قول الله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [آل عمران:64]: خطاب لنصارى نجران، وقيل: لليهود.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فيقول في قوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ [آل عمران:64]: هذا خطاب لنصارى نجران، وقيل: لليهود، لو قيل: بأنه خطاب لليهود والنصارى لكان أقرب -والله تعالى أعلم-؛ لأن هذه المذكورات وقعت من اليهود والنصارى، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أنه خطاب اليهود والنصارى، لكن الذين قالوا: بأنه خطاب للنصارى، قالوا: باعتبار أن السياق في نصارى نجران، الآيات نزلت فيهم، لكن الواقع أن بعض هذه الآيات -كما سيأتي- منها ما يتعلق باليهود خاصة، ومنها ما يكون لليهود والنصارى، يعني في قوله مثلًا: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يهوديًّا وَلا نصرانيًّا [آل عمران:67]، هذا رد على اليهود، حيث ادعوا أنه كان من اليهود، والنصارى حيث ادعوا أنه كان من النصارى.
وهكذا في هذه الآية التي بعدها لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:65]، كلهم كان يدعي أن إبراهيم كان منهم، وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:65].
عدل ونصف: سواء كل شيء هو وسطه، وأصله الاستقامة والاعتدال، وفي قراءة ابن مسعود: إلى كلمة عدل بيننا وبينكم، فالقراءة أحادية تفسر القراءة المتواترة، إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ أي: إلى كلمة عدل، بيننا وبينكم.
يعني أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ، تعالوا إلى كلمة، ما هذه الكلمة؟ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ يكون بدل من الكلمة، كالتفسير لها.
أو الرفع على تقدير (هي): تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، هي: ألا نعبد إلا الله، فيكون هذا على تقدير، لكن الأصل عدم التقدير، القول (بأنه بدل من الكلمة): كأنه أقرب -والله أعلم-؛ لأنه لا يحتاج إلى تقدير.
وإذا دار الكلام: هذه القاعدة قاعدة ترجيحية، بين الاستقلال والإضمار، فالاستقلال قول، يعني يقول كلام لا يحتاج إلى إضمار، إلى تقدير، وإن شئت أن تقول: إذا دار الكلام بين التقدير والاستقلال، فالأصل الاستقلال.
لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:65] قالت اليهود: كان إبراهيم يهوديًّا، وقالت النصارى: كان نصرانيًّا، فنزلت الآية ردًا عليهم؛ لأن ملة اليهود والنصارى إنما وقعت -وفي النسخة الخطية: إنما وجدت- بعد موت إبراهيم بمدة طويلة.
لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ أنها نزلت بسبب قول اليهود: كان يهوديًّا، والنصارى قالوا: كان نصرانيًّا[1].
هذا أخرجه ابن جرير، لكنه لا يصح، لا يثبت أنه سبب النزول، جاء أيضًا من رواية ابن إسحاق عن ابن عباس -ا- قال: "اجتمعت نصارى نجران وأحبار اليهود عند رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فتنازعوا عنده، فقال الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديًّا، قال النصارى: ما كان إلا نصرانيًّا، فأنزل هذه الآية: لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ"[2]، فهذا لا يصح أنه سبب نزول.
المؤلف علق هنا، قال: أخرجه الطبري والبيهقي في دلائل النبوة، والإسناد ضعيف.
الحاشية التي قبله في الكلام على المباهلة، وأن النبي ﷺ دعا عليًّا وفاطمة والحسن والحسين، يقول: صحيح أخرجه البخاري ومسلم، الواقع أن السياق المذكور ذكره ابن جزي: أخرجه ابن جرير، وليس في الصحيحين، وليس في رواية الصحيح: أن النبي ﷺ دعا عليًّا وفاطمة والحسن والحسين، يعني هذا التخريج وهذا التعليق: غير دقيق، السياق الذي ذكره ابن جزي ليس الذي في الصحيحين.
