الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين.
اللهم اغفر لنا ولوالدين ولشيخنا والحاضرين، والمستمعين.
أما بعد:
فيقول الإمام ابن جزي الكلبي عند قوله تعالى:
فقوله -تبارك وتعالى-: زُيِّنَ لِلنَّاسِ قال: "المزينُ هو الله -تبارك وتعالى-" وهذا الذي عليه الجمهور، والله يقول: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف:7] وهذا كما قال المؤلف في تزيين الله وجاء في البخاري تعليقًا بصيغة الجزم، عن عمر أنه قال: "اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا" يعني في قوله: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ [آل عمران:14] إلى آخره، "اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه"[1]، يعني هذه الأموال التي زُينت للناس، ونحو ذلك، فتزيين الله -تبارك وتعالى- على سبيل الابتلاء والاختبار إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.
حاصل ما ذُكر في القنطار بأنه قدرٌ كثيرٌ من المال، ولا يثبت فيه شيء عن النبي ﷺ لكنه العدد الكثير من المال؛ ولذلك فإن من أهل العلم وأهل اللغة من قال: بأن العرب لا تحدُّ القنطار بقدرٍ معينٍ من المال، وإنما هو الشيء الكثير يُقال له: قنطار.
قناطير مقنطرة فهذا اللفظ يدل على الكثرة، كأنه يقول -والله أعلم-: قناطير مضاعفة؛ وذلك أن المال لا يكون في حالٍ من الجاذبية والاستهواء إلا إذا كان كثيرًا، وأما الشيء القليل إنه لا يكون بهذه المثابة أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1].
الصواب: "ألوفٌ مؤلفة"، فالعرب تقول: ألوفٌ مؤلفة.
القنطار: هو المال الكثير، مقنطرة: يعني أنها مضاعفة، فالمال الكثير المضاعف هو الْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ، وجاء هذا عن جماعة من السلف؛ كالربيع، والضحَّاك، وقتادة[2]، وهذا القول هو الذي اختاره كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير -رحمه الله-[3]، والحافظ ابن كثير[4]؛ ولهذا قال ابن جرير في الْمُقَنْطَرَةِ يعني المضعفة[5]، وبعضهم يقول: بأنه جمع الجمع، كما قال ابن جرير -رحمه الله-: القناطير ثلاثة، والمقنطرة تسعة يعني مضاعفة[6].
وبعضهم يقول: "المضروبة" كما ذكر المؤلف، يعني المضروبة دنانير، ونحو ذلك.
وبعضهم يقول: المكَملة؛ لأن العملات في السابق -كما هو معلوم- قد تكون ناقصة، فهذه المكَملة، وتكون أيضًا قد بلغت غايةً في الكثرة، أو مكمَلة في العدد، كما ذكر المؤلف: "ألوف مؤلفة" وحاصل ذلك جميعًا يعني فيما يذكره المفسرون بأن: المقصود بالقناطير: المال الكثير، والمقنطرة: يعني المضاعفة، كثير بعضه على بعض، مضاعف، ومتراكم، والله أعلم.
فهذه أقوال مختلفة -كما ترون- ويمكن أن تلتئم وتجتمع تحت معنى الآية -والله تعالى أعلم- الْمُسَوَّمَةِ هنا: "الراعية" وهذا معنًى صحيح ومتبادر في اللغة، وقال به جماعة من السلف كابن عباس -ا-[7]، وجاء عنه أيضًا بأنها المطهمة الحسان[8]، وجاء أيضًا عن آخرين من التابعين: كسعيد بن جبير، وابن أبزى، والسُدي، والربيع بن أنس، وأبي سنان، والحسن، ومجاهد، وعكرمة[9]، فكل هؤلاء قالوا: بأنها الراعية، من قولهم: "سام الفرس وغيره إذا جال في المسارح"، وذلك أكمل في حالاتها، بخلاف ما لم يكن كذلك، مما يكون محجورًا في الحضائر من الحيوان والخيل إذا كان في الإسطبل، ونحو ذلك لا يخرج منه.
وهنا يقول: "الْمُسَوَّمَةِ الراعية سام الفرس إذا جال في المسارح، وقيل: المُعْلمة أو المعلَّمة يعني التي عليها علامات في وجوهها شيات، هذا قال به ابن جرير -رحمه الله-[10].
مأخوذ "من السيماء بمعنى: العلامة"، وجاء عن مكحول بأن السيماء: الغرة والتحجيل[11] يعني هذه العلامة التي تكون في وجوهها، الغرة: بياض في جبين الفرس، والتحجيل: بياضٌ في أطرافها.
