، ما قال: يا رب ارزقني.

وهكذا في قول يونس : لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]: يعني نجني، خلصني مما أنا فيه.

وقول أيوب أوضح: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، هذا خبر، ليس فيه سؤال صريح، لكنه مُضمن معنى الطلب والسؤال، يعني فاشفني ولهذا قال: فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ [الأنبياء:84].

كَدَأْبِ: في موضع رفعٍ، أي: دأبُ هؤلاء كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ، وفي ذلك تهديد.

كدأب في موضع رفعٍ، أي دأب هؤلاء، دأب بالفتح والتسكين، دأب يعني الهمزة، دأَب، هاتان لغتان، والدأب -كما سبق في "الغريب"- هي العادة المستمرة، الشأن.

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ، يعني: العادة التي كانوا عليها، ما كانوا عليه، ما استمرءوه، استمروا عليه، يدل على الاستمرار على الشيء، وتدل على معنى الجد في الشيء، وعلى لغة بعض العرب يقولون: لغة جرهم بأنه بمعنى الأشباه يعني كشبه، كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ كشبههم، لكن أصل هذه المادة تدل على الملازمة والدوام، كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ العادة المستمرة، كدأب تشبيه يقول هنا: كَدَأْبِ: في موضع رفعٍ، أي: دأبُ هؤلاء كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ.

وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ عطفٌ على آل فرعون، ويعني بهم قوم نوحٍ، وعادٍ، وثمود، وغيرهم، والضمير عائدٌ على آل فرعون.

وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ لم يُحدد، فيشمل كل من كان قبلهم، ممن كانوا على الكفر، وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الضمير يرجع إلى من؟ إلى آل فرعون، قبلهم يعني قبل آل فرعون.

بِآيَاتِنَا البراهينُ أو الكتاب.

يعني: الآيات، البراهين: يعني التي على يد الأنبياء -عليهم السلام- يعني معجزات الأنبياء، فكذبوا بها، فصالح جاء بالناقة آية مبصرة فكذبوا بها.

وهكذا موسى جاء بالآيات، تسع آيات بينات، ومع ذلك قابلوها بالتكذيب، وهكذا سائر الأنبياء - عليهم السلام-.

فهذا معنى البراهين، أو الكتاب يعني الآيات المتلوة، الآيات تشمل هذا وهذا، كذبوا بالآيات المتلوة، وكذلك بالبراهين الدالة على صدق الأنبياء -عليهم السلام-.

سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ [آل عمران:12]: قُرأ بتاء الخطاب ليهود المدينة، وقيل: لكفار قريش، وقُرأ بالياء إخبارًا عن يهود المدينة، وقيل: عن قريش، وهو صادقٌ على كل قول، أما اليهود فغُلبوا يوم قريظة والنضير وقينقاع، وأما قريشٌ ففي بدرٍ وغيرها، والأشهر أنها في بني قينقاع؛ لأن رسول الله ﷺ دعاهم إلى الإسلام بعد غزوة بدر، فقالوا له: لا يغرنك أنك قتلت نفرًا من قريش لا يعرفون القتال، فلو قاتلتنا لعرفت أنّا نحن الناس، فنزلت الآية[22]، ثم أخرجهم رسول الله ﷺ من المدينة.

في قوله -تبارك وتعالى-: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ الحشر: بمعنى الجمع مع سوق، حشر الناس.

 سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ يقول: "قُرأ بتاء الخطاب": فهذه قراءة الجمهور، وقرأه بعض السبعة كحمزة، والكسائي: سَيُغْلَبُونَ[23].