"هَاأَنْتُمْ [آل عمران:66]، (ها) تنبيه، وقيل: بدل من همزة الاستفهام، و(أنتم) مبتدأ، و(هَؤُلاءِ) خبره، و(حَاجَجْتُمْ) استئناف" يعني جملة مستأنفة، مبينة للجملة التي قبلها، هَاأَنْتُمْ، أنتم هؤلاء حاججتم، أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى كما يقول بعض المفسرين، وبيان حماقتكم وقلة عقولكم: أنكم جادلتم، هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ أنكم جادلتم فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ بما نطق به التوراة والإنجيل، فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ.
وبعضهم يقول: حَاجَجْتُمْ في محل نصب حال، هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ حال كونكم حاججتم، والعامل في الحال اسم الإشارة (هؤلاء)؛ لما فيه من معنى الفعل، وبعضهم يقول: بأن (هؤلاء) -هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ- خبر، لكن على تقدير حذف مضاف، ها أنتم مثل هؤلاء، يصير (هؤلاء) مضاف إليه، وهو خبر، في محل رفع خبر، وجملة حَاجَجْتُمْ في محل نصب حال، لكن العامل في الحال هنا عند هؤلاء معنى التشبيه المستفاد من مثل المحذوفة، هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ مثل هؤلاء، حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [آل عمران:66]، أو هؤلاء منصوب على التخصيص، هاأنتم هؤلاء، أخص هؤلاء، وحاججتم الخبر، فيما لكم به علم.
الدعوة أنه كان يهوديًّا أو نصرانيًّا.
"الذي يتضمن دين اليهود والنصارى" أو يتضمنه لا إشكال، وكذلك أيضًا: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ رد على المشركين من عودة الأوثان، الذين كان يدعون أنهم على دين إبراهيم فيكون ردًا على الطوائف الثلاثة، التي تنازعت في إبراهيم والعلماء كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في "اقتضاء الصراط المستقيم" وفي غيره: بأن اليهود أقل إشراكًا من النصارى بكثير[3]، كما هو معلوم، الشرك عند اليهود أقل من النصارى، النصارى دينهم مبني على الشرك، هذا الأصل عندهم، فضلًا عن العبادة لغير الله مِن مَن يعظمونهم، لكن اليهود عندهم إشراك، وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30]، هذا بنص القرآن.
ولا يقال: إن اليهود لم يكن عندهم شرك، لكنهم كفروا بالنبي ﷺ وبعيسى، فكانوا كفارًا بذلك، الكفريات عند اليهود كثير، يمكن أن يصنف منها كتاب، يعني في قتلهم للأنبياء، وعتوهم على الله، وتمردهم، وقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55]، وغير ذلك كثير مما قصه القرآن، تحريف الكتاب المنزل، والكذب على الله، والافتراء، وإتباع ما تتلوا الشياطين السحرة، في عهد سليمان إلى غير ذلك، فاليهود عندهم كفريات كثير، وعندهم إشراك، والله يقول أيضًا في باب التشريع: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31] فهذا يشمل اليهود والنصارى.
قوله: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ في إبراهيم وَمَا كَانَ نفي الكون الماضي، هذا أيضًا يتضمن النفي في المستقبل، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران:179]، فهذا يكون في الماضي والحاضر والمستقبل، ولذلك استدل بمثل هذا على أن إبراهيم لم يكن على دين قومه قط، وأن ما جرى في سورة الأنعام مما قصه الله من المناظرة مع عبدة الكواكب: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:76] إلى أن قال: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:77] إلى أن قال: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا [الأنعام:78-79] الآية، فهذا صحيح إنه قاله مناظرًا لا ناظرًا، بعض العلماء يقولون: قاله ناظرًا لا مناظرًا، يعني ما قال على سبيل التنزل مع الخصم في المناظرة، قاله ناظرًا، يعني كان يعتقد بربوبية الكوكب، فكان يبحث عن الحق قبل النبوة، وهذا كلام غير صحيح، والراجح أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- عمومًا لم يكونوا على دين قومهم، وذكرت هذا في بعض المناسبات في التعليق على "المصباح" أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [الأعراف:88] في قصة شعيب -.