وابن جرير -رحمه الله- فسره بأنه المُعْلمة أو المعلَّمة بالشيات، أي: الرائعة حسنًا، يعني تروع من رآها في ألوانها وهيئاتها، يعني الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ ذات الجمال والمنظر الذي يستهوي الناظرين، هذا معنى قول من قال: بأنها المطهمة يعني: الحسنة.
وابن فارس -رحمه الله- في "المقاييس" يقول: هي المرسلة، وعليها ركبانها[12]، أو المعلَّمة التي عليها علامات في الحرب، لكن هذه الأقوال -كما سبق- يمكن أن تجتمع تحت الآية، فيكون الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ الراعية، المرسلة في المرعى، وهي ذات جمال وحسن، ولا يمنع أن يكون مع ذلك عليها شيات وعلامات، أو نحو ذلك، فكل هذه المعاني واردة وصحيحة من جهة اللغة، وأهلُ الخيل يُعنون بذلك ويعرفونه في ذلك الزمان؛ ولهذا فإن بعض أهل العلم كالقرطبي -رحمه الله- جمع هذه المعاني[13]، ولا دليل على تخصيص واحدٍ منها، فقد يكون الْمُسَوَّمَةِ من السوم بمعنى الرعي، والإرسال في المرعى، وقد يكون من العلامة، سواءً كانت هذه العلامة بخلقة الله وذلك بالغرة والتحجيل، والجمال الذي أودعه الله فيها، أو كان ذلك بما يفعله الإنسان مما يضيفه إليها.
يقول: "وقيل: المعدة للجهاد" وتخصيص هذا المعنى لا دليل عليه؛ ولهذا استبعده ابن جرير -رحمه الله-[14]، والحديث هنا عما زُين للناس، وذكر أن ذلك جميعًا يرجع إلى حب الشهوات، يعني مما جُبلت نفوسهم عليه، فهو يستهويهم، ويميلون إليه، وهذا لا يكون في الجهاد؛ لأن الجهاد شاق على النفوس، وإنما الحديث هنا عن عرض الدنيا الزائل؛ ولهذا قال بعده: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:15]، فلو كان ذلك في الجهاد في سبيل الله، لكان من الأعمال والأمور المطلوبة والمحمودة شرعًا -والله أعلم-.
وهذا يدل على ما سبق من استبعاد القول بأنها المعدة للجهاد ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، والمتاع يدل على حقارة الشيء، وأنه قليل، وأنه زائل، فهذه المعاني كلها داخلة في مدلول هذه اللفظة مَتَاعُ، ولذلك كثيرًا في القرآن ما يصف ما في هذه الدنيا بأنه متاع؛ الشيء الذي يُتمتع به، ثم يرحل، ويتلاشى.
قوله هنا: "وتم الكلام في قوله: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ" يكون هذا موضع وقف تام، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله-[15].
"ثم ابتدأ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ"، ثم بيّن ما هو خير مما زُين للناس من الشهوات، فقال: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ، فيكون هذا من قبيل التفسير لما قبله.
يقول: "فـجَنَّاتٌ على هذا مبتدأ، وخبره لِلَّذِينَ اتَّقَوْا"، يعني شبه الجملة، الجار والمجرور خبر مقدم، يعني جَنَّاتٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ وعلى هذا لا يحتاج إلى إضمار، وهذا أجرى على القاعدة، وهو أن الكلام إذا احتمل الاستقلال والإضمار، فالأصل عدم الإضمار، الأصل أن الكلام على وجهه من غير حاجة إلى تقدير، فهذا هو الأصل، إلا إذا اقتضاه المعنى أو الإعراب، وإلا فالأصل أنه مستقلٌ من غير إضمار.
يقول: "وقيل إن قوله: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا متعلقٌ بما قبله، وتمام الكلام في قوله: عِنْدَ رَبِّهِمْ" يعني قال: أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ، ثم قال: جَنَّاتٌ وهذا يحتاج إلى إضمار، وتقديره: هو جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فيكون المبتدأ مضمر، فهذان احتمالان:
- الأول: لا يحتاج إلى إضمار،.
- والثاني: يحتاج إلى إضمار.
فأيهما المقدم؟ الأول، الذي لا يحتاج إلى إضمار بناءً على القاعدة التي أشرتُ إليها، وكما سبق أن الأول اختيار ابن جرير -رحمه الله-.
يقول: "فـجَنَّاتٌ على هذا خبر مبتدأٍ مضمر" يعني التقدير: هو جنات؛ أو ذلك جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ.
يعني حديث أبي سعيد الخدري : إن الله -تبارك وتعالى- يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة؟ فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبداً[16]، وهذا مُخرَّج في الصحيحين، فرضا الله -تبارك وتعالى- هذا أعظم النعيم، وهو خيرٌ من هذه المذكورات، خيرٌ من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72].
"نعتٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، أو رفعٌ بالابتداء، أو نصبٌ بإضمار فعل، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ إلى أن قال في صفة هؤلاء: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16] إلى آخر ما ذكر من الأوصاف، فيكون الَّذِينَ يَقُولُونَ نعت لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، من هم الذين اتقوا؟ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ فهو نعتٌ له.
يقول: "أو رفعٌ بالابتداء" يعني أن هذه جملة جديدة، مستأنفة الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا، أو نصب بإضمار فعل، كأنه يقول مثلًا: أعني الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وهذا مستبعد كما سبق؛ لأنه يحتاج إلى إضمار، والأصل عدم الإضمار، وأقرب ذلك -والله تعالى أعلم- أنه يكون نعتًا قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ من الذين اتقوا؟ الَّذِينَ يَقُولُونَ والله أعلم.
لأن الصدق هنا مطلق، فيشمل الصدق في الأقوال، ويشمل أيضًا الصدق في العمل، والصدق في الأحوال، هذا كله من الصدق، والصدق أوسع من هذا أيضًا كما هو معلوم، فالكذب في الحديث خلاف الصدق في الأقوال، لكن المنافق حينما يصلي ويظهر الإسلام ونحو ذلك هذا كذبٌ في الفعال، حينما يظهر الإنسان الخشوع، أو نحو ذلك، وليس بخاشع، هذا كذبٌ، فيظهر الصلاح والاستقامة، وليس كذلك، هذا كذبٌ في الحال، يُظهر حالًا غير ما هو عليه.
لا يحتاج (أو) "العابدين والمطيعين.
وفسر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- القنوت بأنه: الطاعة والخضوع[17]، ويُقال ذلك: في معنى الخاضعين؛ المداومين على الطاعة، وقد ذكرتُ في مناسباتٍ سابقة بأن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- له رسالة في قنوت الأشياء لله واستخلص من استعمالات القرآن للقنوت في المواضع المختلفة بأنه يدور على معنًى: وهو دوام الطاعة، ولزوم الطاعة، والاستمرار فيها، وأصلُ هذه المادة (قنت) يدل على طاعةٍ وخيرٍ في دين.
هذا الحديث يحتاج إلى مراجعة.
هذا أحد الأقوال في تفسير السحر، ويُقال السحر: لآخر الليل، ومقدمة الصبح، وكأن الأقرب -والله أعلم- أن السحر جزءٌ من ثلث الليل الأخير، وليس كل ثلث الليل الأخير يُقال له السحر، وقد كان ابن عمر -ا- يصلي الليل، ثم يقول لمولاه نافع: أأسحرنا؟ يعني دخلنا في السحر، فإذا قال له ذلك جلس يستغفر[20]، كما قال الله: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ فيكون ذلك في آخر صلاتهم في آخر الليل.
والتنزل الإلهي -كما هو معلوم- يكون في ثلث الليل الآخر، وفي جزئه الأخير يكون السحر؛ ولهذا قيل: أكلة السحر، فهي في ذلك الجزء الأخير، فهو آخر ثلث الليل، فآخره يُقال له: السحر، وليس ثُلث الليل الآخر بأجمعه -والله أعلم-.
ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: أن عبارات السلف تدور في شَهِدَ على الحكم، والقضاء، والإعلام، والبيان، والإخبار[21].
والكلام الذي تجدونه في شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز، هو في الواقع منقول إما من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، أو من كلام الحافظ ابن القيم، لكنه لا يصرح بذلك لسبب -والله تعالى أعلم-.
فهذه الألفاظ التي يذكرها السلف يفسرون به الشهادة، وذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- أن هذه حق، وأنه لا منافاة بينها، وأنها ملتئمة، ووجه ذلك بأن الشهادة تتضمن كلام الشاهد، وخبره، وقوله، وتتضمن إعلانه، وإخباره، وبيانه، فهو حينما يشهد فمعنى ذلك أنه يخبر ويتكلم، أليس كذلك؟ ويُعلم غيره بهذه الشهادة، أما لو أبقاها مع نفسه لم يكن شاهدًا، والبيان أيضًا، فذكر أن لها أربع مراتب:
المرتبة الأولى: العلم، والمعرفة، والاعتقاد لصحة المشهود به وثبوته.
الثاني: أن يتكلم بذلك وينطق به، وإن لم يُعْلم به غيره.
ثالثها: أن يُعْلم غيره بما شهد به، ويخبره به، ويبينه له.
الرابع: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به، يقول: فشهادة الله لنفسه بالوحدانية، والقيام بالقسط، تتضمن هذه المراتب الأربعة شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ[22].
وهذا من أجمع ما قيل فيها، ويلتئم بذلك ما ذكره السلف من العبارات في تفسير هذه الشهادة في قوله: شَهِدَ.