 يقول: "قُرأ بتاء الخطاب ليهود المدينة"، هذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله-[24] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ اعتبار أنه في اليهود، باعتبار أن هذه الآيات تتحدث عن أهل الكتاب، وابن جرير يراعي هذا كثيرًا، تتحدث عن أهل الكتاب، لما جاء بصيغة الخطاب سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ من الذي حصل لهم الحشر والغلبة وكذا؟ النصارى في زمن النبي ﷺ لم تكن له وقائع معهم، ذهب النبي ﷺ إلى تبوك، ولم يلقَ كيدًا ورجع، لكن في مؤتة حصل لقاء مع العدو ولم يحصل غلبة للمسلمين، لكن من الذين غُلبوا في كل المواقع؟ هم اليهود: قريظة، والنضير، وبنو قينقاع، وكذلك أهل خيبر، هذه الأربع وقائع كلها غُلبوا فيها.

يقول الله -تبارك وتعالى- في سورة الحشر: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الحشر:2].

لِأَوَّلِ الْحَشْرِ، قيل: لأول حشرٍ لليهود، فكان هذا الحشر الذي وقع لبني النضير.

بعضهم يقول: لأول حشرٍ للجيش -جيش المسلمين- تساقطوا لكن هذا فيه بُعد، وبعضهم يقول: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ: باعتبار أن ذلك يرجع إلى أن الأولية مكانية أول أرضِ المحشر حيث نُفوا، ذهب بعضهم إلى أذرعات في أطراف الشام، لِأَوَّلِ الْحَشْرِ يعني أرض المحشر، أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يعني: اليهود.

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ، حُشروا، فحملها ابن جرير على يهود المدينة.

وقيل: لكفار قريش، والحافظ ابن كثير حمله على الكفار[25] وهذا الأقرب -والله أعلم-؛ لأنه قال هنا: سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ، فذكر أمرين: الغلبة في الدنيا -وهذه حصلت بالنسبة لليهود- وحصلت أيضًا فيما يتعلق بالمشركين- فهم متوعدون في الدنيا والآخرة- في الدنيا بالغلبة، وفي الآخرة بالنار.

وبعضهم يقول: قل لليهود سيُغلب مشركوا العرب قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ، يعني: المشركين من العرب، لكن هذا لا يخلو من التكلف.

على كل حال: هذا المعنى أعم، فهو وعيد للكفار؛ لأنهم سيغلبون ويحشرون إلى جهنم أيضًا، يغلبون في الدنيا ويحشرون إلى جهنم في الآخرة، وهو إن حصل لهم بعض الظفر في بعض الأوقات، إلا أن مستقبلهم إلى غلبة وهزيمة وخسران هذا في الدنيا، وفي الآخرة إلى النار، هذا المستقبل الذي ينتظر الكفار في كل زمان.

يقول: "والأشهر أنها في بني قينقاع؛ لأن النبي ﷺ دعاهم للإسلام.. إلى آخره"، فقالوا: لا يغرنك فنزلت الآية.

هذا في سبب النزول، ضعَّفه بعض أهل العلم مثل الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- وبعضهم حسن هذه الرواية، حتى لو كانت نازلة في بني قينقاع، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالمعنى عام لا يختص بهم، لكنهم يدخلون فيه دخولًا أوليًّا لو صحت الرواية.

قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ ... [آل عمران:13] قيل: خطابٌ للمؤمنين، وقيل: لليهود، وقيل: لقريشٍ، والأول أرجح، وفي النسخة الخطية: وقيل: لليهود، وقيل: لقريش، والأرجح: أنه لبني قينقاع، الذين قيل لهم: سَتُغْلَبُونَ [آل عمران:12]: ففيه تهديدٌ لهم وعبرةٌ كما جرى لغيرهم، وفي النسخة الخطية: فيما جرى لغيرهم.

في إشكال عندنا هنا في هذه النسخة، عندنا في النسخة هنا: "قيل: خطابٌ للمؤمنين -هذا القول الأول- وقيل: لليهود، وقيل: لقريش، والأول أرجح: أنه لبني قينقاع" الأول ما هو؟ أنه خطاب للمؤمنين، فمرة ثانية التصحيح..

التصويب في النسخة الخطية: وقيل: لقريش، والأرجح: أنه لبني قينقاع.

نحذف "الأول" إذًا، كلمة "الأول"، "والأول أرجح" تصير: والأرجح.