وأن العود في لغة العرب كما قال الثعالبي في فقه اللغة: إنه يطلق على الصيرورة، المستقبل مطلقًا، ويقال لعودة الشيء إلى ما كان عليه، حتى يعود اللبن في الضرع[4]، لكن تقول: عاد الصبي شيخًا، هذا لم يكن شيخًا من قبل، حتى يكون رجع إلى حاله الأولى، وعاد الطين خزفًا، هو لم يكن خزفًا، وعاد الماء ثلجًا، هو لم يكن ثلجًا، فهذا معنى الصيرورة، صار، أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [الأعراف:88]، أي تصيرون إلى ملتهم من الإشراك بالله -تبارك وتعالى- والله أعلم.
فهنا (وما كان): هذا مما يحتج به بعض أهل العلم على القول الراجح: أن الأنبياء لم يكونوا على دين قومهم، ومنهم إبراهيم، وما جرى له من المناظرة مع عبدة الكواكب، إنه ما كان قط على الشرك.
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ [آل عمران:68]، وَهَذَا النَّبِيُّ داخل في الذين اتبعوه، لكن خصه لما له من مزيد الاختصاص بذلك، النبي ﷺ أحق الناس بالنسبة إلى إبراهيم ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النحل:123].
ولهذا هذه الأمة حنيفية مسلمة، وكما قال الله : مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا [الحج:78]، على قولين، بعضهم يقول: الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، يعني إبراهيم هو الذي سماكم المسلمين، وبعضهم يقول: يرجع إلى الله والقولان بينهما ملازمة؛ لأن تسمية إبراهيم إنما تكون بوحي من الله، هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا [الحج:78].
هذا يذكره بعض المفسرين من غير إسناد، لا يصح أن هذا سبب النزول، وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ [البقرة:109] هذا حقيقة ما هم عليه، وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وهنا وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:69].
حينما خاطبهم الله بهذا: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [آل عمران:70] أي: "تعلمون أن محمدًا ﷺ نبي" كما قال الله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [الأنعام:20].
وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: "أي تعلمون صدقه، لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، يعني تعلمون صدقها"[5]، وتتحققون حقها، وقيل: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ يعني تشهدون ما في كتبكم، من دلائل صدقها، نعت النبي ﷺ وأن دين الإسلام هو دين الحق، وهكذا أيضًا، أو تشهدون بمثلها ونظيرها من آيات الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فلماذا تكفرون بآيات الله؟
وابن جرير -رحمه الله- والحافظ ابن القيم قالوا: "المراد لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أنه حق من عند ربكم"[6]، وهذا لا ينافي ما سبق، تشهدون: تعلمون ذلك، وتجدونه في كتبكم، أنه حق من عند الله وأنتم تشهدون، فكان كفرهم بآيات الله ليس عن جهل وخفاء في دلائل الحق وبراهينه، وإنما كان ذلك عن علم، ولكن حملهم عليه البغي والحسد.
يخلطون، وهذا الخلط يقع على صور مختلفة من الإشراك، والابتداع، وغير ذلك، ولهذا قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "حيث ابتدعوا دينًا لم يشرعه الله، -هذا لبس الحق بالباطل- فأمروا بما لم يأمر به، ونهوا عن ما لم ينهى عنه، وأخبروا بخلاف ما أخبر به"[7]، هذا خلط الحق بالباطل، كل ذلك يضيفونه إلى الله .
والحافظ ابن كثير -رحمه الله- فسر هذا اللبس، تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ يقول: "تكتمون ما في كتبكم من صفة محمد ﷺ وأنتم تعرفون ذلك، وتتحققونه"[8].