يكفي أن يُقال: بأن أولي العلم؛ هم العالمون بالله -تبارك وتعالى- وشرعه، ووحيه، ولا حاجة لبعض العبارات والزيادات على هذا، كقوله: "العارفين بالله" فهذه عبارة صحيحة، لكن يستعملها الصوفية لمعنًى عندهم غير صحيح، فهم لا يقولون لكل عالمٍ بأنه من العارفين بالله، وقد يقولونها لمن ليس بعالم، فنحن لا نستعمل العبارات الموهمة، ليس لأن الصوفية استعملوها، فإذا قالوا حقًّا فإننا نقر به، ولا نرد الحق؛ لأنه تكلم به من يكون منحرفًا، ولكنهم حينما يطلقون مثل هذه العبارة قد يقصدون بها موصوفين قد لا يكونون من أهل العلم.
يقول: "الذين يقيمون البراهين على وحدانيته" ومثل هذا أيضًا لا حاجة إليه، فأولو العلم هم العلماء، وأجلُّ العلم: العلم بالله وأسمائه وصفاته، كما وصف نفسه، ووصفه به رسوله ﷺ في كتابه وسنة نبيه ﷺ من غير تحريف، ولا تمثيل، ولا تكييف، ولا تعطيل، وهم العالمون بشرعه، ووحيه، الكتاب، والسنة، ومعاني ذلك، فهذا هو العلم الصحيح، وليس التخليط، وما يصدرُ عن أهله من عبارات تحتاج إلى توجيه ومحامل قد يعسرُ توجيهها، والله المستعان.
"قَائِمًا منصوبٌ على الحال من اسم الله" شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ فيكون شَهِدَ اللَّهُ فاللهُ: فاعل، فيكون على هذا منصوبٌ على الحال، فهو حالٌ من الفاعل، والعامل فيه: معنى الفعل، والمعنى: شهد الله حال قيامه بالقسط قولًا وفعلًا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فالعامل في الحال على هذا شَهِدَ حالٌ من الفاعل، والعامل فيه: شَهِدَ، شَهِدَ اللَّهُ... قَائِمًا بِالْقِسْطِ أو حال قيامه بالقسط.
يقول: "أو من هو" فيكون العامل في الحال معنى الجملة، أي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ... قَائِمًا بِالْقِسْطِ كما يُقال: "لا إله إلا هو وحده" أو لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ حال كونه قَائِمًا بِالْقِسْطِ وكلا المعنيين صحيح، ويكون المعنى على أحدها من الضمير، يعني: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ... قَائِمًا بِالْقِسْطِ أي: هو وحده الإله قائمًا بالقسط، كما يُقال: أشهد ألا إله إلا الله، إلهًا واحدًا أحدًا صمدًا، فهذا وجه، وهذا يتضمن أن الملائكة وأولي العلم يشهدون له، مع أنه لا إله إلا هو، وأنه قائمٌ بالقسط، وهذا المعنى رجحه بعض المحققين، كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وشهادة أهل العلم تتضمن: العلم، والعمل، والإقرار، والدعوة، والتعليم.
يعني يلي العدل بين خلقه، ويراعيه، ويحفظه قَائِمًا بِالْقِسْطِ يُقال: قام بهذا الأمر يعني: أجراه على الاستقامة في جميع الأمور.
"لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إنما كرر التهليل لوجهين:
أحدهما: أنه ذكر أولًا الشهادة بالوحدانية، ثم ذكرها ثانيًا بعد ثبوتها بالشهادة المتقدمة.
والآخر: أن ذلك تعليمٌ لعباده ليكثروا من قولها".
يعني هنا توجيه لتكرار لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ومعلومٌ أنه لا يوجد في القرآن تكرارٌ محض، يعني حتى في قوله -تبارك وتعالى-: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13] فإن ذلك يرجع إلى ما قبله في كل موضع، يعني المذكور قبله مباشرة، وهكذا قوله -تبارك وتعالى-: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:1-2] يعني في الحال، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:3] في الحال لستم مقيمين على عبادة الله وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ [الكافرون:4] في المستقبل؛ لن أتحول إلى دينكم، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:5] يعني في المستقبل، وبعض أهل العلم عكس المعنى.
المقصود أنهم يتفقون أن ذلك ليس من قبيل التكرار، وهنا يوجه سبب تكرر الشهادة:
التوجيه الأول: أنه ذكر أولًا الشهادة بالوحدانية شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، ثم ذكرها ثانيًا بعد ثبوتها بالشهادة المتقدمة، يعني أنه أولًا ذكرها على سبيل الشهادة، فلما ثبتت ذكرها على أنها أمرٌ متقرر.