والأرجح أنه لبني قينقاع.

فيكون القول الأول: أنه خطابٌ للمؤمنين، وهذا مروي عن ابن مسعود [26]، وعن الحسن البصري[27].

قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ [آل عمران:13]، كان للمؤمنين آية فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا [آل عمران:13]، وقيل: لليهود، وهذا الذي اختاره ابن جرير[28]، والحافظ ابن كثير[29]، باعتبار أن السياق في أهل الكتاب قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ: أنهم اليهود، قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ فهو يخاطبهم لا زال الخطاب موجهًا إليهم، وإذا حملنا المعنى على ما هو أعم أنه لليهود وللمشركين، فيكون: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ فيكون ذلك عامًّا.

وقيل: لقريش، هذا الذي اختاره الطاهر بن عاشور[30] قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ والأرجح: أنه لبني قينُقاع، الذين قيل لهم: سَتُغْلَبُونَ، بناءً على سبب النزول وقلنا: الرواية فيها ضعف أصلًا، وحتى لو صحت فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهنا ما ذكره من الأرجح أنه لبني قينُقاع هذا أضعف، وليس هو الأرجح -والله أعلم-.

كلام ابن جرير وابن كثير أنه في اليهود يشمل بني قينُقاع وغير بني قينُقاع؛ لأن السياق فيهم، وهم الذين وقع لهم الحشر والغلبة بهذا الاعتبار، والواقع: أن الغلبة وقعت أيضًا على المشركين، فيكون أعم، والله أعلم.

فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ [آل عمران:13] المسلمون والمشركون يوم بدر.

هذا بالاتفاق فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: أن ذلك في بدر، لما التقى المسلمون والمشركون باتفاق المفسرين.

تَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ [آل عمران:13] قُرأ تَرَوْنَهُمْ بالتاء، خطابٌ لمن خوطب بقوله: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ [آل عمران:13]، والمعنى: ترون الكفار مثلي المؤمنين.

لاحظ هذه قراءة من؟ قراءة أهل المدينة، وهنا جرى عليها باعتبار أن الكتاب بُني على قراءة نافع تَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ، وقراءة الجمهور يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ وهي التي نقرأ بها، قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ.

"قُرأ تَرَوْنَهُمْ بالتاء، خطاب لمن خوطب بقوله: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ، تَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ الجمهور على أن فاعل ترون هم المسلمون.

هذه قراءة نافع تَرَوْنَهُمْ، من الذي يرى؟ المسلمون، هنا يقول: بأن على هذه القراءة "خطاب لمن خوطب بقوله: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ"، هنا حمل على بني قينُقاع تَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ، وعلى قول ابن جرير وابن كثير: اليهود، لكن الجمهور على أن فاعل "ترون" هم المسلمون.

والمعنى: ترون الكفار مثلي المؤمنين.

هذا الذي اختاره ابن جرير[31]، وجماعة، كالواحدي[32]، من المعاصرين: الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله[33]- تَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ: ترون الكفار مثلي المؤمنين.

ولكن الله أيد المسلمين بنصره على قلة عددهم، وقُرأ بالياء، والفاعل في يَرَوْنَهُمْ هم المؤمنون، والمفعول به هم: المشركون.

يعني: الرائين من المؤمنون يرون المشركين، والضمير في مثليهم يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ للمؤمنين على هذا المعنى الذي ذكره، المؤمنين مثليهم.

وهذا الموضع فيه خلاف كثير وأقوال، ابن كثير -رحمه الله- يقول: أن يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثليهم في العدد رأي العين[34].

قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا، قلنا بالإجماع يوم بدر المسلمون وكفار قريش فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ تَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ على هذه القراءة تَرَوْنَهُمْ هذا يرجع إلى المؤمنين، تَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ هذه واضحة هذه القراءة -والله تعالى أعلم- يعني: ترون الكفار على الضعف، العدد على الضعف، كثَّرهم في أعينكم.

تَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ، يعني: كان عدد الكفار بين التسعمائة والألف، فصاروا في أعين المسلمين على هذا المعنى: ألفين تَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ.

وعلى القراءة الأخرى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ يمكن أن يكون بهذا المعنى وتكون قراءة تَرَوْنَهُمْ مفسرة لهذه القراءة: يَرَوْنَهُمْ يعني: يراهم المسلمون ضعف ما هم عليه، يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ فيكون ذلك عائدًا على الكفار.

قال: "ترون الكفار مثلي المؤمنين"، يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ مثلي من؟ "مثلي المؤمنين"، وكان عددهم ثلاثمائة وأربعة عشر مثلًا، رأوهم مثليهم يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ فأيد الله المؤمنين.

 يقول: "وقُرأ بالياء والفاعل في يَرَوْنَهُمْ هم المؤمنون"، يَرَوْنَهُمْ المؤمنون يرونهم، "والمفعول به: هم المشركون"، والضمير في مِثْلَيْهِمْ للمؤمنين على هذا القول، يعني: "مثلي المؤمنين"، القول الآخر: مثلي المشركين.

وكما ذكرت أن ابن كثير يقول: يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثليهم في العدد رأي العين، يعني كل معنى بالعكس فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ: الكافرة لأن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وهو الكفار وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ يعني يرون المسلمين، يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ مثليهم في العدد، يعني: يحتمل أن يكون يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ، يعني: يرون المسلمين في عددهم مضاعفًا، ويحتمل أن يرجع إليهم، أن الكفار يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ يعني: مثلي عدد الكفار، فهذه الآية تحتمل هذا.

والضمير في مِثْلَيْهِمْ للمؤمنين، والمعنى على حسب ما تقدم، فإن قيل: إن الكفار كانوا يوم بدر أكثر من مثلي عدد المسلمين، فالجواب من وجهين: أحدهما: أن الكفار كانوا ثلاثة أمثال المسلمين؛ لأن الكفار كانوا قريبًا من ألفٍ والمؤمنون ثلاثمائةٍ وثلاثة عشر، ثم إن الله تعالى قلل عدد الكفار في أعين المؤمنين.

لاحظ هنا على حسب أي معنى يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ يعني مثلي عدد المؤمنين، فيكون العدد حوالي ستمائة وشيء، يعني حوالي ستمائة وثلاثين أو أقل، فبهذا الاعتبار يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ أن الله قلل العدد وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الأنفال:44].

ثم إن الله تعالى قلل عدد الكفار في أعين المؤمنين، حتى حسبوا أنهم مثلهم مرتين ليتجاسروا على قتالهم؛ إذ ظهر لهم أنهم على ما أُمروا به من قتال الواحد للاثنين.

كما قال الله : إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا ... [الأنفال:43]، فهنا من أجل أن يُقدم المسلمون عليهم وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ... [الأنفال:44] من أجل أن تجرؤ كل فئة على الأخرى، وتُقدم عليها، ولذلك جاء في بعض الروايات: أن الصحابة فتراهم يبلغون المائة -لاحظ- التقليل في أعينهم، فاجترءوا عليهم، فبعض أهل العلم يقول: فلما التحموا رأوا المسلمين على الضعف من عدد الكفار على هذا التفسير، كثَّرهم في أعينهم.

إذ ظهر لهم أنهم على ما أُمروا به من قتال الواحد للاثنين في قوله: فَإِنْ تَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال:66]، وهذا المعنى موافقٌ لقوله تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا [الأنفال:44].

على كل حال: لا يلزم أن من أجل المكافأة الواحد يقابل الاثنين؛ لأنه كان في البداية وهذا أول لقاء مع المشركين الواحد بعشرة، ثم خُفف عنهم بعد ذلك، فلا يُقيد بهذا.

والآخر: أنه رجع قومٌ من الكفار حتى بقي منهم ستمائةٍ وستةٌ وعشرون رجلًا.