وبعضهم يقول: تخلطون اليهودية والنصرانية بالإسلام.
وحملها ابن جرير: على إظهار الإيمان باللسان[9]، لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ إظهار الإيمان باللسان من غير أن يكون لذلك حقيقة، وكل هذا من اللبس، لبس الحق بالباطل، خلط الحق بالباطل، الابتداع في دين الله نسبة ذلك إلى الله: أنه أمر بكذا، ونهى عن كذا، مما ابتدعوه، واختلقوه، وهكذا أيضًا ما يقع من الإشراك، ونسبة ذلك إلى دين الله، أو كتم ما يجدونه في كتبهم، من صفات النبي ﷺ وحقية دين الإسلام، ويغيرون في هذه الأوصاف، يجدونه ربعة، يعني متوسط بين الطول والقصر، فيقولون مثلًا: كان بائن الطول، تجدونه أبيض مشربًا بحمرة، فيقولون بأنه آدم، يعني أسمر مثلًا، فيلبسون الحق بالباطل، يغيرون صفة النبي ﷺ هذا كله داخل فيه.
فيكون ذلك بتغيير حقائق الدين والإيمان، ونسبة ذلك إلى الله وتغيير أوصاف النبي ﷺ وما في كتبهم، وما يقع من التحريف، كل هذا لبس الحق بالباطل.
هذا في المنافقين من اليهود، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:72]، يعني على المسلمين، وَجْهَ النَّهَارِ أول النهار، وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي من أجل أن يرجعوا عن دينهم، فيقولوا: هؤلاء أهل كتاب وأهل علم، وما ارتدوا عن الإسلام بعد الدخول فيه، إلا أنهم وقفوا على أشياء توجب الردة، وأنهم تبين لهم أنه باطل، فيتشكك الناس فيه، ويلتبس عليهم، على علماء دخلوا ثم ارتدوا.
فالله -تبارك وتعالى- فضحهم، وذكر دواخلهم، وما كانوا يبيتون وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ [آل عمران:73]، قالوا: اكفروا آخر النهار، قال: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [آل عمران:73].
أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ [آل عمران:73]، يحتمل أن يكون من تمام الكلام الذي أُمر النبي ﷺ أن يقوله -في النسخة الخطية: أن يقوله- فيكون متصلًا بقوله: إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ، وأن يكون من كلام أهل الكتاب، فيكون متصلًا بقولهم: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ويكون: إِنَّ الْهُدَى اعتراضًا بين الكلامين.
فعلى الأول يكون المعنى: كراهة أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، قلتم ما قلتم، ودبرتم ما دبرتم من الخداع، -وفي النسخة الخطية: وذكرتم ما ذكرتم من الخداع- فموضع أَنْ يُؤْتَى مفعول من أجله، أو منصوب بفعل مضمر، تقديره: فلا تنكر أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوءة.
وعلى الثاني: فيكون المعنى: لا تؤمنوا أي: لا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم، واكتموا ذلك على من -وفي النسخة الخطية: عن من لم يتبع دينكم- لئلا يدعوهم إلى الإسلام، فموضع (أن يؤتى) مفعول بــ(تؤمنوا)، المضمن معنى تقروا، ويمكن أن يكون في موضع المفعول من أجله، أي: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهية -وفي النسخة الخطية: كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم-.
هذه الآية قال القرطبي -رحمه الله- بأنها أشكل آية في هذه السورة، وذكرنا في التعليق على المصباح أن أشكل آية في القرآن من جهة المعنى والإعراب: هي آية المائدة، تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ [المائدة:106].
وذكر هذه الاحتمالات في المعنى، لاحظ السياق وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ [آل عمران:73]، لاحظ الجملة الآن: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ هذا كلام الله الآن هم يقولون: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، رد عليهم: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ، نقطة، أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، هل هذا تابع للذي قبله؟ فيكون الكلام: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم؟ أو يكون هذا يتبع قول الله: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ هذا من كلامهم، ثم قال: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [آل عمران:73].