والآخر: أن هذا تعليمٌ لعباده؛ ليكثروا من قولها، يعني باعتبار أن الأولى: وصف وتوحيد شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، والثانية: تعليم، يعني قولوا، والأحسن أن يقال: إن الأول: يخبر عن شهادته، وفي الثاني: يخبر عن نفس التوحيد، فصار الفرق بين الموضعين: أن الموضع الأول: إخبارٌ عن الشهادة، والثاني: إخبارٌ عن التوحيد نفسه، والله أعلم.
الدِّينَ ما يدين به المرء، ويُقال: للطاعة، وأصله: الانقياد والذل، هذا أصل الدين، تقول: دنته فدان، ويقول هنا: إِنَّ الدِّينَ بكسر الهمزة يعني همزة إنَّ، ابتداء، وهذه قراءة الجمهور، وهما قراءتان متواتران إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ فهذه جملة جديدة، مبتدأة، مستأنفة، وعلى قراءة الفتح: (أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) قراءة الكسائي[23]، والمعنى يتغير، فعلى قراءة الفتح (أَنَّ الدِّينَ) يكون بدلًا من أنه شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فإذا كان من أَنَّهُ فيكون بدل شيء من شيء؛ لأن التوحيد هو الإسلام، كما يقول المؤلف -رحمه الله-.
"بدل من أَنَّهُ"، شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وهذه حقيقة دين الإسلام (أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) فيكون (أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) بدل من أَنَّهُ، يعني كأنه قال: (شَهِدَ اللَّهُ... أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ)؛ لأن البدل يقوم مقام المبدل منه، فإذا رفعت الأول حلَّ الثاني مكانه تمامًا شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ (أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ)، فهذا بمعنى أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فالإسلام هو إسلام الوجه لله قبل كل شيء، توحيد، فعلى الكسر إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ يكون كلامًا مستأنفًا، لكنه مُقرر لمضمون ما قبله، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- ذكر أن هذا أبلغ في المدح، يعني على قراءة الكسر[24]، كما في قوله -تعالى-: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:28].
وحينما يُقال هذا أبلغ فالتفضيل بين القراءات والترجيح بينها لا إشكال فيه، وهو دأب العلماء، ولكن هذا يكونُ بقيد، إن الأصل والقاعدة: أنه لا يصح الترجيح بين القراءات إذا كان يُفضي إلى توهين القراءة الأخرى، أو الوضع منها، يعني هذا كلام الله فحينما نقول بأن: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] أبلغ من مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ هذا لا إشكال فيه، وكلام الله يتفاضل فـقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] ليست كـتَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]، وكله كلام الله لكن قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثُلث القرآن، فهذا لا إشكال فيه، تفضيل وترجيح، لكن بحيث لا يكون ذلك بانتقاص، أو رد، أو الحط من القراءة الأخرى الثابتة، فهذا هو الضابط، فأحيانًا بعض الموجهين للقراءات، أو المفسرين، أو المعربين قد يوهن القراءة الأخرى حال الترجيح، فيُفضي ذلك إلى الحط من كلام الله وتوهينه.
فقراءة الفتح (أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) تحتمل ثلاثة أوجه: تحتمل أنه شهد الله بتوحيده أن الدين عند الله الإسلام شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يعني بتوحيده شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إلى أن قال: (أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ)، شهد الله بتوحيده أن الدين عند الله الإسلام.
ويحتمل أن تكون الشهادة واقعة على الأمرين يعني شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ و(أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) فعلى هذا لا تكون بدلًا، شهد على هذا وهذا (أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) وأَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لكن القول بأنها بدل هو مذهب فقهاء النحاة -أعني أهل البصرة- يقولون: (أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) أنه بدل من الأولى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فالدين هو نفس الإسلام عند الله هو شهادة أن لا إله إلا الله، والقيام بحقها، فيكون بدلًا، فهذا أقرب -والله أعلم- ولهذا لم يُذكر معه حرف العطف، لو كانت الشهادة على هذا وهذا شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ (أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) ما قال: وأن الدين عند الله الإسلام، فتكون الشهادة واحدة، فيكون الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ هو حقيقةُ التوحيد؛ ولذلك كل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كانوا على الإسلام، وفي قوله -تبارك وتعالى-: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا [الحج:78] قيل: إبراهيم مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ... فالضمير راجع لأقرب مذكور هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ، وقيل: هو الله وهذا يرد فيه على النصارى في هذا الموضع من سورة آل عمران، الذين تنازعوا في إبراهيم قال: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [آل عمران:67]، فهذا ردٌّ عليهم، مُسْلِمًا، فالدين عند الله الإسلام، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132]، فهذا دين يعقوب وبنيه، وسائر الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وإن كان بنوه ليسوا بأنبياء على الراجح، إلا يوسف فهو الذي ثبتت نبوته -كما هو معلوم-.
وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ يعني إن هذا الاختلاف كان بسبب الحسد بغيًا، والعدوان، والظلم، وهذا وقع لليهود وللنصارى، فأهل الكتاب يشمل هؤلاء وهؤلاء، لكن السياق أحيانًا يدل على أن المراد: اليهود خاصة، كما سيأتي في بعض المواضع من هذه السورة وغيرها، وتارةً يُراد به الجميع، وهو الأصل في الإطلاق وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فهذا الاختلاف وقع عند اليهود، ووقع عند النصارى، وكان ذلك بسبب البغي بينهم، يعني أنَّ هذا أشد وأقبح باعتبار أن هذا الاختلاف الذي وقع بينهم كان بعد مجيء العلم، وكان الموجب لذلك هو البغي والحسد، والعدوان، والظلم، فلم يكن ذلك بسبب خفاء الحق، وإنما كان بسبب أهواء هؤلاء، وما انطوت عليه نفوسهم، وهذا كثير، وهو مما شابهت فيه هذه الأمة أهل الكتاب، كما ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- في كتابه "الاقتضاء"[25]، ووقع الاختلاف الكثير بين طوائف هذه الأمة بعد ما جاء الحق، واتضح واستبان، فمات النبي ﷺ ولم يدع شيئًا مما يحتاج إليه الناس إلا بيَّنه.
هذا الاختلاف اختلفوا في ماذا؟ لا يُخص ذلك بأنهم اختلفوا مثلًا في أمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لا، وإنما الكلام في الإسلام إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ، فهؤلاء اختلفوا فقال اليهود: بأن إبراهيم كان يهوديًّا، والنصارى قالوا: كان نصرانيًّا، واختلفوا في دينهم أيضًا وصاروا على طوائف متناحرة، واختلفوا في أصل التوحيد وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30]، وقالوا: ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73]، وقالوا: هو الله، فهذا من أسوأ الاختلاف، وأشد الاختلاف الواقع بينهم، وإلا فاختلفوا في تفاصيل الدين والشريعة، حتى إنهم تركوا -أعني: النصارى- العمل بالتوراة بالكلية؛ لشدة العداوة بينهم وبين اليهود، وكما ذكرنا سابقًا وذكر الحافظ ابن كثير في الكلام على التعليق على المصباح، بأنهم بقوا بلا شريعة؛ لأن الشريعة كانت في التوراة، وهم مُتعبدون بها، فتركوها، فبقوا بلا قانون، فاخترعوا قانونًا سموه: الأمانة الكبيرة، يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: وهو الخيانة الحقيرة، أو العظيمة[26].
مضى في البقرة وتجدونه في صفحة (277) في الطبعة الثانية، التي بين أيديكم، وعلى كل حال قلنا: بأن سَرِيعُ الْحِسَابِ يعني يُحصي أعمال العباد بسرعة، دون الحاجة إلى عقدٍ، كما يقول ابن جرير -رحمه الله-[27]، يعني الإنسان الذي يحسب قبل الآلات الحاسبة، كان يعقد بأصابعه ويعد، لكن الله -تبارك وتعالى- سَرِيعُ الْحِسَابِ ليس بحاجةٍ إلى عقدٍ، وآلةٍ، ونحو ذلك، وهو أيضًا سريع المحاسبة للخلق يوم القيامة، يحاسب جميع الخلائق على كثرة هؤلاء المحاسبين، وكثرة الأعمال، كنفسٍ واحدة، وهو أيضًا سريع المجازاة للعباد، وكذلك أيضًا فإن حسابه قريب لسرعة انقضاء هذه الحياة الدنيا، فهذه عبارات للمفسرين يمكن أن تجتمع في قوله: واللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ فكلها داخلةٌ فيه -والله تعالى أعلم- يعني هذه التي ذكرتها هي أقوال في الأصل، لكن كلها صحيح، داخل في سرعة الحساب، واللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ مطلقًا.
"فَإِنْ حَاجُّوكَ أي: جادلوك في الدين والضمير لليهود ونصارى نجران"، عمومًا لأهل الكتاب، لكن هو ذكر نصارى نجران؛ باعتبار أن صدر هذه السورة إلى بضع وثمانين آية نزلت في نصارى نجران، وكما ذكرت لكم بأن ذلك من جهة الرواية لا يثبت فيه شيء -والله أعلم- نعم وفد نصارى نجران ثابت بلا إشكال أنهم قدموا على النبي ﷺ وذلك في الصحيحين[28]، لكن الكلام في نزول السورة بهم، في قدوم الوفد.