هذا يريد أن يجيب عن مثل هذا الإيراد فيقول: إن بعض المشركين رجعوا من الغزوة، وهذا لا دليل عليه، يعني: الذي يقول: بأن العدد كان مثلي عدد المؤمنين من الناحية الواقعية، وهذا لا دليل عليه، كانت هناك محاولات بأنه لا حاجة للقتال، عتبة بن ربيعة حاول أن يثنيهم وأن يتحمل دية ابن الحضرمي، فأبو جهل حرَّض الناس على القتال، وأمر ابن الحضرمي أن يقوم ويصيح في الناس ويشق ثوبه ويُطالب بالثأر، فحمي الوطيس وحصل مجاوبة بين أبي جهل، واستفز عتبة بن ربيعة، وقال له كلامًا قبيحًا يصفه بالجبن، قال: سترى من ألحق بهذا الوصف ونحو ذلك، فنشب القتال فكان أول من خرج عتبة بن ربيعة، مع أخيه شيبة، وابن أخيه، وابنه الوليد بن عتبة، فكان هو أول من قُتل، كان يقول له: انتفخ سحرك، يقول: أن الإنسان إذا خاف انتفخت رئته -هكذا يقولون- وهو قولٌ في قوله تعالى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [الأحزاب:10]، في آية الأحزاب، بعضهم يقول هذا: تنتفخ الرئة فيرتفع القلب حتى يصل إلى الحنجرة، لكن ليس هذا هو المعنى -والله أعلم- وإنما ذلك كناية عن شدة الخوف يكاد القلب يخرج.

والآخر: أنه رجع قومٌ من الكفارِ حتى بقي منهم ستمائةٍ وستةٌ وعشرون رجلًا، وذلك قدر عدد المسلمين مرتين، وقيل: إن الفاعل في يَرَوْنَهُمْ: ضمير المشركين، والمفعول: ضمير المؤمنين، وأن الضمير في مِثْلَيْهِمْ: يحتمل أن يكون للمؤمنين أو للمشركين، والمعنى على هذا: أن الله كثَّر عدد المسلمين في أعين المشركين، حتى حسب الكفار المؤمنين مثلي الكافرين، أو مثلي المؤمنين، وهم أقلُّ من ذلك، وإنما كثًّرهم الله في أعينهم؛ ليرهبوهم ويرد هذا قوله تعالى: وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ.

القول: "الآخر: أنه رجع ..."، هذا الكلام غير صحيح.

"وقيل: إن الفاعل في يَرَوْنَهُمْ ضمير المشركين يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ، والمفعول: ضمير المؤمنين"، يعني: الكفار يرون المسلمين على الضعف يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ، وهذا الذي اختاره الطاهر بن عاشور[35]، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-[36].

يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ، قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ" يعني: هذا الفئة الأولى مؤمنة، ولم يقل مؤمنة؛ لأنه ذكر وصفهم فاكتفى بذلك، وَأُخْرَى كَافِرَةٌ، يعني: تقاتل في سبيل الطاغوت، فذكر وصفهم بالكفر هنا، ولم يذكر وصف المؤمنين، وإنما ذكر قتال المؤمنين بأنه في سبيل الله، والكفار لم يقل في سبيل الطاغوت؛ لأن هذا معلوم، وصفهم بالكفر فهم يقاتلون في سبيل الطاغوت، كما قال الله : الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ [النساء:76].

فهنا يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ: يرون المؤمنين على الضعف، هذا اختاره ابن عاشور والشنقيطي، وأن الضمير في مِثْلَيْهِمْ يحتمل أن يكون للمؤمنين أو للمشركين، يعني مثلي المؤمنين، أو مثلي المشركين، فيكون كثَّر الله المسلمين في أعين المشركين؛ ليرهبوهم.

يقول: ويرد هذا قوله تعالى: وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ، لكن هؤلاء كيف يجيبون عنه -أصحاب هذا القول- يقولون: في البداية قللهم فأغرى بعضهم ببعض، ثم كثَّر المسلمين في أعين المشركين؛ لتنكسر قلوبهم ويقع فيهم الوهن، والرهبة، والخوف.