فالآية تحتمل فهنا: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ هنا بداية الإشكال، الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول في المعنى: "لا تظهروا ما عندكم من العلم"[10]، لاحظ الآية: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ [آل عمران:73]، تؤمنوا هنا: هل معناها تطمئنون وتثقون، فتبدون لهم ما عندكم من معلومات، وما في كتابكم، أو الإيمان بمعنى الإقرار والإذعان والتصديق؟ لا تؤمنوا لأحد غير اليهود، فالعرب لا يستحقون ذلك، لا تؤمنوا لغير من كان يهوديًّا، واضح، الإيمان بمعنى الإقرار والتصديق، انتبهوا.
وعلى المعنى الآخر: لا تؤمنوا يعني: لا تثقوا ولا تطمئنوا، فتخرجوا هذه المعلومات التي تجدونها في كتبكم، ثم بعد ذلك يحتجون عليكم بها، ويقولون: هاأنتم في كتبكم يوجد ما يدل على صدق النبي ﷺ وصحة ما جاء به، ثم تكفرون، فيحتجون عليكم، أو على المعنى الآخر الذي سيأتي إيضاحه، أو يستوون معكم في العلم، فهم يحسدونهم لئلا يكونوا بمنزلتكم، في هذا العلم الذي اختصكم الله به، فأبقوهم على جهلهم، لا تبدوا لهم شيئا من المعلومات، فيستوون معكم حسدًا وكتمانًا للعلم، فهذا معنى لا تؤمنوا.
فالحافظ ابن كثير يقول: المعنى وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ [آل عمران:73]: "لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين، فيتعلموه منكم، ويساووكم به، ويمتازوا به عليكم، لشدة الإيمان به"، لاحظ الآن: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، الحافظ ابن كثير يقول: لا تظهروا ما عندكم إلا لمن تبع دينكم، لا تخبروا هؤلاء العرب، لا تخبروهم؛ لئلا يستووا معكم.
قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى يعني لأجل ألا يؤتى، كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، فيستوي معكم، وتكونوا أنتم وهم سواء.
ابن جزي هنا يقول: "أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ يحتمل أن يكون من تمام الكلام، الذي أُمر النبي ﷺ أن يقوله متصلًا بقوله: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ".
وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ انتهى كلامهم الآن، قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ هذا كلام الله متصل، أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ يعني يكون يحتمل أن يكون من تمام الكلام الذي أمر النبي ﷺ أن يقوله متصلًا بقوله: إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ، وأن يكون من كلام أهل الكتاب فيكون متصلًا هذا الاحتمال الثاني.
دعونا في الاحتمال الأول: أن يكون متصلًا بكلام الله: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ هذا قال به جماعة من السلف، كالحسن، وسعيد بن جبير، ومقاتل[11]، كيف يكون المعنى على هذا إذا كان متصل بقول انتبهوا: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، يكون المعنى: قل يا محمد إن الهدى هدى الله، أَنْ يُؤْتَى: بمعنى الجحد، أي ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أمة محمد، إلا أن يجادلكم اليهود بالباطل، فيقولوا: نحن أفضل منكم.
قوله: يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ أي: عند فعل ربكم بكم ذلك، كن هكذا، وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ انتهى كلامهم، هذا كلام الله: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ [آل عمران:73]، أي ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، يعني معاشر المسلمين، إلا أن يجادلكم اليهود بالباطل، فيقولوا: نحن أفضل منكم.
قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ الذي أوحاه إلى نبيه ﷺ واختصكم به، بهذا الوحي والنبوة.
أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، فحاباكم، واجتباكم، وأعطاكم، وانتقلت النبوة إلى العرب.
أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ يعني لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الفضل والهدى، إلا أن يحاج ويجادل هؤلاء اليهود بالباطل، فيقولوا: نحن أفضل منكم من باب الدعاوى العريضة الفجة، التي هي من جملة دعواهم، أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ يعني عند فعل ربكم ذلك بكم، من التفضيل والتكريم، فيتقولون ويتزيدون عليكم، هذا معنى ذكره هؤلاء: الحسن، وسعيد بن جبير، ومقاتل بن حيان.
والمعنى الذي ذكره ابن كثير هو ما سبق، يقولون: وَلا تُؤْمِنُوا بمعنى لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين، فيتعلموه منكم، فيساوونكم، أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، أَوْ يُحَاجُّوكُمْ فيتخذونه ذريعة للاحتجاج عليكم، يقولون: أنتم عندكم هذا وما تؤمنون، عندكم دلائل تدل على صدق النبي ﷺ ومع ذلك أنتم تجحدون، يحاجوكم به عند ربكم.
فيكون هذا على قول ابن كثير، فيكون قوله: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ جملة اعتراضية من كلام الله، ثم يأتي تكميل كلام اليهود: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ، كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، لئلا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم.
فهذا ابن جزي يقول: "يحتمل أن يكون من تمام الكلام الذي أُمر النبي ﷺ أن يقوله متصلًا بقوله: إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ، وأن يكون من كلام أهل الكتاب فيكون متصلًا بقوله: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ".
ولا تؤمنوا إلا (لمن) تبع دينكم، لاحظ عدّاه باللام، قيل: لأنه معنى مضمن معنى الثقة والركون، ونحو ذلك، ولا تركنوا إلا لمن، ولا تثقوا إلا لمن تبع دينكم، يعني لا تطمئنوا، فيكون الإيمان هنا بمعنى الركون إليهم وكذا، فتعطونهم المعلومات التي في كتبكم، فيكونون مستوين معكم في العلم، أو يحتجون بها عليكم عند الله ويقولون: هذه برهان على صدق ما جاء به النبي ﷺ وهي حجة عليكم حيث كذبتم بها.
فهذا كونه من جملة كلام أهل الكتاب، هذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله-[12]، وابن كثير[13]، والواحدي[14]، والسعدي[15]، وقبلهم قال به مجاهد -رحمه الله-[16].
وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ فتكون: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ جملة اعتراضية، والباقي كلام اليهود قبله وبعضه، فيكون هكذا: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ، فهذا الذي اختاره هؤلاء، وكأنه هو الأقرب، والله أعلم.
يقول: "فعلى الأولط الأول ما هو؟ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ، يقول: "يحتمل أن يكون من تمام الكلام الذي أمر النبي ﷺ أن يقوله، يكون متصلًا بقوله: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ [آل عمران:73]" يعني لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، إلا أن يجادلكم اليهود بالباطل، ويقولون: نحن أفضل، ويدعون عليكم هذه الدعاوى العريضة، ويزايدون عليكم بغير حق.
يقول: "فعلى الأول يكون المعنى: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ يكون المعنى: كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم" يعني: "وقلتم ما قلتم، ودبرتم ما دبرتم من الخداع، فموضع أن يؤتى مفعول من أجله" يعني يكون هذا كله من كلام الله.
قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ [آل عمران:73]، يعني كراهة لكراهتكم، أن يؤتى أحد لكراهتكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، ارتكبتم هذه العظائم، وادعيتم هذه الدعاوي، ودبرتم ما دبرتم، من المكايد من الدخول في الإيمان أول النهار، والكفر في آخره، من أجل أن يتشككوا، ويرتدوا عن دينهم، ولا يدخل الآخرون فيه، باعتبار أنكم أهل علم ومعرفة، فدخلتم وخرجتم، فينصرف الناس عنه، كراهة أن يؤتى قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:73].
قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ فعلتم ما فعلتم، من الدخول في الإسلام، والكيد، وإلى آخره، فموضع أن يؤتى مفعول من أجله، أو منصوب بفعل مضمر تقديره: فلا تنكر أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة، وهذا فلا تنكروا، يعني: أنه منصوب بفعل مضمر، فلا تنكروا أن يؤتى، أن يؤتى أحد، هو من جملة كلام الله، فلا تنكروا على الأول كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أو بمقدر وهو: فلا تنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة، هذا اختاره أبو حيان[17]، أي لمخافة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أو يحاجوكم عند ربكم فعلتم ذلك، وقلتم ما قلتم؟
وعلى الثاني: أن يكون متصلًا بكلام اليهود، وتكون فقط: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ جملة اعتراضية من كلام الله، ثم يرجع لكلام اليهود، هذا قول اليهود: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ [آل عمران:73].
فيكون المعنى: ولا تؤمنوا، أي: لا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، صار الإيمان هنا بمعنى الإذعان والإقرار، الإيمان تصديق، والإذعان، والإقرار.
وعلى الأول: بمعنى الركون والثقة، فتفضي له بما عندك، تقول: لا تطمئن إلا لمن كان يهوديًّا فقط، لا تعطونهم شيء من هذه المعلومات التي اختصكم الله بها؛ لئلا يستوون معكم في العلم، أو يحتجون عليكم بها عند الله -تبارك وتعالى- لاحظ: فيكون المعنى (لا تؤمنوا): أي لا تقروا بأن يؤتى أحد مثل، ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، واكتموا ذلك على من لم يتبع دينكم؛ لئلا يدعوهم إلى الإسلام، فموضع (أن يؤتى): مفعول بـــ (تؤمنوا). وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ [آل عمران:73].
أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ فيقول: موضع أن يؤتى مفعول بـ(تؤمنوا)، لا تؤمنوا أن يؤتى، المضمن معنى تقروا، ويمكن أن يكون في موضع المفعول.
على كل حال: أَنْ يُؤْتَى هذا فيه قراءتان، الأولى: بالمد، آن يؤتى، هو استفهام بمعنى الإنكار، آن يؤتى، أي أيؤتى أحد مثل ما أوتيتم؟ يعني ما يمكن، لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، هذا على قراءة ابن كثير، تكون همزة استفهام، بمعنى الإنكار.
والثانية: بغير مد، أن المصدرية، والمعنى: ولا تؤمنوا إلا من تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، والمعنى كراهة أن يؤتى من العلم؛ لأنكم إذا أظهرتم لهم ما عندكم من العلم ساووكم.
يقول هنا: "ويمكن أن يكون في موضع المفعول من أجله، أي لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتمط هذا باعتبار أنه من قول اليهود، مع أن ذلك يتأتي لو كان من كلام الله يعني على أحد الوجوه.
أَوْ يُحَاجُّوكُمْ ضمير الفاعل الواو، وضمير المفعول هنا: الكاف، يعني أو يتخذوه حجة عليكم عند الله، ويشهدون أن الحجة قد قامت عليكم، وهذا الذي اختاره ابن كثير[18]، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي[19] من المعاصرين، لئلا يحتجوا به عليكم.
ابن جرير -رحمه الله- يقول: لا تصدقوا أن أحدًا يجادلكم عند ربكم؛ لأنكم أصح دينًا، وأكرم على الله منهم، لا تصدقوا أن أحدًا يجادلكم عند ربكم؛ لأنكم لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم[20].
أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ على قراءة المد: أأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؟ بهمزتين، أَوْ يُحَاجُّوكُمْ ولا تصدقوا أن أحدًا يحتج عليكم عند ربكم؛ لأنكم أصح دينًا، وأكرم على الله -تبارك وتعالى.
وهنا أَوْ يُحَاجُّوكُمْ يقول: "عطف على أَنْ يُؤْتَى، وضمير الفاعل للمسلمين، وضمير المفعول لليهود".