فمعنى فَإِنْ حَاجُّوكَ أي: جادلوك في الدين، بعد هذا البيان والإيضاح، سواء كان نصارى نجران، أو غير نصارى نجران، وكذلك اليهود، وقد جاء في بعض الروايات -لكنها لا تصح: أن أحبار اليهود اجتمعوا مع نصارى نجران لما جاءوا عند النبي ﷺ وتجادلوا- وادَّعى اليهود أن إبراهيم كان منهم، وادَّعى النصارى أن إبراهيم كان منهم، كما سيأتي في رد الله عليهم، لكن هذه الرواية لا تصح من جهة الإسناد[29].
الوجه أشرف الأعضاء -كما هو معلوم- وهو مجمع الحواس، وبه يكون الانقياد، وعدم الانقياد؛ لهذا كان أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ لأنه يضع أشرف الأعضاء على موطئ الأقدام، هذا من ناحية الوجه، أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ يعني الوجه الحقيقي، وكذلك أيضًا فيه معنى التوجه والقصد، أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ أي الوجهة، فالوجه يحتمل الوجه الذي هو الوجه المعروف الصفة، وذلك أن الإنسان إذا قصد شيئًا وجه وجهه إليه، وعُبِّرَ بالوجه؛ لأنه الأشرف.
ويحتمل أن يكون المراد: هو الوجهة، وبينهما ملازمة؛ لأنه إنما يتوجه بوجهه أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ فالوجه المعروف، والوجهة والقصد، هذا في صفة المخلوق وبطبيعة الحال كما ترون أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فالمقصود به:
فلواحدٍ كن واحدًا في واحدِ | أعني سبيل الحق والإيمانِ[30] |
فهذا توحيد الوجهة، والموضع يحتمل، وقد مضى الكلام على قوله: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115] في صفة الله هل هذا من الصفات؟ وتكلمتُ على هذا، وجمعتُ بين المعنيين اللذين يذكرهما المفسرون من أهل السنة المحضة -أهل السنة والجماعة- ونحن لا نذكر أقوال أهل البدع، لكن الآية تحتمل فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ وذكرت كلام شيخ الإسلام أنه يقول: بأنها ليست من آيات الصفات أصلًا، وإنما المقصود الجهة[31]، وقول من قال: إنها من آيات الصفات، وذكرت وجه الجمع بينهما هناك.
يعني هنا يريد أن يقول على هذا التفسير: "أخلصت نفسي وجملتي" أنه عبّر بالوجه عن النفس والذات، على كل حال هذه ليست من آيات الصفات، وإنما وجه المخلوق.
لِلَّهِ يعني فلا نوجه وجوهنا إلى غيره، فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فهنا الوجه الذي هو الصفة بالنسبة للمخلوق هنا في ذكر الوجه بالذات هو معتبر، فلا نوجه وجوهنا إلى غيره، وفيه معنى الوجهة، فيمكن أن نعبر عن المعنى بمثل هذه العبارات التي تجمع المعنيين، والله أعلم.
طبعًا هذه الآيات فيها من الفوائد والمعاني الشيء الكثير، لكن هنا نتكلم عما يذكره المؤلف مما يبين المراد، أو الترجيح لأحد الأقوال، أو نحو ذلك، أو مناقشة لقول، وإلا فالفوائد ليس هذا موضعها، فنحن بعد صلاة العشاء كل يوم -كما تعلمون- نذكر الهدايات والفوائد من الآيات، دون اشتغالٍ هناك بالتفسير، أو الإعراب، إلا المعنى العام الإجمالي، لكن هنا نُضطر إلى بعض الأشياء مما يذكره المؤلف من الإعرابات، وهو لا يعرب كل شيء كما هو معلوم، لكن فيما يرى أن المعنى يتوقف عليه، أو توجيه القراءات، ونحو هذا.
يعني: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ، يعني كذلك أسلموا وجوههم لله.
هذا الصيغة أَأَسْلَمْتُمْ؟ صيغة استفهام، وذكر ابن جرير -رحمه الله-: أنه يجوز أن يكون بمعنى الأمر[32]، أي: أسلموا.
وبعضهم يقول: يحتمل أنه ينادي عليهم بالبلاهة، أي أَأَسْلَمْتُمْ بعد هذا البيان والإيضاح؟ أم أنكم لم تفقهوا ولم تسلموا بعد هذا الإيضاح والبيان؟ يقول: ذلك تبكيتًا لهم، والزجَّاج يقول: هذا تهديد لهم، والمعنى أأسلمتم أم لا؟[33] وهذا المعنى الأخير -الذي ذكره الزجاج- استحسنه ابن عطية -رحمه الله-[34]، يقول: "تقريرٌ بعد إقامة الحجة عليهم، أي: قد جاءكم من البراهين ما يقتضي أن تسلموا"، وهذا المعنى الذي ذكره المؤلف، حسن جيد، كأنه أوضح ممن قال: ينادي عليهم بالبلاهة، ونحو ذلك.