ابن كثير -رحمه الله- جمع بين الآية مع قوله -تبارك وتعالى-: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا [الأنفال:44]، بأن ذلك كان في حال وهذا في حالٍ أخرى -كما ذكرت، فعندما عاين كلُّ فريقٍ الآخر- رأى المسلمون المشركين مثليهم[37].

وهذا عكس ما ذكره الشنقيطي، يقول: رأوهم كثير؛ ليتوكلوا ويطلبوا العون من الله، ورأى المشركون المؤمنين كذلك، رأوهم كثير ليخافوا ويحصل في قلوبهم الرعب، فلما حصل التصاف، قلل الله هؤلاء في أعين هؤلاء، والعكس، ليُقدم كلٌّ منهما على الآخر لما حصل التصاف، لكن كلام الشنقيطي -رحمه الله- عكس هذا، أن في البداية قللهم؛ ليغري بعضهم ببعض، فلما حصل الالتحام كثر الله المؤمنين في أعين المشركين؛ لتنكسر قلوبهم، لهذا قال الله : وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ [الأنفال: 43].

رَأْيَ الْعَيْنِ، نُصِبَ على المصدرية، ومعناه: معاينةٌ ظاهرةٌ لا شك فيها.

يعني: هكذا يرون، ليس من باب أنهم لم يعبئوا بهم مثلًا، أو الأمر فيه التباس، وإنما هكذا يرونهم والله على كل شيءٍ قدير، وهذا من كمال قدرته، فيُري العيون أشياء قد لا تكون مطابقة للواقع؛ ليتحقق مراده .

وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ، أي: أن النصر بمشيئة الله لا بالقلة ولا بالكثرة، فإن فئة المسلمين غلبت فئة الكافرين مع أنهم كانوا أكثر منهم.
  1. انظر قصته في تاريخ دمشق لابن عساكر (23/410).
  2. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {منه آيات محكمات} [آل عمران:7]، رقم: (4547)، ومسلم، كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن، والتحذير من متبعيه، والنهي عن الاختلاف في القرآن، رقم: (2665).
  3. الموافقات (1/89).
  4. تفسير ابن كثير (2/11).
  5. لم أقف عليه.
  6. تفسير الطبري (6/202).
  7. المصدر السابق.
  8. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/403).
  9. تفسير ابن كثير (2/10).
  10. تفسير الطبري (6/204).
  11. التفسير الوسيط للواحدي (1/414).
  12. ذم التأويل (ص:37).
  13. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/189).
  14. المكتفى في الوقف والابتدا لأبي عمرو الداني (ص:37).
  15. مجموع فتاوى ابن تيمية (1/29).
  16. تفسير ابن كثير (2/11).
  17. المفردات في غريب القرآن (ص:443).
  18. أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء، (2654).
  19. أخرجه الترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله ﷺ، رقم: (3522).
  20. مسند أحمد (23/349)، رقم: (15156).
  21. تفسير الطبري (6/221).
  22. سنن أبي داود، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب كيف كان إخراج اليهود من المدينة؟ رقم: (3001)، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود (2/430).
  23. تفسير السمرقندي = بحر العلوم (1/197).
  24. تفسير الطبري (6/227).
  25. تفسير ابن كثير (2/17).
  26. تفسير الطبري (6/234)
  27. زاد المسير في علم التفسير (1/263).
  28. تفسير الطبري (6/229).
  29. تفسير ابن كثير (2/17).
  30. التحرير والتنوير (3/175).
  31. تفسير الطبري (6/234).
  32. التفسير الوسيط للواحدي (1/417).
  33. تفسير السعدي (ص:123).
  34. تفسير ابن كثير (2/18).
  35. التحرير والتنوير (3/175).
  36. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/197).
  37. تفسير ابن كثير (2/18).

مواد ذات صلة