يعني ولا تؤمنوا لغير أتباعكم، فإن المسلمين يحاجوكم عند ربكم بالحق، ويغالبونكم عند الله، وعلى هذا يكون قوله: إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ مستثنى من شيء محذوف، تقديره: ولا تؤمنوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم (لأحد من الناس إلا لأشيائكم دون غيرهم).
المعنى عمومًا يحتمل، يحتمل أن يكون معنى: ولا تثقوا ولا تطمئنوا إلا لمن تبع دينكم، واكتموا أمركم، ولا تظهروا سركم، وما عندكم للمسلمين[21]، كما يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله-.
وابن جرير -رحمه الله- يقول: "بأن المعنى: ولا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم، فكان يهوديًّا، ولا تصدقوا أن يؤتى أحد من البشر مثل الذي أوتيتم"، لا يوجد، فأنتم الذين اختاركم الله وأنتم الذين اصطفاكم على الناس، فالآية تحتمل هذه الوجوه والمعاني، ويحتاج إلى شيء من التأمل، انظروا فيه وراجعوه، ودققوا فيه النظر، من أجل أن تتصوروا المعنى.
أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ على أحد الأوجه، قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يعني التوفيق للإيمان، والهداية للإسلام، وما إلى ذلك يعطيه الله من شاء من عباده.
وقد آتى الله هذه الأمة -أمة محمد ﷺ- من الفضائل ما يزيد على بني إسرائيل.
على المعنى الثاني: يكون المعنى (ولا تؤمنوا) أي: لا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، إلا لمن تبع دينكم، هذا يكون على حذف حرف الجر كما يقول بعض أهل العلم، وأن والفعل في تأويل مصدر، إيتاء يعني، يتعلق بقوله: وَلا تُؤْمِنُوا، والأصل: لا تؤمنوا بأن يؤتى، (بـــ) حرف الجر محذوف، بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ.
وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ [آل عمران:73]: يعني لا تصدقوا بأن أحدًا يعطى مثل ما أعطيتم، لا تصدقوا بإيتاء الله أحدًا مثل ما أوتيتم، إلا لمن تبع دينكم، إلا لمن كان يهوديًّا، فلا تؤمنوا بنبي من العرب، هذه معاني تحتمل، والله أعلم.
سؤال: الصحابة ثبت عن بعضهم أنه دعا للمباهلة في مسائل فقهية، يقول في قوله: تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [المائدة:110]، قوله: وكهلا، يعني في آخر الزمان، هل هذا قول معتبر؟
الجواب: قول بأن الكهولة تكون بعد سن الشباب، يعني بعد الثلاثين مثلًا لا يحتاج معه إلى القول: أنه في آخر الزمان بعد ما ينزل، والأحسن ما قيل -والله أعلم: أن ذلك يكون في المهد على سبيل المعجزة- وكهلا بمعنى: البلاغ عن الله تكليم الأنبياء، مخاطبين قومهم بالإيمان، وشرائع الإسلام، يعني تكليم خاص.
- تفسير الطبري (5/481).
- تفسير الطبري (5/481).
- مجموع الفتاوى (1/64)، وما بعدها.
- انظر: فقه اللغة وسر العربية (ص:216).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (2/59).
- تفسير الطبري (5/491)، وانظر: مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/91).
- درء تعارض العقل والنقل (1/220).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (2/59).
- تفسير الطبري (5/492).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (2/60).
- انظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/242)، غير أن قول مقاتل لم أقف عليه.
- تفسير الطبري (5/498).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (2/59).
- التفسير الوسيط للواحدي (1/449).
- تفسير السعدي (ص:135).
- الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/241).
- البحر المحيط في التفسير (3/214).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (2/60).
- تفسير السعدي (ص:969).
- تفسير الطبري (5/504).
- انظر: تفسير ابن كثير ت سلامة (2/59).