هذا كما ذكرنا من أن القول بأن آية السيف نسخت مائة وأربع وعشرين آية، أن هذا ضعيف، يقولون: كل آية فيها تُشعر بالموادعة، والمتاركة، والصفح، والعفو، والإعراض فإنها منسوخة بآية السيف، حتى قال بعضهم بأن قوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين:8] نسختها آية السيف، يكون المعنى: أن ذلك إلى الله وليس إليك، إن الله هو الذي يحكم فيهم ويحاسبهم ويجازيهم، فليس ذلك إليك، يقولون: في أواخر شرع الجهاد ونزول آية السيف، وهي الآية الخامسة من سورة براءة فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ... [التوبة:5] الآية، يقولون: هذه نسخت مائة وأربع وعشرون آية -وهذا فيه نظر- والأقرب أنها لم تنسخ هذه الآيات، وأن آيات الإعراض، والصفح، والاحتمال، ونحو ذلك أنها لم تُنسخ، وأن هذه بحسب حال الأمة، فإذا كانت الأمة في حالٍ من الضعف، فإنها تكونُ مأمورة بالصبر والإعراض عن الإساءة والاحتمال، ونحو ذلك، وإذا كانت الأمة في حالٍ من القوة والتمكن، ففي هذه الحال تأخذ بالعزائم.
- أخرجه صحيح البخاري في كتاب الرقاق، باب قول النبي ﷺ: ((هذا المال خضرة حلوة)) (8/93).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (6/246) و(6/249) والتفسير الوسيط للواحدي (1/418).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (6/249).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (2/19).
- تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/260).
- تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/260).
- تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/262).
- تفسير ابن أبي حاتم - محققا (2/610).
- تفسير ابن أبي حاتم - محققا (2/610) وتفسير الثعلبي = الكشف والبيان عن تفسير القرآن (3/25) وتفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/409).
- تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/265).
- تفسير ابن أبي حاتم - محققا (2/611).
- مقاييس اللغة (3/118).
- تفسير القرطبي (4/34).
- تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/266).
- تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/270).
- أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار برقم: (6549) ومسلم في الجنة وصفة نعيمها باب إحلال الرضوان على أهل الجنة برقم: (2829).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (2/23).
- أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (ص:333-463) وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص:328-371) وقال سليم بن عيد الهلالي في [عجالة الراغب المتمني في تخريج كتاب «عمل اليوم والليلة» لابن السني (1/425-426)]: إسناده ضعيف، (وهو صحيح لغيره)؛ أخرجه ابن المقرئ في "معجمه" (164/499): ثنا أبو عروبة به.
وأخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (467)، وعبد بن حميد في "مسنده" (3/32/1061 -منتخب)، والطبراني في "الدعاء" (2/936/311)، وابن المقرئ في "معجمه" (164/499) بطرق عن محمَّد بن منيب العدني به.
وأخرجه النسائي (468) من طريق الأزرق عن السري بن يحيى به.
قلت: رجاله ثقات؛ لكن أبا الزبير صدوق مدلس وقد عنعنه؛ فالسند ضعيف.
لكن الحديث صحيح بشواهده؛ فقد أخرج البخاري في "صحيحه" (6306 و6323) من حديث شداد بن أوس -– به، وله شاهد من حديث بريدة بن الحصيب -؛ أخرجه أبو داود (5070)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (20 و466 و579)، وابن ماجه (3872)، وأحمد (5/356)، والطبراني في "الدعاء" (2/935/309)، وابن حبان في "صحيحه" (2353 -موارد)، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" (196/465 -المنتقى)، والحاكم (1/514)، والبيهقي في "الدعوات الكبير" (1/22 /31)، والبغوي في "شرح السنة" (5/95 -96/1309) وغيرهم.
قلت: إسناده صحيح رجاله ثقات. - أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل برقم: (1145) ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل برقم: (758).
- مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر (ص:96).
- التفسير القيم = تفسير القرآن الكريم لابن القيم (ص:177).
- التفسير القيم = تفسير القرآن الكريم لابن القيم (ص:177).
- معاني القراءات للأزهري (1/245) والعنوان في القراءات السبع (ص:78).
- التفسير القيم = تفسير القرآن الكريم لابن القيم (ص:203).
- اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/101).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (2/48)، (2/48)، (5/231)، (6/301).
- تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/549).
- أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب قصة أهل نجران برقم: (4380) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أبي عبيدة بن الجراح برقم: (2420).
- تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/481).
- البيت لابن القيم انظر: توضيح المقاصد شرح الكافية الشافية نونية ابن القيم (2/258).
- بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (6/73).
- تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/287).
- معاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/390).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/414).